وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

(٣)

مولد عليّ عليه السّلام

من حديث

الإمام أبي عبد الله الصادق

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليه بن أبي طالب عليهم السّلام

والعباس بن عبد المطلب ، ويزيد بن قعنب ، وعائشة

برواية

الفقيه المحدّث الإمام

محمد بن أحمد بن علي بن شاذان أبي الحسن القمي

(من أعلام القرن الخامس)

٤١

٤٢

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

روى الشيخ الطوسي في «أماليه» هذا الجزء كلّه ، بسنده إلى ابن شاذان مسنداً عن الصادق عليه السّلام وعن الصحابة.

وهي أحاديث موزّعة في مصادر عديدة :

كمناقب ابن شهر آشوب.

وكتب «معاني الأخبار» و «علل الشرائع» و «الأمالي» للصدوق.

و «روضة الواعظين» للفتّال النيسابوري.

و «بشارة المصطفى» لشيعة المرتضى ، للطبري.

والنصّ المعتمد هنا بكامله ، هو ما أورده الشيخ الطوسي في أماليه ، في المجلس (٤٢) :

٤٣

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

ابن شاذان بالأسانيد :

عن الزهري ، عن عائشة.

وعن أنس بن مالك ، عن العباس بن عبد المطلّب.

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السّلام ، عن آبائه عليهم السّلام.

كان العبّاس بن عبد المطلب ، ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزّي ، بإزاء بين الله الحرام ، إذ أتتْ فاطمة بنت أسد بن هاشم اُمّ أمير المؤمنين عليه السّلام ، وكانت حاملاً بأمير المؤمنين عليه السّلام لتسعة أشهر ، وكان يوم التمام.

قال : فوقفت بإزاء البيت الحرام ، وقد أخذها الطلق ، فرمت بطرفها نحو السماء وقالت :

أي ربّ إنّي مؤمنةٌ بك ، وبما جاء به من عندك الرسل ، وبكلّ نبيّ من أنبيائم ، وبكلّ كتاب أنزلت ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وأنّه بنى بيتك العتيق ، فأسألك بحقّ هذا البيت ومَن بناه ، وبهذا المولود الذي في أحشائي الّذس يكلّمني ويؤنسني بحديثه ، وأنا موقنة أنّه إحدى آياتك ودلائلك ؛ لمّا يسّرت عليَّ ولادتي.

قال العبّاس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب : لمّا تكلّمت فاطمة بنت أسد ، ودعت بهذا الدعاء ، رأينا البيت قد انفتح من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت من أبصارنا ، ثمّ عادت الفتحة ، والتزقت بإذن الله تعالى.

٤٤

فرمنا أن نفتح الباب ليصل إليها بعض نسائنا ، فلم ينفتح الباب ، فعلمنا أنّ ذلك من أمر الله تعالى.

وبقيت فاطمةٌ في البيت ثلاثة أيّام به.

قال : وأهل مكّة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك ، وتتحدّث المخدّرات في خدورهنّ.

قال : فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام ، انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه ، فخرجت فاطمةٌ وعليٌ على يديها ، ثمّ قالت :

معاشر الناس إنّ الله عزّ وجل اختارني من خلقه ، وفضّلني على المختارات ممّن مضى قبلي.

وقد اختار الله آسية بنت مزاحم ، فإنّها عبدت الله سرّاً في موضعٍ لا يحبّ أن يعبد الله فيه إلّا اضطراراً.

ومريم بنت عمران حيث اختارها الله ، ويسّرت عليها ولادة عيسى ، فهزّت الجذع اليابس من النخلة في فلاةٍ من الأرض حتّى تساقط عليها رطبّاً جنيّاً.

وإنّ الله تعالى اختارني وفضّلني عليهما ، وعلى كلّ مَن مضى قبلي من نساء العالمين ، لأنّي ولدتُ في بيته العتيق ، وبقيتُ فيه ثلاثة أيّام ، آكل من ثمار الجنّة وأرزاقها.

