وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

قال أبو طالب : فأنا كنت أستمع قولهنّ.

ثمّ أخذه محمّد بن عبد الله ابن أخي من يَدِهنّ ووضع يده في يده وتكلّم معه وسأله عن كلّ شيء.

فخاطب محمّد صلّى الله عليه وآله عليّاً ، وخاطب عليّ محمداً بأسرار كانت بينهما.

ثمّ غابت النسوة ، فلم أرهنّ ، فقلت في نفسي : ليتني كنت أعرف الامرأتين الأخيرتين وكان عليّ عليه السّلام أعلم بذلك ، فسألته عنهنّ؟

فقال لي : يا أبت! أمّا الأُولى ، فكانت اُمّي حوّاء.

وأمّا الثانية التي ضمّختني بالطيب ، فكانت مريم ابنة عمران.

وأمّا التي أدرجتني في الثوب ، فهي آسية.

وأمّا صاحبة الجونة ، فكانت اُمّ موسى عليه السّلام.

ثمّ قال علي عليه السّلام : الحق بالمبرم يا أبا طالب! وبشّره وأخبره بما رأيت ، فإنّك تجده في كهف كذا ، في موضع كذا كذا.

فلمّا فرع من المناظرة مع محمّداً ابن أخي ومن مناظرتي عاد إلى طفوليّته الأُولى. فأنبئتُك وأخبرتك ، ثمّ شرحتُ لك القصّة بأسرها بما عاينتُ يا مبرم!

قال أبو طالب : فلمّا سمع المبرم ذلك منّي بكى بكاءً شديداً في ذلك ، وفكّر ساعة ثمّ سكن وتمطّي ، ثمّ غطّى رأسه ، وقال : بل غطّني بفضل مدرعتي.

فغطّيته بفضل مدرعته ، فتمدّد فإذا هو ميّت كما كان. فأقمت عنده ثلاثة أيام اُكلّمه ، فلم يجبني فاستوحشتُ لذلك. فخرجت الحيّتان ، وقالتا : الْحق بوليّ الله ، فإنّك أحقّ بصيانته وكفالته من غيرك.

فقلت لعما : من أنتما؟

قالتا : نحن عمله الصالح ، خلقنا الله عزّ وجل على الصورة التي ترى ، ونذبّ عنه الأذى ليلاً ونهاراً إلى يوم القيامة ، قإذا قامت الساعة كانت إحدانا قائدته والاُخرى سائقته ، ودليله إلى الجنة.

٢١

ثمّ انصرف أبو طالب إلى مكّة.

قال جابر بن عبد الله : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله : شرحتُ لك ما سألتني ، ووجب عليك له الحفظ.

فإنّ لعليّ عند الله من المنزلة الجليلة ، والعطايا الجزيلة ما لم يعط أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين ، وحبّه واجب على كلّ مسلم ، فإنّه قسيم الجنّة والنار ، ولا يجوز أحدٌ على الصراط إلّا ببراءة من أعداء عليّ عليه السّلام.

تمّ الخبر ، والحمد لله رب العالمين (١).

__________________

(١) مصادر هذا الحديث :

•الفضائل (لابن الشاذان) : ١٢٩ ـ ١٣٩ ، الحديث الأول. عنه وعن الروضة ، مستدرك الوسائل ٢ / ٢٦٦ ، الحديث ١٩٢٩ وص ٣٢٢ ، الحديث ٢٠٨٩ وص ٣٤٢ ، الحديث ٢١٤١ ، قطعات منه.

•وعنه وعن كتاب غرر الدرر للسيد حيدر الحسيني ، بحار الأنوار ٣٥ / ٩٩ ، الحديث ٣٣.

•جامع الأخبار : ١٥ ، عن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه الصدوق القمي.

•روضة الواعظين : ٨٨ ، بتفاوت يسير.

•عنه إثبات الهداة ٢ / ٤٨٣ ، الحديث ٢٩٥ ، باختصار.

•وعنه وعن الفضائل ، وجامع الأخبار ، بحار الأنوار ٣٥ / ١٠ ، الحديث ١٠ ، اليقين : ١٩١ ، وأيضاً ٤٨٥ ، باختصار. عنه بحار الأنوار ٣٨ / ١٢٥ ، الحديث ٧٢.

•مدينة المعاجز ٢ / ٣٦٧ ، الحديث ٦١٠ ، عن كتاب أبي مخنف.

•كفاية الطالب : ٤٠٥ ، بإسناده إلى جابر بن عبد الله باختصار عنه إحقاق الحق ٧ / ٤٨٨.

•كشف الغمة ١ / ٦٠ ، باختصار.

•المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١٧٢ ، و ١٧٤ ، قطعتان منه.

•ينابيع المودة ١ / ٤٧ ، الحديث ٨ و ٩ ، قطعة من صدر الحديث.

