وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

وعلى رواية أبي الفوارس وصاحب الروضة والعيون : أنّ الامام عليه السّلام كان هو الذي أصحر بانطباق هاتيك الأوصاف الكريمة على نفسع المقدّسة ، وناهيك به شاهداً ومشهوداً له.

أو ترى أنّه عليه السّلام لو كان يعتقد خلاف ما وصفه به الرجل كان يسكت عنه ويغضّ الطرف عن إفكه؟

لا ها الله!

ومَن عرف سيرته وخشونته في ذات الله ، وتهالكه في دحر الباطل ، وإدحاض معرّة البهت والزور ، علمَ مكانة هذه الفضيلة من الثبوت بعد تصديقه لها ، فلقد كان عليه السّلام بما اكتنفته من الفضائل التي لا تحصى في غنىً عن أيّ فخفخة بائتة ومجد كاذب.

ثمّ انثيال (١) عامّة محدّثي الكوفة على نقل الحديث من غير نكيرٍ بينهم ، مع حداثة عهدهم بالقصّة ، وتمكّنهم من تمييز الصدق فيه مِن المين (٢) ، دليلٌ واضح على شهرته بينهم على عهد العلويّ وقبلَه وبعدَه ، وإصفاقهم على تصديقه والإخبات به.

وروى الوزير الأربليّ في (كشف الغمة) عن (مناقب) الفقيه ابن المغازليّ المالكي ، مرفوعاً إلى عليّ بن الحسين عليهما السّلام ، قال :

«كنّا زوّار الحسين عليه السّلام وهناك نساء كثيرة ، إذ اقبلت منهنّ امرأة ، فقلتُ لها : مَن أنتِ رحمك الله؟

قالت : أنا زيدة بنت قُريبة بن العجلان من بني ساعدة.

فقلت لها : فهل عندك من شيء تحدّثينا به؟

__________________

(١) انثال : أي تتابع واجتمع. انظر لسان العرب ـ ثول ـ ١١ : ٩٥.

(٢) المبين : الكذب. لسان العرب ـ مين ـ ١٣ : ٤٢٥.

١٠١

فقالت : إي والله! حدّثتني اُمّ عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجْلان الساعدي : أنّها كانت ذات يوم في نساء من العرب ، إذ أقبل أبو طالب كثيباً حزيناً ، فقلتُ له : ما شأنك؟

فقال : إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة من المخاض ، وأخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة ، وقال : اجلسي على اسم الله ، فطلقت طلقة واحدة ، فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منظّفاً لم أرَ كحُسن وجهه ، وسمّاه عليّاً ، وحمله النبيّ صلّى الله عليه وآله حتّى أدّاه إلى منزلها. قال علي بن الحسين عليه السلام: فو اللّه ما سمعت بشي ء قطّ، إلّا وهذا أحسن منه»

ورواه شمس الدين ، أبو الحسين ، يحيى بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن محمّد ابن البطريق الحلّي ، من علماء القرن السادس ، بإسناده عن ابن المغازلي ، عن أبي طاهر محمّد بن محمّد البيّع (٣) ، عن أبي عبد الله بن خالد الكاتب ، عن أحمد بن جعفلا بن محمّد بن سَلم الختّلي عن عمر بن أحمد بن روح الساجي ، عن أبي طاهر يحيى بن الحسن العلوي ، عن محمّد بن سعيد الدارمي ، عن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن محمّد بن عليّ ، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السّلام ، وذكر الحديث ، وفي بعض حروفه اختلاف (٤).

__________________

(١) كشف الغمّة ١ : ٥٩ ، ومناقب ابن المغاولي : ٦ / ٣.

(٢) الفسول المهمّة : ٣٠.

(٣) هو أبو طاهر محمّد بن علي بن محمد بن عبد الله البغدادي ، البيّع : بيع السمك ، ولد سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ، ومات سنة خمسين وأربع مائة ، ودفن في مقبرة الشونيزي. انظر تاريخ بغداد ٣ : ١٠٦.

(٤) العمدة : ٢٧ / ٨.

١٠٢

ولا منافاة بين ما يد يتوهّمه غير المتأمل في مغازي الكلام ، من قولها في هذا الحديث : «فجاء بها إلى الكعبة» وبين ما هو مذكور في حديث يزيد بن قَعنب : من أنّ دخول فاطمة البيت لم يكن بمجيء أبي طالب بها ، وأنّه كان من خوارق العادات ، لانشقاق الجدار من وراء الكعبة ، والتثام الفتحة بعد دخولها ، وعدم انفتاح رتاج (١) الباب بالرغم من معالجة القوم من فتحه ، وأنّها أكلت فيها من ثمار الجنّة ، وهتف بها الهاتف لمّا أرادت الخروج.

وفي روية اُخرى : أنّه نزلت نسوة من السماء لِيَلينَ من أمرها ما تلي النساء من النساء.

إنّ هذه الرواية لم تتعهد بسرد تفاصيل القصّة بحذافيرها ، وإنّما أرادت الرواية لها إشارة إجالية إلى مولد الإمام عليه السّلام ، والتذكير لفضله الباهر يوم ميلاده.