فلما أردتُ أن أخرجَ وولدي على يدي هتف بي هاتفٌ وقال :

«يا فاطمة ، سميّةِ عليّاً ، فأنا العليُّ الأعلى ، وإنّي خلقته من قدرتي ، وعزّ جلالي ، وقسط عدلي ، واشتققتُ اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وفوّضت إليه أمري ، ووقّفته على غامض علمي ، ووُلِدَ في بيتي ، وهو أوّل مَن يؤذّن فوق بيتي ، ويكسر الاصنام ، ويرميها على وجهها ، ويعظّمني ، ويمجّدني ، ويهلّلني ، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيّي ، وخيرتي من خَلقي محمّد رسولي ، ووصيّه ، فطوبى لمن أحبّه ونصره ، والويل لمن عصاه وخذله ، وجحد حقّه».

٤٥

قال فلمّا رآه أبو طالب سرّه ، وقال علي : السلام عليك يا أبه ، ورحمة الله وبركاته.

قال : ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلمّا دخل اهتزّ له أمير المؤمنين ، وضحك في وجهه ، وقال : السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته.

قال : ثمّ تنحنحَ بإذن الله تعالى وقال : (بسم الله الرحمن الرحيم * قَد أَفلَحَ الْمؤمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (١) ـ إلا آخر الآيات ـ.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قد أفلحوا بك ، وقرأ تمام الآيات إلى قوله : (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «أنت والله أميرهم ، تميرهم من علومك فيمتارون ، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون».

ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة : «اذهبي إلى عمّه حمزة ، فبشّريه به».

فقالت : فإذا خرجتُ أنا فمن يروّيه؟

قال : «أنا اُروّيه».

فقالت فاطمة : أنتَ تروّيه؟

قال : نعم.

فوضع رسول الله صلّى الله عليه وآله لسانه في فيه ، فانفجرتْ منه اثنتا عشرة عيناً.

قال : فسمّي ذلك اليوم «يوم التروية».

فلمّا أن رجعتْ فاطمة بنت أسد رأتْ نوراً قد ارتفع من عليٍّ إلى عنان السماء.

قال : ثمّ شدّتْه وقمّطتْه بقماطٍ ، فبتر القماط.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١ ـ ٢.

٤٦

قال : فأخذت فاطمة قماطاً جيّداً ، فشدّته به ، فبتر القماط ، ثمّ جعلته قماطين ، فبترهما ، فجعلته ثلاثة فبترها ، فجعلت أربعة أقمطة من رِقّ مصر لصلابته ، فبترها ، فجعلته خمسة أقمطة ديابج لصلابته ، فبترها كلّها ، فجعلته ستّةً من ديابج وواحداً من الأدم ، فتمطّى فيها ، فقطعها كلّها بإذن الله.

ثمّ قال بعد ذلك : يا اُمّه ، لا تشدّي يدي ، فإنّي أحتاج إلى أن اُبصبص لربّي بإصبعي.

قال : فقال أبو طالب عند ذلك : إنه سيكون له شأن ونبأ.

فلمّا كان من غدٍ دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على فاطمة ، فلما بصر عليّ عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله ضحك في وجهه ، وأشار إليه أن خُذني إليك ، واسقني ممّا سيقتني بالأمس.

قال : فأخذه رسول الله صلّى الله عليه ، فقالت فاطمة : عرفه وربّ الكعبة.

قال : فلكلام فاطمة سمّي ذلك اليوم يوم عرفة.

فلمّا كان اليوم الثالث ، وكان العاشر من ذي الحجة ، أذّن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً ، وقال : هَلمّوا إلى وليمة ابني عليٍّ.

قال : ونحر ثلاثمائة من الإبل ، وألف رأس من البقر والغنم ، واتخذ وليمةً عظيمةً.

وقال : معاشر الناس ألا مَن أراد من طعام عليًّ ولدي فهلُمّوا ، وطوفوا بالبيت سبعاً ، وادخلوا وسلّموا على ولدي عليًّ ، فإنّ الله شرّفه.

ولفعل أبي طالب شرّف يوم النحر.

٤٧

٤٨

(٤)

علي عليه السّلام وليد الكعبة

تأليف

العلّامة الحجّة المحقّق

الشيخ محمد علي الأُوردبادي الغروي

(١٣١٢ ـ ١٣٨٠ ه)

٤٩

٥٠

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

هذا الكتاب معروف.

