وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

وهذه ليست أوّل خصوصية يحاولون سلبها عليّاً عليه السلام ، بل هناك غيرها كثير ، منها :

الحديث المتواتر المتّفق على صحّته : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها».

وضعوا قباله حديثاً واهياً هو : «أنا مدينة العلم ، وأبوبكر أساسها ، وعمر حيطانها وعثمان سقفها ، وعليٌّ بابها» (١).

وحديثاً آخر ، أشدُّ وهناً ، وأظهر وضعاً ، هو : «أنا مدينة العلم ، وعليٌّ بابها ، ومعاوية حلقتها» (٢).

ومنها الحديث المتواتر الثابت الآخر : «عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسى».

وضعوا قباله حديثاً يشهد متنه وسياقه بوضعه ، فضلاً عن سنده ، هو : «أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى» (٣).

ومنها الحديث المتواتر الصحيح الآخر : «لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ...».

وضعوا قباله حديثاً مثيراً للضحك والسخرية والاستغراب ، هو «لأُعطينّ هذا الكتاب رجلاً يحبّ الله رسوله ، ويحبّه الله ورسوله! قم يا عثمان بن أبي العاص. فقام عثمان بن أبي العاص ، فدفعه إليه» (٤).

ويكشف عن هذا التلاعب المكشوف ، ويبيّن أنّه كان أمراً معروفاً ومألوفاً ، قول الزهري في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد بن حنبل في «فضائل الصحابة» قال :

__________________

(١) راجع الغدير ١٩٧ : ٧ ـ ١٩٩.

(٢) راجع الغدير ١٩٧ : ٧ ـ ١٩٩.

(٣) راجع الغدير ٩٤ : ١٠.

(٤) المعجم الأوسط (للطبراني) ٤٣٨ : ١ ، الحديث ٧٨٨ ، عنه مجمع الزوائد ٣٧١ : ٩.

١٨١

حدّثنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمّر ، قال : سألتُ الزهري : مَن كان كاتب الكتاب يوم الحديبيّة؟

فضحك وقال : هو عليٌّ ، ولو سألت هؤلاء ـ يعني بني اُمية ـ قالوا : عثمان (١).

واستعراض باقي الأمثلة يخرجنا عن موضوع البحث الرئيسي ، وإنّما أردنا التدليل على منهج أُولئك في سلب الخصوصية ، وجرأتهم على وضع الأحاديث الواهية قبال الأحاديث السليمة.

هذا رغم ميل بعض العلماء إلى أنّ ولادة حكيم بن حزام في الكعبة ليست فضيلة ولا مكرمة ، وإنّما كانت اتّفاقاً ولم تكن قصداً ، كما ارتأى ذلك الصفوري وغيره (٢).

وأغرق بعضهم نزعاً في الضلال ، ورمى القول على عواهنه ، متحدّياً ما أثبته مهرة الفنّ وأئمّة النقل ، وأخبت كبار العلماء والمؤرّخين بصحّته ، ولم يكترث بأسانيده المتضافرة ، وطرقه المتّصلة المعتمدة عند كلّ مؤالف ومخالف ، فقال : «إنّ حكيم بن حزام وُلِدَ في جوف الكعبة ، ولا يُعرَف ذلك لغيره ، وأمّا ما روي أنّ عليّاً وُلِدَ فيها فضعيفٌ عند العلماء» (٣).

وقد أجاد الحجّة الأُردوبادي في الردّ عليه ، وتفنيد مزاعمه ، فراجع أواخر باب «حديث الولادة والمؤرّخون».

ولكن نجد رغم ذلك أنّ محاولتهم فيما يخّص فضيلة المولد الشريف في الكعبة العظّمة باءت بالفشل (٤).

__________________

(١) فضائل الصحابة ٥٩١ : ٢ ، الحديث ١٠٠٢ ، طبعة مكة.

(٢) نزهة المجالس ٢٠٤ : ٢.

(٣) انظر إنسان العيون ٢٢٧ : ١.

(٤) قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني في الإصابة ٢٩٦ : ٤ حول فضائل علي عليه السلام ومناقبه : «كلّما أرادوا ـ يعني بني اُمية ـ إخمادها وهدّدوا مَن حَدَّثَ بمناقبه لا تزداد إلّا انتشاراً».

