وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

أمّا معنى المرسل فهو أن يكون في طريق الخبر راوٍ ملتبس العين ، إمّا بأن لا يذكر ، أو أن يذكر على نحو الإبهام (١).

وعرّفه أبو العباس القرطبي ، من أئمة المالكية قائلاً : «المرسل عند الاُصوليين والفقهاء عبارة عن الخبر الذي يكون في سنده انقطاع ، بأن يُحدَّث واحد منهم عمّن لم يلقه ، ولا أخذ عنه» (٢).

ورواية السكّرى ، حتّى لو فرضنا أنّهاى رواية الكلبي وابن حبيب ، هي من المراسيل ، وليست من المسند الذي هو عند أهل الحديث ما اتّصل إسناده من رواية إلى منتهاه (٣).

والمعروف أنّ الكلبي وابن حبيب والسكّري وغيرهم ممّن سيأتي ذكرهم قد عاشوا او نبغوا في القرن الثالث للهجرة وما بعده ، فَمن الذي حدّثهم بولادة حكيم في الكعبة ، مع أنّها كانت قبل الإسلام بستّين سنة ، كما أرّخ ذلك بعض المؤرّخين (٤)؟

ومنها : الشذوذ ومخالفة المشهور.

والحديث الشاذّ هو الحديث الذي يتفرّد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصلٌ متابع لذلك الثقة (٥).

ورى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره بإسنادهم إلى يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي الشافعي : ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا

__________________

(١) جامع التحصيل في أحكام المراسيل : ٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مقدمة ابن الصلاح : ١١٩.

(٤) تاريخ البخاري الكبير ٣ : ١١ ، رقم ٤٢.

(٥) معرفة علوم الحديث : ١١٩.

٢٠١

يرويه غيره ، هذا ليس بشاذّ إنّما الشاذّ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس ، هذا الشاذّ من الحديث (١). زاد ابن الصلاح في مقدّمته : «فخرج من ذلك أنّ الشاذّ الرمدود قسمان : أحدهما : الحديث المنفرد المخالف.

والثاني : الفرد الذي ليس في روايه من الثقة والضبط ما وقع جابراً لما يوجبه التفرّد والشذوذ من النكارة والضعف» (٢).

ونحو هذا التقسيم قسّم ابن الصلاح الحديث المنكر (٣).

وقد أمر أحمد بن حنبل ابنه أن يحذف حديث : «يهلك اُمّتي هذا الحيّ من قريش» لمخالفته المشهور.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : «قال أبي في مرضه الذي مات فيه : اضرب على هذا الحديث ، فإنّه خلاف الأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله».

تعقّبه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب «خصائص المسند» قائلاً : «وهذا مع ثقة رجال إسناده ، حين شذّ لفظه عن الأحاديث المشاهير أمر بالضرب عليه» (٤).

ونقل بن الجوزي عن بعضهم أنّه قال : «إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الاُصول ، فاعلم أنّه موضوع» (٥).

ولا شبهة في أنّ ما تفرّدت به هذه الآلحاد من زعمهم أنّ ولادة حكيم كانت في الكعبة هو خبر شاذّ ، منكر ، موضوع ، خالفوا فيه المنقول ، وناقضوا الاُصول ، إذ لم يتوفّر فيهم وفي خبرهم ما يدفع شذوذه ونكارته ووضعه.

__________________

(١) المصدر السابق ، ومقدّمة ابن الصلاح : ١٧٣.

(٢) مقدّمة ابن الصلاح : ١٧٩.

(٣) مقدمة ابن الصلاح : ٨٧٤.

(٤) مسند أحمد ٢ : ٣٠١ ، وفتح الملك العليّ : ١٢٦.

(٥) فتح الملك العليّ : ١٢٢.

٢٠٢

وقد مرّ عليك قول شهاب الدين الآلوسي وغيره من الأعلام أنّ حديث ولادة عليّ عليه السّلام في الكعبة «أمرٌ مشهور في الدنيا ، ولم يشتهر وضع غيره ـ كرّم الله وجهه ـ كما اشتهر وضعه ، بل لم تتّفق الكلمة عليه».