٢٢

(٢)

مولد أمير المؤمنين عليه السّلام

ومنشؤه مع النبي صلّى الله عليه وآله

من حديث

الإمام أبي جعفر الباقر

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام

برواية

المسعوديّ المؤرّخ المتوفّىٰ (٣٤٦ ه)

عن أبي البختري القاضي وهب بن وهب

٢٣

٢٤

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

جاء اسم هذا الكتاب عند :

النجاشي في رجاله.

والطوسي في فهرسته.

والخطيب البغدادي في تاريخه.

وأورده المسعودي في إثبات الوصيّة.

والكراچكي في كنز الفوائد.

وابن شهر آشوب في معالمه.

والكلّ ينتهون بأسانيدهم إلى أبي البختري القرشي وهب بن وهب ، عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق ، عن أبيه أبي جعفر عليهم السّلام.

وقد اعتمدنا في ما أوردناه على رواية المسعودي في «إثبات الوصيّة» من النسخة الحجرية المطبوعة في إيران ؛ لأنّها أتمّ وأضبط :

٢٥

بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه أنّه سُئلَ عن بدء إيمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله؟

فقال أبو جعفر عليه السّلام : إذا ذكرت الفضاءل والمناقب ففي شرح إيمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله ما تنفتح الأذهان ، وتكثر الرغائب ، لأن حبّ عليّ عليه السّلام فرض على المؤمنين ، وغيظ على المنافقين ، فمن أحبّ عليّاً فلرسول الله صلّى الله عليه وآله أحبّ ، ومن أمسك عنه فقد عصى الله ونكب عن سبيل النجاة.

لأنّه أوّل ذَكَرٍ آمنَ برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وصلّى معه ، وصدّق بما جاء من الله ، وسارع إلى مرضاة الله ، ومرضاة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وصبر على البأساء والضرّاء في كلّ شدّة وعسر.

وكان أكثر أصحابه نصحاً له ، وأكثرهم وأشدّهم مواساة بنفسه وذات يده له.

وكان مما منّ الله به على أمير المؤمنين عليه السّلام في دلائله ، واختصّه بفضائله ، ومنحه من الكرامة والحباء ، وشرّفه بسوابق الزُلفى ، أنّه كان في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل مبعثه ، يغذوه بما يغذو به نفسه.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجر أبي طالب يغذوه ويحوطه.

وذلك أن أبا الحارث عبد المطلب بن هاشم كان يكفل الأرامل والأيتام ، ويُغيث الملهوف ، ويُجير المظلوم ، وينظر المعسر ، ويحمل الكلّ ، ويُقري الضيف ، ويمنع من الضيم.

٢٦

وكان برسول الله صلّى الله عليه وآله حفيّاً في السرّ والإعلان ، يتفقده في مطعمه وأغذيته ، ويعدّ له قريشاً ، يخضع له الأشراف ، ويذلّ له عظماء الملوك ، ويدين بدينه جميع أهل الملل والأديان ، وترعد لهيبته فرائص الجبّارين ، ويظهر على من خالفه وناواه ، حتّى يقرنهم في الأصفاد ، ويبيع ذراريهم في الأسواق ، ويتّخذ أبناءهم عبيداً ، وشجعانهم جنوداً ، وتُحبّه قلوبهم من خيفته ، وتُعينه الملائكة على نصرته ، فطوبى لمن آمن به من عشيرته ، وطوبى لاُمته.

فلمّا مرض مرضه الذي مات فيه وضع رسول الله صلّى الله عليه وآله في حِجر أبي طالب عليه السّلام ووصّاه به ، وقال له : يا بُنيّ ، هذا فضلٌ من الله عليك ، ومنحةٌ وهديةٌ منّي إليك ، ألهمنيه في أمرك ، وهو ابن أخيك لأبيك واُمّك دون سائر إخوانك.

ثمّ أطلعه على مكنون سرّ علمه ودلائله ، وأخبره بما بشّر به عن الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليهم ، وما وراه فيه أقاضل الأحبار ، وعبّاد الرهبان ، وأقيال العرب ، وكهّان العجم.

ولم يكن لأبي طالب يومئذٍ ولدٌ ، وكان فرداً وحيداً ، امرأته فاطمة بنت أسد ابن هاشم بن عبد مناف ؛ بنت عمّه ، وكانت تدعى سورة الفاضلة لكلّ لبد ، والزائدة على كلّ عدد.

وكانت ممنوعةً من الولد ، تنذر لذلك النذور ، وتتقرّب إلى الأصنام ، وتستشفع بالأزلام إلى الرحمن ، وتعتر العتائر ، وتُضمّخُ وجوه الأصنام بذكيّ المسك وخالص العنبر تطلب الولد.

