تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي

تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

المؤلف:

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي


المترجم: صلاح الدين عثمان هاشم
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المترجم

ـ ١ ـ

لم يعد اسم اغناطيوس يوليانوقتش كراتشكوفسكى مجهولا فى العالم العربى المعاصر ؛ غير أن الكثيرين من العرب المحدثين ممن عرفوه مؤرخا للأدب العربى القديم والحديث يجهلون اهتمامه بتاريخ الجغرافيا عند العرب. وفى الواقع أن معظم أبحاث هذا العلامة تدور فى مجالات ثلاث هى : الشعر العربى ، وأدب النصارى العرب ، وتاريخ الأدب العربى المعاصر. بيد أن هذا لا يمنع اعتباره متخصصا فى الحضارة الإسلامية بأجمعها ، فقد أسهم فى كل فرع من فروعها بأبحاثه العديدة التى بلغ عدد المطبوع منها وحده أربعمائة وثمان وخمسين. وعندما وافاه أجله المحتوم فى ٢٤ يناير ١٩٥١ عن ثمانية وستين عاما فقد الاتحاد السوفيتى فى شخصه عالما فذا وأكبر مستعرب روسى لعهده.

أما تاريخ حياته إلى أن نال الشهرة كعالم كبير فليس أفضل من أن نسوقه بألفاظه هو. وقد كتب هذه النبذة باللغة العربية وظهرت بمجلة المجمع العلمى العربى بدمشق سنة ١٩٢٧ (المجلد السابع ص ١٢٢ ـ ١٢٦) ، وهى لا تخلو من الطرافة. قال :

«ولدت فى ٤ آذار (٤ / ١٦ مارس) سنة ١٨٨٣ فى ويلنا (Vilna) عاصمة ليتوانية (Lithuania) القديمة ، وكان والدى رئيسا لمدرسة المعلمين فيها. ولكن لم يمض من عمرى سنتان حتى ارتحلت عائلتى إلى بلاد ماوراء النهر ، وعين والدى رئيسا لمدرسة المعلمين فى تاشكند (Tashkent) ، وبعد مدة وجيزة عين ناظرا عاما للمدارس فى آسيا الوسطى. وابتدأت أذكر نفسى طفلا صغيرا فى تاشكند وأول لغة تكلمتها لغة أوزبكية لأن حاضنتى كانت أوزبكية الأصل. وكانت تأثراتى الأولى فى صغرى بما وقعت عينى عليه من المساجد والأسواق الشرقية وتنوع الأمم والطوائف واختلاف الألبسة. وكان لهذه التأثيرات وقع شديد فى نفسى أيام طفولتى. وأكبر ظنى أنى غدوت ميالا إلى الشرق وإن كنت غير مدرك هذا الميل الغريزى.

وفى سنة ١٨٨٨ رجع والدى إلى ويلنا وصار مديرا للمكتبة العمومية ورئيسا فى لجنة البحث عن الآثار التاريخية القديمة ، ولم يزل عاملا فيها إلى أن فاجأته المنية رحمه الله فى سنة ١٩٠٣. وكنت فى

١

صغرى ضعيف الصحة تتناوبنى الأمراض ، ولذلك كنت مع أمى إلى سنة ١٨٩٢ فى ملك صغير كان لنا فى ولاية ويلنا وفيه كانت خزانة الكتب الكبيرة فى أنواع منوعة فى العلم جمعها جدى وأبى وقد ضاعت فى الحرب العالمية سنة ١٩١٥ مع كل ملك لنا. وكنت أتعلم القراءة فى هذه الكتب وقرأت كثيرا من المؤرخين والقصاصين فى اللغة الروسية. كنت أصغر أولاد أبى وأمى ولذلك نشأت بعيدا عن العشير والأتراب وربما صار هذا سببا لحبى الوحدة وسوء الظن بالعالم والسويداء التى تعذبنى أحيانا حتى الآن.