والتأكيد عليه في مصادر الحديث المعتبرة ، وكلمات مَهرة الفنّ ، وحملة العلم ، وأهل السير ، وأصحاب التاريخ ، وصاغة الشعر ، لايدع مجالاً لشيء إلّا الإذعان بأنّه الصحيح الشائع الذائع المستفيض ، السائر ذكره مع الركبان ، الدائر بين الناس ، المقبول عنذ الاُمّة ، المشهور بين القاصي والداني ، شهرة لازمها تواتر الأسانيد التي لم يخل سند منها من محدّث ثقة ، وناقد خبير ، وعالم باحث ، ومؤرّخ ثبت ، وإمام من أئمة الفريقين وأساطينهم ، لا يستهان بعددهم ، ولا يطعن في روايتهم ، ولايغمز في شيء من أمانتهم ، كابن إسحاق المطّلبي ، وابن زكرة الأزدي ، والقفّال الشاشي ، والشيخ ابن بابويه الصدوق ، والشيخ المفيد ، والحاكم النيسابوري ، والشريف الرضي ، والسيد المرتضى علم الهدى ، والكراجكي ، وشيخ الطائفة الطوسي ، وابن أبي الغنائم العمري النسّابة ، وابن أبي الفوارس ، وابن المغازلي ، وعماد الدين الطبري ، وسبط ابن الجوزي ، والحافظ الكنجي ، والسيد ابن طاوس ، وشيخ الإسلام الجويني ، وابن الصبّاغ المالكي ، و... و....

فلا شكّ إذن في أنّه من الأحاديث «المشهورة التي يعرفها أهل العلم ، وقلّما يخفى ذلك عليهم ، وهو المشهورة التي يعرفها أهل العلم ، وقلّما يخفى ذلك عليهم ، وهو المشهور الذي يستوي في معرفتها الخاصّ والعام» (١).

* * *

__________________

(١) معرفة علوم الحديث : ٩٣.

٢٠٣

وروى ولادة حكيم في الكعبة :

الزبير بن بكّار (١٧٢ ـ ٢٥٦ ه) في كتابه «جمهرة نسب قريش» ، قال : «حدّثني مصعب بن عثمان ، قال : دخلت اُمّ حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش ، وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام ، فضربها المخاض في الكعبة ، فأُتيت بنطع حيث أعجلها الولاد ، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع» (١).

وليست هذه الرواية بأحسن حالاً من سابقيتها ، ففيها :

أوّلاً : الزبير ، وهو ضعيف عند بعضهم ، قال عنه الحافظ أحمد بن علي السليماني في كتاب الضعفاء : منكر الحديث (٢).

وذكره في عِداد من يضع الحديث ، وقال مرّة : منكر الحديث (٣).

واعتذر عنه ابن حجر العسقلاني بأنّ السليماني «لعلّه استنكر إكثاره عن الضعفاء ، مثل محمّد بن الحسن بن زبالة ، وعمر بن أبي بكر المؤملي ، وعامر ابن صالح الزبيري وغيرهم ، فإنّ في كتاب النسب ـ عن هؤلاء ـ أشياء كثيرة منكرة» (٤).

وثانياً : رغم البحث الجادّ فيما وقع بيدي من معاجم رجالية لم أعثر على مدح أو توثيق لمصعب بن عثمان ، هذا الذي روى هذه الحادثة ، سوى نسبه وهو : مصعب بن عثمان بن عروة بن الزبير بن العوامّ (٥).

__________________

(١) جمهرة نسب قريش ١ : ٣٥٣.

(٢) سير أعلام النبلأ ١٢ : ٣١٤ ، وتهذيب التهذيب ٣ : ٣١٣.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٦.

(٤) تهذيب التهذيب ٣ : ٣١٣.

(٥) التبيين في أنساب القرشيّين : ٢٦٦.

٢٠٤

فلا أقلّ من أنّ حاله مجهول ، إن لم يكن من اُولئك الضعفاء الّذين أكثر ابن بكّار في الرواية عنهم في الجمهرة أشياء منكرة كثيرة ، خاصّة أنّه كان الواسطة بين عامر بن صالح وبينه.