وقد طبع عام (١٣٨٠ ه) في النجف ، وصوّر من تلك الطبعة أكثر من مرّة.

وطبع عام (١٤١٢ ه) بتحقيق قسم الدراسات في مؤسسة البعثة ـ قم.

ومؤلّف الكتاب كذلك معروف بعلمه وفضله ، وبأدبه وعبقريته في نظم الشعر.

كما هو معروف بالأخلاق الكريمة ، والزهد والعفّة والتواضع ، والسخاء العلميّ ، حيث كان يقدّم مجهوداته القيّمة للآخرين ليتمتّعوا بطباعتها بأسمائهم.

كما أنّه كان يقدّم خدماته للكتّاب والمؤلّفين بمراجعة أعمالهم وتنقيحها وتهذيبها ، وبالأخصّ من الناحية الأدبية الإنشائية.

ونقدّم هنا نصّ الكتاب معتمدين الطبعة المحقّقة ، مع إكمالها بما حذف منها من النصوص الفارسية شعراً ونثراً.

وقد أكملنا ذلك بالاعتماد على الطبعة الاُولى المطبوعة في النجف عام (١٣٨٠ ه) بتقديم سبط المولّف السيّد مهدي الشيرازي.

٥١

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

حديث المولد الشريف وتواتره

إنّ المنقّب في التأريخ والحديث جِدَّ عليم بأنّ هذه الفضيلة من الحقائق التي تطابق على إثباتها الرواة ، وتطامنت (١) النفوسُ على اختلاف نزعاتها على الإخبات (٢) بها ،؟ حيث لا يجد قَطُّ غَميزةً (٣) في إسنادها ، ولا طعناً في أصلها ، ولا منتدحاً (٤) للكلام على اعتبارها ، وتضافر النقل لها ، وتواتر الأسانيد إليها ، وإن وَجَدَ حولها صَخباً من شذّاذ الناس وطأه بأخمص حجاه (٥) ، وأهواه إلى هُوّة البطلان السحيفة.

قال الحافظ أَبو عبد الله ، محمّد بن عبد الله ، الحاكم النّيسابوري ، المتوفى سنة (٤٠٥ ه) في (المستدرك) في باب مناقب حكيم بن حزام (٦) ، عن مصعب بن

__________________

(١) تطامنت : من أطمان ، أي سكنت. القاموس المحيط ـ طمن ـ ٤ : ٢٤٧.

(٢) الإخبات : الخضوع والتسليم. مجمع البحرين ـ خبت ـ ٢ : ١٩٩.

(٣) الغميزة : العيب ، المعجم الوسيط ـ غمز ـ ٢ : ٦٦٢.

(٤) المنتدح : المتسع. الصحاح ـ ندح ـ ٢ : ٩١٠.

(٥) الحجا : العقل. الصحاح ـ حجا ـ ٦ : ٢٣٠٩.

(٦) حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي ، أبو خالد المكي ، وعمّته خديجة زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله ، قيل ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة. ومات سنة خمسين ، وقيل غير ذلك. جمهرة أنساب العرب : ١٢١ ، وتهذيب الكمال ٧ : ١٧٠ / ١٤٥٤.

ولو راجعنا المصادر التي روت ولادة حكيم في الكعبة للفت انتباهنا فيها اُمور ، منها الإرسال وانقطاع السند الذي لم يخلُ من ضعيف أو منكر الحديث ، كمصعب بن عبد الله ، ولمتابعة هذه الاُمور راجع الكتاب التالي في هذه المجموعة ، بقلم الاُستاذ شاكر شبع النجفي.

٥٢

عبد الله : أنّ اُمّ حيكيم بن حزام (١) ولدته في الكعبة ، ضربها المخاض وهي في جوفها : ولم يُولَد قبلَه ولا بعدَه في الكعبة أحدٌ (٢).

قال الحاكم : وَهَمَ مصعب في الحرف الأخير ، وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ في جوف الكعبة.