وفى سنة ١٨٩٣ دخلت المدرسة الإعدادية (الجيمنازGymnasium) فى ويلنا ، وأكملت دروسها سنة ١٩٠١. وكانت مدرستنا من أشهر المدارس فى ولايتها من حيث تاريخها وترتيبها. قامت على أساس الكلية الويلناوية التى ألغيت سنة ١٨٣٩ على أثر الثورة البولونية على روسية. وأصبحت مكتبة الكلية مكتبة عامة ، وبقى قسم منها فى مكتبة المدرسة ولذلك رأيت فيها بعض كتب المشرقيات كمؤلفات العلامة دى ساسى (De Sacy). وقد حاولت فى الصف الأخير أن أتعلم اللغة العربية من كتابه فى الصرف والنحو المشهور ولم يتيسر لى ذلك لضخامة الكتاب وعدم المرشد. تخرج من كليتنا وفى مدرستنا عدد ليس بقليل من علماء المشرقيات المشهورين فى روسية مثل سنكوقسكى (Senkovski) المعلم الأول للغة العربية فى كلية للنغراد من سنة ١٨٢٠ إلى سنة ١٨٤٥ وتورايف (Turaev) عضو أكاديمية العلوم ومؤسس الأبحاث فى قدماء المصريين فى روسية المتوفى سنة ١٩٢١. وقوتوتش (Kotovic) أستاذ اللغة المغولية فى كلية لووف (Lvov) من بلاد بولونية الآن.

وكنت أهفو أيام الطلب إلى علوم اللغات والآداب لا سيما اللغات «الميتة» اللاتينية واليونانية. ومما كان يلذنى ويشوقنى تعلم أغانى هوميروس ، والروايات التمثيلية التى كتبها شعراء اليونان فكنت أستظهرها وأرجعها. وكذلك كنت أحب علم التاريخ والإنشاء ، وكنت أتمرن فى نظم الشعر ولكن لم أظفر منه بطائل. أما الرياضيات والطبيعيات فلم تتق نفسى إليها وإن كنت غير قاصر فيها ، وأحرزت قصب السبق بين أقرانى ونلت نوط الذهب عقبى المدرسة.

ولم أتجاوز السادسة عشرة من عمرى حتى قويت أميالى وتعينت غرائزى وصرت أفكر فيما أجعله غرض حياتى ، وقد رأيت بعد بحث طويل أن العلم يجذبنى إليه بقوة سحرية ، وأن الشرق يكون ميدان أفكارى. ولا غرابة فقد زرت الشرق فى طفولتى وكان أبدا يتماثل نصب عينى. وكان لى مثال آخر فى شخص أبى فإنى كنت أراه مكبا على الكتب والأوراق فى الليل والنهار يبحث عن ماضى الزمان ورجاله.

وفى سنة ١٩٠١ دخلت قسم اللغات الشرقية فى جامعة لننجراد مدفوعا بعامل الميل وهوى

٢

النفس انضممت إلى سلك تلاميذ فرع لغات الشرق الإسلامى فصرفت أربع سنوات فى دراسة اللغة العربية والفارسية والتركية والتتارية وبعض اللغات السامية كالعبرانية ولا سيما الحبشية القديمة ، ودرست هذه الأخيرة على وطنىّ العلامة تورايف ، ولطالما فكرت أن أمضى فيها وأتعمق لكن اللغة العربية غلبت ضرتها وجذبتنى جملة إليها. وكنت أدرس تاريخ الشرق الإسلامى برياسة العلامة برتولد (Bartold) الذى ترجمت بعض تآليفه إلى اللغة التركية مؤخرا. وله التأثير المهم فى حياتى العلمية فإنه بأسلوبه السديد المتين وانتقاده المدقق أطلعنى على أسرار فلسفة التاريخ. وكذلك درست علم اللغات العام على المعلم ميليورانسكى (Melioranski) المنتقل إلى رحمة ربه سنة ١٩٠٦ وعلم تاريخ الآداب العامة على العلامة اسكندر قيسيلوقسكى (Veselovski) ، وهو من أكابر علماء العالم بأسره فى هذا الفن. وكان له فى نفسى تأثير قوى كتأثير برتولد فى التاريخ ، وغدوت من ذلك الوقت أفكر فى تطبيق أسلوبه التشبيهى على تاريخ آداب اللغة العربية ، وأرجو أن أكون بلغت شيئا من ذلك فى مؤلفاتى عن العربيات.