وشيخه هذا ـ عامر ـ كان كذّاباً ، ليس بثقة ، عامة حديثه مسروق ، يروي الموضوعات ، لا يحلُّ كتبُ حديثه إلّا على التعجّب ، ولعلّه ورّث تلميذه شيئاً من ذلك (١).

ثالثاً : أنّ مصعب بن عثمان هذا لم يذكر سنداً لهذه الرواية ، ولا صرّح باسم من حكاها له ، ولا أشار إلى المصدر الذي استقاها منه ، وأقلُّ ما يمكننا القول إنّها كسابقيتها مرسلة ، منكرة ، شاذّة ، ضعيفة.

ومن العجب أنّ بعض المولّفين أوردوا رواية الزبير هذه في مؤلّفاتهم يرسلونها إرسال المسلّمات ، ويوردونها مستدلّين بها محتجّين ، وكأنّها من الأحاديث المسندة الصحيحة المتواترة الثابتة التي لا تقبل الجدل ، ولا تخضع للنقاش!

فقد أخرجها عن الزبير :

جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي (٥١٠ ـ ٥٩٧ ه) في كتابه «صفة الصفوة» (٢).

جمال الدين أبو الحجّاج يوسف المزّي (٦٥٤ ـ ٧٤٢ ه) في كتابه «تهذيب الكمال» (٣).

شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي (٦٧٣ ـ ٧٤٨ ه) في كتابه «سير أعلام النبلاء» (٤).

__________________

(١) اُنظر تهذيب الكمال ١٤ : ٤٦ ، وسير أعلام النبلاء ٤ : ٤٢٩.

(٢) ج ١ : ٧٢٥.

(٣) ج ٧ : ١٧٣.

(٤) ج ٣ : ٤٦.

٢٠٥

شهاب الدين ابن حجر العسقلاني (٧٧٣ ـ ٨٥٢ ه) في كتابه «الإصابة» (١).

وقد تعوّدنا من هؤلاء الأربعة ـ خصوصاً ـ محاولاتهم الدائبة للتستّر على فضائل عليّ وأهل بيته عليهم السّلام وكتمانها ، وتضعيفها مهما كثرت طرقها وتواتر أسانيدها ، وأفرطوا في ذلك حتّى اشتهروا به.

كما تعوّدنا منهم الإخبات بصحّة الفضائل الموضوعة ، والكرامات المختلفة ، والأحاديث الضعيفة الواهية المرويّة في من كان على رأيهم ، ويذهب مذهبهم ، ويوافق هواهم وزيغ قلوبهم (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

* * *

ورواها الحاكم أبو عبد الله النيسابوري (٣٢١ ـ ٤٠٥ ه) في «المستدرك» بطريقين :

الأوّل «سمعتُ أبا الفضل الحسن بن يعقوب ، يقول : سمعت أبا أحمد محمّد بن عبد الوهاب ، يقول : سمعت عليّ بن عثّام العامري ، يقول :

ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة ، دخلت اُمّه الكعبة فمخضت فيها ، فولدت في البيت» (٢).

وابن عثّام هذا هو أبو الحسن الكلابي الكوفي ، توفّي سنة (٢٢٨ ه) ، وتحرّف اسمه في مطبوعة المستدرك إلى : غنام.

قال عنه الحاكمك في تاريخة : «أديب فقيه ... أكثر ما اُخذ عنه الحكايات ، والزهديّات ، والتفسير ، والجرح والتعديل» (٣).

__________________

(١) ج ٢ : ٣٢.

(٢) ج ٣ : ٤٢٨.

(٣) انظر سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٧٠.

٢٠٦

وروايته المتقدّمة التي لا تقوم بها الحجّة عند أهل العلم بالحديث ، تدخل في باب الحكايات ، وهو أنسب باب لها ولمثيلاتها من المرسلات الواهية والأحاديث المختلقة.

ولعلّ الذهبي قد تنبّه إلى ما فيها من الوهن والضعف فحذفها من مختصره ولم ينبسعنها ببنت شَفَةٍ ، ولو صحّت بوجهٍ من الوجوه لم يحذفها ، إذ استنفد ما لديه من حقد وعلم مقلوب في تجريح وتضعيف وتقبيح وسبّ لرواة مناقب عليّ وأهل بيته عليه السلام.

