تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي

تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

المؤلف:

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي


المترجم: صلاح الدين عثمان هاشم
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٩

p. ٩٨٤ ـ ٠٤٤ ـ Krymski, Istoria Arabov I, p. ٦٢١ ـ Krymski, Istoria Persii, I, No ٢, p. ١٧١ ـ ٢٧١ ـ Levy, II, p. ٢٦٣ ـ ٠٠٤ ـ Krachkovski, Arabskie Entsiklopedii, p. ٧١ ـ ٨١

__________________

(٦٨) ـ Goldziher ,Ichwan al ـ safa ,p.٢٢ ـ ٦٢

(٦٩) ـ Brockelmann ,GAL ,I ,p.٣١٢ ـ ٤١٢ : SBI ,p ,٠٨٣

(٧٠) ـ Nicholson Literary History ,p.٠٧٣

(٧١) ـ Massignon ,DI ,IV ,p.٤٢٣

(٧٢) ابن القفطى ، ص ٨٢

(٧٣) ـ Arnold ,Chrestomathia ,p.١١١

(٧٤) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.٠٨٣

(٧٥) ـ Krachkovski ,Arabskie Entsiklopedii ,p.٧١

(٧٦) ـ Sarton ,Introduction ,I ,p.٠٦٦

(٧٧) Thier und Mensch وأيضا بحثه : ـ (الترجمة) ـ Dieterici ,Streit

(٧٨) ـ Sarton, Introduction, I, p. ١٦٦ ـ Krachkovski, Arabskie Entsklopedii, p. ٧١ ـ ٨١ راجع مذهبا آخر لدى : Gibb ,Arabic Literature ,p.٨٦

(٧٩) ـ Ruska GZ ,p.٢٩٥

(٨٠) إخوان الصفا ، الجزء الأول ، ص ١٢٦ ـ ١٤٤. القطعة لدى : Dieterici, Ichwan essafa, p. ٩٥ ـ ٥٦; الترجمة راجع : Dieterici, Die Propaedeutik, ٤ th section, p. ٦٨ ـ ٩٩ ـ Levy, ll, p. ٧٧٣ ـ ١٨٣

(٨١) إخوان الصفاء ، الجزء الأول ، ص ١٢٨

(٨٢) شرحه ، ص ١٣٠

(٨٣) شرحه ، ص ١٣١

(٨٤) شرحه ، ص ١٣٤ ـ ١٤٢

(٨٥) ـ Ferrand ,Relations I ,p.٤١١ ـ ٥١١.

(٨٦) ـ Dieterici ,Die Propedeutik ,p ١٩١ ـ ٩٩١ , مع المتن مصورا وخارطة من عمل Kiepert كيبرت

(٨٧) ـ J.K.Wright ,Georgr Lore ,p ٣٨ ـ Kimble ,p.٩٦١ ـ ٠٧١

(٨٨) شرحه ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٦

(٨٩) شرحه ، ص ٨٣ ـ Kimble ,p.٠٧١

٢٤١

__________________

(٩٠) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.٠٨٣

(٩١) ـ Gonzalez Palencia ,p.٢٦٢

(٩٢) ـ Ruska ,Quadrivium ,p.٥ ـ ZA ,XII ,٧٩٨١ ,p.٥٤١

(٩٣) ـ Bartold ,Kult ,mus.,p.١٤

(٩٤) ـ Umniakov ,Kompendium ,p ,٩٣١١

(٩٥) شرحه ، ص ١١٤٠

(٩٦) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI.p.٥٠٤ ,No ٢ B

(٩٧) ـ Kramers ,EI ,EB ,p.٧٦

(٩٨) ـ Umniakov ,Kompendium ,p.٠٤١١ ـ ١٤١١

(٩٩) شرحه ، ص ١١٤١

(١٠٠) شرحه ، ص ١١٤٥ ؛ وراجع : Minorsky ,Khazars ,p.٩٤١ ـ ٠٥١

(١٠١) شرحه ، ص ١١٣٨

(١٠٢) حاجى خليفة ، الجزء الخامس ، ص ٥١٢ ، رقم ١١٨٧٥ ـ Carra de Vaux ,Les Penseurs ,II ,p.٩

(١٠٣) ـ Kramers ,EI ,SB ,p.٧٦

(١٠٤) ـ Mez ,p.٧٦٢

(١٠٥) ياقوت ، المعجم ، الجزء السادس ، ص ٣٨٠ ـ يفتقد لدى Heer

(١٠٦) شرحه ، الجزء الثالث ، ص ١٩ ـ ٢٠

(١٠٧) شرحه ، الجزء الأول ، ص ٧

(١٠٨) ـ Reinaud, Introduction, p. XCII ـ XCIII ـ Mehren, udsigt p. ٥٢

(١٠٩) أبو الفداء ، الجزء الثانى ، ص ٣٧١ ـ Storbeck ,p.٢٥

(١١٠) ـ Bartold ,Hafiz ;Abru ,p.٣ ـ ٤

(١١١) ـ Brockelmann ,GAL ,I ,p.٠٨١ ,NO ٥ ;SBI ,p.٦٠٣ ـ ٧٠٣

(١١٢) حاجى خليفة ، الجزء الثالث ، ص ٢٣٦ ، رقم ٥١٢٨

(١١٣) جرجس افندى صفا ، ص ٤٣٩

(١١٤) شرحه ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٢ ، ص ٥٧٨ ـ ٥٧٩

(١١٥) ـ Krachkovski ,» Blagodatny ogon «p.٢٣٢ ـ ٣٣٢

(١١٦) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.١٥٩

(١١٧) ياقوت ، إرشاد الأريب ، الجزء الرابع ، ص ١٦٠ ـ ١٦٥ : راجع : الزركلى ، الجزء الأول ، ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥

(١١٨) جرجس افندى صفا ، ص ٤٤١ ـ ٤٤٢

٢٤٢

__________________

(١١٩) راجع أعلاه الفصل الرابع

(١٢٠) ـ Krachkovski.,» Blagodatny ogon «,p.٢٣٢ ـ ٣٣٢

(١٢١) ـ Fück ZDMG ,٠٩.٢ ,p.٩٩٢ ـ ١٢٣

(١٢٢) ـ Ritter ,DI ,XVII ,p.٥١ ـ ٣٢.Fück ,ZDMG

(١٢٣) ـ Brockelmann. GAL, I, p ٧٤١ ـ ٨٤١, No ٣; SBI, p, ٦٢٢ ـ ٧٢٢ ـ Ritter DI, Fück, ZDMG, ٤٨, ـ محمد يونس الحسينى ، ص ٦٧٨ ـ ٦٨٧ XVII, p. ٧١ ـ ٣٢ ـ p. ١١١ ـ ٤٢١ ـ Fück, EI, III, p. ٣٧٨ ـ ٤٧٨ ـ Nallino, Racc., p. ٧٤ ـ ٠٥ ـ Sarton Introduction p. ٢٦٦

(١٢٤) شرحه ـ Fück. EI, III, p. ٣٧٨ ـ Fück, ZDMG, ٤٨, p. ١١١ ـ ٤٠١ ـ Sarton,

(١٢٥) الفهرست ، ص ٢

(١٢٦) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.٦٢٢ ـ ٧٢٢. عن المغربى راجع : Zettersteen ,EI ,III ,p.٧١١

(١٢٧) ـ Fück ,EI ,III ,p.٤٧٨

(١٢٨) ـ Fren ,Pism dr.Russov

(١٢٩) ـ Bartold Musl ,Mir ,p.١٥

(١٣٠) ـ Ferrand ,Relations I ,p.٨١١ ـ ٠٣١

(١٣١) ـ Van Vloten ,Mafatih al ـ olum ,p.٦

(١٣٢) ـ Sarton, Introduction, I, p ٩٥٦ ـ Krymski, lstoria Persii p. ٢٧١

(١٣٣) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٤٤٢, No ١, SBI, p. ٤٣٤ ـ ٥٣٤ ـ Wiedemann, Al ـ Khwarizmi, p. ٩٧٩ ـ ٠٨٩ Mieli, p. ٦٩ ـ ٧٩ ـ Beliaev, MITT, p. ٩٢

(١٣٤) ـ Bartold ,Kult.Mus.,p.٥٣ ـ ٦٣

(١٣٥) ـ Bartold, K istorii orosh., p. ٧١ ـ ٨١, ٤٥ ـ ٨٥ ـ Volin Mafatih, p. ٧١٢ ـ ٩١٢

(١٣٦) ـ Van Vloten ,Mafatih al ـ olum ,p.٥

(١٣٧) شرحه ، ص ٢١٥ ـ ٢٢٥

(١٣٨) ـ Wiedemann ,Beitra؟ge ,XXVII ,p.٧٣ ـ ٠٤

(١٣٩) حبيب الزيات ، Les Couvents ، ص ٢٩٢ ـ ٢٩٥

(١٤٠) شرحه ، ص ٢٩١ ـ ٤١٨

(١٤١) (ـ Fischer ,SBSAW ,١٨ ,٣ (٩٢٩١

(١٤٢) حبيب الزيات ، Les Couvents ، ص ٢٩٣ ، رقم ٢ Heer ,p.٣٢ Sachau Klosterbuch ,p.٦