أما العلوم العربية فدرستها على الأستاذ ميدنيقوف (Mednikov) مؤرخ فلسطين المشهور المتوفى سنة ١٩١٨ الذى أثنى على تآليفه الكونت كايتانى (Caetani) من أعضاء المجمع العلمى العربى. أما عمدتى فى العربية فهو العلامة فيكتور فون روزن (Victor von Rosen) عضو أكاديمية العلوم الذى طارت شهرته فى بلاد الغرب والشرق (راجع المشرق سنة ١٩٠٨ ص ١٧١ ـ ١٧٣ ، والبشير عدد ١٨٤٥ للسنة ذاتها). وكنت أيضا أختلف إلى بعض أولاد العرب الساكنين فى روسية كفضل الله صرّوف الدمشقى المتوفى سنة ١٩٠٣ وأنطون خشاب الطرابلسى آخذ منهما قليلا من اللغة العربية الدارجة. ولقد أنجزت دروسى فى الكلية سنة ١٩٠٥ نائلا مدالية الذهب مكافأة لتأليفى عن خلافة المهدى العباسى آخذا عن المصادر العربية كالطبرى وابن الأثير والعينى والمسعودى وغيرهم.

وبعد انتهاء دروسى فى الجامعة كنت أواصل دروسى تحت أنظار البارون روزن الموما إليه خلال سنتين. وفى أواخر سنة ١٩٠٧ قدمت الفحص لنيل رتبة الماجسطروس فى الآداب العربية. وبعد أشهر قليلة توفى أستاذى البارون روزن وكانت وفاته ضربة هائلة على ، شوست صحتى وحركت المرّة فىّ ، ولا غرو فإنى كنت آخر تلاميذه وكان يسمينى بلطفه المعهود بنيامينه الصغير.

وفى صيف تلك السنة نفسها أرسلتنى نظارة المعارف وجامعة بطرسبرج إلى الشرق العربى لتعلم اللغة العربية الدارجة والتعرف إلى علماء العربيات والنظر فى عوائد أبناء الشرق وآدابها. وقد قضيت سنتين بعيدا عن الروسية زرت خلالهما مدن سورية وفلسطين ومصر وتوغلت فى ربى لبنان وغاباته ومروج الجليل وصحارى مصر أزور حينا المكاتب المشهورة وحينا أجلس أمام العلماء المكرمين ، وتارة أختلف إلى المدارس الكبيرة كالكلية اليسوعية فى بيروت والجامع الأزهر والجامعة المصرية فى

٣

مصر وزرت فى سياحاتى مكتبة الملك الظاهر فى دمشق والمكتبة الخالدية فى القدس ومكتبة الموارنة فى حلب والمكتبة الخديوية فى القاهرة وغيرها مما تسنى لى الدخول والاشتغال فيه وجمعت المواد العديدة وكتبت بعض المقالات والانتقادات والأشعار المنثورة فى الجرائد والمجلات العربية والروسية :

وتعرفت خلال إقامتى فى الشرق العربى إلى كثير من علماء العرب ، وأدبائهم وصحافييهم ولا أنسى لطفكم وعنايتكم مدى الدهر. وكان هذا اللطف العربى المشهور من الأسباب التى جذبتنى إلى الشرق جذبة لا أتخلص منها مادمت حيا. تعرفت إلى الكثيرين من العلماء الذين صاروا من أعضاء المجمع العلمى المكرمين فيما بعد. ففى القاهرة عرفت جرجى زيدان الذى اخترمته المنية سنة ١٩١٤ وأحمد زكى باشا عضو المجمع العربى الحالى ، والأستاذ نالينو الإيطالى (Carlo Alphonso Nallino) ، وفى فلسطين السيد خليل السكاكينى والشاعر الفاضل إسعاف النشاشيبى ، وفى بيروت حضرت دروسا للأب العلامة لويس شيخو ، وفى دمشق زرت إدارة مجلة المقتبس الغراء. واستفدت فى هاتين السنتين أكثر مما استفدت طول حياتى. ولا أزال أرجو أن يرزقنى الله رؤية تلك البلاد المحبوبة ومسامرة أعيان علمائها مرة ثانية ، تمم الله أمنيتى بالخير فهو السميع المجيب.