الثاني : «أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، ثنا مصعب بن عبد الله ، فذكر نسب حكيم بن حزام وزاد فيه :

واُمّه فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزّي ، وكانت وَلَدت حكيماً في الكعبة ، وهي حامل ، فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة ، فولدت فيها ، فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم ، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد!

قال الحاكم : وَهَمَ مصعب في الحرف الأخير ، فقذ تواتر الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة» (١).

ويا ليت شعري هل أصاب في الحرف الأول ، كي ينبّه الحاكم إلى وهمه في الأخير؟!

أم حسب أنّ هذه المزعمة المرسلة والمقطوعة السند قد وصلت إليه بـ «الأسانيد المنقولة إلينا بنقل العدل عن العدل ، وهي كرامة من الله لهذه الأُمّة خصّهم بهادون سائر الاُمم» (٢)؟

__________________

(١) المستدرك ٣ : ٤٨٣.

(٢) المستدرك : ١ : ٢.

٢٠٧

ومَن هؤلاء العدول الّذين أهمل الزبيري ذكرهم؟

ونقل الذهبي هذه السفسطة في تلخيصه ، مؤيّداً ـ على غير عادته ـ رأي الحاكم في وهم مصعب الزبيري.

وقد تكلّم الحجّة الاُردوبادي على رواية مصعب هذه في عدّة موارد ، ونبّه إلى بعض ما فيها من نقاط الضعف ، فراجع (١).

* * *

ورواها أبو الوليد محمّد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» قال :

حدّثني محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن أبي سليمان ، عن أبيه أنّ فاختة ابنة زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزّي ـ وهي اُمّ حكيم بن حزام ـ دخلت الكعبة وهي حامل ، فأدركها المخاض فيها ، فولدت حكيماً في الكعبة ، فحملت في نطعٍ واُخذ ما تحت مثبرها (٢) ، فغُسل عند حوض زمزم ، واُخذت ثيابها التي ولدت فيها فجُعلت لقىً (٣) (٤).

وللباحث أن يتساءل عن الأرزقيّ هذا :

ـ مَن هو؟

ـ ما قيمة أخباره وأحاديثه عند علماء الحديث وأئمة الجرح والتعديل؟

ـ مَن هؤلاء الرجال الذين روى عنهم هذا الحديث؟

الأزرقيّ ، هو محمّد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الغسّاني المكّي ، عرّفه ابن النديم بأنّه «أحد الأخبارييّن وأصحاب

__________________

(١) عليّ وليد الكعبة : ١ ـ ٣ و ١٢٥.

(٢) المثبرُ : الموضع الذي تلد فيه المرأة من الأرض. الصحاح ٢ : ٦٠٤ (ثبر).

(٣) اللقى ، بالفتح : الشيء الملقى لهوانه. الصحاح ٦ : ٢٤٨٤ (ثبر).

(٤) أخبار مكّة ١ : ١٧٤.

٢٠٨

السّير ، وله من الكتب كتاب مكّة وأخبارها وجبالها وأوديتها ، كتابٌ كبيرٌ» (١) هذا هو كلُّ ما ذكر عنه ، وليس فيه تصريح يستفاد منه حسن الرجل أو وثاقته ، ويبدو أنّ ابن النديم قد تفرّد بترجمته ، حيثأهملها علماء الرجال والمتخصّصون الأقدمون ، إنّما ذكروه ضمناً في ترجمة جدّه أحمد ـ المتوفى سنة (٢١٢ ه) أو (٢١٧ ه) أو (٢٢٢ ه) المعدود في مشايخ البخاري ، وأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي ، ومحمّد بن سعد كاتب الواقدي.

فقال المزّي في تهذيب الكمال : أحمد بن محمّد ... جدُّ أبي الوليد محمّد بن عبد الله الأزرقي صاحب تاريخ مكّة (٢).

ثمّ عدّ الرواة عنه ومنهم : ابن ابنه أبو الوليد محمّد بن عبد الله الأزرقي (٣).

وذكره وكتابه هذا شمس الدين السخاوي (المتوفّى سنة ٩٠٢ ه) في «الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ» وقال : كان في المائة الثالثة (٤).