(١٤٣) حبيب الزيات ، ص ٢٩٣ ، رقم ٤ ـ Sachau ,Klosterbuch

٢٤٣

__________________

(١٤٤) شرحه

(١٤٥) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.١١٤ ,No ٤١

(١٤٦) تحليله لدى : Heer ,p.٨٨ ـ ٨٩

(١٤٧) ياقوت ، الإرشاد ، الجزء السادس ، ص ٤٠٨

(١٤٨) ـ De Slane ,Ibn Khalikan ,II ,p.٣٦٢

(١٤٩) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.١١٤ ,No ٤١

(١٥٠) راجع : ـ Sachau ,Arab.Erza؟hlungen ,p.٤٠١ ـ ٥٠١ ,٥١١ ـ ٩١١

(١٥١) حبيب الزيات ، Les Couvents ، ص ٢٩٣ ، رقم ٤

(١٥٢) ـ A.S.Atiya ,XXme Congre؟s ,p.٧٧

(١٥٣) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٥٥١ ـ ٦٥١, NO ٠١, SBI, p. ٢٥٢ ـ ٣٥٢ ـ Paret, p. ٠١٧ ـ Wiener p. ٩٣ ـ ١٤

(١٥٤) ـ Margoliouth ,Al ـ Tanukhi p.٧٣١ ـ ٦٤١

(١٥٥) التنوخى ، الجزء الثانى ، ص ٧٣ ـ ٩٤

(١٥٦) شرحه ، ص ٧٣ ـ ٧٤ ، ٧٩ ـ ٨٠ ، ٨٧ ـ ٨٨

(١٥٧) شرحه ، ص ٧٥ ـ ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ـ ٨١ ، ٨٨ ـ ٨٩

(١٥٨) شرحه ، ص ٧٨ ـ ٧٩

(١٥٩) ـ Mez ,p.٧٦٢ ـ Ferrand ,Sofala ,p.٤٩٣ ـ ٥٩٣

٢٤٤

الفصل التاسع

البيرونى وجغرافيو القرن الحادى عشر بالمشرق

بدأ القرن الحادى عشر مشرقا بالنسبة للعلم العربى ؛ ففى عام ٣٩٠ ه‍ ـ ١٠٠٠ أتم تأليف كتابه المشهور «الآثار الباقية» علامة شاب هو البيرونى ، وهو كتاب لا مثيل له فى جميع آداب الشرق الأدنى. وفى خلال نصف قرن تقريبا من هذا التاريخ لم يتوقف البيرونى عن تزويد مختلف فروع العلم بمؤلفاته العديدة التى يمكن القول بأنها بلغت ذروتها بكتابه عن الهند ، ذلك الكتاب الذى وصفه روزن منذ أكثر من خمسين عاما بأنه «أثر فريد فى بابه لا مثيل له فى الأدب العلمى القديم أو الوسيط سواء فى الغرب أو الشرق» (١). وقد أحس العلماء بسمو شخصية البيرونى العلمية منذ بزوغ فجر الاستعراب العلمى ، فكاترميرQuatremere قد لفت إليه الأنظار قبل روزن بنصف قرن تقريبا (٢). وكلما توسع العلم وتعمق فى التعرف عليه وعلى مصنفاته كلما بدت شخصيته أكثر عظمة وسموا. وفى أيامنا هذه أطلق سارطون على الفترة التى تشمل منتصف القرن الحادى عشر ، وذلك بالنسبة لتاريخ العلم العالمى ، اسم عصر البيرونى لأنه أكبر شخصية علمية عاشت فى ذلك الوقت. ولا تزال شخصيته العلمية آخذة فى النمو ، فقد تم العثور على مواد جديدة توكد أحقية هذا العالم الذى ينتمى إلى بلاد ما وراء النهر لكل ما ناله من تقدير وإجلال.

وحياة البيرونى أبعد من أن توصف بالهدوء والاستقرار ؛ ولا نملك إزاء هذا إلا الانحناء فى خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التى توصل إليها والتراث العلمى الحافل الذى أنتجه فى ظروف الزمان الذى عاش فيه. ولد البيرونى فى الثانى من ذى الحجة عام ٣٦٢ ه‍ ـ ٤ سبتمبر ٩٧٣ (٣) بضاحية من ضواحى خوارزم ، ومنها أخذ نسبته البيرونى التى تنطق فى العربية بكسر الباء ولكن فى الفارسية تنطق الباء ممالة بعض الشىء (أى تليهاe ممدودة). ويمكن أن نجد إشارة إلى هذا فى إحدى النسخ التى كتبها بخط يده حيث يشكل اسمه بالعربية البيرونى أى بفتح الباء تليها ياء مسكّنة (٤) ، يريد بذلك على ما يظهر أن يبين الصوت الممدودe الذى لا يوجد فى الكتابة العربية. أما فى الاستعمال العربى العادى فقد سرى عليه اسم البيرونى بكسر الباء ، وهو الذى سنسير عليه أسوة بما حدث مع اسم المؤرخ الدينورى. والنسبة نفسها غير مستعملة كثيرا ، ولعله إلى جانب المعنى المعروف الذى يشير إليه السمعانى (٥) وهو «رجل الضاحية» ، تختفى إشارة ما إلى أصل مغمور لمؤلفنا. وعلى ضوء هذا فقد لا يكون من قبيل المزاح والفكاهة أبيات البيرونى التى حفظها لنا ياقوت والتى يقول فيها (٦) :

٢٤٥

«...............

ولست والله حقا عارفا نسبى

إذ لست أعرف جدى حق معرفة

وكيف أعرف جدى إذ جهلت أبى

إنى أبو لهب شيخ بلا أدب

نعم ووالدتى حمالة الحطب»

وكنيته أبو الريحان غير واضحة بدورها (٧) ، كما وأن نسبه مجهول تماما. أما اسمه محمد بن أحمد فلا يفاد منه شىء البتة ، بل جرت العادة على استعمال هذه الأسماء عندما تكون الأسماء الحقيقية غير معروفة. ومهما يكن مدلول أبيات الشعر هذه فإن لغته الوطنية كانت الخوارزمية (٨) ، وتأتّى له أن يتلقى تعليما جيدا دعمته أسفاره العديدة وتجواله وتعطشه الشديد إلى المعرفة الذى ألهب مشاعره منذ سن مبكرة. ومندسن مبكرة أيضا اتجه اهتمامه إلى نواح من العلم لم تكن معهودة للدارسين فى العصور الوسطى الإسلامية ، ويروى أنه عاش بخوارزم إذ ذاك عالم يونانى فكان يختلف إليه البيرونى حاملا أنواع النبات والبذور والثمار يسأله عن أسمائها اليونانية ويدوّن ذلك (٩). وقد لفت وهو لا يزال شابا أنظار رعاة الأدب فى دولة بنى عراق المحلية الصغيرة ، ولكنه لم يلبث أن اضطر عقب إحدى الانقلابات إلى مغادرة وطنه وهو فى سن العشرين ، فرحل إلى سواحل بحر قزوين. وفى جرجان التقى بأكبر أساتذته وهو الطبيب والفلكى المسيحى أبو سهل عيسى المسيحى ؛ وهناك أيضا تمتع بعطف أمير جرجان وطبرستان قابوس بن وشمكير الزيارى (١٠) ، الذى اكتسب بدوره بعض الشهرة كناثر وآخذ فى العلم بطرف (١١) ؛ وإليه رفع البيرونى أول مصنفاته الكبرى وهو «الآثار الباقية». ويبدو أن ميل هذا الحاكم إلى الطغيان جعل الحياة عسيرة ببلاطه ، الأمر الذى تردد صداه فى أشعار متأخرة للبيرونى. وإلى هذا الوقت المبكر من حياته العلمية ترجع أيضا الرسائل التى تبادلها مع معاصره الأصغر منه سنا ابن سينا الذى طبقت شهرته الآفاق فيما بعد ؛ وهى تقف دليلا على عمق معرفته بالفلسفة وعلى حدة مزاجه (١٢). وفى حوالى عام ٤٠٠ ه‍ ـ ١٠١٠ رجع إلى موطنه حيث كانت تتولى مقاليد الحكم أسرة المأمونيين التى ما لبثت أن وجدت نفسها بين شقى الرحى ، تتهددها دولتان قويتان هما دولة ايلكخانات سمرقند ودولة محمود الغرنوى التى كانت تنمو بسرعة متزايدة. ولم يلبث البيرونى أن تقاذفته الدسائس والمؤامرات السياسية ، فلما احتل محمود الغزنوى خوارزم أخذ البيرونى معه إلى غزنة عام ٤٠٨ ه‍ ـ ١٠١٨ بوصفه عنصرا لا يطمأن إليه. ولا تكاد تخلو مصنفانه المتأخرة بأجمعها من الشكوى المرّة لما يلاقيه العلم من سوء التقدير ولمصيره الشخصى الذى انتهى إليه هو نفسه (١٣). وليس فى الاستطاعة النفاذ إلى جوهر شكايته ، فهى بالنسبة لظروف ذلك الزمان كثيرا ما وردت على هيئة إشارات غامضة. ويبدو أن البيرونى ظل طوال ذلك الوقت مراقبا من محمود الذى كان لا يثق فيه ، ومن ثم فقد اضطر البيرونى دائما إلى البقاء إلى جانبه بل ومصاحبته فى حملاته العسكرية دون أن يتمتع بحرية التنقل ، وقد عرف البيرونى فى هذه الفترة شظف العيش ولم تكن الأجهزة والوسائل العلمية فى متناول يده حتى يستطيع متابعة أبحاثه. ورغما عن هذا فقد وضع

٢٤٦

فى هذه الفترة بالذات عددا من المؤلفات الضخمة من بينها كتابه المشهور عن الهند. وإلى خليفة محمود وهو ابنه السلطان مسعود رفع البيرونى كتابه الكبير «القانون المسعودى». ويلوح أن وضعه آنذاك كان قد تحسن بعض الشىء فخصص له راتب منتظم وتمتع بحرية التنقل ، ومن ثم فقد استطاع فى حوالى عام ١٠٣٤ أن يزور مسقط رأسه خوارزم ، ولم نعد بعدها نسمع بشكاياته (١٤). والظاهر أن الأعوام الأخيرة من حياته كانت هادئة إلى حد ما ؛ وفى عهد مودود الذى خلف مسعود وضع البيرونى كتابه فى «الصيدنة» وهو آخر مؤلفاته الكبرى ؛ وتوفى البيرونى بغزنة فى الثالث من رجب عام ٤٤ ه‍ الموافق ١٣ ديسمبر ١٠٤٨ (١٥).