والحاكم مَن أذعن الكلّ بثقته وحفظه وضبطه ، وتقدّمه في العلم والحديث والرجال ، والمعاجمُ طافحةٌ بإطرائه والثناء عليه ، والكتبُ مفعمةٌ بالاحتجاج به ، والركون إليه ، وتأليفه شاهدةٌ بنبوغه وتضلّعه ، فناهيك به حاكماً بتواتر الحديث.

وقد وافقه على ذلك النصّ من أفذاذ علماء أهل السنة : شاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم المحدّث الدهلوي (٣) والد عبد العزيز الدهلوي : مصنّف (التحفة الاثنا عشريّة) في الردّ على الشيعة ، قال في كتابه (إزالة الخفاء) :

«قد تواتر الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علياً في جوف الكعبة ، فإنّه وُلِدَ يوم الجمعة ، الثالث عشر من شهر رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، في الكعبة ، ولم يُولد فيها أحدٌ سواه قبلَه ولا بعدَه» (٤).

__________________

(١) هي بنت زهير ، واختلف في اسمها ، وقد تصحّفت لفظة (بنت) في بعض المصادر من (ابن) فقالوا : اُم حكيم بنت حزام ، والصواب أنّها اُم حكيم بن حزام ، وذكر أنّها اُسرت يوم بدر ، ثم أسلمت وبايعنت. الإصابة ٤ : ٤٤٤ / ١٢٢٩ ، واُسد الغابة ٤ : ٥٧٧.

(٢) المستدرك ٣ : ٤٨٣.

(٣) أبو عبد العزيز ، ولي الله بن مولوي عبد الرحيم ، الدهلوي الهندي الحنفي ، المتوفى سنة (١١٧٩ ه) ، له تصانيف عديدة ، هدية العارفين ٦ : ٥٠٠ ، ومعجم المؤلفين ٤ : ٢٩٢.

(٤) إزالة الخفاء ٢ : ٢٥١٢ ، ط. الهند.

٥٣

والحاكم في انقل السابق عنه ، وإن لم يذكر وقت الولادة ، ولا شهرها ولا سنتها ، لكن حمل إلينا ذلك عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد القرشي الكنجيّ الشافعيّ ، المتوفى سنة (٦٥٨ ه) في كتابه (كفاية الطالب) الذي ذكره الچلبيّ في (كشف الظنون) ونقل عن ابن الصبّاغ المالكيّ في (فصوله المهمّة) واحتجّ بن ابن حَجَر.

قال : «أخبرنا الحافظ أبو عبد الله ، محمّد بن محمود النّجار ، بقراءتي عليه ببغداد ، قلت له : قرأتُ على الصفّار بنيسابور : أخبرتني عمّتي عائشة ، أخبرنا ابن الشيرازيّ ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، محمّد بن عبد الله الحافظ النّيسابوريّ ، قال :

وُلِدَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بمكّة في بيت الله الحرام ، ليلة الجمعة ، لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، وزلم يولد قبله ولا بعده مولودٌ في بيت الله الحرام سواه ، إكراماً له بذلك ، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم» (١).

وقال شهاب الدين ، أبو الثناء ، السيّد محمود الآلوسي المفسّر في (شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري) عند قول الناظم :

أنتَ العليُّ الذي فوقَ العُلا رُفعا

بِبَطْنِ مكّةَ عند البيت إذْ وُضِعا

«وفي كون الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ وُلِدَ في البيت ، أمرٌ مشهورٌ في الدنيا ، وذُكِرَ في كتب الفريقين السنّة والشيعة ـ إلى قوله ـ :

__________________

(١) كفاية الطالب : ٤٠٧.

وانظر كشف الظنون ٢ : ١٤٩٧ ، والفصول المهمة : ٣٠ ، ونور الأبصار : ١٥٦ ، ومسارّ الشيعة : ٨٨.

٥٤

ولم يشتهر وضعُ غيره ـ كرّم الله وجهه ـ كما اشتهر وضعه ، بل لم تتّفق الكلمة عليه.

وما أحرى بإمام الأئمّة أن يكون وضعه فيما هو قِبْلَة للمؤمنين.

وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين» (١).