١٨٢

فلو رجعنا إلى مصادر الحديث لوجدنا خلالها ـ مع إثبات تلك الفضيلة للإمام علي عليه السلام ـ على اليقين والجزم ـ أنّ من المؤلّفين والعلماء والرواة مَن أعلن أنّ هذه الفضيلة مختصّة بالإمام عليه السلام لم يشركه فيها أحد قبله ولا بعده ، مصرّحين بذلك بعبارات شتّى تدلّ على حصر هذه الفضيلة للإمام عليه السلام بضرس قاطع.

وإليك نصوصها :

«لم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه ، إكراماً له بذلك وإجلالاً لمحلّه في التعظيم».

رواها الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي (ت ٦٥٨ ه) عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري (٣٢١ ـ ٤٠٥ ه) (١).

وقالها أيضاً :

ـ الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي ، الشيخ المفيد (ت ٤١٣ ه) (٢).

ـ الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلّي ، المعروف بابن البطريق (٥٥٣ ـ ٦٠٠ ه) (٣).

ـ الشيخ الثبت أبو علي محمّد بن الحسن الواعظ الشهيد النيسابوري ، المعروف بابن الفتّال ، من علماء القرن السادس (٤).

ـ الشيخ الوزير بهاء الدين أبو الحسن علي بن عيسى الأربلي (ت ٦٩٣ ه) (٥).

__________________

(١) كفاية الطالب : ٤٠٧.

(٢) الإرشاد : ٩.

(٣) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٢٤.

(٤) روضة الواعظين : ٧٦.

(٥) كشف الغمّة ٥٩ : ١.

١٨٣

ـ الإمام جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه) (١).

ـ السيّد المحدّث جلال الدين عبد الله بن شرفشاه الحسيني ، المتوفّى نيف وثمانمائة من الهجرة (٢).

ـ الشيخ المحدّث الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، من أعلام القرن الثامن الهجري (٣).

ـ الشيخ المؤرّخ النسّابة جمال الدين أحمد بن علي الحسني ، المعروف بابن عنبة (ت ٨٢٨ ه) (٤).

ـ العلّامة المحدّث السيّد وليّ الله بن نعمة الله الحسيني الرضوي ، من أعلام القرن التاسع الهجري (٥).

ـ العالم اللغوي الشيخ فخر الدين الطريخي (٩٧٩ ـ ١٠٨٧ ه) (٦).

ـ العلّامة محمود بن محمد بن علي الشيخاني القادري الشافعي المدني ، من أعلام القرن الحادي عشر (٧).

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٣٢.

(٢) منهج الشيعة في فضائل وصيّ خاتم الشريعة : ٧ ، ونسخة مكتبة آية الله الگلپاىگاني المؤرّخة (١٢٦٥ ه).

(٣) إرشاد القلوب : ٢١١.

(٤) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : ٥٨.

(٥) كنز المطالب وبحر المناقب : ٤١ ، ونسخة المدرسة المؤرخّة (٩٨٩ ه).

(٦) جامع المقال : ١٨٧.

(٧) الصراط السويّ : ١٥٢ ، ونسخة المكتبة الناصرية في لكهنو بالهند ، والتي يظهر أنّها بخطّ المؤلف.

١٨٤

«ولد بمكّة في البيت الحرام ، ولم يولد قطّ في بيت الله تعالى مولود سواه ، لا قبله ولا بعده ، وهذه فضيلة خصّه الله تعالى بها ، إجلالاً لمحلّه ومنزلته ، وإعلاءً لقدره».

قالها :

ـ أمين الإسلام الشيخ المفسّر أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت ٥٤٨ ه) (١).

ـ الحافظ محمّد بن معتمد خان البدخشاني الحارثي ، من أكابر علماء العامّة في القرن الثاني عشر (٢).

* * *

«ولد بداخل البيت الحرام ، ولم يولد في البيت الحرام قبله أحدٌ سواه ، وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً له ، وإعلاءً لمرتبته ، وإظهاراً لتكرمته».

قالها :

ـ الحافظ نور الدين عليّ بن محمد بن الصبّاغ المكّي المالكي (٧٨٤ ـ ٨٥٥ ه) (٣).

وحكاها عنه :

ـ الفقيه المؤرّخ نور الدين علي بن عبدالله الشافعي السمهودي (٨٤٤ ـ ٩١١ ه) في «جواهر العقدين في فضل الشرفين العلم الجليّ والنسب العليّ».

__________________

(١) إعلام الورى : ١٥٣

(٢) مفتاح النجا فى مناقب آل العبا نزل الأبرار بما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار : ١١٥.