وكانت كلّما لقيت كاهناً أو حبراً عالماً من السدنة بشّرها أنّها تتبنّي ولداً لم تلده ، وتربّيه ، ويأمرها إذا رزقته أن تضمّه وتكنفه ، وتحفظه ولا تُبعده.

فتسألهم أن يسمّوه ويصفوه لها ، فيقولون : ذاك نورٌ منير ، بشيرٌ نذير ، مبارك في صغره ، مُنَبَّأٌ في كبره ، ويوضّح السبيل ، ويختم الرسل ، يبعث بالدين

٢٧

الفاضل ، ويزهق العمل الباطل ، يُظهر من أفعاله السداد ، ويتبيّن باتّباعه الرشاد ، وينهج الله له الهدى ، ويبيّن به التُقى.

فكانتفاطمة ببت أسد ترقب ذلك تنتظره ، فلمّا طال انتظارها ، وذهل اصطبارها أنشأت تقول :

طال الترقّب للميعاد إذ عدمتْ

منّي الحوائل ولداً من عناصيري

 لمّا أتيتُ إلى الكهّان بشّرني

عند السؤال عليمُ بالمخابيرِ

 فقال يُوعدني والدمع مبتدرٌ

يا فاطم انتظري خير التباشيرِ

 نوراُ منيراً به الأنباء قد شهدتُ

والكتب تنطقُ عن شرح المزامير

أَنّي بذاك فقد طال الطلاع إلى

وجه المبارك يزهو في الدياجير

فلما مات عبد المطلب كفل أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وآله بأحسن كفالة ، وحنّ عليه ، ودأب في حياطته ، وتمسّك به ، والتحف عليه ، وعطف على جوانبه.

وكان أبو طالب محترماً معظّماً ، كشّافاً للكروب ، غير هذر ولا مِكثار ، ولا عاق ، بل برٌّ وصولٌ ، جوادٌ بما يملك ، سمحٌ بما يقدر ، لا يُثنيه عن مبادرة الخطاب وجل ، ولا يدركه لدى الخصام مللٌ.

فشغف برسول الله صلّى الله عليه وآله شغفاً شديداً ، وولهت بحبّة فاطمة بنت أسد ، وذهلت بمحبّته ودلالته التي وُعدت بها ، فكانت تقول : وإله السماء ، لقد قبل نذري ، وشكر سعيي ، وأُجيبت دعوتي ، لأنزلنّ محمّداً من قلبي منزلة صميم الأحشاء ، ولألهونّ برؤيته عن كلّ نظر ، أن يهش إليه قلب الأخيل المعنى ، ومن أولى بذلك ممن أُعطي مثله ، وليس هذا من أمر الخلق بل هو من عند الإله العظيم.

فكانت قد جعلته صلّى الله عليه وآله نصب عينها ، إن غاب لحظةً لم يغب عنها مثالُه ، ولم يفقد شخصه ، وتذهل حتّى تُحضره ، فتشتغل بتغذيته ، وغسله وتنظيفه ، وتلبيسه وتدهينه ، وتعطيره وإصلاح شأنه ، وتعاهد إوطانه بالنهار ، فإذا كان بالليل اشتغلت بفرشه ونومه ، وتوسيده وتمهيده ، وتعوّذه وتُتَمّمُه.

٢٨

قال : وكانت في دار أبي طالب نخلةٌ منعوتةٌ بكثرة الحمل ، موصوفة بالرقّة وعذوبة الطعم ، شهيّة المضغ ، يعقب طعمها رائحةٌ طيّبة عطريّة كرائحة الزعفران المذاب بالعسل ، كثيرة اللحا ، قليلة السحا ، دقيقة النوى ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي إليها كلّ غداةٍ مع أترابه ، منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمّه ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، ومسروح بن ثويبة ، فيلتقطون ما يتساقط تحتها من تمرها بهبوب الرياح ووقوع الطير ونقره ، وكانت فاطمة بنت أسد لا ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله يسابق أترابه على البسر والبلح والرطب في أوانه ، وكان الغلمة يبادرون لذلك ، وهو صلّى الله عليه وآله يمشي بينهم ، وعليه السكينة والوقار بتواضع وابتسام ، ويتعجّب من حرصهم وعجلتهم ، فكان إن وجد شيئاً ساقطاً بعدهم أخذه ، وإلّا انصرف بوجهٍ منبسطٍ طلقٍ ، وبشرٍ حسن ، فكانت فاطمة تعجب من شدّة حيائه ، وطيب شأنه ، ورقّة قلبه ، وسرعة دمعته ، وكثرة رحمته ، فربما جمعت به من تمر النخلة قبل مجيئهم ، فإذا أقبل صلّى الله عليه وآله قدّمته إليه ، فيحبّ أن يأكله معهم.

قالت فاطمة : ودخل عليَّ أترابُه يوماً وأنا مضطجعة ولم أره معهم ، فقلت : أين محمدٌ؟ قالوا : مع عمّه أبي طالب وراءنا.