وبعد رجوعى إلى الروسية عينت فى صيف ١٩١٠ مديرا لمكتبة فرع اللغات الشرقية فى كلية لننغراد ، وفى خريف هذه السنة صرت معلما ثانيا للعربيات فيها وفى سنة ١٩١٤ سافرت إلى أوروبا لدرس بعض المخطوطات فى مكاتبها المشهورة مثل ليبسك وهالّة ولا سيما ليدن من بلاد هولندا التى طارت شهرتها فى الدنيا بسبب مجموعتها فى الكتب. وقد اغترف منها كثير من علماء المشرقيات فى أوروبا. وعينت سنة ١٩١٧ معلما أول للعربيات فى المدرسة المذكورة ، ولم أزل أجتهد فى هذه الوظيفة حتى الآن على قدر الإمكان فى تقلبات الزمان. وقد أصاب الدهر المستعربين غيرى فى لننغراد فمات الأستاذ الأول ميدنيقوف سنة ١٩١٨ وتوفى الأديب كوزمين (Kuzmin) أحد تلاميذى سنة ١٩٢١ وقد كان مدة سنتين معلما ثانيا فى جامعتنا. وعين صديقى الفاضل الأستاذ شميدت (Schmidt) سنة ١٩٢٠ مديرا لمدرسة اللغات الشرقية فى تاشكند من بلاد ما وراء النهر وبقيت إلى الآن أدأب وحدى فى التعليم.

فى سنة ١٩٢١ انتخبت عضوا عاملا فى أكاديمية العلوم الروسية فى قسم التاريخ واللغات فجلست فى مجلس كان فارغا بوفاة أستاذى البارون روزن سنة ١٩٠٨. وفى السنة التالية انتخبت كاتما لأسرار القسم المذكور. وفى سنة ١٩٢٣ انتخبت عضوا مراسلا فى المجمع العلمى العربى فى دمشق ، وكان ذلك أكبر شرف نلته مدة عمرى وصار هذا التشريف مساعدا لى ومشجعا فى أحوالنا الصعبة. ورأيت فيه تقديرا أتفاخر به لأتعابى فى التعليم والبحث والتأليف منذ عشرين سنة.

أما مؤلفاتى العلمية التى بدأت بكتابتها من سنة ١٩٠٤ فجلّها إن لم أقل كلها فى آداب العرب

٤

من بحث وترجمة وشرح وانتقاد ، وكتاب ومقالة ومحاضرة وملاحظة وعددها يربو على المائتين ولذلك لا يمكن وصفها بتدقيق. وقد طبع فهرستها سنة ١٩٢١ وقت انتخابى عضوا فى أكاديمية العلوم الروسية وتكلم فى تقدير علمى ثلاثة من أعضاء الأكاديمية الأخصائيين فى علوم المشرقيات ، وقد طبع تقريرهم مع الفهرست المذكور ولذلك اكتفيت بالإشارة إليه. ودوائر أبحاثى ثلاث : الأولى منها تاريخ الشعر العربى ونقده منذ قديم الزمان إلى أيامنا هذه ، والثانية آداب اللغة العربية بين نصارى العرب ، والثالثة تاريخ آداب اللغة العربية منذ نهضتها الأخيرة فى القرن التاسع عشر. وهذا الموضوع الأخير مما أفتخر به فإنى أول من كتب بالروسية فيه ، وقلّ من كتب عنها من المستشرقين فى أوروبا. ولذلك قرظ مؤلفاتى تقريظا حسنا المرحوم مارتين هارتمان (Martin Hartmann) الذى كان مطلعا على أحوال العرب الأدبية بمشاهداته الشخصية والإقامة بين أظهرهم.

ورجائى الآن أن أواصل أبحاثى فى هذه الدوائر الثلاث وأن يتيسر لى طبع ما تراكم لدى من الآثار الأدبية والأبحاث والمقالات. فهذه أمنيتى الوحيدة والرجاء أن يبلغنى تعالى سؤلى وإن مع العسر يسرا وكل ضيق فإلى فرج قريب» (١).