(٣) الفصول المهمّة : ٣٠.

١٨٥

الشيخ علي بن برهان الدين الحلبي (٩٧٥ ـ ١٠٤٤ ه) في «إنسان العيون» (١).

الشيخ مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي ، من علماء القرن الثالث عشر (٢).

* * *

«ولد في البيت الحرام ، ولا نعلم مرلوداً في الكعبة غيره».

قالها : نقىب الطالبين

الأديب الفقيه أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي ، المعروف بالشريف الرضي (٣٥٩ ـ ٤٠٦ ه) (٣).

* * *

«ولدته ـ اُمّه ـ في الكعبة ، ولا نظير له في هذه الفضيلة».

قالها : علم الهدى ذو المجدين علي بن الحسين الموسوي ، المعروف بالشريف المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه) (٤).

* * *

«لم يولد في الكعبة إلّا عليّ».

قالها :

ـ الحافظ الفقيه محمّد بن علي القفّال الشاشي الشافعي (ت ٣٦٥ ه) (٥).

ـ شىخ الاسلام الحافظ المحدّث إبراهيم بن محمّد الجويني الشافعي (٦٤٤ ـ ٧٣٠ ه) (٦).

* * *

__________________

(١) عنهما : على وليد الكعبة : ١١٩.

(٢) نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار : ١٥٦.

(٣) خصائص الأئمة : ٤.

(٤) شرح قصيدة السيد الحميري المذهّبة : ٥١ ، طبعة مصر ، سنة (١٣١٣ ه).

(٥) فضائل أمير المؤمنين : مخطوط ، عنه إحقاق الحقّ ٧ : ٤٨٩.

(٦) فرائد السمطين ١ : ٤٢٥.

١٨٦

«ولدت ـ فاطمة بنت أسد ـ علياً عليه السّلام في الكعبة ، وما ولد قبله أحدٌ فيها».

نصّ على ذلك السيّد الشريف النسّابة نجم الدين أبو الحسن علي بن محمد العلوي العمري ، من علماء القرن الخامس الهجري (١).

* * *

«لقد وُلِدَ عليه السّلام في بيت الله الحرام ، ولم يولد فيه أحدٌ غيره قط».

قالها : الشيخ الفقيه أبو الحسين سعيد بن هبة الله ، المعروف بقطب الدين الرواندي (ت ٥٧٣ ه) (٢).

* * *

«مولده عليه السّلام في الكعبة المعظّمة ، ولم يولد بها سواه».

قالها : العلّامة عمر بن محمد بن عبد الواحد (٣).

* * *

«... فالولد الطاهر ، من النسل الطاهر ، وُلِدَ في الموضع الطاهر ، فأين توجد هذه الكرامة لغيره؟!

فأشرف البقاع : الحرم ، وأشرف الحرم : المسجد ، وأشرف بقاع المسجد : الكعبة ، ولم يولد فيه مولودٌ سواه.

فالمولود فيه يكون في غاية الشرف ، فليس المولود في سيّد الأيّام (يوم الجمعة) في الشهر الحرام ، في البيت لحرام ، في البيت الحرام سوى أمير المؤمنين عليه السّلام».

__________________

(١) المجدي في أنساب الطالبيين : ١١.

(٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٨٨٨.

(٣) النعيم المقيم لعترة النبأ العظيم : ١٦ ، ومخطوطة مكتبة آيا صوفيا ـ تركيا ، وانظر بشأنه إيضاح المكنون ٢ : ٦٦١ ، أهل البيت عليهم السّلام في المكتبة العربيّة.

١٨٧

قالها : الحافظ المؤرّخ أبو عبد الله محّمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني (ت ٥٨٨ ه) بعد أن ذكر عدّة أحاديث في ولادة عليّ عليه السّلام في الكعبة (١).

* * *

«وُلِدَ في الكعبة بالحرم الشريف ، فكان شرف مكّة وأصل بكّة لامتيازه بولادته في ذلك المقام المنيف ، فلم يسبقه أحد ولا يلحقه أحد بهذه الكرامة».

قالها : المحدّث الجليل السيّد حيدر بن علي الحسيني الآملي من علماء القرن الثامن الهجري (٢).

* * *

«كانت ولادته بالكعبة المشرّفة ، وهو أوّل مَن وُلِدَ بها ، بل لم يُعْلَم أنّ غيره وُلِدَ بها».