وعلى الرغم من أن اسم البيرونى يجد مكانه فى الأدب العربى فى ميدان الجغرافيا والرحلات (١٦) ، إلا أنه كما يتبين لنا من المصنفات التى مر ذكرها فإن البيرونى لم يكن جغرافيا ؛ أو على الأصح لم يكن جغرافيا بقدر ما كان مؤلفا واسع المعرفة شمل نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة له والتى تحتل من بينها العلوم الرياضية والفيزيائية المكان الأول بالنسبة له ، بل وربما كانت أيضا العلوم التاريخية والطبيعية ليست أقل مكانة عنده من تلك ؛ ويوكد هذا رسائله الموجزة التى وصلنا منها نحو العشرين ، وأيضا ثبت مؤلفاته الذى وضعه بنفسه والذى يصل إلى عام ٤٢٨ ه‍ ـ ١٠٣٧ (١٧). وقد بلغ محيط دراساته حدا أصبح معه من الأيسر تعداد فروع العلوم التى لم تجتذبه إليها عما اجتذبه فعلا. فلا نستطيع مثلا أن نلمس أثرا لاشتغاله بعلوم الشريعة ، ويبدو أنه لم يذهب فيها إلى أبعد من الحد المفروض على كل مسلم مثقف. وإذا كانت اللحظات الأخيرة من حياته قد أمضاها كما تقول إحدى الحكايات (١٨) فى فحص حالة معقدة تتصل بالتركات فهذا يمكن تفسيره بأن هذه الموضوعات بالذات كانت ترتبط بمسائل الرياضة والجبر ؛ وقد أولاها الخوارزمى الفلكى المعروف من قبل الكثير من الاهتمام. وكانت العلوم الاجتماعية تمثل عند البيرونى أهمية كبرى ، وهو نفسه لم يكن غريبا على الشعر كما يتضح من الأبيات الشعرية التى خلفها لنا ؛ وعلى أية حال فقد كان على معرفة جيدة بالشعراء ووضع فى ذلك بضع مصنفات لم تصل إلينا. ومعرفته بالشعر تنعكس بصورة أكثر وضوحا فى مؤلفاته ذات الطابع التخصصى ، ففى كتابه فى «الجواهر» مثلا يستشهد بما يقرب من ثمانين شاعرا عربيا (١٩). ولم تصلنا مؤلفاته التاريخية التى عالج فيها تاريخ الفرق وتاريخ موطنه خوارزم وتاريخ الغزنويين الأول ، وليس ثمة ما يوجب الكلام عن الأهمية القصوى التى كانت ستمثلها جميع هذه المؤلفات ولكن يبدو أنها أصبحت نادرة الوجود منذ عهد مبكر ؛ فياقوت ، وهو الذى كان على علم بكتاب البيرونى فى تاريخ خوارزم ، لم يكن هذا الكتاب فى متناول يده عندما دون معجمه الجغرافى (٢٠). ويبدو أن البيرونى لم يشعر بميل إلى الفلسفة المجردة ، وفقط من مراسلاته مع ابن سينا فى سنى الشباب يمكن الاستدلال على معرفته بها. وهو لم يعتبر نفسه ذا خبرة فى ميدان الطب خاصة الجانب العملى منه ؛ وفى آخر كتاب له وهو كتابه فى «الصيدنة» يوكد عدم عزمه على أن يمس مسألة الاستعمال الطبى للأدوية (٢١).

٢٤٧

ومجال نشاطه العلمى وأبحاثه هو الرياضة والفلك والعلوم المرتبطة بهما كالمتريولوجيا وجميع المسائل المتعلقة بحساب الوقت وصناعة أجهزة الرصد. ولعل زيارته للهند قد اضطرته إلى الاهتمام اهتماما كبيرا بالمعادن وذلك نتيجة لولع الحكام المحليين بالأحجار الكريمة ؛ وقد جره هذا إلى إجراء عدد من التجارب القيمة فى الوزن النوعى ؛ وفى أواخر أيام حياته يقع اشتغاله بالصيدنة (٢٢).

ومن الطبيعى أن يتجه اهتمام البيرونى فى ميدان الجغرافيا إلى الجانب الرياضى والفلكى. ولكن يتضح من كتابيه «الآثار الباقية» و «الهند» ، وهما اللذات اقتصر عليهما تداول الدوائر العلمية حتى عهد قريب ، أن البيرونى لم يقف عند هذين الفرعين بل ضرب فى جميع فروع العلوم الأخرى بنصيب. أما مصنفاته التى تعرف عليها العلم الحديث منذ عهد ليس بالبعيد فإنها تثبت أنه كان ملما بجميع المادة العلمية المعاصرة له. ويمكن إعطاء فكرة جيدة عن مدى اتساع أفق المعلومات الجغرافية فى عصره مما دونه بصدد توزيع البحار على سطح الأرض ، وذلك فى مصنف لم يقصد به فى الواقع إلى علم الفلك إنما قصد به التنجيم. قال :

«أما البحر الذى فى مغرب المعمورة وعلى ساحل طنجة والأندلس فإنه سمى البحر المحيط وسماه اليونانيون أوقيانوس ولا يلجّج فيه إنما يسلك بالقرب من ساحله وهو يمتد من عند هذه البلاد نحو الشمال على محاذاة أرض الصقالبة ويخرج منه خليج عظيم فى شمال الصقالبة ويمتد إلى قرب أرض بلغار بلاد المسلمين (٢٣) ويعرفونه ببحر ورنك وهم أمة على ساحله ثم ينحرف وراءهم نحو المشرق وبين ساحله وبين أقصى أرض الترك أرضون وجبال مجهولة خربة غير مسلوكة ... وأما امتداد البحر المحيط الغربى من أرض طنجة نحو الجنوب فإنه ينحرف عن جنوب أرض سودان المغرب وراء الجبال المعروفة بجبال القمر التى تنتج منها عيون نيل مصر (٢٤) وفى سلوكه غرر (٢٥) لا تنجو منه سفينة ... وأما البحر المحيط من جهة الشرق وراء أقاصى أرض الصين (٢٦) فإنه أيضا غير مسلوك ويتشعب منه خليج يكون منه البحر الذى يسمى فى كل موضع من الأرض التى تحاذيه فيكون ذلك أول بحر الصين ثم الهند وخرج منه خلجان عظام (٢٧) يسمى كل واحد منها بحرا على حدة كبحر فارس والبصرة الذى على شرقيه تيز ومكران وعلى غربيه فى حياله فرضة عمان فإذا ما جاوزها بلغ بلاد الشحر التى يجلب منها الكندر ومرّ إلى عدن وانشعب من هناك خليجان عظيمان أحدهما المعروف بالقلزم وهو ينعطف فيحيط بأرض العرب حتى تصير به كجزيرة ولأن الحبشة عليه بحذاء اليمن فإنه يسمى بهما (٢٨) فيقال لجنوبيه بحر الحبشة وللشمالى بحر اليمن ولمجموعهما بحر القلزم وإنما اشتهر بالقلزم لأن القلزم مدينة على منقطعه فى أرض الشام حيث يستدق ويستدير عليه السائر على الساحل نحو أرض البجة .. والخليج الآخر المقدم ذكره وهو المعروف ببحر البربر يمتد من عدن (٢٩) إلى سفالة الزنج ولا يتجاوزها مركب لعظم المخاطرة فيه ويتصل بعدها ببحر أوقيانوس المغربى وفى هذا البحر من نواحى المشرق جزائر الزابج ثم جزائر الديبجات وقمير ثم

٢٤٨

جزائر الزنج ومن أعظم هذه الجزائر الجزيرة المعروفة بسرنديب ويقال لها بالهندية سيلانديب ومنها تجلب أنواع اليواقيت جميعها ومنها يجلب الرصاص القلعى وسربزه ومنها يجلب الكافور ... ثم فى وسط المعمورة فى ارض الصقالبة والروس بحر يعرف ببنطس عند اليونانيين (٣٠) وعندنا يعرف ببحر طرابزنده لأنها لأنها فرضة عليه ويخرج منه خليج يمر على سور القسطنطينية ولا يزال يتضايق حتى يقع فى بحر الشام الذى على جنوبيه بلاد المغرب إلى الإسكندرية ومصر وبحذائها فى الشمال أرض الأندلس والروم وينصب إلى البحر المحيط عند الأندلس فى مضيق يذكر فى الكتب بمعبرة هيرقلس ويعرف الآن بالزقاق يجرى فيه ماؤه إلى البحر المحيط وفيه من الجزائر المعروفة قبرس وسامس ورودس وصقلية وأمثالها. وبالقرب من طبرستان بحر فرضة جرجان عليه مدينة آبسكون وبها يعرف ثم يمتد إلى طبرستان وأرض الديلم وشروان وباب الأبواب وناحية اللان ثم الخزر ثم نهر اتل الآتى إليه ثم ديار الغزية ثم يعود إلى آبسكون وقد سمى باسم كل بقعة حاذاها ولكن اشتهاره (٣١) عندنا بالخزر وعند الأوائل بجرجان وسماه بطلميوس بحر أرقانيا وليس يتصل ببحر آخر ... فأما سائر المياه المجتمعة فى مواضع من الأرض. فهى مستنقعات وبطائح (٣٢) وربما سميت بحيرات كبحيرة أفامية وطبرية وزغر بأرض الشام وكبحيرة خوارزم وأبسكون بالقرب من برسخان» (١) (٣٣).