وإنّ اشتهار الحديث في الدنيا وتداوله في كتب الفريقين لا يعدوه أن يكون متواتراً على الأقلّ ، وهو لا يريد الشهرة والتداول في جيله فحسب ، فهو لا يجديه في تبجّحه بتلك المأثرة الكريمة بقوله : وما أحرى ... وقوله : وسبحان ... ، وجزمه بذلك ، لو كانت الشهرة منقطعاً أوّلها ، فلا محالة أنّه يريد ذلك في كلّ جيل ، وهو الذي لا يبارحه التواتر على الأقلّ.

وأنت ترى أنّه في كلامه هذا لم يأبه بمولد حكيم بن حزام وأوعز إليه بالوهن بقوله : «ولم يشتهر».

كما أنّ الحاكم مع رواية ولادة حكيم في (المستدرك) نفاها في كلامه الأخير الذي أثبته عنه الحافظ الكنجيّ بقوله : ولم يولد ....

ولو كان يُقيم وزناً لتلك الرواية لما ساغ له ذلك الجزم النهائيّ.

وممّا يؤكّد ما قاله أبو الثناء كلمةٌ ثمينةٌ للعلّامة الشريف السيّد حيدر بن عليّ الحسيني العُبيدلي الآملي ، المعاصر لفخر الدين ابن آية الله العلّامة الحليّ قدس سرّه في كتابه (الكشكول فيما جرى على آل الرسول) قال :

«واحتجّ آل رسول الله صلّى الله عليه وآله وجماعةٌ من الأصحاب الذين ثبتوا على دين رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى عهده في ولاية عليّ عليه السّلام بعدّة من الفضائل جعلوها مسنداً لهم عند المفاضلة» (٢). وعدّ فضائل جمّة مسلّمة عند الفريقين.

__________________

(١) شرح الخريدة الغيبة في شرح القصيدة العينية : ١٥. على ما في الغدير ٦ : ٢٢.

(٢) الكشكول : ٨٦.

٥٥

والرابعة عشر منها : ولادتها في الكعبة.

وقال في اُخريات الكتاب : «خاتمة أذكر فيها شيئاً من مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وكراماته التي اختصّة الله بها على أبناء جنسه (١) لا يفتقر ناقلها إلى كتاب ، ولا يحتاج الخصم فيها إلى جواب ، وأرجو أن تكون حجّة المؤالف على المخالف وللمستقيم على المتجانف» (٢). ثم ذكر كرامات كثيرة من المتسالم عليها.

وثانيها : «أنّه وُلِدَ الكعبة ، بالحرم الشريف ، فكان شرفَ مكّة وأصلَ بكَّة (٣) ، لامتيازه بولادته في ذلك المقام المنيف ، فلم يسبقه أحدٌ ، ولا يلحقه أحدٌ بهذه الكرامة ، ولا بلغ أحدٌ ما بلغ من السيادة والنباهة عامّة ، وهو بالأصالة صاحب الإمامة الإبراهيميّة» (٤).

وأنت تعلم أنّ آل محمد صلّى الله عليه وآله وتبعهم من الصحابة والتابعين لم يحتّجوا بتلكم الفضائل ، ولا جعلوها مستنداً لهم في الحجاج على أمرٍ أصليّ في المذهب ، إلّا وعلموا أنّها جمعاء ـ ومنها حديث الولادة ـ مسلّمةٌ عند خصومهم ، كما هي ثابتة لديهم.

فبينَ من شهد الوقف من الصحابة ، ومن رواه عمّن حضره ، وكذلك التابعين.

ثمّ إنّ الكرامات المذكورة إنّما صارت بحيث لا يحتاج صاحبها إلى كتابٍ ، كما ذكره السيّد الشريف ، لتداولها في أيّ كتابٍ يحسبه الخصم حجّةً عليه ، ويراه الموالي معتمداً عنده ، ومثل هذا لا يُلجىء صاحبه إلى إسناد أو ذكر كتاب.

__________________

(١) في الأصل : على أنّ جنسها.

(٢) الكشكول : ١٨٩.

(٣) في المصدر زيادة : وبناء عكّة.

(٤) الكشكول : ١٨٩ ، الكرامة الثانية.