قالها : العلّامة صفي الدين أحمد بن الفضل بن محمّد باكثير الحضرمي الشافعي ، من أعلام القرن الحادي عشر (٣).

* * *

«وُلِدَ عليه السّلام بمكّة داخل الكعبة على الرخامة الحمراء ، ولم ينقل ولادة أحدٍ قبلَه ولا بعدَه في الكعبة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٥.

(٢) الكشكول فيما جرى على آل الرسول : ١٨٩.

(٣) وسيلة المآل : ٢٨٢ ، ونسخة مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامة ، المؤرخّة (١٢٨٠ ه).

١٨٨

قالها كلٌّ من :

ـ العالم المحدّث الفقيه السيّد تاج الدين بن علي بن أحمد الحسيني العاملي ، من علماء القرن الحادي عشر (١).

ـ العالم الفاضل محمّد بن رضا اللقمي ، من علماء القرن الحادي عشر (٢).

* * *

«ولادة معدن الكرامة في جوف الكعبة ، ولم يولد أحدٌ فيها غيره ، وقد خصّة الله تعالى بهذه الفضيلة ، وشرّف الكعبة بهذا الشرف».

قالها العلّامة الفاضل محمّد مبين بن محبّ بن أحمد اللكهنوي الأنصاري الحنفي (ت ١١٢٥ ه) (٣).

* * *

«ولدته في مكّة المكرّمة في جوف بيت الله الحرام ، ولم يولد أحدٌ غيره في هذا المكان المقدّس».

قالها العلّامة الشيخ محمد صديق خان الحسيني البخاري القنوجي (١٢٤٨ ـ ١٣٠٧ ه) (٤).

* * *

__________________

(١) التتمّة في تواريخ الأئمّة : ٤٧ ، الفصل الثالث.

(٢) كاشف الغمّة : ٤٢٢ ، نسخة المؤلّف المخطوطة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى ، برقم ٢٠٠٠ ومن المطبوعة (ص : ٤٣).

(٣) وسيلة النجاة : ٦٠ ، طبعة گلشن فيض ـ لكهنو.

(٤) تكريم المؤمنين بتقويم مناقب الخلفاء الراشدين : ٩٩ ، طبعة الهند ، سنة (١٣٠٧ ه) (٤).

١٨٩

«كانت ولادته عليه السّلام في جوف الكعبة ، ولم تنح هذه السعادة لأيّ أحدٍ منذ بدء الخليفة إلى الغاية ، وإنّ لصحّة هذاالخبر بين المؤرّخين المتحفّظين على الفضائل صيتٌ لا تشوبه شبهة ، وتجاوز عن أن يصحبه الشكّ والترديد».

قالها المؤرّخ الشهير محمد بن خاوند شاه بن محمود (ت ٩٠٣ ه) (١).

* * *

«من المتّفق عليه أن غيره صلوات الله عليه لم يولد هناك».

قالها المؤرّخ العالم زين العابدين الشيرواني ، من علماء القرن الثاني عشر (٢).

* * *

أمّا الشعراء ، وخاصّة العلماء منهم :

فقد زيّنوا شعرهم بقصائدهم في بيان فضائله ومناقبه عليه السّلام المرويّة بالطرق الصحيحة المصحّحة المتواترة ، تخليداً لذكره ، وأداءً لبعض حقّه ، وأثبتوا فيها خصوصية ولادته في الكعبة المعظّمة ، ومنهم :

العالم الأديب ابو الحسن علاء الدين عليّ بن الحسين الحلّي الشفهيني ، من العلماء الشعراء في القرن الثامن الهجري ، يقول في قصيدة داليّة طويلة :

أم أهل ترى في العالمي بأسرهم

بَشَراً سواه ببيتِ مكّة يولَدُ؟

 في ليلةٍ جبريل جاءَ بها مع

الملأ المقدَّسِ حَولَهُ يتَعبَّدُ

 فلقد سَما مجداً عليُّ كما عَلا

شَرَفاً به دون البقاع المسجدُ (٣)

__________________

(١) روضة الصفا في آداب زيارة المصطفى ، الجزء الثاني.

(٢) بستان السياحة : ٥٤٣ ، الطبعة الثانية.

(٣) تجد القصيدة كاملة في الغدير ٦ : ٣٥٦ ـ ٣٦٤.