إن قرائن الأحوال تشير إلى أن البيرونى كان يعتبر هذا الفصل جماعا للمعارف الجغرافية فى عصره ، وهو يعيد نفس هذا الكلام بإيجاز ولكن فى خطوطه الرئيسية فى كتابه «القانون المسعودى» (٣٤). وإذا ما رجعنا بذاكرتنا إلى وصف البحار الذى يقدمه قبل قرن من هذا البتانى للاحظنا اختلافا جوهريا بينه وبين البيرونى ، ذلك أن البتانى يسير على هدى المدرسة اليونانية فيقدم لنا الرواية الكلاسيكية القديمة دون تغيير تقريبا ، أما البيرونى فرغما من تأثره بالعلم اليونانى إلا أنه يعمل على مزجه بالمعلومات الجديدة التى حصل عليها الجغرافيون العرب فى ذلك العصر. ومن الميسور أن نستنتج من عرضه هذا بوصفه ملخصا شاملا لمعلوماتهم بعض الحقائق الجلية (٣٥).

لقد توفرت للعرب قرب ذلك العصر معلومات عن ساحل أفريقيا الشرقى إلى خط عرض ٢٠ درجة جنوبا ؛ أما عن البلاد الواقعة إلى الجنوب من ذلك فقد كانت فكرتهم بصفة عامة تستند على الظن والتخمين ولو أن علمهم بالكوارث التى كانت تتعرض لها السفن يشير إلى معرفتهم بطريق غير مباشر بمضيق موزمبيق. ويتضح أنهم عرفوا أفريقيا كجزيرة رغما من عدم توفر المعطيات الواقعية التى يمكن أن تبرر هذا ، ورغما أيضا من وجود أنصار عديدين لنظرية بطلميوس فى هذا الصدد. ويلاحظ عدم وجود أية إشارة فى كلامهم إلى وجود قارة جنوبية Antipodes))(٣٦) ؛ وتندر معلوماتهم عن أوروبا

__________________

(*) بحر ورنك هو بحر البلطيق ؛ والبربر الصومال ؛ وجزائر الزابج أندونيزيا ؛ والديبجات ارخبيل لكديف وملديف ؛ وبنطس البحر الأسود ؛ ومعبرة هيرقلس بوغاز جبل طارق وأتل الفولجا ؛ وبحيرة آبسكون هى بحيرة أيسيق كول. (المترجم)

٢٤٩

الشمالية وآسيا الشرقية كما كان عليه الحال تماما من قبل. أما البيرونى فقد كان لديه عن جميع هذه المناطق معلومات وافية تعتمد لا على إلمامه التام بمؤلفات السابقين عليه بل وأيضا على المعلومات التى حصل عليها من الرحالة والتجار. ولقد كانت لديه فكرة عن بحر البلطيق والبحر الأبيض الشمالى (٣٧) ، وعرف الكثير عن سكان شمالى وشرقى أوروبا (٣٨) خاصة النورمان الاسكندنافيين الذين يدعوهم لا باسمهم المعهود فقط وهو الروس بل باسم الورنك (٣٩) أيضا ، وهو قد سمع بقصة الملاح الذى ضرب فى الأصقاع الشمالية فبلغ بقعة لا تغرب فيها الشمس صيفا (٤٠) ؛ ويورد لنا تفاصيل فريدة عن صناعة السيوف لدى الفرنجة والروس (٤١). وفيما يتعلق بسيبريا فإنه أول من أورد لنا ذكر نهر أنغراAngara والأقوام التى تقطن منطقة بحيرة بايكال Baikal (٤٢). وقد كانت معروفة له أيضا بلدان أفريقيا الواقعة إلى الجنوب من خط الاستواء فهو يذكر أن هناك أصقاعا جنوبية «يكون فيها الوقت شتاء عندما يكون لدينا صيفا».

ونظرية البحار كما عرفها البيرونى قد ثبّتت هذه التصورات فى الجغرافيا العربية لمدة طويلة ، إن لم نقل على الدوام. فياقوت الذى كثيرا ما نقل عن هذا المصنف للبيرونى (٤٣) ينقل عنه أيضا بعد مضى قرنين الوصف المشار إليه عن البحار بحذافيره ودون أية تغييرات باعتباره أفضل ما عرفه عن توزيع البحار على الأرض (٤٤) ؛ ونفس القول يصدق على أبى الفدا (٤٥) وذلك بعد قرن من ياقوت. وتمتاز بالصحة والدقة آراء البيرونى الأصيلة حول عدد من المسائل الجغرافية. فمؤرخو علم الجغرافيا يشيرون بالكثير من الاحترام (٤٦) إلى بحثه لمسائل مثل دوران الأرض حول محورها ، وخضوع منابع المياه لقواعد الهيدروستاتيكاHydrostatics ؛ وأنه كان محقا عندما قال بأن وادى السند كان يوما ما قاعا للبحر ثم غطته الرواسب الفيضية بالتدريج.

وإلى جانب العدد الكبير من الرسائل المختلفة فى الجغرافيا الرياضية ، والتى لم تكن فيما يبدو كبيرة الحجم ، ندين للبيرونى بمصنفات تشير أسماؤها إلى اهتمامه بالأنماط الجغرافية المعروفة لنا. فياقوت مثلا كثيرا ما ينقل عن مصنف له يحمل عنوان «تقاسيم الأقاليم» (٤٧) وذلك من نسخة خطية بقلم المؤلف ترجع إلى عام ٤٢٢ ه‍ ـ ١٠٣١ (٤٨). وجميع هذه المصنفات لم تصل إلينا ومن ثم فسنقتصر فى تحليل آرائه فى الجغرافيا على مؤلفاته الكبرى التى تحمل طابعا جغرافيا صرفا ؛ غير أن استيعاب جميع المادة الجغرافية الموجودة بها أمر يحتاج إلى دراسة خاصة مهد لها الطريق أبحاث فيدمان Wiedemann رغما من أن مؤلفات البيرونى التى تم الكشف عنها أخيرا لم تكن فى متناول يده. ولن نستطيع هنا سوى الإشارة إلى الخطوط الرئيسية لمؤلفاته مع الوقوف عند نقاط معينة لأهميتها بالنسبة لتاريخ الأدب الجغرافى العربى.

وأول مؤلفات البيرونى الكبرى من الناحية الزمنية وأكثرها شهرة فى العلم الأوروبى هو كتابه فى

٢٥٠

التقويم «الآثار الباقية عن القرون الخالية» الذى انتهى من تصنيفه وهو فى سن السابعة والعشرين تقريبا بجرجان ؛ وقد أصبح فى متناول الأيدى منذ السنوات السبعينات للقرن الماضى بفضل مجهودات العلامة زاخاوSachau. وفى الآونة الحاضرة اشتدت الحاجة إن لم يكن لطبعة جديدة فعلى الأقل إلى إضافة زيادات جوهرية إلى المتن الذى طبعه زاخاو. ويمكن بفضل المخطوطات التى كشفت منذ عهد غير بعيد ، ومن بينها واحدة بالاتحاد السوفيتى ، تدارك جميع الفجوات (Lacunae) الموجودة فى الأصول التى اعتمد عليها زاخاو والتى ترجع فى معظمها إلى عهود حديثة ، هذا بينما ترتفع المخطوطات التى تم العثور عليها أخيرا إلى القرن السابع (الثالث عشر الميلادى) وكثيرا ما تبين القراءة الصحيحة (٤٩). والكتاب فى جوهره خلاصة للتقاويم المختلفة فلكية كانت أم شعبية ؛ وهو يقدم لنا وصفا كاملا لجميع التوقيتات والأعياد المعمول بها عند الشعوب وفى الأديان المعروفة له كاليونان والرومان والفرس والصغد والخوارزميين والحرانيين والقبط والنصارى واليهود وعرب الجاهلية والمسلمين. ومصادره فى هذا الميدان غاية فى التنوع فهو يعتمد من ناحية على مؤلفات خاصة مفقودة بالنسبة لنا ، ومن ناحية أخرى على الرواية المتواترة التى تمتاز فى بعض الأحوال بقيمة نادرة. ويكفى فى هذا الصدد أن نلاحظ أنه وهو المسلم يقدم لنا أول وصف مفصل لنظام التوقيت عند اليهود (٥٠). أما فى مجال الجغرافيا الرياضية فلا تقتصر الأهمية على المادة نفسها بل تنتظم أيضا المنهج الأصيل الذى اتبعه البيرونى كتحليله المفصل لفكرته عن مساقط الخارطات (Cartographic Projections) الذى دفع أحد الأخصائيين المعاصرين إلى الاعتراف بأنه قد جمع إلى سعة العلم خيالا خصبا (٥١). وكما هو الشأن مع بقية مصنفاته فكذلك تبرز هنا بجلاء المميزات التى تنفرد بها معطيات البيرونى التى أخذ الاهتمام يزداد بها وفقا لاطراد الاكتشافات الجديدة وتقدم العلم المعاصر. ويمكن إدراك ذلك فى الآونة الحاضرة من الاهتمام المتزايد بحضارة الخوارزميين القدماء عندما وكدت الاكتشافات والأبحاث الأخيرة أهمية معطياته فيما يتعلق بلغتهم وتقويمهم.