هذا وقد استمر كراتشكوفسكى يوالى نشاطه العلمى بالتدريس فى الجامعة وبأكاديمية العلوم السوفيتية ناشرا أبحاثه العديدة القيمة فى دراسة الإسلام والحضارة العربية ومتمتعا باحترام وتقدير الدوائر العملية فى العالم بأجمعه. كما لن ينسى له مواطنوه. وتلامذته ما أبداه من شجاعة وإنكار للذات أثناء حصار الألمان لمدينة لينينغراد فى الحرب الأخيرة. وإذا كان المجال لا يتسع للكلام على مؤلفاته العديدة فإنه لا يسعنى فى هذا الصدد إلا أن ألفت النظر إلى كتابين من كتبه المتأخرة نالا شهرة عالمية واسعة ، أحدهما هو «بين المخطوطات العربية» (١٩٤٥) Nad Arabiskimi Rukopisiami الذى ترجم إلى عدة لغات ، والآخر «من تاريخ الاستعراب الروسى» (١٩٥٠) Ocherki po istorii Russkoi Arabistiki (٢). وقد وافت المنية المستعرب الكبير فى الرابع والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٥١.

وتقديرا لمجهوده العلمى وخدمته الكبرى للعلم السوفيتى فقد قرر مجلس وزراء الاتحاد السوفيتى بتاريخ ٥ أبريل ١٩٥١ ، وبريزيديوم أكاديمية العلوم السوفيتية بتاريخ ١٣ أبريل من نفس العام ، طبع «منتخبات آثار الأكاديمى ا. ى. كراتشكوفسكى» Izbrannye Sochinenia Krachkovskogo ، فظهرت فى ستة أجزاء فى الفترة بين عامى ١٩٥٥ و ١٩٦٠ ، وأشرف على نشرها نخبة من كبار علماء الاستشراق السوفيتى من تلامذة العلامة الكبير وزملائه.

__________________

(*) آثرت إيراد النص كما كتبه المؤلف نفسه دون إحداث أية تغييرات فيه لإعطاء فكرة عن أسلوبه فى الكتابة بالعربية ، فقط أضفت صورة الأعلام بالحروف اللاتينية بين قوسين ليسهل نطقها. (المترجم)

(**) لجأت على طول الكتاب إلى كتابة الألفاظ الروسية بالحروف اللاتينية ليسهل فهمهما على القارئ. (المترجم)

٥

ومن أهم آثاره التى ظهرت فى هذه المجموعة هذا الكتاب الذى نقدم ترجمته العربية إلى القراء ، أعنى «تاريخ الأدب الجغرافى العربى» ، الذى أعجلت الوفاة المؤلف من أن يتمه. وهو يكوّن الجزء الرابع من «منتخبات آثار كراتشكوفسكى» ويرى النور لأول مرة فى هذه الطبعة التى ظهرت فى عام ١٩٥٧ ، أى بعد أكثر من ستة أعوام من وفاة المؤلف.

ـ ٢ ـ شغل الاهتمام بالجغرافيا العربية مكانة مرموقة فى النشاط العلمى لكراتشكوفسكى ، خاصة فى العشرين عاما الأخيرة من حياته. وقد اهتم كراتشكوفسكى بالجغرافيا عامة منذ سنى حياته العلمية الأولى فاتتخب عضوا فى الجمعية الجغرافية الروسية منذ عام ١٩٠٩ ، وأصبح نائبا لرئيسها فى عام ١٩٣٩ واستمر يشغل هذا المنصب إلى عام ١٩٤٥. هذا الاهتمام بالجغرافيا إلى جانب معرفته العميقة بالأدب العربى وبالحضارة الإسلامية جعلت منه أنسب شخص للقيام بذلك العمل الجبار ، وهو كتابة تاريخ علم الجغرافيا فى الإسلام.

وقد أحس الدارسون دائما بمسيس الحاجة إلى مؤلف تركيبى (synthetic) ضخم يسد ذلك النقص ، خاصة وأن كتاب رينوReinaud قد طال عليه العهد ولم يعد يفى بمطالب البحث المعاصر ، أضف إلى هذا أن المقالات والأبحاث المتفرقة لكبار المستشرقين الذين اهتموا بالجغرافيا الإسلامية مثل نالينوNailino ومينورسكى Minorsky ومجيك Mzik وهونجمان Honigmann الخ لم يكن من شأنها أن تغنى عن دراسة جامعة تتناول جميع أطراف الموضوع.