فمن المحتمل أن يكون ما شاهده فريق من بني هاشم ، وفريق من بني عبد العزّى من أمر فاطمة بنت أسد المذكور في خبر ابن قَعنب ، ودعائها ، ودخولها البيت ، كان بعد ما جاء بها أبو طالب ـ سلام الله عليه ـ أهمله ابن قَعنب كما أهملت هذه الرواية أشياء اُخرى من حديثه ، للاختصار.

وليس في حديث ابن قعنب أيّ صراحة في أنّ أبا طالب لم يأت بها إلى فِناء البت ، ولا في هذا الحديث نصّ بأنّه هو الذي باشر إدخالها البيت ، وإنّما هو ظهور متضائل.

فلا تنافي بين النقلين حتّى ينتهزه المريض قلبه فرصةً لقلب الحقائق.

وروى أبو عبد الله محمّد بن يوسف بن محمّد القرشي الشافعي الكنجيّ الحافظ ، المتوفّى سنة (٦٥٨ ه) في (كفاية الطالب) في الباب السابع من الأبواب الاثني عشر ، التي ذكرها في اُخريات الكتاب بعد تمام الأبواب المائة ، قال :

__________________

(١) الرتاج : القفل. مجمع البحرين ـ رتج ـ ٢ : ٣٠٢.

١٠٣

أخبرنا الشيخ المقريء أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن بركة الكتبي ، في مسجده بمدينة الموصل ، ومولده في سنة (٥٥٤ ه) قال : أخبرنا أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن العطّار الهمداني إجازة عامّة ، إن لم تكن خاصّة ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل الفارسي ، حدّثنا فاروق الخطابي ، حدّثنا الحجّاج بن المنهال ، عن الحسن بن مروان بن عمران الغنوي ، عن شاذان بن العلاء ، حدّثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن مسلم بن خالد المكّي المعروف بالزنجي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ميلاد عليّ بن أبي طالب؟

فقال : «لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليه السّلام ، إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً من نوري ، وخلقني من نوره ، وكلانا من نور واحد ، ثمّ إنّ الله عزّ وجل نقلنا من صلب آدم إلى أصلاب طاهرة ، وإلى أرحامٍ زكيّة ، فما نقلت من صلب إلّا ونقل عليّ معي ، فلم نزل كذلك حتّى استودعني خير رحم وهي آمنة ، واستودع عليّاً خير رحم وهي فاطمة بنت أسد.

وكان في زماننا رجلٌ زاهدٌ عابد يقال له : المبرم بن دعيب بن الشقبان ، قد عبد الله مائتين وسبعين سنة ، لم يسأل الله حاجة ، فبعث الله إليه أبا طالب ، فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين يديه ، ثمّ قال له : مَن أنت؟

فقال : رجل من تهامة.

فقال : من أيّ تهامة؟

قال : من بني هاشم ز

فوثب العابد فقبّل رأسه مرّة ثانية ، ثمّ قال : يا هذا ، إنّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً!

قال أبو طالب : ما هو؟

١٠٤

قال : ولدٌ يولد من ظهرك ، وهو وليُّ الله عزّ جل.

فلمّا كانت الليلة التي وُلِدَ فيها علي عليه السّلام أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة وليّ الله عزّ وجل.

فلمّا اصبح دخل الكعبة وهو يقول :

يا ربّ هذا الغسقِ الدجيِّ

والقمر المبلَّجِ المضيِّ

 بيّن لنا مِن أمرك الخفيِّ

ماذا ترى في اسم ذا الصبيِّ؟

قال : فسمع صوت هاتف وهو يقول :

يا أهل بيت المصطفى النبيِّ

خُصِصتمُ بالولد الزكيِّ

 إنّ اسمه من شامخ عليٍّ

عليُّ اشتقّ ن العليّ» (١)

قال الحافظ الكنجيّ : قلت : هذا حديث اختصرته ، ما كتبناه إلّا ن هذا الوجه ، تفرّد به مسلم بن خالد الزّنجي ، وهو شيخ الشافعي ، وتفرّد به عن الزّنجي عبد العزيز بن عبد الصمد ، وهو معروف عندنا ، والزّنجي لقب لمسلم ، وسمّي بذلك لحسنه وحُمرة وجهه وجماله (٢).

وقال العالم الضليع المولى ، محمّد رضا بن محمّد مؤمن ، المدرّس الإمامي ، في الجدول السابع من كتابه (جنّات الخلود) : إنّه عليه السّلام ولد في ضحى الجمعة ، اعترى اُمّه الألم ، ولم تكن تحتمل الطلق في وقتها ، فدخلت البيت للاستشفاء ، فاُوصد بابه من قبل نفسه ، وكلّما عالج أبو طالب وإخوته أن يفتحوه لم يُفتح ، وانشقّ سقف البيت ، ونزلت حواء ومريم وسارة وأسية تصحبهنّ

__________________

(١) وردت هذه الأبيات في ألقاب الرسول وعترته : ٢٢٠ ، وينابيع المودّة : ٢٥٥.

(٢) كفاية الطالب : ٤٠٥.

١٠٥

الملائكة والحور ، ومعهنّ الطّست والإبريق وحرير من حرير الجنّة ، فقمن يواجب الولادة ، حتّى إذا ولد الإمام عليه السّلام سجد وتلا قوله تعالى : (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) (١).

ولا يناقص هذا ما عرفته من انشقاق جدار البيت لدخولها ، فإنّ أقصى ما في هذا الحديث إهمال كيفية الدخول.