ويلاحظ بوضوح فى هذا المصنف المبكر إحدى العلامات المميزة للبيرونى فيما بعد ، ذلك هو إحساسه القوى بقوميته الإيرانية. فالتراث الإيرانى فى تاريخ الحضارة البشرية يستأثر باهتمامه ، بينما يبدو العرب قبل الإسلام وكذلك دورهم فى الفتوحات الإسلامية فى صورة سلبية ؛ وهو يوجه نقده بصورة خاصة إلى فاتح بلاد ما وراء النهر المشهور قتيبة الباهلى لقضائه على حضارة خوارزم (٥٢). ولما كان البيرونى يحرص دائما على التزام الموضوعية (OBjectivity) فمن العسير اتهامه بمعاداة العرب (٥٣) ، فهو مثلا يعتقد أن اللغة العربية هى اللغة الوحيدة الجديرة بأن تكون لغة العلم (٥٤). وتقف تجربة حياته بأكملها برهانا على هذا ؛ وقد عبر عن رأيه فى اللغة العربية فى آخر مصنفاته وهو كتاب «الصيدنة» الذى وضعه بعد خمسين عاما تقريبا من تأليفه «للآثار الباقية». ففيه يقول :

«وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت إلى الأفئدة وسرت محاسن اللغة

٢٥١

منها فى الشرايين والأوردة ، وإن كانت كل أمة تستحلى لغتها التى ألفتها واعتادتها واستعملتها فى مآربها مع ألّافها وأشكالها. وأقيس هذا بنفسى وهى مطبوعة على لغة لو خلّد بها علم (٥٥) لاستغرب استغراب البعير الميزاب والزرافة فى العراب (٥٦) ثم متنقلة إلى العربية والفارسية فأنا فى كل واحدة دخل ولها متكلف والهجو بالعربية أحبّ إلىّ من المدح بالفارسية (٥٧). وسيعرف مصداق قولى من تأمل كتاب علم قد نقل إلى الفارسى كيف ذهب رونقه وكسف باله واسود وجهه وزال الانتفاع به إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية» (٥٨).

وهكذا فلم يمنع الشعور القومى الإيرانى البيرونى من تفضيل اللغة العربية على الفارسية ؛ وهو وإن أبدى فى ذلك بعض المبالغة إلا أنه بقى مخلصا لهذا الرأى طول حياته.

وقد دون البيرونى مصنفاته بكل تأكيد بالعربية التى كان بلا شك يمتلك ناصيتها ، سواء فى الأسلوب العلمى الصارم فى مجال الرياضة والفلسفة أو فى الأسلوب القصصى البسيط الذى يحفل به خاصة أحد مصنفاته الأخيرة وهو كتابه فى «الجواهر». ورغما من هذا فإن العربية لم تكن لغته الأصلية ، ولعل هذا من الأسباب التى أكسبته أسلوبا خاصا لا يمكن بأية حال اعتباره سلسا. وفى مؤلفاته للخاصة يبدو ميله إلى الإيجاز الشديد ؛ وهو نفسه يعترف بأنه لا يكتب من أجل المبتدئين ، ولكنه حتى فى العرض القصصى العادى يجنح من وقت لآخر إلى الخروج عن المألوف المستعمل بل ويضحى أسلوبه عسرا وعرا يحتاج فهمه إلى إعمال الجهد. وقد تؤدى دراسة أسلوبه الكتابى إلى نتائج طريفة لو تفرغ لذلك أحد العلماء (٥٩). وبالرغم من اعترافه بأفضلية اللغة العربية على غيرها من اللغات فإن هذا الحكم لم يخف عليه مناقصها ، فهو يقف موقفا سلبيا تاما من رسمها ، ففى كتابه «الصيدنة» يقول (١) :

«ولكن للكتابة العربية آفة عظيمة هى تشابه الحروف المزدوجة فيها واضطرارها فى التمايز إلى نقط العجم وعلامات الإعراب التى إذا تركت استبهم المفهوم منها. فإذا انضاف إليه إغفال المعارضة وإهمال التصحيح بالمقابلة ، وذلك من الفعل عام قومنا ، تساوى به وجود الكتاب وعدمه بل علم ما فيه وجهله. ولو لا هذه الآفة لكفى نقل ما فى كتب ديسقوريدس وجالينوس وبولس وأوريياسيوس المنقولة إلى العربى من الأسامى اليونانية ، إلا أننا لا نثق بها ولا نأمن التغايير فى نسخها» (٦٠).

وعواطف البيرونى نحو الشيعة التى تنعكس فى كتابه «الآثار البافية» قد اختفت بمرور الزمان ؛ ومن المحتمل أن يكون قد اضطر إلى خنق هذه العواطف فيما بعد أثناء إقامته فى الوسط السنى المتطرف لبلاط محمود الغزنوى. غير أن منهجه فى التفكير يدل على أن مثل هذه المسائل لم تمسه كثيرا وأن بعض الميول التى عرفها أيام شبابه قد حل محلها عدم الاكتراث بها (٦١).

__________________

(*) هذه الفقرة والسابقة لها نقلتهما عن مخطوطة دار الكتب المصرية رقم ل ٣٠١٤ وكانت ملكا لميرهوف (ص ١٥ ، ص ١٧). (المترجم)

٢٥٢

أما المصنف الثانى من الناحية الزمنية فيرتبط بمسائل الجغرافيا الفلكية وذلك بالمعنى الضيق لهذا المصطلح ، وهو كتابه «تحديد نهاية الأماكن لتصحيح مسافات المساكن» المحفوظ حتى الآن فى مخطوطة فريدة باستنبول بخط يد المؤلف فيما يبدو وترجع إلى عام ٤١٦ ه‍ ـ ١٠٢٥ (٦٢). وفى المقدمة النظرية لهذا الكتاب يدور الكلام حول تحديد العروض الجغرافية والاختلاف فى تحديد أطوال المواضع والتطبيق العملى للمناهج السائدة (٦٣). ويبدى البيرونى ملاحظته عن أن العرب قد اتبعوا ثلاثة مذاهب فى تحديد المسافات ، فهم إما أن يكونوا قد أخذوا حسابات بطلميوس كما هى ، أو أجروا أرصادهم الخاصة وفقا لمذهبه ، أو استقوا مادتهم فى آخر الأمر من أسفار الرحالة وسير البريد. وقد اتبع البيرونى فى نشاطه العلمى المذاهب الثلاثة ، مستعملا ملاحظاته الشخصية فيما يتعلق بمنطقة شرقى إيران (٦٤). ولما كان من شأنه أن يبين دائما التواريخ التى دون فيها هذه الملاحظات فإنه من الممكن تتبع تحركاته من الوجهة الزمنية بالكثير من الدقة (٦٥).

وللبيرونى فى كتابه هذا استطراد لطيف يوضح فيه بالكثير من الحق والصواب الوضع الأفضل الذى تمتع به جغرافيو العرب بالنسبة للمؤلفين اليونانيين فيما يتعلق باتساع رقعة أفقهم الجغرافى نتيجة لاتساع نطاق الحضارة الإسلامية كما يقول «غربا إلى الأندلس وشرقا إلى حدود الصين وأواسط الهند وجنوبا إلى الحبش وبلاد الزنج وشمالا إلى مساكن الترك والصقالبة» (٦٦). وتتركز أهمية الكتاب كما هو الحال دائما فى مواضع معينة من العسير الحكم عليها إلا من خلال نقاط مبعثرة ؛ ويرجع السبب فى ذلك إلى عدم وجود طبعة للكتاب. وتمتاز بقيمة كبيرة آراؤه فى هذا الكتاب عن جيولوجيا خوارزم القديمة ، وهى آراء تكشف عن الكثير من سعة الأفق وعن جرأة فكرية نادرة (٦٧). وفى القرن الخامس عشر نجد أن المقريزى يستشهد بكتاب البيرونى هذا عند كلامه عن محاولات القدماء لحفر قناة بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط (٦٨).

ومن بين مصنفات البيرونى الكبرى المعروفة لنا نعرف معرفة أجود ثلاثة منها ترجع بالتقريب إلى وقت واحد هو حوالى عام ٤٢١ ه‍ ـ ١٠٣٠ ، أى عام وفاة محمود الغزنوى. أما أبعدها صيتا فهو «القانون المسعودى فى الهيئة والنجوم» الذى رفعه إلى خليفة محمود ؛ وعليه بالذات تعتمد شهرته فى المشرق (٦٩). وهو لم يطبع إلا فى الآونة الأخيرة وذلك بفضل عناية المستشرق الألمانى كراوزه Krause (٧٠) غير أن العلماء رجعوا إليه دائما بحيث أمكن تكوين فكرة عن الكتاب من خلال القطع المختلفة التى نقلوها عنه. وقد ترجم فيدمان (٧١) فصلين منه هما التاسع وهو فى وصف سكان الأرض وحدود الأقاليم وفقا للأطوال والعروض ، والعاشر وهو الذى يبين لنا جداول أطوال وعروض المواضع المختلفة. وكان كتاب «المجسطى» النموذج الذى سار على هديه «القانون» ؛ فهو يقدم لنا فى اثنى عشر بابا موجزا لعلم الفلك كله مع حساب التوقيت وحساب المثلثات والرياضة والجغرافيا والتنجيم (٧٢) ؛ وهو يستند

٢٥٣

على الآثار السابقة المصلّحة كما يعتمد أيضا على أرصاد جديدة (٧٣). أما فيما يتعلق بشكله فهو تعداد ضخم للمدن كما هو الشأن عند الخوارزمى ، وهى موزعة فيه تبعا للأقاليم المختلفة مع تبيان الأطوال والعروض. وتتمثل طرافة الكتاب بشكل خاص فى أن الهند والبلدان الشرقية للعالم الإسلامى تنال فيه من العناية أكثر ما نالته فى المؤلفات السابقة له ؛ أما من ناحية الشكل الخارجى فإن العرض لا يختلف عما هو عليه الحال مع الجداول السابقة عليه ، فهو يعتمد فى تحقيق عدد من معطياته على المصادر القديمة الموثوق بها مثل بطلميوس والبتانى (٧٤). وهذا الكتاب بالذات هو الذى أفرد له المؤلفون المتأخرون مكان الصدارة من بين جميع مؤلفات البيرونى ، فالقفطى (٧٥) لا يذكر إلى جانبه مصنفا آخر ، وياقوت يقول عنه إنه «يعفى على أثر كل كتاب فى تنجيم أو حساب» (٧٦) ، كما أفاد منه كثيرا أبو الفدا بل إنه يدين له بالكثير من الفضل فى مصنفه الجغرافى على ما سوف نراه (٧٧).