فسكنت نفسي قليلاً ، ولقط الغلمان ما كان تحت النخلة ، وجاء بعدهم محمّد ، فلم يره تحتها شيئاً ، فصار إليها ووقف تحتها ـ وكانت باسقة ـ فأومأ بيده إليها ، فانثنت بعراجينها حتّى كادت تلحق بثمارها الأرض ، فلقط منها ما أراد ، ثمّ رفع يده وأومأ إليها فرجعت ، وحسبني راقدةً ، قالت : وكنتُ مضطجعة ، فلمّا رأيت ذلك استطير في روعي ، ولم أملك نفسي ، فأتيتُ أبا طالب ، فخلوتُ به ، فقلتُ له : كان من أمر محمّد صلّى الله عليه وآله كيت وكيت؟

فقال : مهلاً يا فاطمة ، لا تذكري من هذا شيئاً ، فإنّه حلمٌ وأضغاث.

٢٩

فقلت : كلّا والله ، بل عة حقٌ يقين ، في يقظةٍ لا في نوم ، ورأي العين لا رؤيا ، وإنّي لأرجو الله أن يحقّق ظنّي فيه ، وأن يكون الذي بُشّرتُ بتربيته ، ووُعدِتُ الفوز عند كفالته.

فكانت فاطمة لا تفارق رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليل ولا نهار ، ولا تغفل عنه وعن خدمته ، وتفقد مطعمه ومشربه.

فكان صلّى الله عليه وآله يسمّيها «اُمّي».

وهجرت الأصنام ، وقطعت القربان إليها من الذبائح في الأعياد تسأل الولد ، وتسلّت برسول الله صلّى الله عليه وآله والتبنّي له وخدمته عن كلّ شيء ، فلمّا قطعت عادتها وجد عليها السدنةُ من ذلك ، ومنعوها من الدخول على الصنم الأعظم.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يحضر قريشاً في مشاهدهم كلّها غير السجود للأصنام ، والذبائح للأنصاب ، وفي حال شرب الخمر ووصف الشعر ، وقول الزور ، فإنّه كان يجتنبهم مذ كان طفلاً حتّى استكمل.

فدخل يوماً على سادنٍ من سدنة الأصنام ، فقال له : لِمَ تعتب على اُمّي فاطمة ، وتمنعها من زيارة هذه الأحجار المؤثّرة فينا الاعتبار؟

فقال له السادن : لأنّها أتت باُمور متشابهة ، وقطعت برّ الآلهة ، وهي لمن عبدها نافعة ، ولمن جاء إليها شافعة ، وستعلم ابنة أسد أنّها لا ترزقها ولداً.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : آلأصنام ترزقكم الولدان؟ وتأتيكم باغيث عند المَحل في السنوات الشداد؟

قال له السادن : نعم! أو ما علمت نحن نحمد ذلك عند الأصنام عاجلاً في الفاقة ، وآجلاً مدّخراً.

والتفت إلى السدنة فقال : هذا غلام مات أبوه وجدّه واُمّه وظئره وهو طفل ، فكفله من لا يعبأ به ولا يدلّى على رشده وهو عمّه وامرأة عمّه.

٣٠

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : فأخبرني عن هذه الأصنام مَن خلقها ، ومَن ابتدع الاُمم السالفة ورزقها؟

قال السادن : الله فعل ذلك ، وهو لجميع الخلق مالك.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : فإنّ اُمّي تجعل قربانها الله الحيّ القائم القديم ن فهو أحقّ من الأصنام.

ثم انطلق إلى فاطمة من ساعته وحدّثها بما جرى بينه وبين السادن ، وقال لها : قرّبي لله قربانك.

فاصطفت القربان ، وقالت : هذا الله خالصاً جعلته ذخراً قبلته من محمّد حبيبي.

فما أصبحت من ليلتها حتّى اكتست حسناً إلى حسنها ، وجمالاً إلى جمالها ، فحملت ، فولدت عقيلاً ، ثمّ حملت فولدت طالباً ، ثمّ حملت ، فولدت جعفراً ، وكان وجهها في كلّ يوم يزداد نوراً وضياء لمّا وحملت بأزكاهم وأطهرهم وأبرّهم وأرضاهم عليّ ، فولدته ونالها في ولادته بعض الصعوبة ، فأخذ أبو طالب بيدها ، وأدخلها البيت ، معها القوابل فلمّا وطئت البيت ولدته.

فاحتمل وردّ إلى منزل أبيه حتّى حنّكه رسول الله صلّى الله عليه وآله ووضعه في حجره ، وقمّطه في حضنه ، قبل كلّ أحد من الناس.

ثمّ رُزِقت بعد عليّ اُم هاني ، واسمها فاختة ، وهي المباركة الطيبة اُخت الطاهرين من ولد أبيها أبي طالب.