لكل هذا فقد كانت الدوائر العلمية فى الاتحاد السوفيتى تنتظر بفارغ الصبر إتمام كراتشكوفسكى لسفره الضخم الذى أخذ فى تأليفه أعواما طويلة. وزاد إشفاق الجميع على مصير الكتاب عندما اخترمت المنية المستعرب الكبير قبل أن يرى الكتاب النور. بيد أن اهتمام الدوائر العلمية فى الاتحاد السوفيتى قد كلل بالنجاح فخرج الكتاب فى طبعة قشيبة فى عام ١٩٥٧. وأثناء وجودى بموسكو حدثنى كثيرا عن هذا الكتاب المستشرقان المرحوم زاخودرZachoder والأستاذ بليايف Beliaev ، فكنت أنتظر على أحر من الجمر ظهور الجزء الرابع من «منتخبات آثار كراتشكوفسكى» الذى يضم بين دفتيه هذا الأثر العلمى الهام.

وما كدت أنتهى من قراءته حتى خرجت بنتيجة مؤداها أن هذه هى فعلا الدراسة التى كان يترقبها الجميع لتسد النقص الكبير فى عالم الاستعراب والدراسات العربية.

وهنا صح منى العزم على نقله إلى العربية حتى لا يحرم أبناؤها من التعرف على جانب هام من التراث الإسلامى. ولأول وهلة اصطدمت بعقبات هائلة ، إذ إلى جانب وعورة أسلوب الكتاب

٦

فإنه يعتمد على مصادر ودراسات لا يحصيها العد ولم يكن بمقدورى أن أرجع إليها حيث كنت أقيم. ورغما عن هذا فقد استخرت الله وأخذت فى ترجمة الكتاب ، واغتنمت فرصة زيارتى للقاهرة مرتين فى عامى ١٩٥٩ و ١٩٦١ فراجعت النصوص التى أوردها المؤلف وصححت بعض الأوهام.

أما الترجمة فقد توخيت فيها الدقة التامة والتمسك بالنص ، ربما على حساب الأسلوب أحيانا ، إذ كان كل جهدى موجها إلى نقل ألفاظ المستعرب الكبير كما هى ؛ ولم أحدث فيه أية تغييرات سواء بالحذف أو الزيادة. ورغبة فى توضيح اللفظ العربى المترجم فقد وضعت إلى جانبه فى حالات قليلة ما يعادله بالإنجليزية أو الفرنسية. أما الأسماء الأعجمية فقد زودتها بأشكالها بالحروف اللاتينية إلى جانب الشكل العربى ، كما اقتصرت فى تعليقى على حالات نادرة. وإلى جانب هذا فقد بينت أرقام صفحات المتن الروسى على هامش هذه الترجمة لتسهل المراجعة على من يبتغى ذلك.

وبعد فأرجو أن يجد القارئ العربى فى هذا الكتاب ضالته المنشودة وأن يكون فاتحة عهد جديد فى نقل مؤلفات المستعرب الكبير إلى لغة الضاد. والله المستعان.

الخرطوم ١٩٦١

صلاح عثمان هاشم

٧

مقدّمة الناشر

يتضمن الجزء الرابع من «منتخبات آثار الأكاديمى ا. ى. كراتشكوفسكى» بحث هذا العلامة فى تاريخ الأدب الجغرافى العربى ، وهو يرى النور لأول مرة بظهور هذا الجزء. ولم يطبع منه قبل ذلك سوى فصول متفرقة (هى الأول والثانى والثالث والتاسع والعشرون والحادى والعشرون والثالث والعشرون) ظهرت إما كاملة أو مبتورة على هيئة مقالات مستقلة فى نشرات أكاديمية العلوم السوفيتية المختلفة ولكن بدون الإشارات المفصلة إلى المراجع كما هو الحال مع هذه الطبعة.

ومسودة الكتاب محفوظة فى أرشيف كراتشكوفسكى فى نسختين ، إحداهما بخط يده والأخرى صورة طبق الأصل منها منقولة بالآلة الكاتبة. وقد تناول المؤلف النسخة الثانية أى المطبوعة بالآلة الكاتبة بيد التصحيح وضبط الأعلام وأجرى قلمه فى حالات معينة بإضافات وتعديلات تتعلق فى الغالب بالمراجع. وقد يقتصر المتن أحيانا على ذكر اسم بحاثة أو آخر دون الإشارة إلى بحثه أو مؤلفه أو الموضع منه الذى يشير إليه مؤلفنا.