وكتاب البيرونى المعروف باسم «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» والذى يرجع إلى ذلك العهد نفسه لا يتسق موضوعه مع اسمه تمام الاتساق ، فهو فى واقعه ليس بمقدمة تقتصر على التنجيم وحده كما يمكن أن يفهم من العنوان بل عبارة عن موسوعة كبرى تعرض بالتوالى لمسائل فنية ولمصطلحات الهندسة والحساب والفلك (وينضم إلى ذلك الجغرافيا وحساب الأوقات ووصف الأجهزة الفلكية) والتنجيم. وهو كتاب جديد فى نوعه يتميز بالاستقلال ، حفظ لنا فيه البيرونى قواعد المذهب القديم (٧٨). وفى القسم الثالث المفرد للفلك نلتقى بقطع عديدة فى الجغرافيا (٧٩) ؛ وقد مر بنا الكلام عن إحداها وهى التى تعالج موضوع توزيع البحار على الأرض. أما القطع الأخرى فتبحث فى كيفية ضبط العروض والأطوال ، وفى الأقاليم وخط الاستواء وارتفاع الشمس وقبة الأرض ، وفى المذاهب الأخرى فى تقسيم الأرض بخلاف الأقاليم (٨٠) ؛ وجميع هذه القطع تقريبا معروفة فى الترجمة الألمانية لفيدمان (٨١). وإلى جانب الفصول الأخرى فى الجغرافيا توجد قطعة بعنوان «ما يوجد من البلاد فى كل إقليم» (٨٢) ، وهى تختلف اختلافا كبيرا عن الجداول الفلكية المعروفة للفرغانى بالرغم من أن حدود الأقاليم عند الاثنين لا تتفاوت كثيرا (٨٣). ويمتاز بالطرافة على وجه الخصوص القسم عن البحار الذى مر بنا ، وتصحبه فى جميع المخطوطات المعروفة خارطة مستديرة تبين توزيعها (٨٤) ، وهو نفس الرسم الذى نقله عنه ياقوت.

وهكذا نجد أن هذا المصنف على نقيض تسميته الضيقة لا يمكن بأية حال اعتباره مقدمة فى التنجيم ، فهو فى أبسط مدلولاته عبارة عن محاولة لإبراز تلك العناصر العقلية (Rationalistic) التى يرتبط بها التنجيم. وهو إلى جانب بعض الرسائل الصغرى للبيرونى قد دفع أكثر من مرة إلى التساؤل عما إذا كان البيرونى نفسه يعتقد فى التنجيم أو أنه كان منجما كما تصوره فى أغلب الأحيان الأسطورة المتأخرة ؛ إن الإجابة على هذا التساؤل يجب أن تكون بالنفى ، فقد حفظ لنا عدد من القصص والإشارات المختلفة وكلها توكد أنه كان يقف من التنجيم موقف المستربب بل والمتهكم أحيانا. بيد أنه ليس هناك أدنى شك

٢٥٤

فى أنه قد حدث له أن لعب دور المنجم شأنه فى هذا شأن جميع فلكيى ذلك العصر والوسط. أما القول بأنه كان المنجم الرسمى لبلاط محمود العزنوى كما تصوره بعض المصادر المتأخرة فأمر مشكوك فيه ، ولكنه يظهر فى حالات معينة فى هذا الدور محاولا فيما يبدو أن يفسح المجال لغلبة العناصر العقلية كما فعل فى كتابه «التفهيم» (٨٥).

وبخلاف الفصل الذى مر ذكره فقد أفاد ياقوت على وجه العموم كثيرا من كتاب البيرونى هذا ؛ والخلاصة التى عملها فيدمان (٨٦) له تعطى فكرة ما عن مقدار ما يدين به ياقوت إليه ؛ كما أن أبا الفدا قد عرفه جيدا (٨٧). وثمة دليل على سعة انتشاره هو العدد الهائل من المخطوطات الذى وصلنا منه ؛ وإحدى هذه المخطوطات وهى ليست بأفضلها قام بنشرها بالزنكوغراف فى عام ١٩٣٤ رمزى رايت Ramsay Wright وزودها بترجمة إنجليزية مرافقة للمتن ، وهى تستند أساسا على الرواية الفارسية للكتاب. ولا تزال طبيعة العلاقة بين الروايتين العربية والفارسية غير واضحة تماما حتى الآن ، وظهر رأى يقول بأن كليهما بقلم أبى الريحان (٨٨) غير أن علمنا بموقفه من الفارسية يدفعنا إلى أخذ هذا الرأى بالكثير من الحذر.

و «كتاب التفهيم» على عكس مؤلفات البيرونى الأخرى لم يرفع إلى واحد من الحكام بل إلى سيدة من خوارزم تسمى ريحانة ابنة الحسين ، كانت على ما يلوح كثيرة الاهتمام بمسائل العلوم الدقيقة. ويمكن الافتراض بأنها كانت تنتمى إلى الأسرة الحاكمة بخوارزم وأنها قد رحلت إلى غزنة مع بقية أفراد أسرتها عندما أجلاهم محمود معه. أما القول اعتمادا على هذا بأن البيرونى كان موجودا وقت تأليف الكتاب بخوارزم فهو قول لا ينهض على أساس (٨٩). ومن ناحية الشكل نجد أن هذا الكتاب يختلف عن بقية مؤلفات البيرونى فهو معروض على هيئة أسئلة وإجابات ، وهو أمر كما يقول المؤلف «أحسن وللتصور أسهل» (٩٠). ولعل البيرونى لم يتنكب الصواب فى حكمه هذا لأن ذلك الكتاب بالذات يمثل موسوعة مبسطة لعدد من علوم عصره ونال انتشارا واسعا على ما يبدو من عدد المخطوطات الموجودة منه.

أما كتاب البيرونى الذى كسب له الصيت والمجد فى الدوائر العلمية الأوروبية ، وأعنى به كتاب «الهند» فهو ينتمى إلى طراز آخر من المؤلفات ويقف فريدا فى نوعه إلى يومنا هذا. ولا حاجة بنا إلى الكلام عنه بالتفصيل ، فمنذ أكثر من خمسين عاما قدم روزن عنه تحليلا قيما وكّدت قيمته على ممر نصف قرن من الزمان الاكتشافات التالية ولا يزال محتفظا بحيويته وجدته إلى أيامنا هذه. أما معرفة الدوائر العلمية به فندين بها إلى المستشرق زاخاو الذى ترجمه إلى الإنكليزية ونشر متنه العربى فى الثمانينيات من القرن الماضى اعتمادا على مخطوطة ترجع إلى عام ٥٥٤ ه‍ ـ ١١٥٩ منقولة عن الأصل الذى كتبه المؤلف بخط يده.

ومن المستحيل اعتباره كتابا جغرافيا بالمعنى الضيق للفظ ؛ وهدف المؤلف الحقيقى يبدو فى العنوان الكامل للكتاب وهو «تحرير ماللهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة» (٩١). فالمكانة الأولى عنده

٢٥٥

إذن تحتلها الحضارة الروحية للهند ، وقليل من فصوله الثمانين يمس موضوعات جغرافية بحتة. فمقدمة الكتاب مثلا تعرض للهند عامة ، ويضم الفصل الثامن عشر ملاحظات متفرقة عن الأرض والأنهار والأوقيانوس المحيط وعن اتساع الأقطار المختلفة. وفى الفصل الخامس والعشرين يرد الحديث عن أنهار الهند ومنابعها. ويجب أن يضم إلى هذا بكل تأكيد المجموعة الهائلة من المعلومات الاثنوغرافية المتناثرة بالكتاب ، وكذلك الفصول الهامة التى يعالج فيها الكلام عن ديانة الهند وحياتها الفكرية (٩٢). وتتخذ أهمية استثنائية ظاهرة خاصة هى أنه إلى جانب المجموعة الضخمة من المادة الجغرافية التى يحتويها الكتاب بصفة عامة فهو يكشف عن معرفة عميقة بالتصورات الجغرافية والكوزمولوجية لدى الهنود (٩٣) وبالتالى يوضح لنا الكثير من المسائل المتعلقة بالتاريخ المبكر للعلوم والآداب الجغرافية العربية. أما طريقة العرض فتتشابه فى جميع الفصول ، فالمؤلف بيدأ بسوق ملاحظات عامة تعقبها مقتطفات موثوق بصحتها من المؤلفين الهنود ، ثم ينظر فى المسائل التى عالجوها ويقارنها بنظريات المسلمين واليونان والإيرانيين معلقا على هذا بملاحظاته الشخصية الفذة. أما ما يحفل به الكتاب من مادة علمية فهو شىء يقف نسيج وحده ولا يوجد له أى مثيل (٩٤).