وكانت فاطمة حملت بعليّ عليه السّلام في عشر ذي الحجة ن وولدته في النصف من شهر رمضان ، وحملت به أيّام الموسم ، وبعد حملها بخمسة أيام كانت جالسة وقد كيست نوراً وجمالاً ، ووجهها يزهر ، وجبهتها تتلألأ بين الأركام من الفواطم من قريش.

٣١

منهنّ فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبيه.

وفاطمة بنت زائدة بن الأصمّ أُم خديجة بنت خويلد.

وفاطمة بنت عبد الله بن رزام.

وفاطمة بنت الحارث بن عكرمة.

وممن لم يحضرن ويلحقن من الفواطم اللواتي يقربن من رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن عليّ عليه السّلام بالنسب واللحمة فاطمة بنت نصر اُم ولد قصيّ.

فإنهنّ لَجلوس يتفاخرن بالذراري والأولاد إذ أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وكأنّ وجهه مرآة مصقولة ، والمهاة مجلوة ، ينثني كغصن ميّاد ، وقد تبعه بعض الكهّان ينظر إليه نظراً شافياً ، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى فاطمة اُمّ عليّ بين العجائز من الفواطم ، وجلس الكاهن بإزائه لا يمرّ به كاهن مثله ولا حبر ، ولا قائفٌ ولا عائف إلّا هَمَسَ إليه وغمزه واستوقفه ينظرون إليه ، فبعض يشير إليه بسبابته ، وبعض يعضّ على شفته.

فغاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بقيامه ، ودخل إلى منزله عند عمّه.

فقال الكاهن للعجائز : مَن هذا الفتى الّذي قد زها بِحُسنه على كلّ الفتيان ، والرجال والنساء؟

قلن : هذا المحبّب في قومه محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ، ذو الفضل والعُرف والسؤدد.

فقال الكاهن : يا معشر قريش ، ائذنوا بالحرب بعد الهرب ، من سيف النبيّ المنتجب ن الويل منه للعرب ، وللأصنام والنصب ، ثمّ نادى : يا أهل الموسم الحافل ، والجمع الشامل ، قرب ظهور الدين الكامل ، ومبعث النبيّ الفاضل ، ثم أنشأ يقول :

٣٢

إنّي رأيتُ نبا ما كنتُ أعرفه

حقاً تَيقّنهُ قلبي بإثباتِ

في الكتب أنزله لمّا تخيّرهُ

وكنتُ أعرفُ ما في شرح توراةِ

من فضل أحمدَ مَ ، كالبدر طلعتُهُ

يزهو جمالاً على كلّ البريّاتِ

من اُمّهُ عصمت من كلّ معضلة

وصار مجتنباً رجسَ الخساراتِ

ما زلتُ أرمقهُ من حسن بهجته

كالشمس من برجها تبدي الطليعاتِ

فإن بقيتُ إلى يوم السباق أكن

نادي قريشٍ أنادي بالرسالاتِ

كنتُ المجيب له لبيّك من كَثَبٍ

أنتَ المفضّل من خير البريّاتِ

يا خير من حملت حوّاءُ أو وضعت

من أوّل الدهر في رجع الكريراتِ

قد كنتُ أرقب هذا قبل فجوته

حتّى تلمّستهُ قبضاً براحاتِ

فاليوم أدركتُ غُنماً كنت أرقبه

من عند ربّي جبّار السماواتِ

فيالها فرحة يعتادها نجحٌ

لمّا حُبِيتُ بتحبير التحيّاتِ

فكيف ينزلُ مَن نال الرياحَ وَمَن

أهدى له موهبٌ من خير خيراتِ

ذاك النبيُّ الذي لا شكَّ منتجبٌ

جبريلُ يقصدهُ بالوحي تاراتِ

في كلّ يومٍ بوحي الله يمنحهُ

يُنبيه عن برهناتٍ أو دلالاتِ

قال : فقالت فاطمة بنت أسد : قرأيت حبراً منهم يسمع شعر الكاهن ودموعه تسحّ على خديه ، فتبعتهُ ، فقلتُ له : أقسمت عليك بدينك وسفرك وكتابك ؛ لتخبرنّي بالأمر على حقيقته ، فإنّ الحكيم لا يكتم من استنصحه نصيحة يقوي بها بصيرته.

فنظر الحبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله نظراً مستقصياً ، ثمّ قا ل : والله هذا غلامٌ هُمام ، آباؤه كرام ، يكفله الأعمام ، دينه الإسلام ، شريعته الصلاة والصيام ، يظلّه الغمام ، يجلى بوجهه الظلام ، من كفله رشد ، ومن أرضعه سعد ، وهو للأنام سند ، يبقى ذكره ما بقي الأبد.