فمن الجائز أن تكون على الصفة التي وصفها في الأحاديث الاُخر ، ومحاولة القوم لفتح الباب ، لأنّه كان أيسر لهم من إعادة الفتحة بعد التئامها ، لا لأنّها دخلت منه.

على أنّها كانت من الاُمور الإلهية التي لا تتأتّى لغيره سبحانه ، وما كان من الهيّن الهدم العادي لإخراجها مع وجود الباب ، والقوم لمّا عمدوا إلى الباب ورأوا تعاصيه على تماديهم في فتحه ، عرفوا أنّ شِروى (٢) التئام الفتحة أمرٌ غيبيّ لا يتسنّى لهم معالجته ، فتركوه لحاله.

* * *

حديث الولادة والنسّابون :

عرف الباحثون أنّ في أمثال هذه المسألة من أظهر ما تنتهي إلى النسّابة أخباره ، وأنّها من الحقائق التي لا تعزب عنها حيطتهم ، فهم ذوو خبرة في هذا الباب ، ونصوصهم فيها إحدى الحجج القويمة على إثباتها ، ونحن إذا رفعنا إليهم الأمر وجدناهم حكماً عدلاً ، ولهم فيه قضاءٌ فصل.

__________________

(١) جنّات الخلود : ١٧ ، فارسي ، سورة الإسراء : ٨١.

(٢) الشّروى : المثل ، يقال : ما له شروى أي ما له مثل. مجمع البحرين ـ شرا ـ ١ : ٢٤٥.

١٠٦

لقد مرّ عليك قول النسّابة العمريّ في (المَجدي) : «وولدت ـ يعني فاطمة بنت أسد ـ علياً عليه السّلام في الكعبة ، وما وُلِدَ قبلَهُ أحدٌ فيها» (١).

وفي (عمدة الطالب) تأليف جمال الدين ، أحمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن مهنا بن عِنَبَة الأصغر الداوديّ الحسني النسّابة ، المتوفّى سنة (٨٢٨ ه) ذكر محلّ الولادة ، وهي : الكعبة ، ويومها وهو : الجمعة ، وشهرها وهو : الثالث عشر من رجب ، وعامها وهي : سنة ثلاثين من عام الفيل.

ونفى أن يكون أحدٌ ولد في البيت سواء قبلَه وبعدَه إكراماً له من الله عزّ وجل (٢).

وقال العلّامة السيّد محمد بن أحمد بن عميد الدين عليّ الحسيني النجفي النّسابة في (المشجّر الكشّاف لاُصول السادة الأشراف) : وُلِدَ عليه السّلام بمكّة في البيت الحرام ، وذكر اليوم والشهر والعام ، مكا عرفته عن الداوديّ ، قال : «ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولودٌ في بيت الله الحرام سواه» (٣).

وفي (مناهل الضرب في أنساب العرب) تأليف النّسابة أبي عبد الله ، جعفر بن محمد بن جعفر بن الراضي ، أخي المحقّق الأوحد السيّد محسن بن المرتضى الحسينيّ الأعرجيّ الكاظميّ ، شِروى ما نصّ به النسّابة العميدي ، عدا اختلاف في اللفظ يسير (٤).

__________________

(١) المجدي : ١١. ونقله بنصّه في معالم الطالبيين في شرح الكتاب (سرّ الأنساب العلوية) لأبي نصر البخاري : ٦٩ ، شرح الدكتور عبد الجواد الكليدار آل طعمة (ت ١٣٧٩ ه) ، طبع المكتبة المرعشية ـ قم ، ١٤٢٢ ه.

(٢) عمدة الطالب : ٥٨.

(٣) المشجر الكشاف : ٢٣٠.

(٤) مناهل الشرب (للأعرجي) : ٨٤ ، (١٢٧٤ ـ ١٣٣٢ ه) ، طبعة مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، ١٤١٩ ه. ولاحظ نصّ كلامه في (مسك الختام في ولادة الإمام علي عليه السّلام) في هذه المجموعة.

١٠٧

وفي (أرجوزة في مواليد الأئمة عليهم السّلام ووفياتهم) للعلّامة أبي صالح ، محمد المهديّ بن بهاء الدين محمّد المقّب بالصالح بن الشيخ معتوق بن عبد الحميد ، الفتونيّ العامليّ والنباطيّ النجفيّ النسّابة ، المتوفّى سنة (١١٨٣ ه) صاحب (حديقة النسب) قال :

مولدُه الجمعةُ يومَ السابعِ

في شهر شَعبان ببيت الصانعِ

 وقد خلت منه ثلاثون سنه

من مولد النبيّ فاعلم سُنَنَه

* * *

حديث الولادة والمؤرّخون :

والسابر زُبُر التاريخ يجد هذا الحديث من أثبت ما تعرّض له مولّفوها ، وقد أثبتوه مخبتين به ، مُذعنين بحقيقته ، ومنهم من نصّ بصحّته عندهم جميعاً.

ففي (روضة الصفا) للمؤرّخ الضليع الشهير ، محمّد خاوند شاه : «كانت ولادته عليه السّلام ـ في رواية ـ يوم الجمعة ، في الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، وقيل : إنّها سنة ثمان وعشرين من العام المذكور.