ولعلّه استتج ذلك من كتاب الأزرقي نفسه ، حيث أرّخ فيه لحادثة وقعت في سنة عشرين ومائتين (٥) ، أو من معرفته بطبقة حفيده وعصره.

في النتيجة يتبيّن لنا أنّه ليس في المصادر التي ترجمت للأزرقي ، أو ذكرته ، ما يشجّع ، أو يساعد ، على قبول أخباره عموماً ، وحديثه الشاذّ هذا خصوصاً.

__________________

(١) الفهرست : ١٦٢.

(٢) تهذيب الكمال ١ : ٤٨٠.

(٣) تهذيب الكمال : ١ : ٤٨١.

(٤) الإعلان بالتوبيخ : ١٣٢.

(٥) أخبار مكّة ٢ : ١٠٣.

وانظر بشأنه كشف الظنون ١ : ٣٠٦ و ٢ : ١٦٨٤ ، وهدية العارفين ٢ : ١١ ، ومعجم المؤلفين ١٠ : ١٩٨ ، والأعلام للزركلي ٦ : ٢٢٢ ، وفيها اختلاف كثير في من تحديد عصره.

٢٠٩

أمّا شيخه الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، فقد ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه «الجرح والتعديل» وقال :

سألت أبي عنه فقال : كان رجلاً صالحاً ، وكانت به غفلة ، رأيت عنده حديثاً موضوعاً (١).

وقال البخاري : مات بمكّة لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجّة سنة ثلاث وأربعين ومائتين (٢).

والملاحظ أنّ جلّ روايته في «أخبار مكة» عن شيخيه :

محمد بن عمر الواقدي المتّفق على ضعفه وترك حديثه (٣).

وعبد العزيز بن عمران.

وهو : عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الأعرج ، المعروف بابن أبي ثابت.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن عبد العزيز بن عمران فقال : ما كتبتُ عنه شيئاً.

وقال البخاري : لا يكتب حديثه ، منكر الحديث.

وقال النسائي : متروك الحديث.

وقال يحيى بن معين : ليس بثقة ، إنّما كان صاحب شعر.

وقال عليّ بن الحسين بن حبّان : وجدتُ في كتاب أخي بخطِّ يده : أبو زكريا ابن أبي ثابت الأعرج المديني قد رأيته هاهنا ببغداد ، طان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم ، ليس حديثه بشيء.

__________________

(١) الجرح والتعديل ٨ : ١٢٤ ، وتذكرة الحفّاظ ٢ : ٥٠١ ، وسير أعلام النبلأ ١٢ : ٩٦.

(٢) التاريخ الكبير ١ : ٢٦٥ ، والتاريخ الصغير ٢ : ٣٤٨.

(٣) أُنظر أخبار مكّة (موارد كثيرة) ، والجرح والتعديل ٩ : ٤٥٤ ، وسير أعلام النبلاء ٨ : ٢٠.

٢١٠

وقال أبو حاتم الرازي : متروك الحديث ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدّاً.

وقال محمّد بن يحيى الذهلي النيسابوري : عليّ بدنة إن حدّثتُ عن عبد العزيز بن عمران حديثاً.

وقال ابن حبّان : يروي المناكير عن المشاهير.

وقال الرازي : امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه ؛ وتَرَكَ الرواية عنه (١).

إنّ اتّفاق هؤلاء الأعلام على ضعف عبد العزيز بن عمران وترك حديثه ، واشتهاره بالكذب ، ورواية المناكير ، وسوء الخلق و... ، أغناني عن اللجوء إلى التدقيق والبحث في بقيّة السند.

إنّ مصنّفاً مجهول الحال كالأزرقي ورواياً كالأعرج ، لا يصحّ الاعتماد عليهما في إثبات حادثة شاذّة كهذه.

وسندٌ هذا مبدؤه ومنتهاه محكوم عليه بالإهمال والإعراض التامّين ، ولا يصحّ للباحث الجادّ أن يستند إليه بأيّ وجه ، وفق ما قرّره علماء الدراية.

قال الحافظ يحيى بن سعيد القطّان ـ الذي وصفه الذهبي بأمير المؤمنين في الحديث (٢) ـ : «لا تنظروا إلى الحديث ، ولكن اُنظروا إلى الإسناد ، فإن صحّ الإسنادُ ، وإلّا فلا تغترّوا بالحديث إذا لم يصحّ الإسناد» (٣).