٣٣

ثمّ ذكر كفالة أبي طالب إيّاه ، وعدّد سيرته ، وخاتمة أمره وعقباه ، ثمّ قال : وتكفله منكم امرأة تطلب بذلك زيادة العدد ، فسيكون هذا المبارك المحمود لها في طيب الغرس أفضل ولد ، فيحبوه بسرّه ونصيحته ، ويهدى إليه أفضل النساء كريمته.

قالت : فقلتُ له : لقد أصبتَ فيما وصفتَ إلى حيث انتهيتَ ، وقلتَ الحقّ عندما شرحتَ ، أنا المرأة التي أكفله ، زوجة عمّه الّذي يرجوه ويؤمّله.

فقلا لها : إن كنتِ صادقةً فستلدين غلاماً ، رابع أربعة من أولادك ، شجاعاً قمقاماً ، عالماً إماماً ، مطواعاً ، هُماماً بدينه ، قوّاماً لربّه ، مصلّياً صوّاماً ، غير خرق ولا نزق ، ولا أحيف ولا جنف ، اسمه على ثلاثة أحرف ، يلي هذا النبيّ في جميع اُموره ، ويواسيه في قليله وكثيره ، يكون سيفه على أعدائه ، وبابه الّذي يؤتي منه إلى أوليائه ، يقصع في جهاده الكفّار قصعاً ، ويَدُعّ أهل النكث والغدر والنفاق دعّاً ، يفرّج عن وجه نبيه الُربات ، وتجلى به دياجر حندس الغمرات ، أقربهم منه رحماً ، وأمسّهم لحماً ، وأسخاهم كفاً ، وأنداهم يداً ، يُصاهره عىل أفضل كريمة ، ويقيه بنفسه في أوقات شدّته ، تعجب من صبره ملائكة الحجاب ، إذا قهر أهل الشرك بالطعن والضِراب ، يهاب صوته (١) أطفال المهاد ، وترعد من خيفته الفرائضُ يوم الجلاد ، مناقبه معروفة ، وفضائله مشهورة ، هِزبرٌ دفّاع ، شديد منّاع ، مقدام كرّار ، مصدق غير فرّار ، أحمش الصاقين ، غليظ الساعدين ، عريض المنكبين ، رحب الذارعين شرّفه الله بأمينه ، واختصه لدينه ، واستودعه سرّه ، واستحفظه علمه ، عماد دينه ، ومظهر شريعته ، يصول على الملحدين ، ويغيظ الله به المنافقين ، ينال شم الخيرات ، ويبلغ معالي الدرجات ، يجاهد بغير شك ، ويؤمن من غير شرك.

__________________

(١) ك : تهاب صولته.

٣٤

له بهذا الرسول وصلة منيعة ، ومنزلة رفيعة ، يزوَجه ابنته ، وبكون من صلبه ذريّته ، يقوم بسنته ، ويتولّى دفنه في حفرته ، قائد جيشه ، والساقي من حوضه ، والمهاجر معه عن وطنه ، الباذل دونه دمه.

سيصح لكِ ما ذكرتُ من دلالته إذا رُزقتيه ، وتَرينَ ما قلتهُ فيه عياناً ، كما صحَ لي دلائل محمّد المحمود بالله.

إنّ ما وصفتُه من أمرهما موجودٌ مذكورٌ في الأسفار والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى ، ثمّ أنشأ يقول :

لا تعجبي من مقالي سوف تختبري

عمّا قليلٍ تَرَىْ ما قلتُ قد وضحا

أمّا النبيُّ الذي قد كنتُ أذكره

فاللهُ يعلم ما قولي له مزحاً

يأوي الرشاد إليه مثل ما سكنت

أُمّ إلى ولدٍ إذْ صادفت نجحا

ثمّ المؤازر والموصَى إليه إذا

تتابع الصيد من أطرافه كلحا

فأحمدُ المصطفى يُعطيه رايتَهُ

يحبوه بابنته ما هي بها منحا

بذاك أخبرنا في الكتب أوّلُنا

والجنّ تسترق الأسماع واتّضحا

فاستبشري لا تراعى إنّ حظوته

قد خصّها مهره من فضلها ربحا

قالت فاطمة : فجعلتُ اُفكّر في قوله ، فلمّا كان بعد ليال رأيتُ في منامي كأنّ جبال الشام قد أقبلت تدبّ على عراقيبها ، وعليها جلابيب حديد ، وهي تصيح من صدورها بصوتٍ مَهول ، فأسرعت نحوها جبالُ مكّة ، وأجابتها بمثل صياحها وأهول ، وهي تنضح كالشرر المجمر ، وجبل أبي قبيس ينتفض كالفرس المسربل بالريق المُغتر ، ونصاله تسقط عن يمينه وشماله ، والناس يلتقطون تلك النصول ، فلقطت معهم أربعة أسياف ، وبيضة حديد مذهّبة ، فأوّل ما دخلت مكّة سقط منها سيف في ماء فغمر ، وطار الثاني في الجوّ واستمرّ ،

٣٥

وسقط الثالث إلى الأرض فانكسر ، وبقي الرابع في يدي مسلولاً ، أنا به أصول إذ صار السيف شبلاً أتبنّيه ، ثمّ صار ليثاً مستأسداً ، فخرج عن يدي ومرّ نحو تلك الجبال يجوب بلاطحها ، ويخرق صلادمها ، والناسُ منه مشفقون ، ومن خوفه حذرون ، إذ أتاه محمّدٌ ابني فقبض على رقبته ، فانقاد له كالظبية الألوف.