١٩٠

ومنهم العالم المتكلّم المحدّث الفقيه المولى محمد طاهر بن محمد حسين القمي ، صاحب المؤلّفات القيّمة النافعة ، المتوفّى سنة (١٠٩٨ ه) ، في لا ميّته البديعة التي مطلعها :

سلامةُ القَلبِ نحَّتني عن الزَّلَلِ

وشُعلَةُ العِلمِ دلَّتني على العَمَلِ

إلى أن يقول :

طوبى لهُ كانَ بيتُ اللهِ مولدُهُ

كمثل مولدهِ ما كانَ للرُّسُلِ (١)

ومنهم الفقيه المحدّث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي (١٠٣٣ ـ ١١٠٤ ه) صاحبُ «وسائل الشيعة» قال في أُرجوزة له في تواريخ المعصومين عليهم السّلام :

مولدُهُ بمكّة قد عُرفا

في داخلِ الكعبة زيدت شرفا

على رُخامةٍ هناك حمرا

معروفة زادَت بذاكِ قدرا

فيا لها مزيّة عليّة

تخفضُ كلَّ رُتبةٍ عليّة

ما نالها قط نبيٌّ مرسلُ

ولا وصيّ آخرٌ وأوّلُ

ثمّ شرع بنظم حديث يزيد بن قعنب المشهور (٢).

ومنهم الشيخ الفقيه حسين نجف التبريزي النجفي (١١٥٩ ـ ١٢٥١ ه) ، حيث يقول في قصيدته الهائية :

جَعَلَ اللهُ بيتهُ لعليّ

مولداً يا لَهُ عُلا لا يُضاهى

لم يشاركهُ في الولادةِ فيه

سيّد الرسلِ لا ولا أنبياها (٣)

__________________

(١) الغدير ١١ : ٣٢٠.

(٢) عليّ وليد الكعبة : ٣٦.

(٣) نقلها الشيخ الأُردوبادي في عليٌ وليد الكعبة : ٦٩ عن ديوان الشيخ المخطوط.

١٩١

ومنهم العلّامة السيّد علي نقي النقوي الهندي اللكهنوي في موشّحة ميلادية طويلة ، منها قوله :

لم يكن في البيتِ مولودٌ سواه

إذ تعالى عن مثيلٍ في عُلاه

 أُوتي العلم بتعليم الإله

فغداه درّه قبل الفطام

يرتوي منه بأهنى مشرب (١)

ومنهم آية الله السيد محسن الأمين (١٢٤٨ ـ ١٣٧١ ه) صاحب الموسوعة القيّمة «أعيان الشيعة» ، حيث ذكر في أول باب سيرة أمير المؤمنين عليه السّلام ، فصل في مولده ، من موسوعته الآنفة الذكر :

وُلِدتَ ببيتِ اللهِ وهيَ فضيلةٌ

خُصصتَ بها فيك أمثالُها كُثرُ (٢)

وله أيضاً من مقصورة :

وولدَت في البيتِ الحرام ولم يكن

هذا لغيرك مَن يكون ومَن مضى (٣)

ومنهم السيد حسن بن محمود الأمين (١٢٩٩ ـ ١٣٦٨ ه).

في قصيدة بائية طويلة :

ولدت في البيت بيت الله فارتفعت

أركانهُ بكَ فوق السَّبعة الحُجُب

وتلك منزلةٌ لم يؤتها بشرٌ

بلى ومرتبةٌ طالت على الرُّتب (٤)

__________________

(١) تجدها كاملة في عليٌ وليد الكعبة : ٨٥ ـ ٨٨ ، والغدير ٦ : ٣٣ ـ ٣٥.

(٢) أعيان الشيعة ١ : ٣٢٣.

(٣) عليٌّ وليد الكعبة : ١٠٨.

(٤) أعيان الشيعة ٥ : ٢٨٥ ، ودائرة المعارف الشيعية ١ : ١٥٣.

١٩٢

ومنهم الفاضل الأديب الشيخ محمود عباس العاملي في قصيدته العلويّة المسماة بـ (الدرر السنيّة) :

من مثلهُ في بيتِ بارئه ولد

ذي خصلةٍ قد خصَّ فيها مذ وجد

أمعن بها يا صاح فكراً واعتمد

وانظر لها النظر الصحيح ولا تحد

من واضح المنهاج وقيت الضرر (١)

والشعر في خصوصية ولادة عليّ عليه السّلام في الكعبة كثير ، التقطتُ منه هنا ما هو أروع إلى السمع وأوقع في القلب.

* * *

__________________

(١) علي وليد الكعبة : ٨٣.