وقال الحافظ عبد الله بن المبارك : «ليس جَودَةُ الحديث قرب الإسناد ، جَودَةُ الحديث صحَّةُ الرجال» (٤).

__________________

(١) راجع التاريخ الكبير ٦ : ٢٩ ، والتاريخ الصغير ٢ : ٢٢٤ ، والجرح والتعديل ٥ : ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، وتاريخ بغداد ١٠ : ٤٤١ ، وتهذيب التهذيب ٦ : ٣٥١ ، وميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٢ ، وغيرها.

(٢) سير أعلام النبلاء ٩ : ١٧٥.

(٣) تهذيب الكمال ١ : ١٦٥ ، وسير أعلام النبلاء ٩ : ١٨٨.

(٤) تهذيب الكمال ١ : ١٦٦.

٢١١

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الرواية الأزرقي هذه لم تصحّ إسناداً ولا رجالاً على أقلّ تقدير.

* * *

تشكّل الروايات والنصوص المتقدّمة المصدر الرئيسي والمرجع الأساسي المهمّ لهذه المزعمة الواهية.

والقاسم المشترك بينها جميعاً هو الإرسال ، والشذوذ ، ومخالفة ما هو مشهور ، والنكارة ، والتحرف ، والتلاعب في بعض مصادرها ، وضعف بعش رواتها.

وعلّة واحدة من هذه العلل يسقط الاعتماد عليها ، ويوجب نبذها جانباً ، فكيف بها مجتمعة؟

وتبيّن من خلال البحث في تواريخ رواتها : أنّها ظهرت في القرن الثالث الهجري ، وأنّها ممّا تعمّد وضعه وتدرّج نحته في الأزمنة المتأخّرة ، وما أكثرها. يقول يحيى بن معين مشيراً إلى كثرتها : «كتبنا عن الكذّابين ، وسجّرنا به التنور ، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً» (١).

والعجب أنّ اكثر هذه الأحاديث وجلّها قد وضعها «أهل الخير والزهد»!

قال يحيى بن سعيد القطّان : «لمنرَ الصالحين في شيء أكذبَ منهم الحديث».(٢)

وقال : «لم نرَ أهل الخير في شيء أكذب منهم في شيء أكذب منهم في الحديث»(٣)

وقال : «ما رأيت الكذب في أحدٍ أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد» (٤).

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٤ : ١٨٤ ، وسير أعلام النبلأ ١١ : ٨٣ عن تاريخ الابّار.

(٢) صحيح مسلم ١ : ١٧ ، وتاريخ بغداد ٢ : ٩٨.

(٣) صحيح مسلم ١ : ١٨.

(٤) اللآلي المصنوعة ... ، وفتح الملك العلي : ٩٢ ، وللتوسع راجع الغدير : ٢٧٥ ـ ٢٩٦.

٢١٢

من أجل هذا ـ وغيره ـ ينبغي لنا ألّا نمنح هذا التاريخ ثقتنا واعتمادنا ، بل يجب غربلته وأزالة شوائبه بإخضاع نصوصه وأخباره لدراسة علمية ، ، حيادية ، مستوعبة وشاملة لجيمع جوانبه ، مع الاهتمام بكلّ صغيرة وكبيرة ، فلا فائدة من تصنيف الأخبار إلى تافهٍ وقيّم ، إلّا بعد البحث والدراسة.

فالتافهُ ما أثبت التحقيق تفاهته وزيفه وضعف قواعده وتضعضع دعائمه.

والقيّمُ ما أثبت المتمحيص أصالته ، وظهرت براهينه ، ولاحت دلائله ، وصمد عند النقد.

وفي الختام أحمدُ الله سبحانه لما خصّني به من لطف القيام بهذا العمل المتواضع ، آملاً أن يروق أهل الفضل والتحقيق ، متوكّلاً على الفرد الصمد ، متوسّلاً بحجزة وليد الكعبة ، مستمّداً العون من ساحة قدسه.

(اِلْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا بِنَهْتَدِىَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) ، (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) ، (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ).