فانتبهت وأنا مرتاعة ، فاستظهرت على الحبر والكاهن اللذين بشّراين ووعداني ، وعلى سائر القافة والعافة بأن قصدتُ أباكرز الكاهن ، وكان عائفاً محذقاً ، فوجدته قد نهض في حاجة له ، فجلست أرقبه وكان عنده جميل كاهن بني تميم ، فكرهتُ حضوره ، وعملت على انتظار قيامه وانصرافه ، فنظر جميلٌ إليّ وضحك ، ثم قال لي : اُقسم بالأنواء ، ومظهر النعماء ، وخالق الأرض والسماء ، إنّك لتكرهين مثواي ، وتحبين مسراي وقفاي ، لتسألي أباكرز عن الرؤيا ، فينبؤك بالأنباء.

فقلتُ له : إن كنت صادقاً فيما قلت من لالهتف حين زجرت ، فنبئني بما استظهرت.

فأنشأ يقول :

رأيت أجبالاً تؤمُّ أجبالاً

وكلّها لابسة سربالا

مسرعة قد تبتغي القتالا

حتّى رأيتِ بعضها تعالىٰ

ينثر من جلبابه نِصالا

أخذت منها أربعاً طوالا

وبيضة تشتعل اشتعالا

فواحد في ثجّ ماء غالا

وثانٍ في جوّها قد صالا

بذي طواف طار حينَ زالا

وثالث قد صادف اختلالا

من كسره فنصره مختالا

ورابع قد خلتِهِ هلالا

مقتدح الزندين لا مفتالا

ولّت به صائلة إيغالا

حتى استحال بعدها انتقالا

٣٦

أدرك في خلقته الأشبالا

ثم استوى مستأسداً صوّالا

يخطف من سرعته الرجالا

فانسل في قيعانها انسلالا

يخرق منها الصلد والإيغالا

والناس يرهبون منه الحالا

حتى أتى ابن عمّه إرسالا

فتلّه يعنفه إتلالا

كظبية ما منعت عقالا

ثم انتبهت تحسين خالا

قالت فاطمة : فقلتُ : صدقتَ والله ، يا جميل ، وبررت في قولك ، هكذا رأيتُ مما رأيتُ في الكرى ، فنبئني بتأويله.

فأنشأ يقول :

أمّا النصول فهي صِيْدٌ أربعُ

ذكورُ أولادٍ حكتها الأسبعُ

والبيضة الوقداء بنتُ تتبعُ

كريمةق غرّاء لا تروّعُ

فصاحب الماء غريبٌ مفتقدْ

في لُجّةٍ ترمي شظاياها الزَبَدْ

والطائر الأجنح ذو الغرب الزغب

تقتله في الحرب عُبّاد الصلب

والثالث المكسور ميتٌ قد دفن

ينزلُ عقباً بعده طول الزمَن

والرابع الصائل كالليث المرح

يَرْفلُ في عِراصها ويقترح

فذاك للخلق إمامٌ منتصح

إذا بغاه كافر جَهراً ذُبح

وإن لقاه بطل عنه جنح

حتّى تراهم من صياصيهم بطح

فاستشعري البُشرى فرؤياك تَصِح

قالت فاطمة : فما أن زلت مفكّرة في ذلك وتتابع حملي وولادتي لأولادي ، فلما كان في الشهر الّذي ولدت فيه عليّاً رأيتُ في منامي كأنّ عموداً حديداً انتزع من اُمّ رأسي ، ثمّ شعّ في الهواء حتّى بلغ عنان السماء ، ثمّ ردّ إليّ ، فمكث ساعة ، فانتزع من قدمي.

٣٧

فقلتُ : ما هذا؟

فقيل : هذا قاتل أهل الكفر ، وصاحب ميثاق النصر ، بأسه شديد ، تجزع من خيفته الجنود ، وهو معونة الله لنبيّه ، ومؤيّده به على أعدائه ، بحبّه فاز الفائزون ، وسعد السعداء ، وهو ممثل في السماء المرفوعة ، والأرض الموضوعة ، والجبال المنصوبة ، والبحار الزاخرة ، والنجوم الزاهرة ، والشموس الضاحية ، والملائكة المسبّحة.