وكان ميلاده عليه السّلام في جوف الكعبة ، فإنّ اُمّه كانت تطوف بالبيت ، أو أنّ المشيئة الإلهية أجاءتها إلى فنائه ، وكانت في أوان الطلق ، فكانت ولادته فيها ، ولم تتح هذه السعادة لأيّ أحدٍ منذ بدء الخليقة إلى الغاية ,

وإنّ لصحّة هذا الخبر بين المؤرخين المتحفّظين على الفضائل صيتٌ لا تشوبه شبهةٌ ، وتجاوز عن أن يصحبه الشكّ والترديد» (١).

انتهى مترجماً من الفارسي ، وملخّصاً.

__________________

(١) روضة الصفا ، الجزء الثاني.

١٠٨

والممعن في كلمة هذا المؤرخ البارع في فنّه ، الواقف على المختلف فيه والمتّفق عليه ، يرى حقيقة ما نحن بصدده من ثبوت هذه الفضيلة عند نقلة السير ، وتلقيهم إياها بالقبول حيث يقول بملء فيمه : «إنّ صيت صحّتها قد تجاوز عن أن يشك فيه أو تحوم حولها الشبهات».

وقد عرفت في غضون هذه الرسالة كثيراً ممّا يشبهه ، أو يربو عليه ، أويقاربه.

والرجل مع ذلك يصافق من تقدّمه على أنّها ممّا اختصّ بها أمير المؤمنين عليه السّلام ولا يشاركه فيها أيّ أحدٍ.

ولا ريب في ذلك ، غير أنّ أعداء آل البيت النبويّ افتعلوا حديث حكيم بن حزام فتاً في عَضُد هذه الفضيلة.

لكن المنقّبين من الفريقين لم يأبهوا به ، وبذلك تعرف قيمة ما هملج به القاضي روزبهان (١) من أنّ ذلك مشهور بين الشيعة ولم يصحّحه علماء التاريخ ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حزام ولد في الكعبة ولم يولد فيه غيره ... إلى آخره.

وستجد نصوص التاريخ بذلك ، وعرفت ردّ الحاكم النّيسابوري من حصر ولادة البيت بحكيم ، وذكر تواتر النقل بولادة أمير المؤمنين عليه السّلام فيه.

ومرّ أيضاً رواية أساطين أهل السنّة ، ولذلك ما يتلوه.

وإنّك تجد شيخ المؤرّخين الثبت الحجّة عند الفريقين أبا الحسن ، عليّ بن الحسين بن عليّ ، الهُذلي المسعوديّ ، المتوفى سنة (٣٣٣ ه) أو سنة (٣٤٥ ه) في (مروج الذهب) عند ذكر خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام ، مثبتاً هذه الحقيقة ، جازماً بها من غير ترديد ، قال : «وكان مولده في الكعبة» (٢).

__________________

(١) تقدّمت ترجمته : ٣٩.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٩.

١٠٩

وهذا الكتاب من أوثق المصادر التاريخية رضاً به الموافق والمخالف ن وقد راعى فيه جانب التقيّة بما يسعه ، بتأليفه على نسق كتب أهل السنّة وما يرتضونه من رواياتهم ، حتّى حسبه بعض من لم ير من كتبه غيره ، ولم يستكنه حياته الطيّبة ، ولم يلفت نظره إلى غير يسير من الإرشادات بل النصوص في نفس هذا الكتاب : أنّه منهم.

فهل من السائغ إذن : أن يذكر في كتاب هذا شأنه غيرَ الثابت المتسالم عليه عند الاُمّة جمعاء ، لا سيّما في مثل المقام الذي يكثر فيه بطبع الحال وَرَ"ات القالة؟

وفي كتاب (إثبات الوصية) للمسعوديّ أيضاً :

«وروي أنذ فاطمة بنت أسد كانت تطوف بالبيت ، فجاءها المخاض وهي في الطواف ، فلمّا اشتدبها دخلت الكعبة ، فولدته في جوف البيت على مثال ولادة آمنة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وما ولد في الكعبة قبلَه ولا بعدَه غيره» (١).

و (إثبات الوصيّة) من أنفس كتب الإمامية.

وليس من الجائز أن يحتجّ ويتبجّح فيه بما لا يقرّ به الخصم ، ولا تذعن به اُمّته ، ثمّ يقول بكل صراحة : «وما ولد ...» وبمشهد منه ومسمع ما تحذلقوا (٢) به من أمر حكيم بن حزام ، غير أنّ المؤرخ لا يقيم له وزناً.

وذكر حمد الله المستوفي في (تاريخ گزيده) : «أنّ مولده عليه السّلام كان سنة ثلاثين من عام الفيل ، الموافقة لسنة إحدى عشرة بعد التسع مائة الإسكندرية ، لثمان سنين مضين من ملوكية أبرويز (٣) ، وكان في الكعبة حيث كانت اُمّه

__________________

(١) إثبات الوصية : ١١١ ، وقد مضى نصّ ما أثبته من الحديث في الرسالة الثانية من هذه المجموعة.

(٢) حذلق : ادعى أكثر ممّا عنده. تاج العروس ـ حذلق ـ ٦ : ٣١١.

(٣) كسرى أبرويز بن هرمز بن انوشروان ، بُعث رسول الله صلّى الله عليه وآله لعشرين سنة مضت من ملكه. انظر الكامل في التاريخ ١ : ٤٩١ ـ ٤٩٦ و ٢ : ٤٦.