* * *

٢١٣

٢١٤

(٦)

ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام

خصوصية في الزمان

وتفرُّدٌ في المكان

بقلم

الاُستاذ عليّ موسى الكعبي

__________________

(١) مقال طبع في مجلة (علوم الحديث) العدد ٨ : ٢١ ـ ٦٢.

٢١٥
٢١٦

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

بينما كان العالم يفرق في ظلام الجاهلية الجهلاء التي غطّت كلّ أفنائه بالوثنية والشرك ، بدأ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يرى آثار فضل ربّه وإكرامه ، ويسمع الهتاف من السماء قبل أن يظهر له أمين الوحي جبرئيل ، فكان لا يمرّ بحجرٍ ولا شجرٍ إلّا سلّم عليه ، وكُشف له عن بصره ، فشاهد أنواراً قدسية واشخاصاً نوارنيين ، وبانت عليه علامات وصفات ، وظهرت فيه آيات بيّنات استدلّ بها بُحيرا الراهب على نبوّته ، وهو في طريقه إلى الشام ، يصحب عمّه شيخ البطحاء أبا طالب عليه السّلام في قافلته.

وما أن رأى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله تباشير الخير والرحمة ، وانقطع إلى عبادة ربّه وهو في ربيعه الثلاثين ، شاءت الإرادة الربانيّة أن يُولد وصيّ النبيّ وصاحب سرّه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في الكعبة المعظّمة.

وعامُ مولدهِ العامُ الذي بَدَأتْ

بشائرُ الوحي تأتي من أعاليها

فيه الحجارةُ والأشجارُ قد هتفتْ

للمصطفى وهو رائيها وصاغيها

 وإذ دَرَى المصطفىٰ فيهِ ولادة مو

لانا العليّ غدا بالبشر يُطريها

 باتَ مستبشراً بالطفل قال بهِ

لنا من النعم الزهراء ضافيها (١)

وكانت تلك الولادة المباركة من خصائص أمير المؤمنين ، التي لم يحز فضلها أحد قبلَه ولا بعدَه ، على مدى التاريخ البشري ، لأنّها نالت شرف الاصطفاء في خصوصية الزمان ، وتفرّدها في شرف المكان.

__________________

(١) الأبيات من القصيدة العلويّة للشاعر عبد المسيح لأنطاكي ، راجع عليٌّ وليد الكعبة (للأُردوباديّ) : ٨٠.

٢١٧

فقد شاءت إرادة الربّ سبحانه أن يطلّ أمير المؤمنين عليه السّلام على الدنيا في وقت إرهاصات النبوّة ، ليتربّي في حجر ابن عمّه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله دون أن تنجّسه الجاهلية بأنجاسها ، أو تلبسه من مدلهمّات ثيابها ، وأن يحرز قصب السبق إلى الغسلام مكرّماً وجهه عن الشرك وعبادة الأصنام.

لقد تضاعف إبتهاج النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله بولادة أمير المؤمنين عليه السّلام وتمّت بالوليد مسرّته ، فكان يلي تربيته ، وبراعيه في نومه ويقظته ، ويحمله على صدره وعاتقه ، يحبوه بألطافه وتحفه ، ويقول : «هذا أخي وناصري ، وصفيّي ووصيّي ، وذخيرتي وكهفي» وكان يحمله ويطوف به جبال مكّة وشعابها ، وأوديتها وفجاجها (١).

وهكذا حصل الوصيّ على شرف التربية النبويّة منذ نعومة أظفاره بعيداً عن أباطيل الجاهليّة ، مقتدياً بمكارم أخلاق معلّمه العظيم صلّى الله عليه وآله ، ومتأثّراً بعظمة نفسه وطهره ونقاء ضميره وحسن سيرته وسلوكه ، وأشار عليه السّلام إلى آثار تلك التربية الربانيّة بقوله :

«قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَيدٌ ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ ، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ، ويَمِسُّنِي جَسَدَهُ ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ ، وَكَانَ يَمْضَعُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ ، وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلّى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِوَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَهُ ونَهَارَهُ ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَخْلَاقِهِ عَلَماً ، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ...» (٢).