ثمّ هتف بي هاتفٌ يقول :

جال الصباح لدى البطحاء إذ شملت

سوداً بذي خدم فرش المراقيل

من دلج هام جرائيم جحاجحة

من كلّ مدَّرعٍ بالحلم رعبيل

من الجهاضم إذ فاقت قماقمها

دوم السحاب على جنح الأثاكيل

يا أهل مكّة لا تشقى جدودكم

وأبشروا ليس صدق القيل كالقيل

فقد أتت سودُ بالميمون فانتحجوا

واجفوا الشكوك وأضغاث الأباطيل

فقد خازن النور في أبناء مسكنه

من صلب آدم في نكب الضماحيل

إنّا لنعرفه في الكتب متّصلاً

بشرح ذي جدل بالحقّ حصيل

قال : فُولِدَ عليٌّ عليه السّلام ولرسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثون سنة.

فأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله حبّاً شديداً ، وقال لفاطمة : يا اُمَّه! اجعلي مهد عليٍّ بجنب فراشي.

وكان صلّى الله عليه وآله يلي تربيته ، ويوجرهُ اللبن في ساعة رضاعه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحماه على صدره تارةً ، على عاتقه اُخرى ، ويتكتّفه ، ويقول : «هذا أخي ، ووليّي ، وناصري ، وسفيّي ، ووصيّي ، وذخيرتي ، وكهفي ، وصهري ، وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي».

٣٨

وكان يحمله ويطوف به جبال مكّة وشعابها ، وأوديتها وفجاجها ، فلما تزوّج خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعليّ عليه السّلام ، فكانت تستزيره ، وتزيّنه بفاخر الثياب والجوهر ، وترسل معه لائدها ، فيقلن : هذا أخو محمّد ، وأحبّ الخلق إليه ، وقرّة عين خديجة ، ومن ينزل السكينة عليه.

وكانت ألطاف خديجة وهداياها إلى منزل أبي طالب متّصلة ، حتّى أصابت قريشاً أزمة شديدة ، وسنة معصوصبة.

وكان أبو طالب رجلاً جواداً معطاءاً سمحاً ، فقلّ ماله ، وكثر عياله ، وأجحفت السِنَةُ بحاله ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عمّه العباس ـ وكان أيسر بني هاشم ف وقته وزمانه ـ فقال له : يا عمّ إنّ أخاك كثير العيال ، متضعضع الحال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، ذوو الأرحام أحقّ بالرِفد ، وأولى من حمل عنهم الكلّ ، فانطلق بنا إليه لنحمل من كلَّه ، ونخفّف من عيلته ، يأخذ كلّ واحدٍ منّا واحداً من بنيه يسهل عليه بذلك بعض ما هو فيه.

فقال له العبّاس : نِعم ما رأيتَ يابن أخ ، وعلى الصواب أتيتَ ، هذا والله التيقّظ على الكرم ، والعطف على الرحم.

فمضيا إلى أبي طالب ، فأجملا مخاطبته ، وقالا له : إنّ لك سوابق محمودة ، ومناقب غير مجحودة ، وأنت صنو الآباء الأنجاد ، وقد جمع لك العرف في قرن ، فهو إليك منقاد ، ولسنا نبلغ صفاتك ، وقد أضلت هذه السنة الغبراء ، وعيالك كثير ، ولابدّ أن نخفّف عنك بعضهم حتّى ينكشف ما فيه الناس من هذا القمطرير.

فقال أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلاً وطالباً فشأنكما الأصاغر.

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً ، وأخذ العباس جعفراً عليه السّلام.

فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ ذلك الوقت تربية أمير المؤمنين عليه السّلام ، وتغذيته وتعليمه بنفسه ، وكان يصلّي معه قبل أن تظهر نبوّتُه بسنتين.

٣٩

[زاد الكراجكي في الخبر قوله :]

فانتخبه لنفسه : واصطفاه لمهمّ أمره ، وعوّل عليه في سِرّه وجهره ، وهو مطاوع لمرضاته ، موفّق للسداد في جميع حالاته.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله في ابتداء طروق الوحي إليه كلّما هتف به هاتف ، أو سمع من حولهِ رجفة راجف ، أو رأى رؤيا ، أو سمع كلاماً ؛ يُخبر بذلك خديجة وعلياً عليهما السّلام يستسرّهما هذه الحال ، فكانت خديجة تثبّته وتصبّره ، وكان عليّ عليه السّلام يهنّيه ويبشّره ، ويقول له : والله يابن عمّ ، ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهّان في ما نسبته إليك.

ولم يزل كذلك إلى أن اُمر صلّى الله عليه وآله بالتبليغ ، فكان أوّل مَن آمَن به من النساء خديجة ، ومن الذكور أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وعمره يومئذٍ عشر سنين.

٤٠