١٩٣

حديث أُم حكيم المزعوم :

بعد هذه المقدمة لا بدّ من خوض غمار حديث ولادة حكيم في الكعبة ، هذه المزعمة الزائفة ، والرواية المجعولة ، وإخضاعها لشيء من البحث والتحقيق والتمحيص لكشف زيفها وبيان وضعها ، إد فيها الكثير ممّا يوجب الشكّ والريب في سلامتها وصحّتها ، وبراءة ساحة رواتها.

وأوّل من نُسبت إليه وحكيت عنه ، وأقدمهم :

هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، النسّابة المعروف ، صاحب التآليف التي نيّفت على مائة والخمسين ، والمتوفّى سنة أربع أو ستّ ومائتين ، وقيل : الأول أصحّ.

والكلبي ممّن تكالب بعض علماء الجرح والتعديل من العامّة على تضعيفه وترك ما رواه ، وعد الاحتجاج به.

قال الدار قطني وغيره : متروك الحديث (١).

وقال يحيى بن معين : غير ثقة (٢).

وقال السمعاني : «يروي العجائب والأخبار التي لا اُصول لها ... أخباره في الاُغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها» (٣).

وهذه الاتهامات ضدّ الكلبي ليس لها وزن عندنا ، لأنّها ناشئة عن تعصّب طائفي ، ومنقوضة بما يخالفها من آراء حسنة في الرجل تدلُّ على خبرته وأمانته.

__________________

(١ و ٢) سىر أعلام النبلاء ١٠ : ١٠١ ، ولسان الميزان ٦ : ١٩٦.

(٣) الأنساب ٥ : ٨٦.

١٩٤

إلّا أنّا نشكّك في صحّ نسبة ذلك القول إليه ، وفي صدق الحكاية عنه.

والمتهّم في التقوّل عليه هو راويته السكّري ، فقد نسب إلى الكلبي أنّه قال في «جمهرة النسب» :

«وحكيم بن حزام بن خويلد عاش عشرين ومائة سنة ، وكانت اُمّه ولدته في الكعبة» (١).

وكتاب الجمهرة من أشهر كتبه ، عدّه كبار المؤرّخين من مصنّفاته ، وذكروا أنّ محمّد بن سعد كاتب الواقدي ومصنّف كتاب «الطبقات الكبير» رواه عنه مع سائر مصنّفاته.

ولكنّ النسخة التي بأيدينا من كتاب الجمهرة هي برواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري (٢١٢ ـ ٢٧٥ ه) عن أبي جعفر محمّد بن حبيب بن اُميّة البغدادي (ت ٢٤٥ ه) عن الكلبي.

وهذا خلاف ما أثبته المؤرّخون كالنديم والحموي وغيرهما (٢).

وكان لهذا الاختلاف أثرٌ كبير ، ودور مؤثّر في متن الكتاب الأصلي.

فقد عمد السكّري إلى دسّ بعض آرائه وأقواله ومرويّاته في متن الجمهرة ، مصدرّاً بعضها بـ «قال أبو سعيد» هاملاً البعض الآخر ، كما قام بتحريف بعض الجمل والكلمات ، أو تبديلها بما يتلاءم وآراءه الفكرية والمذهبيّة.

وكان هذا ديدن السكّري في ما يرويه من مصنّفات غيره ، وهكذا صنع بكتاب «المحبّر» لاُستاذه وشيخه أبي جعفر محمّد بن حبيب.

وقد تنبّه لهذا الأمر محقّقا كتابي الجمهرة والمحبّر.

__________________

(١) جمهرة النسب ١ : ٣٥٣.

(٢) الفهرست : ١٤٣ ، ومعجم الاُدباء ١٩ : ٢٩١.

١٩٥

قال الدكتور ناجي حسن محقّق الجمهرة في مقدّمة التحقيق :

«لقد وصلتنا جمهرة النسب لابن الكلبي برواية أبي سعيد السكّري ، عن محمد بن حبيب ، عن ابن الكلبي ، ومع ذلك ظهرت فيها إضافات واضحة ، وزيادات ، وتعليقات بيّنة ، لم ترد في أصل الجمهرة ، بل أضافها الرواة والنسّاخ.

ولا يستبعد آن ىکون أبو سعيد السكّري هو نفسه الذي قام بهذا العمل ، حين وجد لديه فيضاً من الأخبار ذات الصلة بالأنساب» (١).