٥٦

ولذلك السيّد يرجو أن تكون حجّةٍ على المخالف والمتجانف.

وهذا نفس ما مرّ عن أبي الثناء الآلوسيّ من إطّراد الحديث في كتب الفريقين ، واشتهاره في الدنيا.

وقد قلنا : إنّه لا ينفك عن التواتر.

ولذلك قال العلّامة السيّد هاشم التوبليّ البحرانيّ في (غاية المرام) : «إنّ رواية أمير المؤمنين عليه السّلام وُلِدَ في الكعبة بلغت حدّ التواتر ، معلومةٌ في كتب العامّة والخاصّة» (١).

وبمقربة من هذا القول ما قاله العالم البارع السيّد محمّد الهاديّ بن اللوحي الموسويّ الحسيني في كتابه (أُصول العقائد وجامع الفوائد). قال : «كان مولده عليه السّلام في جوف الكعبة على ما روته الشيعة وأهل السنّة ، ولم يشرّف المولى سبحانه أحداً من الأنبياء والأوصياء الشرف ، فهو مخصوص به سلام الله عليه» (٢). انتهى مترجماً من الفارسية وملخّصاً.

فهو يريد أنّ الحديث ممّا تصافقت الأيدي على نقله ، وتطامنت النفوس على روايته ، وأصفقت الجماهير من الفريقين على إثباته ، وذلك الذي نريد إثباته ، وبه يثبت التواتر.

ولقد قال بعض العلماء في مؤلّف له : «إنّ حديث الولادة في البيت نقله جلّ أصحاب التأريخ.

والمشهور ما بين الخاصّة والعامّة : أنّه وُلِدَ بين العمودين على البَلاطة الحمراء».

__________________

(١) غاية المرام : ١٣.

(٢) أُصول العقائد : ١٦٥.

٥٧

وفي كتاب آخر لبعض الأعلام : «وخبر ولادته هناك ـ يعني في البيت ـ مشهورٌ والكتاب به مملوءةٌ ، وروايته متواترةٌ عند الفريقين».

وفي علمائنا من لا يأبه بغير المتواتر ، حيثما تعمل فيه العلماء بالآحاد ، ولذلك رفضوا أخباراً كثيرة لأنّها لم تخرج مخرج التواتر.

ومن أُولئك من أثبت حديث المولد المبارك جازماً به من غير شكٍّ فيه ، ولا إردافٍ له بنقدٍ في متنه ، أة ردّ لإسناده ، وما ذلك إلّا لأنّهم اعتقدوا فيه ما اعتقده غيرهم ممّن وقفت على كلماتهم من التواتر.

فمنهم : أمين الإسلام شيخ المفسّرين ، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي صاحب (مجمع البيان) ، المتوفّى سنة (٥٤٨ ه) في كتابه (إعلام الورى) فقد أثبتتأريخ الولادة كما عرفته من اليوم والشهر والسنة ، وأنّها بمكّة في البيت الحرام ، وقال : «ولم يُولد في بيت الله تعالى مولودٌ سواه لا قبله ولا بعده ، وهذه فضيلةٌ خصّه الله تعالى بها إجلالاً لمحلّه ومنزلته ، وإعلاءً لقدره» (١).

وأنت تعلم أنّ الإمام الطبرسيّ لم يكُ بالذي يشذُّ هاهنا عمّا أسّسه للعلم والعمل في باب أخبار الآحاد ، وجرى عليه في غير مورد من خصوص هذا الكتاب ، من ردّ أحاديث أخرجت مخرجها ، ولا كان يثبت في كتابٍ ألّفه في الإمامة وبيان الحجّة عليها ومواقف أصحابها من الفضيلة والشرف إلّا ما تعترف به الاُمّة على بكرة أبيها ، وترويها في أجيالها وأدوارها.

ومن اُولئك : علم الهدى ، ذو المجدين ، الشريف المرتضى ، المتوفى سنة (٤٣٦ ه) في شرح القصيدة المذهّبة للسيد الحميري ، قال :

__________________

(١) إعلام الورى : ١٥٣ ، وانظر تاج المواليد : ١٢.