١١٠

في الطواف ، فبان عليها أثر الطلق وتعذّر خروجها من البيت فوضعته في جوفه» (١).

انتهى مترجماً من الفارسيّة وملخّصاً.

وفي التاريخ الإسكندري اختلاف بين ما يقوله هذا المؤرّخ ، وبين محمّد بن طلحة الشافعيّ في (مطالب السؤول) ، قال : «إنّه عليه السّلام ولد ليلة الاُحد الثالث والعشرين من رجب ، سنة تسعمائة وعشر من التاريخ الفارسيّ المضاف إلى إسكندر.

وكان ملك الفرس يومئذ مستمراً ، وكان ملكهم أبرويز بن هرمز.

وقيل : ولد في الكعبة ، البيت الحرام» (٢).

ومخالفات الرجل للمشهور غير محصورة بهذا كما تراه في قوله : «ليلة الأحد» وقوله : «الثالث والعشرين».

إذن فلا نأبه بخلافه هذا ، كما لم نأبه بغيره.

ولا نكترث بإسناده ولادة البيت إلى القيل ، بعد ما عرفناه عن الحاكم من تواترها ، وعن الآلوسي من اشتهارها في الدنيا والنصوص المتعاضدة بما يشبه ذلك ، وجزم من جزم به من أئمة الفن وحَمَلة الآثار.

والرجل صاحب رياضة وتصوّف ، وليس تضلعه في العلم والحديث كغيرهما ممّا نسب إليه.

وعلى أيّ ، فلا يقلّ ما ذكره عن أن يكون إحدى الروايات ومن مؤكّداته.

__________________

(١) تاريخ گزيده (فارسي) : ١٩٢.

(٢) مطالب السؤول : ١١.

١١١

وفي (مرآة الكائنات) تأليف المؤرّخ البحّاثة نشانجيّ زاده ، محمّد بن أحمد بن محمد بن رمضان : «أنّه عليه السّلام ولد ، ولرسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثونسنة ، كانت اُمّه فاطمة زائرة البيت ، فولدته فيه لحكمة الله سبحانه فيه ، ولم يرزق هذا غيره ، وغير حكيم بن حزام» (١).

انتهى مترجماً من التركية.

ولقد عرفت أنّ مولد حكيم فيه من الصدف الاتفاقية لا عن قصد ، فليست فيه فضيلة تعدّ ، وإنّما الفضيلة في مولد سيّدنا أمير المؤمنين عليه السّلام على التفصيل الذي أسلفناه ، وهو الذي عرفه هذا المؤرّخ نفسه حيث عدّ ذلك من حكم الله سبحانه.

وفي (سِيَر الخلفاء) للمعاصر عبد الحميد خان الدهلوي ، عن غير واحد من المؤرخين ، أنّه «ولد في مكّة المكرّمة يوم الجمعة يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، ولم يتولّد أحدٌ قبلَه في حصار البيت».

قال : «وإنّه وإن كان رابع الخلفاء ، ولكنّه صاحب أثر واقتدار على عهد كلّ من الخلفاء ، وكان يمدّ أبا بكر بآرائه ، وكان من أكبر أنصار عمر بن الخطاب ، وكذلك بعده مع عثمان» (٢).

انتهى مترجماً من الهندية ، وملخّصاً.

وفي (تاريخ قم) تأليف العالم المؤرّخ ، الحسن بن محمّد بن الحسن القمي ، الذي ألّفه للصاحب بن عباد سنة (٣٧٨ ه) وفي ترجمته إلى الفارسية للفاضل الجليل ، الحسن بن عليّ بن الحسن بن عبد الملك القمي ، الذي ترجمه بأمر الوزير فخر الدين بن شمس الدين سنة (٨٦٥ ه) وطبع في طهران سنة (١٣١٣ الهجرية الشمسية) المطابقة لسنة (١٣٥٣ ه) القمرية.

__________________

(١) مرآة الكائنات : ١ : ٣٨٣.

(٢) سير الخلفاء ٨ : ٢.

١١٢

ففي الفصل الأوّل من الباب الثالث : «إنّ ولادة أمير المؤمنين في الكعبة يوم الخميس ثامن ربيع الأول ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، وفي رواية : سنة ثمان وعشرين منه» (١).

وما ذكره من تاريخ الأُسبوع والشهر غريب ، وإنّما قصدنا في نقله ما يوافق غيره من المؤرّخين من النصّ بولادة الكعبة.

والرجل من عظماء المؤرّخين والمحدّثين القدماء ، يحتجّ بقوله ويعوّل عليه وعلى كتابه.

ولا ينافيه ترجيحنا رواية غيره من العظماء فيما وقعت المخالفة بينهما لمرجّحات خارجية ، لكنّ موضوع رسالتنا هذه ممّا لم يختلف فيه الأوّل والآخر.

فقال البحّاثة السيّد عليّ جلال الدين الحسيني الكاتب المؤرّخ المعاصر المصريّ في كتابه (الحسين عليه السّلام) : «أنّه عليه السّلام ولد بمكّة في البيت الحرام ، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل.

قال الشيخ المفيد : ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولودٌ في بيت الله تعالى سواه.