بعد هذا كلّه فليس من المستبعد ، ولا المستحيل ، أن تكون جملة «وكانت اُمّه ولدته في جوف الكعبة» في ذيل كلمة الكلبي المتقدّمة من تلك لاإضافات ، والزيادات ، والتعليقات البيّنة ، المحسوبة «فيضاً من الأخبار ذات الصلة بالأنساب».

فإن كانت هذه الزيادة مبهمة بعض الشيء أو مشكّكاً في أنّها من الجمهرة ، فهي واضحة ، مكشوفة ، جليّة في المحبّر.

ففي فصل الندماء من قريش :

«وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديماً لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ـ وحكيم هذا ولد في الكعبة ، وذلك أنّ اُمّه دخلت الكعبة وهي حاملٌ به ، فضربها المخاض فيها ، فولدته هناك ـ أسلما جميعاً» (٢).

فالعبارة التي بين شارحتين قد أحدثت فاصلة بين صدر الكلام وذيله ، إذ المراد بقوله «أسلما جميعاً» : الحارث وحكيم ، كما يدلُّ عليه قوله المتقدّم

_______________

(١) جمهرئ النسب : ١٠.

(٢) المحبّر : ١٧٦.

١٩٦

في أول الفصل المذكور : «وكان حمزة بن عبد المطلب نديماً لعبد الله بن السائب المخزومي ، أسلما جميعاً» (١).

على أنّ هذا الفصل هو في الندماء من قريش ، وليس في ذكر احوالهم وأحوال اُمّهاتهم وتاريخ ولاداتهم وكيفيّتها.

أضف إلى هذا أنّ عناوين الفصول والأبواب في المحبّر انتخبت بدقّة لتتلاءم مع محتوياتها ، كما يلاحظ بشكل جليّ أنّها خالية من الحشو وذكر الاُمور الفرعية ، اللهم إلّا في بعض الموارد التي هي من إضافات السكري.

ففي فصل أسلاف رسول الله صلّى الله عليه وآله :

«وسالفه صلّى الله عليه وآله : سعيد بن الأخنس ـ قال أبو سعيد السكّري : سعيد هذا هو الذي قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أبعده الله ، فإنّه كان يبغض قريشاً ـ ابن شرىقبن وهب ...» (٢).

وما أشبه قوله : «سعيد هذا» بقوله : «حكيم هذا».

وما أشبه الفاصلة بين «بن الأخنس ... بن شريق» بالفاصلة الحادثة في الفقرة موضع البحث ، وكلّ ما في الأمر تصديرها بـ «قال أبو سعيد السكّري» هنا ، وتركها سائبة مهملة هناك.

لم يكتفِ السكّري بهذا ، بل أضاف في بعض الموارد جملاً وروايات تتماشى مع اعتقاداته المذهبيّة.

اذكر منها ما في أواسط فصل «ذكر سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وجيوشه».

«وفيها غزوة عمرو بن العاص السهمي على ذات السلاسل ، ومعه أبو بكر وعمرو أبو عبيدة بن الجرّاح في جيشه ، وكان استمدّ ، فأمدّه النبي صلّى الله عليه وآله بجيش فيهم أبو بكر وعمر ، ورئيس الجيش أبو عبيدة بن الجراح.

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٧٤.

(٢) المصدر نفسه : ١٠٥.

١٩٧

قال أبو سعيد : فشكا أبو بكر وعمر ـ رحمهما الله ـ إلى النبي صلّى الله عليه وآله عمرو بن العاص ، فقال لهما : لا يتأمّر عليكما أحدٌ بعدي. وهذا توكيد لخلافة أبي بكر وعمر ـ رحمهما الله ـ» (١).

ولست في صدد الخوض في بحوث الخلافة والإمامة ، ومن هو أحقٌ بها من غيره ، أو الو لوج في مدى صحّة حديث «لا يتأمر عليكما أحد بعدي» وعدمه ، فهذا أمر أشبعه علماؤنا بحثاً وتفصيلاً ، ولكن أوردت هذا المثال لبيان تلاعب السكّري في متون الكتب ، وهدفه من ذلك وغايته.

بقول محقّق كتاب المحبّر في كلمة الختام :

«وأظنّ أنّه ـ أي ابن حبيب ـ كان يميل إلى الشيعية ، فإنّه لا يذكر أبداً اُمّ المؤمنين عائشة ، وسيّدنا أبا بكر الصدّيق ، وسيّدنا عمر إلّا بكلمة (رحمه الله) مع أنّه دائماً يذكر أُم المؤمنين خديجة وسيّدنا عليّاً بكلمة رضي الله عنهم أجمعين.