وللبيرونى كتابان كبيران معروفان لنا يرجع تاريخهما إلى الأعوام العشرة الأخيرة من حياته ، إذ تم تأليفهما فى عهد السلطان مودود (٤٣٢ ه‍ ـ ٤٤٠ ه‍ ـ ١٠٤١ ـ ١٠٤٨) حفيد محمود الغزنوى الذى توفى فى عام واحد مع البيرونى. أحدهما هو مصنفه فى المعادن بعنوان «كتاب الجماهر فى معرفة الجواهر» الذى يبحث فى المعادن والفلزات خاصة الأحجار الكريمة حيث يفرد لما يقرب من الخمسين منها فصلا خاصا لكل واحد. وقد نشر الكتاب منذ عهد غير بعيد المستشرق كرنكوKrenkow بحيدرأباد (١٣٥٥ ه‍ ـ ١٩٣٧) فى طبعة تمكن من إعطاء فكرة واضحة عن الكتاب ، كما أن عددا من المقالات والأبحاث قد بينت أهمية مادته لا من الناحية العلمية الخالصة فحسب بل ومن ناحية التاريخى الحضارى كذلك (٩٥). وقد جمع فيه البيرونى بين أبحاث قام بها على أساس تجربة طويلة الأمد ومعرفة جيدة بالأدب العلمى من جهة والأدب الفنى من جهة أخرى ؛ ولم يقتصر فى ذلك على الأدب العربى وحده. بل أفسح المجال لآداب اللغات الأخرى. ويمكن تكوين فكرة عن مصادره من الدراسة القيمة التى أفردها لذلك محمد يحيى الهاشمى ، فمن بين المصنفات الجغرافية الأصيلة أفاد بصورة خاصة من مصنفات المدرسة الكلاسيكية للجغرافيين العرب ومن الجيهانى كذلك. وكمية المادة الجغرافية فى هذا الكتاب كبيرة للغاية سواء كانت فى شكل ملاحظات قصيرة أو قصص مفصّلة ، غير أن استخراج هذه المادة يتطلب جهدا كبيرا لا يقل بحال من الجهد الذى تتطلبه المصنفات من هذا الصنف ، وذلك إما بمعاونة الفهرس أو بفحص الفصول المختلفة الخاصة بكل معدن أو فلز على حدة.

ومن هذا الطراز نفسه «كتاب الصيدنة فى الطب» ، وهو آخر مؤلفات البيرونى ، ولعله لم يتممه.

٢٥٦

وقد تم الكشف عنه منذ أمد غير بعيد فى مخطوطة فريدة بمدينة بروسة بتركيا ولا يزال معروفا فى مقدمته فقط التى نشرها ماكس ميرهوف Max Meyerhhof. وكما رأينا من قبل فإن البيرونى لم يقصد به البحث فى الأثر الطبى للأدوية (٩٦) ، ولما لم يكن يعتبر نفسه متحصصا فى هذه المسائل فقد استعان بخبرة طبيب من معارفه (٩٧). والشذور التى نشرت من هذا الكتاب إلى الآن توكد أهميته البالغة ليس فقط بالنسبة للناحية التى يبحث فيها بل أيضا بالنسبة لنواح عديدة من بينها الجغرافيا. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية ، الأمر الذى يدل على ما تمتع به من انتشار واسع. وقد اقتنع ميرهوف بعد بحث عميق أن هذا الكتاب يقف برهانا على أن البيرونى عالم لا مثيل له فى جميع العصور الوسطى سواء فى عمق التفكير أو متانة منهجه فى البحث (٩٨).

والمعلومات الواقعية التى يوردها البيرونى كانت معروفة لدى الجغرافيين المتأخرين الذين أفادوا منها كثيرا كما أبصرنا من مثال ياقوت وأبى الفدا والمقريزى. وعلى النقيض من هذا لم تجد نظرياته الأصيلة الفذة من يكملها أو يواصل البحث فيها وبقيت غير مطبقة من الأجيال التالية ، وقد حدث هذا بوجه التحديد لمشروعه الهندسى لمساقط الخارطات (٩٩) كما هو الشأن مع كثير غيرها مما أبدعته هذه العقلية الفذة. وقد كان مصيره فى أوروبا الوسيطة أسوأ من هذا بكثير ، ويبدو أن الأندلس لم تعرف مؤلفاته جيدا. وفى الوقت الدى ترجمت فيه إلى اللاتينية أكثرية المصنفات الكبرى للعلماء العرب بين القرنين الحادى عشر والثالث عشر ظلت مصنفات البيرونى غير معروفة لأوروبا (١٠٠). ويبدو أن الأقدار قد سخرت منه فتردد صدى شهرته فى مفهوم مناقض لسمعته وجد طريقه بشكل ما إلى اللغة الفرنسية. «فالأوسطى اليبيورون» Maitre Aliboron يقصد به كما يتضح من معجم الأكاديمية الفرنسية (١٠١) Dictionnaire de l\'Academie Francaise, ٨ éd., ١٣٩١ : «الإنسان أو الحيوان الموصوف بالجهل والفدامة ، والمضحك والحمار».

من هذا يتبين لنا أن العلم الأوروبى المعاصر هو الذى اكتشف حقا البيرونى فى القرن التاسع عشر ؛ بل إن المادة توفرت فى السنوات العشر الأخيرة فقط لتمكننا من تقديره تقديرا جديرا بمنزلته. وإذا كان روزن على أيامه قد استطاع أن يوفيه حقه ، فالآن يستطيع بدوره علامة شاب يعد من خيرة العارفين بمصنفاته وهو كراوسه Krause أن يقول عنه بحق : «هكذا يصف؟؟؟ البيرونى أمام أعيننا بحاثة لا يعرف الكلل وعلّامة وضع نصب عينيه أهدافا بعيدة المدى ، ولكنه فى نفس الوقت تطلب الكثير من الآخرين. وكان أمينا فى منهجه العلمى لا تأخذه فى الحقيقة لومة لائم إذا ما أبصر تلاعبا حولها أو ضربا من الإهمال. لقد كان عالما واسع الأفق ، وسعت معرفته العلوم الدقيقة لعصره ؛ وإن شوقه إلى البحث والتقصى يعود بالشرف لقومه وعصره ويقف قدوة لجميع العصور التالية».

وإذا كان البيرونى قد غمط الفارسية حقها فى أن ترتفع إلى مصاف لغة علمية فإن واقع الأحوال حتى

٢٥٧

فى عصره يشير إلى النقيض ؛ ولعله لم يكن على علم بذلك أو أنه بجاهله عن قصد. فقد وجد فى القرن السابق عليه مصنف مثل «حدود العالم». وحتى إذا سلمنا جدلا بأن البيرونى لم يجد فى الأدب الجغرافى ما يجعله أهلا لحمل اسم العلم فإننا نجد أمثلة تدل على أن اللغة الفارسية قد استعملت فى ذلك العهد فى ميدان العلوم الطبيعية ؛ فبين عامى ٣٥٧ ه‍ ـ ٩٦٨ و ٣٦٦ ه‍ ـ ٩٧٧ وضع موفق الهروى ، وهو أحد المقربين من السامانيين ، كتابه فى الصيدنة باللغة الفارسية معتمدا فى ذلك كما هو الحال مع كتاب البيرونى لا على العناصر العربية وحدها بل أيضا على العناصر اليونانية والسريانية والهندية. وهو ذو أهمية لا بالنسبة لتاريخ الطب والكيمياء فحسب بل وبالنسبة لتاريخ اللغة الفارسية كذلك (١٠٢). والطريف فى الأمر أن أقدم مخطوطاته ترجع إلى عام ٤٤٧ ه‍ ـ ١٠٥٦ (١٠٣) ، أى أنها تكاد تكون معاصرة للبيرونى. وأما استعمال اللغة الفارسية فى محيط الأدب التاريخى والجغرافى فقد أضحى منذ ذلك العهد أمرا مألوفا حتى فى الوسط الذى كتب فيه البيرونى ؛ ويبدو أنه لم يشاطره أحد ممن عاش فى ذلك الوسط موقف الريبة الذى وقفه من اللغة الفارسية.

وواحد من هؤلاء المؤرخين الذين كتبوا بالفارسية وهو كرديزى يذكر أنه استمع إلى البيرونى. وكرديزى ينتسب كما يتضح من اسمه إلى محلة تقع إلى الجنوب عن غزنة على الطريق إلى الهند ؛ ولم يمكن العثور على أية معلومات تتصل بسيرة حياته (١٠٤). ويرجع الفضل إلى حد بعيد إلى دراسات المستشرق الروسى بارتولد فى تعريف الوسط العلمى بكتابه «زين الأخبار» الذى لم يطبع طبعة كاملة إلى الآن. وقد تم تأليفه فى عهد السلطان الغزنوى عبد الرشيد (٤٤٠ ه‍ ـ ٤٤٤ ه‍ ـ ١٠٤٩ ـ ١٠٥١) ، وهو يمثل فى جوهره مصنفا تاريخيا يعالج تاريخ الأكاسرة وتاريخ محمد والخلفاء إلى عام ٤٢٣ ه‍ ـ ١٠٣٢ وتاريخ خراسان من الفتح العربى إلى عام ٤٣٢ ه‍ ـ ١٠٤١. وقد أضيفت إلى الكتاب فصول عن العلوم اليونانية والتقاويم والأعياد الدينية لمختلف الشعوب. وفى القسم الأخير من الكتاب يرد الكلام على الأنساب والعلوم عامة ، وعقد فيه المؤلف فصلا عن الترك (١٠٥) يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لجغرافيا آسيا الوسطى وهو ذلك الفصل الذى قام بارتولد بدراسته دراسة مفصلة. أما الفصل عن الهند فيستشهد فيه مرارا بالبيرونى ، كما يدين فيه بالكثير إلى الجيهانى أيضا (١٠٦). وفى فصله عن الترك يذكر من بين مصادره ابن خرداذبه والجيهانى (١٠٧). ومن بين المصادر التى لا يسيميها يحتل ابن رسته مركزا رئيسيا خاصة فى الأجزاء التى تمس أوروبا الشرقية ، هذا بالرغم من أن المؤلف لم يشر إليه ولو مرة واحدة (١٠٨). أما فيما يتعلق بالقسم التاريخى فإن مصنفه ينال أهمية خاصة لأنه يعتمد فيه إلى حد كبير على كتاب «تاريخ خراسان» للسلامى (١٠٩) الذى لم يصل إلينا والذى يرجع تاريخ تأليفه إلى منتصف القرن الرابع الهجرى (التاسع الميلادى). وفى وصفه للصين يمثل أهمية قصوى وصفه للطريق بين طرفان Turfan وخمدان Khumdan عاصمة الصين آنذاك ؛ ولا تزال فى هذا الوصف جوانب عديدة غير واضحة ، ورغما