وقال عبد الباقي أفندي الموصليّ العمريّ :

أنتَ العليُّ الذي فوقَ العُلا رُفعا

ببطنِ مكّةَ عندَ البيتِ إذ وُضِعا» (٢)

وفي (تاريخ نگارستان) لأحمد بن محمد بن عبد الغفاريّ القزويني من مؤرّخي القرن العاشر.

__________________

(١) تاريخ قم : ١٩١.

(٢) كتاب الحسين عليه السّلام ١ : ١٦ ، وإرشاد المفيد : ٩ ، وشرح عينية عبد الباقي (للألوسي) : ١٥.

١١٣

وموضوع الكتاب تأريخخ ملوك الإسلام إلى سنة (٩٤٩ ه) وهو مذكور في (كشف الظنون) للچلبي ، و (الذريعة) لشيخنا البحاثة الحجة الشيخ آقا بزرك الرازي ، وطبعع سنة (١٢٤٥ ه) ، ففيه : أنّه ولد في جوف الكعبة (١).

وذكر التاريخ موافقاً للسيّد علي جلال الدين في السنة والشهر والأُسبوع.

وفي (روضة الصفا ناصري) للبحاثة المؤرّخ الشهير رضا قلي هان هدايت «أنّ من المحقَّق : لمّا عادت فاطمة بنت أسد صدفاً لذلك الجوهر الملوكي ، ظهرت لها ن إمارات السّعود ما أخبتت بعظمة الحمل الذي كان في بطنها.

ولقد بشّر به أبا طالب مثرم بن دعيب بن سقيام ، من رُهبان المسيحيين الإلهيين ، وكان يسكن جبل لكام من جبال الشام ، الذي كان معبداً للمرتاضين ، ولقد عمّر مائة وتسعين عاماً.

ولمّا انتهت أيام حملها قصدت الكعبة يوماً ، فانشقّ لها الجدار ، ودخلته فالتأمت الفتحة.

وتعجّب العباس بن عبد المطلب ، يزيد بن قَعنب ، وبقية الحضور ، وتعذّر عليهم فتحُ الباب والدخول عليها.

حتّى خرجت هي في اليوم الرابع وابنها على يَدها ، وهب مباهيةٌ به.

فوافى أبو طالب ودخل معها البيت ، ووجدَ لوحاً فيه هذان البيتان :

خُصِصتما بالولد الزكيِّ

والطاهر المنتجبِ المرضيِّ

إنّ اسمه من شامخٍ عليِّ

عليٌّ اشتقَ من العليِّ

يقال : إنّ هذا اللوح كان معلّقاً بمكّة ، حتّى أخذه عبد الملك.

__________________

(١) تاريخ نگارستان : ١٠. وانظر بشأنه كشف الظنون ٢ : ١٩٧٦ ، والذريعة ٢٤ : ٣٠٨.

١١٤

وكانت الولادة الميمونة يوم الجمعة ، لثالث عشر من رجب ، قبل البعثة بعشرة أعوام ، وقبل الهجرة بثماني وعشرين سنة (١) ، وكان عمرُ النبيّصلّى الله عليه وآله ثمانية وعشرين عاماً.

فوُلِدَ وَليُّ الله سلام الله عليه في البيت على الرّخامة الحمراء.

وذكر الفنّيون بالفلكيات والنجوم أنّ ساعة الميلاد كانت في طالع العقرب ، والزُّهرة والقمر في بيت الطالع ، وكان المرّيخ وزحل في الحوت ، وعطارد والشمس والمشتري في السُّنبلة.

وبما أنّ المرّيخ وزحل في الخامس والعشرين الذي هو منسوب للأولاد ، كان ولده سلام الله عليهم بين مقتول بالسيف الذي منسوبٌ إلى المريخ ، وآخر مستشهد بالسُّم الذي هو منسوب إلى زحل.

ويوجد نظير هذه الأحكام في كتاب (جاماسب) الحكيم الفارسيّ» (٢).

مترجماً من الفارسيّة وملخّصاً.

وفي (بستان السياحة) للمؤرّخ المنقّب الحاج ، زين العابدين بن إسكندر الشرواني ، بعد ذكر ولادته عليه السّلام من غير ترديد في العام الثلاثين من واقعة الفيل في جوف الكعبة ، وعن بعضهم أنّه في الثالث عشر من رجب :

«إنّ من المتّفق عليه : أنّ غيره ـ صلوات الله عليه ـ لم يُولد هناك» (٣).

وذكر بيتاً فارسياً ، هذا نصّه :

شد او درّ وبيت الحرامش صَدَف

كسى را ميسّر نشد اين شَرَف

__________________

(١) الظاهر بثلاث وعشرين سنة.

(٢) روضة الصفا ، الجزء العاشر ، وكتاب جاماسب : ٥١.

(٣) بستان السياحة : ٥٤٠ ، ط. ٢.

١١٥

وفي (روضة الشهداء) للمولى حسين الكاشفي عن (بشارة المصطفى) وذكر حديث يزيد بن قَعنب مختصراً ، كما مرّ.

ثمّ نقل عن الإمام أبي داود البناكتي أنّه «لم يولد أحدٌ قبلَه ولا بعدَه في البيت» (١).

والعلويّة المباركة ، تلك القصيدة التاريخية المُربيَة على الخمسة آلاف بيت في حياة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام للصحافي الشهير عبد المسيح الأنطاكي صاحب مجلّة (العمران) المصريّة (٢).