__________________

(١) إثبات الوصية (للمسعودي) ١٢١ ، وكنز الفوائد (للكراجكي) ١ : ٢٥٥.

(٢) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح) : ٣٠٠ ، خ ١٩٢.

٢١٨

وكان من مظاهر شرف الاصطفاء. هو انتقال وليد الكعبة منذ كان عمره ستّ سنين إلى بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.

ذكر أحمد البلاذري وليّ بن الحسين الأصفهانيّ : أنّ قريشاً أصابتها أزمة وقحط رسول الله صلّى الله عليه وآله لعمّيه حمزة والعباس : «ألا نحمل ثَقَل أبي طالب في هذا المَحل».

فجاءوا إليه ، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم.

فقال : دعوا لي عقيلاً ، وخذوا من شئتم.

فأخذ العبّاس طالباً ، وأخذ حمزة جعفراً ، واخذ محمّد صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السّلام ، وقال لهم : «قد أخذت ـ من اختاره الله لي عليكم ـ عليّاً» (١).

فشاءت العناية الربانيّة أن يعيش أمير المؤمنين عليه السّلام مع محمّد الصادق الأمين صلّى الله عليه وآله يتأدّبب على يديه ، ويتعلّم خصال نفسه الزكية.

فكان من ثمار تلك العناية الإلهيّة والتربية النبويّة أن صارت شخصيّة وصيّ النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله اختصاراً لشخصيّة المربّي عليه السّلام ، ونسخة ناطقة بشمائله وسيرته وعبادته وعلمه وشجاعته وكرمه وزهده وصبره ، وأن ينال الذروة العليا من مبادىء الاستقامة والشرف والعظمة والسيادة ، وأن يتحلّى بخصائص فريدة ومناقب فذّة مزايا عجيبة.

ومن بين تلك الخصائص الفريدة والمناقب الفذّة شرف السبق إلى الإسلام والتقدّم إلى الإيمان ، وهو شرف عظيم لا يضاهى ، وفضل كبير لا يدانى.

فليس في حياة عليّ عليه السّلام يومٌ للشرك أو الوثنيّة ، بل ، وُلِدَ في الإسلام دفعة واحدة وإلى الأبد ، فكان مثار دهشة أبديّة ، أن يولد عليّ عليه السّلام مسلماً في زمن الجاهليّة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة (لا بن أبي الحديد) ١ : ١٥١.

٢١٩

حينما بلغ الوليد العاشرة كان الوحي قد أمر الرسول صلى الله عليه وآله بالدعوة ، فكان عليّ عليه السلام ربيب الوحي وغرسة النبوّة ، يرى نور الوحي والرسالة ، ويشمّ ريح النبوة ، ويسبق الناس إلى الإيمان مع ابن عمّه المبعوث رحمة إلى العالمين.

قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته القاصعة : «وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وآله وَخَدِيجَةَ ، وَأَنَا ثَالِثُهُمَا ، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَهِ ، مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ : هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ ، وَتَرَى مّا أَرَى ، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ ...» (١).

وقال عليه السلام : «أنا عبد الله وأخو رسول الله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلّا كاذب ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمّة» (٢).

هذه إذن هي خصوصية الزمان الذي وُلِدَ فيه أمير المؤمنين عليه السلام وتربّى وعاش فتوّته.

أمّا تفرّده بفضل المكان ، فقد وُلِدَ عليه السلام في الكعبة المعظّمة ـ ببيت الله الذي رفع قواعده أبوه إبراهيم عليه السلام ـ بطريقة إعجازية متلبّسة بالأسرار بما اشتملت عليه من انشقاق جدار البيت ، ودخول فاطمة بنت أسد اُمّ أمير المؤمنين عليه السلام في جوف الكعبة ، ومن ثمّ التآم موضع الشقّ ، وبقائها في البيت ثلاثة أيّام تأكل من طعام الجنّة ، وطلوع الوليد شاخصاً بوجهه إلى السماء ، مستقبلاً الأرض بكفّيه ، ناطقاً باسم الله ، مديراً ظهره للأصنام.

__________________

(١) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح) : ٣٠١ ، خ ١٩٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين (للحاكم) ٣ : ١١١ ـ ١١٢.

٢٢٠