٢٥٨

من ذلك فلا يوجد شك فى أن هذا الطريق قد سار فى نفس الاتجاه الذى سارت فيه طرق المواصلات بين الصين والغرب (١١٠). هذا ونادرا ما نقل المؤرخون المتأخرون عن كرديزى ، كما وأن تأثيره على تطور العلم بالتالى لم يكن كبيرا على ما يظهر (١١١).

وفى وقت واحد مع كتاب كرديزى هذا الذى يمثل فى جوهره مصنفا تاريخيا ظهر باللغة الفارسية وفى آسيا الوسطى أيضا وصف رحلة «سفرنامه» لناصر خسرو المشهور (٣٩٤ ه‍ ـ حوالى ٤٨١ ه‍ ـ ١٠٠٣ ـ ١٠٨٨) (١١٢). ولد ناصر خسرو ببلخ وعاش نيفا وأربعين عاما من حياته كعامل حكومى متوسط الحال بمدينة مرو فى خدمة السلاجقة الذين بدأ نجمهم يعلو آنذاك. ثم اعتراه تحول نفسانى عميق دفعه إلى التجوال سبع سنوات ، وأنهى أيامه كداعية للإسماعيلية بمنطقة بدخشان الجبلية. ويحتل شخصه مكانة مرموقة فى الأدب الفارسى وفى تاريخ الحركات الدينية فى الإسلام (١١٣). أما فيما يتعلق بموضوعنا فسنقصر الحديث على روايته لأسفاره.

ففى مارس من عام ١٠٤٦ خرج من مرو يريد الحج فمر بنيسابور فى طريقه إلى الرى ، وفى أثناء مسيره يشير إلى أن الكثير من النشادر كان يستخرج إذ ذاك من جبل دنباوند (Demavend). وفى طريقه مر على قزوين وتفليس وميافارقين وآمد (دياربكر) إلى حلب وطرابلس ؛ وفى معرة النعمان زار الشاعر الأعمى المشهور أبا العلاء المعرى. ثم أخذ طريق الساحل من بيروت فوصل إلى عكا ومنها قام بعدة زيارات إلى الأماكن المقدسة العديدة ومن بينها طبرية ؛ وبعد رجوعه إلى عكا استمر فى طريقه مارا بحيفا والرملة وبيت المقدس حيث أقام مدة ما تخللها رحلات صغيرة إلى المدن القريبة مثل حبرون الخليل. ويمثل وصفه لبيت المقدس قسما من أهم أقسام كتابه ، مما مكّن لمدنيكوف Mednikov على أساسه أن يقدم وصفا واقعيا للمسجد المعروف بمسجد عمر (١١٤). ومن القدس أدى ناصر خسرو أول حجة إلى مكة فى ربيع عام ١٠٤٧ ، ومنها رجع إلى القدس فأخذ طريق البر مارا بالرملة متجها إلى عسقلان ثم أخذ السفينة من مر فأطينة الصغير إلى جزيرة تنيس بمصر عند بحيرة المنزلة. وفى جزيرة تنيس ـ وبها مدينة مزدحمة بالسكان ـ كان يقيم آنذاك أهل الحرف من النساجين الذين اشتهرت صناعتهم فى الشرق بأجمعه ، ولكن كانت فى الغالب تحتكرها الحكومة ، وهى النسيج المعروف بالطراز ؛ كذلك اشتهرت بصناعة الحديد والعطر.

هذا وقد امتدت إقامة ناصر خسرو بمصر من أغسطس ١٠٤٧ لعدة أعوام. وفى هذه الفترة أدى فريضة الحج ثلاث مرات كانت كلها عن طريق البحر من القلزم إلى مرفأ الجار ، ومنها إلى المدينة ثم مكة. أما القسم الأساسى من وصف رحلته فقد كرسه لمصر وتم الاعتراف به منذ عهد بعيد كمصدر من أهم مصادر تاريخ وخطط مدينة القاهرة فى العهد الفاطمى (١١٥). وهو يصف فى كثير من التفصيل التجارة وحياة المدينة ورسوم البلاط الفاطمى ونظام الإدارة فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر. وبعد كل ما رآه

٢٥٩

فى المشرق فقد أثار دهشته ما كانت تتمتع به مصر من رخاء وأمن. ويغلب على الظن أن يكون اعتناقه نهائيا للمذهب الإسماعيلى قد تم بالقاهرة ، وقد أصبح بالتالى داعية متحمسا لمذهبهم فى موطنه.

أما حجّته الرابعة إلى مكة فقد أخذ فيها طريقا مغايرا ، إذ أنه ركب النيل إلى أسوان ؛ وبعد سفر شاق لمدة خمسة عشر يوما من شهر يوليو عام ١٠٥٠ وصل إلى عيذاب على البحر الأحمر ومنها أخذ البحر إلى جدة. وفى زيارته هذه الرابعة يقدم وصفا مفصلا لجميع المواضع والأبنية التى تهم الحجاج بمكة خاصة الكعبة وما يتعلق بها. أما قصة اجتيازه لجزيرة العرب فتمتاز بالكثير من الحيوية والمتعة ، فقد ذهب إلى الطائف حيث سمع فى نواحيها قصة ليلى والمجنون ، ثم سار فى محاذاة جبل الطويق ذى الصخور البازلتية فمر فى طريقه بواحة فلج إلى اليمامة فالبحرين على الخليج الفارسى. وقد اضطر إلى البقاء أربعة أشهر فى ظروف مرهقة بواحة فلج لم يكن يمتلك أثناءها من متاع الدنيا سوى سلتين مليئتين بالكتب لم تجدياه فتيلا مع السكان الجهلاء الذين كانوا يعيشون إلى حد كبير على قطع الطريق. وقد بلغ البصرة وهو لا يملك شيئا ، ولكنه يقدم لنا فى مقابل ذلك وصفا مفصلا وهاما للأحساء التى كانت لا تزال تحت سلطان القرامطة (١١٦). وفى البصرة تمكن من أخذ طريق العودة إلى وطنه بفضل معاونة وزير ثرى من أهل الأهواز ، فمر فى طريقه بمهربان وارجّان وأصفهان ، ووصل إلى بلخ فى أكتوبر عام ٤٤٤ ه‍ ـ ١٠٥٢ (١١٧) بعد صعوبات جمة صادفها فى الطريق. وهو يختتم كتابه بأمله فى أن يوفق فى القيام برحلة مماثلة إلى المشرق ؛ غير أن طريق حياته اتخذ اتجاها مغايرا فلم يكتب لهذه الرغبة أن تتحقق.

وسفرنامه يرتبط ارتباطا ضئيلا بالرواية الجغرافية المدونة وقليلا ما يتحدث المؤلف عن التقائه بالعلماء فى المدن المختلفة التى زارها. ولا ريب فى أنه كان ملمّا بالأدب الجغرافى لعصره ، غير أنه لم يهدف بكتابه غرضا علميا فهو ينتمى إلى نمط إلى مغاير لذاك. وعلى الرغم من دقته فى الملاحظة إلا أنه كان فى ذات الوقت يعتنق آراء جد خاطئة عن التركيب العام للعالم (١١٨) ؛ وكان هدفه أن يقدم وصفا لما رآه وسمعه بنفسه ، وسرده بسيط فى أسلوبه ويخلو من أثر الصنعة ولكنه يتميز بالحيوية أحيانا ، كما لا يخلو من العنصر الدرامى. وهو فى مواضع من وصفه يفصل الكلام بصورة مرهقة عن الأبنية والآثار ، بالرغم من أن ذلك قد لا يهم القارئ كثيرا. أما تاريخ تأليف الكتاب فغير معروف لنا ، لكن الكتاب نفسه يعتمد إلى حد كبير على المذكرات التى دونها المؤلف أثناء الطريق وذلك وفقا لألفاظه هو ؛ كما أنه يذكر فيه أنه عمل أحيانا رسوما (Sketches) للطريق. والكتاب وإن أمكن ضمه من ناحية فكرته الأساسية إلى نمط «كتب الزيارات» (أى الحج) إلا أن هذه الفكرة لم تطغ على الانطباعات الأخرى التى أثرت فى نفس المؤلف والتى عرف كيف يبرزها لنا بحيوية فائقة. ومن المؤسف أن المسودة الأولى الكاملة له لم تصلنا ، بل وصلنا فى رواية موجزة إلى حد ما ربما قام بها شخص من أهل السنة حاول بدوره أن يزيل عنها جميع

٢٦٠