في رَحبة الكعبة الزهرا قد انبثقت

أنوارُ طفلٍ وضاءت في مَغانيها

 واستبشرَ الناسُ في زاهي ولادته

قالوا : السُعودُ له لا بدَّ لا قيها

 قالوا ابنُ مَ ،؟ فأُجيبوا : إنّ ولدٌ

من نسل هاشمِ من أسمى ذَراريها

 هنّوا أبا طالبِ الجوّاد والدَهُ

والأُمَّ فاطمة هُبُّوا نُهنّيها

 إنّ الرضيعَ الذي شام (٣) الضياء ببيـ

ـتِ الله عزّتُهُ لا عزَّ يَحكيها

 أمّا الوليدُ فلاقى الأرض مُبتسماً

فما رغا رَهَباً ما كان خاشيها

 إلى النساءَ التي حولَيه قد نظرت

عيناهُ نظرةَ مُستجلٍ خوافيها

 وهنَّ أعجبنَ بالمولُود شِمْنَ بهِ

شِبلاً ببنيَتِهِ سُبحان بانيها

 وقلنَ فاطمُ قد جاءت بِحَيدرةٍ

يذبُّ عن قومه العُدوى ويَحميها

 فَراقَ فاطمةٌ والطفلُ بينَ يَديـ

ـها قولةٌ سمعتها من جواريها

 واستبشرت ثمّ قالت : والجي أسدٌ

فباسمه صِرتُ أُسْميهِ بخافيه

ثمّ أبو طالبٍ وافى حليلته

وطفلها وانثنى صَفواً يحاليها

__________________

(١) روضة الشهداء : ١٤٦.

(٢) مجلّة العمران : ٦١ ـ ٦٢.

(٣) شام : تطلع. انظر لسان العرب ـ شيم ـ ١٢ : ٣٢٩.

١١٦

وهمَّ بالطفل يستجلي ملامحَه الز

هرا فألفى المعالي كُوّنت فيها

 وقالت الأُمُّ : يا بشرى بِحَيدرةٍ

بُشرى أبا طالبٍ وافيتُ أُسديها

أجابَها : بل عليُّ إنّني لأرا

هُ بالغاً ذِروة العَليا وراقيها

 اللهُ أكبرُ من تلك الفَراسة بالـ

ـمولود والوالد المفضالِ رائيها

 قد حقّقتها الليالي بالوليدِ فأمْـ

ـسى بينَ أهل العُلا والمجد عاليها

 وعام مولده العام الذي بدأت

بشائرُ الوحي تأتي من أعاليها

 فيه الحجارةُ والأشجار قد هتفت

للمُصطفى وهو رائيها وصاغيها

 وإذ درى المصطفى فيه ولادةَ مو

لانا العَليّ غدا بالبُشر يُطريها

 وباتَ مُستبشراً بالطفلِ قال به

لنا من النِعَمِ الزَهراء ضافيها

علّق الناظم المؤرّخ على هذا المورد من قصيدته بقوله :

«كانت ولادة سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين في العام الثلاثين لولادة المصطفى ـ عليهما وعلى آلهما والسلام ـ على ما حقّق المحقّقون ، فتكون ولادته الشريفة حول سنة ستّ مائة وواحد مسيحيّة ، ومن بشائر سعده ـ عليه صلوات الله ـ أنّه وُلِدَ في الكعبة كرّمها الله ، ولدته اُمّه فيها ، فاستبشر بذلك أبوه وعمومته.

وعند ولادته الشريفة دعته اُمّه : «حيدرة» ومعنى هذه الكلمة : «الأسد» فكأنّها أرادت أن تسميّه باسم أبيها ، فلمّا وقعَ نظرُ أبيه أبي طالب عليه وتوسّم بملامحه العلاء ، ودعاه «عليّاً».

وقد صدّقت الأيام فراسته ، فكان عليه صلوات الله «عليّاً» في الدنيا والآخرة.

وعام ولد سيّدنا أمير المؤمنين ـ عليه صلوات الله ـ هو العام المبارك الذي بدىء فيه برسول الله صلّى الله عليه وآله فأخذ يسمعُ الهُتاف من الأحجار والأشجار ، ومن السماء ، وكشف عن بصره فشاهد أنواراً وأشخاصاً.

١١٧

وفي هذا العام ابتدأ بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حِراء.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يتيمّنُ بذلك الهام ، بولادة سيّدنا عليّ ـ عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام ـ وكان يسميّه : «سنة الخير ، وينة البركة».

وقال المصطفى صلّى الله عليه وآله لأهله عندما بلغته بشرى ولادة المرتضى : «لقد وُلِدَ لنا الليلة مولودٌ ، يفتحُ الله علينا به أبواباً كثيرةً من النعمة والرحمة».

وكان قوله هذا أوّل نُبوّته ، فإنّ المرتضى ـ عليه صلوات الله ـ كان ناصره ، والحامي عنه ، وكاشف الغمّاء عن وجهه ، وبسيفه ثبت الإسلامُ ، ورسخت دعائمُه وتمهّدت قواعدُه» (١).