وأيضاً قد أثبت جميع ما يعاب به الرجل في سيّدنا عمر ، مثل أنّه كان أحول (٢).

أو كان قد ضرب ـ قبل أن يسلم ـ جاريته ضرباً مبرّحاً على قبولها الإسلام ، ربّنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا!

فمن أجل ّذلك ، فيما أحسب ، أنّ راويه أبا سعيد السكّري يضيف أحياناً إلى متن الكتاب ما يؤيّد رأي أهل السنة والجماعة في أمر الخلافة» (٣).

وقد تحامل كثيراً على ابن حبيب لوصفه عمر بأنّه أحول ، وهو أمرٌ خلقي وليس عيباً كما ادعى.

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) اُنظر المحبّر : ٣٠٣.

(٣) المصدر نفسه : ٥٠٩.

١٩٨

أو إثباته لبعض الحقائق التاريخية الثابتة المرويّة في جلِّ كتب السيرة والتاريخ كضرب عمر جاريته لأنّها سلكت طريق الحقّ وأسلمت.

حتّى أنّه عدّها من الغِلّ جهلاً وتعصّباً!

ويا ليته أمعن في مسألة تلاعب السكّري المكشوف بمتن المحبّر ، إضافاته الواضحة إليه ، حتّى يراها عين اليقين ، لكنّه تساهل كثيراً وقال «فيما أحسب» فكان من الذين ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون.

* * *

فإن قيل :

لا يهمّ عدم ذكر الكلبي وابن حبيب لخبر ولادة حكيم بن حزام في الكعبة ، في أصل كتابيهما ، وأنّها مما أضافه السكّري فيما بعد باعتباره الراوي الأوّل لهما ، وثبوت نسبة هذه الزيادات إليه ؛ لأنّنا نروي عن أئمة الجرح والتعديل عندنا تو ثيقه.

فقد قال فيه الخطيب البغدادي : كان ثقة ديّناً صادقاً (١).

وقال ياقوت الحموي : الرواية الثقة المكثر (٢).

فما زاده السكّري في متن الكتابين نعدّه صحيحاً مقبولاً.

قيل لهم :

إنّ ما أثبتناه من التلاعب السافر لسكّري في نصوص الكتب ومتونها ، ينافي إطلاقكم صفة «ثقة» عليه ، لأنّ الوثاقة هي الأمانة ، والثقة : الأمين ، يقال : وثقتُ بفلان أثقُ ثقةً إذا ائمنته (٣).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٧ : ٢٩٦.

(٢) معجم الاُدباء ٨ : ٩٤.

(٣) اُنظرالصحاح ٤ : ١٥٦٢ ، ولسان العرب ١٠ : ٣٧١.

١٩٩

وقد بيّنا أنّه لم يكن أميناً في رواية الكتابين ، لخيانته للأمانة العمية المتّبعة في الاحتفاظ بالنصوص على ما هي عليه ونقضه قواعد الرواية ، ففتح بذلك باباً للتلاعب المع والآثار ، لم يغلق إلى عصرنا هذا.

على أنّا لو س كان ثقة كما تدّعون ، فروايته هذه مردودة لأكثر من سبب.

منها : الإرسال :

والذي عليه جلّ العلماء وأجلّتهم أنّه ضعيف مردود ، لا يحتجّ به.

قال النووي في التقريب : «ثمّ المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدّثين ، وكثير من الفقهاء وأصحاب الاُصول» (١).

وقال مسلم في مقدّمة صحيحه : «والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجّة» (٢).

وقال ابن الصلاح في مقدمته : «ثمّ اعلم أنّ حكم المرسل حكم الحديث الضعيف ، إلّا أن يصحّ مخرجه بمجيئة من وجه آخر» (٣).

وقال النووي : «ودليلنا في ردّ العمل به أنّه إذا كانت رواية المجهول المسمّى لا تقبل لجهالة حاله ، فرواية المرسل أولى ، لأنّ المرويّ عنه محذوف ، مجهول العين والحال».

وقال ابن ابي حاتم في كتاب المراسيل : «سمعتُ أبي وأبا زرعة يقولان : لا يُحتجَّ بالمراسيل ، ولا تقوم الحجّة إلّا بالأسانيد الصحاح المتّصلة» (٤).

__________________

(١) التقريب : ٦٦.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٣٠.

(٣) مقدمة ابن الصلاح : ١٣٦.

(٤) المراسيل : ١٥.

٢٠٠