٥٨

«ورُوِيَ : أنّها ـ يعني فاطمة بنت أسد ـ ولدته في الكعبة ، ولا نظير له في هذه الفضيلة» (١).

ليس قصده من إيرادها بلفظ «رُويَ» إسنادها إلى رواية مجهولة ، وإنّما جرى فيها على دينه في هذا الكتاب من سرد الحقائق الراهنة ، مقطوعةً عن الأسانيد لشهرتها ، وتضافر النقل لها ، تداولها في الكتب لفتاً للأنظار إليها ، وإشاذة بذكرها على نحو الاختصار ، وعلى ذمّة الباحث إخراجها من مظانّها.

ولذلك تراه يقول بعد الرواية غير متكّيء ولا مُتَلعثِم : «ولا نظير له ...» كجازمٍ بحقيقتها ، مؤمنٍ بصحّتها وتواترها ، وإلّا لَلَفظها كما هودأبه في غير واحد من الأحاديث.

ولم يشذّ عنه أخوه الشريف الرضيّ ، المتوفّى سنة (٤٠٦ ه) في (خصائص الأئمّة) قال : «وُلِدَ (٢) في البيت الحرام ، لثلاث عشرة ليلة خلت من رجبٍ ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وهو أوّل هاشميّ في الإسلام ولد من هاشمٍ مرّتين ، ولا نعلم مولوداً في الكعبة غيره» (٣).

ومن عرف الشريف ونفسيته العالية ، وأخذه الحذر عمّا يمسّ شرفه وكرامة نفسه في القول والعمل ، يعلم أنّه لم يتلفّظ بهذه الكلمة ، إلّا بعد أن وجدها حقيقةً ناصعة ، يذعن بها نُقّاد فنّ الحديث ، وناهيك به خطراً لها واعتباراً.

ولقد حذا حذوَ الشريفين شيخُ الطائفة ، الإمامُ المقدّمُ أبو جعفر ، محمّد بن الحسن الطوسي ، المتوفّى سنة (٤٦٠ ه) في كتابه (التهذيب) الذي هو ثالث

__________________

(١) شرح القصيدة المذهّبة : ٥١.

(٢) في الخصائص : ولد عليه السّلام بمكّة.

(٣) خصائص الأئمّة : ٣٩.

٥٩

الكتب الأربعة المعوّل عليها عند الشيعة جمعاء ، قا لكتاب المزار من (التهذيب) : «ولد بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة» (١).

وذكر التأريخ كما ذكره الشريف الرضيّ.

وروى في (مصباح المتهجّد) تأريخ شهر الولادة ومحلّها ، كذلك عن ابن عيّاش : «قيل النبوّة باثنتي عشرة سنة» (٢).

وعن عتّاب بن اُسيد : «وللنبيّ ثمانٍ وعشرون سنةً ، وقبل نبوّته باثني عشر عاماً ، يوم الجمعة» (٣).

ومن اُولئك العلماء الذين لم يُقيموا لأخبار الآحاد وزناً ، شيخٌ الشيعة واُستاذ علمائها ، رئيس الأُمّة ، الشيخ المفيد ، أبو عبد الله ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، علمائها ، رئيس الأُمّة ، الشيخ المفيد ، أبو عبد الله ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، المتوفى سنة (٤١٣ ه) قال في (الإرشاد) : «ولد بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة».

وتاريخ الشهر والسنة كما عرفت.

ثمّ قال : «ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولودٌ في بيت الله سواه ، إكراماً من الله جلّ اسمه له بذلك ، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم» (٤).

وذكره في (المقنعة) أيضاً (٥).

وفي (مسارّ الشيعة) له ، أرسل ولادته عليه السّلام في البيت إرسال المسلّم ، وذكر التاريخ ، غير أنّه اختار فيه أنّها في الثالث والعشرين من رجب قال : «وهو يوم مسرّة لأهل الإيمان» (٦).

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٩.

(٢) مصباح المتهجّد : ٧٤١.

(٣) مصباح المتهجّد : ٧٥٤.

(٤) الإرشاد : ٩.

(٥) المقنعة : ٧٢.

(٦) مسارّ الشيعة : ٣٥.

٦٠