وفي الرسالة الموضوعة لتأريخ مواليد أئمّة الدين عليهم السّلام ووفياتهم ، تأليف العلّامة الأوحد السيد محمّد الطباطبائي ، جدّ آية الله بحر العلوم (٢) : أنّه عليه السّلام «وُلِدَ بمكّة في جوف الكعبة ، ولم يولد قبلَه ولا بعدَه أحدٌ فيه سواه ، إكراماً له من الله جلّ اسمه بذلك ، في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب الأصم ، على ما نقله جلّ أهل التاريخ بل كلّهم ...».

وفي الجدول الذي عمله السيّد الأجلّ أبو جعفر ، محمّد بن أمير الحاج الحسينيّ في شرح قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني ، تعيين يوم ولادته بالجمعة ، وشهرها بالثالث عشر من رجب ، وعامها بالثلاثين من واقعة الفيل ، ومحلّها بالكعبة (٣).

__________________

(١) القصيدة العلوية : ٦١ ، وهذه القصيدة تشتمل على ٥٥٩٥ بيتاً ، انظر الذريعة ١٧ : ١٢٠ ، والأعلام (للزركلي) ٤ : ٢٩٧.

(٢) وهو جدّ سيّد الطائفة الإمام البروجردي الطباطبائي المتوفى (١٣٨٠ ه) أيضاً.

(٣) شرح الشافية : ١٥.

١١٨

وقال الكفعميّ في جنّته المعروف بـ (المصباح) الذي ألّفه سنة (٨٩٥ ه) عند ذكر شهر رجب : «وفي ثالث عَشَر ، يوم الجمعة ، وُلِدَ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في الكعبة ، قبل النبوّةباثنتي عشرة سنة ، وللنبيّ صلّى الله عليه وآله ثمانٍ وعشرون سنة» (١).

وفي الجدول الذي عقده شيخ الإسلام ، ميرزا حسن الزنوزيّ نزيل (خُوي) على العهد الدنيلي ، لمواليد الأئمة عليهم السّلام ووفياتهم في كتابه (بحر العلوم) : «أنّ ولادته عليه السّلام الكعبة».

وعرفت في باب إثبات شهرة الحديث نقله عن كتاب (الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء والملوك) للشيخ أحمد بن حسن الحرّ العاملي ، فراجع (٢).

ووجدماه مرسلاً إرسال المسلّم في كتاب (حياة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام) لبعض خريجي كلية باريس.

وفي (تجارب السلف في تواريخ الخلفاء ووزرائهم) تأليف هندو شاه بن عبد الله الصاحبيّ النخجواني ، الذي فرغ منه سنة (٧٣٤ ه) : «أنّ علياً عليه السّلام ولد في الكعبة ، وكان المصطفى صلّى الله عليه وآله ابن ثلاثين ، ولمّأ ولد عليّ عليه السّلام سمّته اُمّه (حيدرة) وحيدرة اسم الأسد ، وسمّاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وكنّاه بأبي تراب» (٣).

مترجماً عن الفارسية.

وقال الحلبيّ في سيرته (إنسان العيون) : «إنّه عليه السّلام وُلِدَ في الكعبة ، وعمره ـ يعني عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ ثلاثون سنة».

__________________

(١) مصباح الكفعمي : ٥١٢.

(٢) تقدّم في الصفحة : ....

(٣) تجارب السلف : ٣٧ ، ط. طهران ، سنة (١٣١٣ ش).

١١٩

ثمّ قال : «وقيل : الذي وُلِدَ في الكعبة حكيم بن حزام ، قال بعضهم : لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة.

لكن في (النور) حكيم بن حزام ولد في الكعبة ، ولا يعرف ذلك لغيره ، وأمّا ما روي أنّ علياً عليه السّلام ولد فيها ، فضعيف عند العماء» (١).

وأنت تجد من سياق العبارة أنّ المعتمد عند الرجل هو ولادة الإمام عليه السّلام في الكعبة ، ولذلك ذكرها أوّلاً مرسلاً إيّاها إرسال المسلّم.

ثمّ عزا ولادة حكيم بن حزام فيها إلى القيل إيعازاً إلى وهنه ، ولذلك أردفه بجواب البعض عنه.

لكنّه وجد لصاحب (النور) كلمةً لم يرقه الإغضاء عنها بما هو مؤرّخ أخذ على عاتقه إثبات المقول في كلّ باب ، وإذ لم يجد جواباً عنها لغيره لم يشفعها به.

واكتفى هو بما ذكرناه من اعتماد على حديث الولادة عن أن يردّ كلمة الرجل ، لأنّه لا مُنقّب.

وأمّا صاحب (النور) فيكفيك في تفنيد مزعمته ما تقف عليه في هذه الرسالة من نصوص علماء أهل السنة في ذلك ، ورواياتهم.

وقد عرفت نصّ الحاكم والمحدّث الدهلويّ بتواتر حديثه ، وقول الآلوسيّ : «إنّه أمرٌ مشهورٌ في الدنيا».

وأيّ عالم يردّ المتواتر ، أو يعدوه أمرٌ مشهورٌ ثبوتهُ في الدنيا فيضعّفه حتّى يقول الرجل بملء فيه : «إنّه ضعيف عند العلماء».

وإن تعجب فعجبٌ إثباته ولادة حكيم التي لم يستقم إسنادها ، ولا اعترف بها مخالفوه وأُمم من موافقيه.

__________________

(١) إنسان العيون ١ : ١٦٥.

١٢٠