وسوى هذا فقد حفظت لنا بين مخلفات العلامة الكبير مجموعة البطاقات المختصة بهذا الكتاب وهى تحتوى على ثبت المراجع التى استعان بها فى بحثه. وقد تضم البطاقات إلى جانب ذلك عرضا وجيزا للمادة ، وهى ليست مرقمة أو مرتبة حسب حروف المعجم.

وقد استغرق تدوين الكتاب الفترة بين عامى ١٩٣٨ و ١٩٤٥ مع بعض التوقف أثناء الحرب وأثناء حصار لينينغراد. غير أن اهتمام كراتشكوفسكى بدراسة الأدب الجغرافى العربى بدأ منذ الأيام الأولى لنشاطه العلمى ، فنراه منذ عام ١٩٠٩ وذلك أثناء رحلته العلمية إلى الشرق العربى يستمع إلى محاضرات فى تاريخ الفلك عند العرب كان يلقيها بالجامعة المصرية وباللغة العربية (١) المستشرق الإيطالى الشهير كارلو الفونسو نالينوC.A.Nallino ـ (١٨٦٢ ـ ١٩٣٨) أكبر متخصص فى تاريخ الفلك والجغرافيا الرياضية عند العرب. وقد أفاد المؤلف كثيرا من أبحاثه فى مصنفه هذا.

وبدأ كراتشكوفسكى فى إلقاء محاضرات بالمعهد الشرقى بجامعة بطرسبورغ عقب رجوعه من الشرق تناول فيها مختلف نواحى اللغة ، والحضارة العربية. ومن بين المحاضرات التى ألقاها فى الجامعة فى الفترة ما بين عامى ١٩١٠ و ١٩١٧ تجتذب الانتباه بوجه خاص محاضراته بعنوان «نظرة إلى الأدب الجغرافى العربى مع مطالعة نصوص مختارة منه» (٢) Obzor Arabskoi geograficheskoi Lileratury s chteniem izbrannykh otryvkov وهو عين الموضوع الذى عالجه بالتالى فى العام الدراسى ١٩٣٥ ـ ١٩٣٦ بعنوان «أدب التاريخ والجغرافيا عند العرب» Arabskia Istoriko ـ (٣) geograficheskia Literatura.

٨

وقد رجع كراتشكوفسكى فى تحضير دروسه هذه إلى أهم المؤلفات التى ظهرت فى الموضوع (٤) كما قام بعمل ترجمات للمقتطفات التى انتقاها بنفسه من النصوص العربية ليسهل فهمها على تلامذته : وقد ضمّن المؤلف هذه الترجمات كتابه هذا لإعطاء فكرة عن أسلوب ومنهج كل مؤلف على حدة.

وهكذا عن تلك المحاضرات فى الأدب الجغرافى العربى التى ألقاها الأكاديمى كراتشكوفسكى بالجامعة ولد هذا الكتاب وترعرع على مدى نيف وأربعين عاما كان يتعهده خلالها بالزيادة ويتناوله بيد التعديل معتمدا فى ذلك على ما يجدّ من مواد واكتشافات طالما لعب هو نفسه دورا فعالا فى إماطة اللثام عنها.

ويبدو جليا من مقدمة المؤلف لكتابه ، وهى التى فرغ من تحريرها عقب تدوينه للفصل الثالث والعشرين ، أنه كان يود متابعة تأريخه للأدب الجغرافى العربى إلى أيامنا هذه ، إلا أنه لم يظهر فى الواقع بعد المقدمة سوى فصل واحد هو الفصل الرابع والعشرون الذى يعالج القرن الثامن عشر فى حين كانت فكرة المؤلف الأساسية هى أن يضيف إلى ذلك فصلين أو ثلاثة يسوق فيها الكلام على العصر الحديث. ولكن لم يقدر له تحقيق هذه الأمنية إذ عاجلته المنية فى الرابع والعشرون من شهر يناير عام ١٩٥١. وهذا يوضح لنا السبب فى أن الكتاب ينقصه القسم الخاص بالقرن التاسع عشر كما ينقصه أيضا الفصل الختامى الذى كان سيعرض فيه المؤلف الاستقراءات العامة التى يمكن استخلاصها من الكتاب فى مجموعه.

لقد حظى تاريخ الأدب الجغرافى العربى بدراسات عامة وأبحاث خاصة ليست بالقليلة ، ابتداء من المصنف الكلاسيكى للمستشرق الفرنسى رينوReinaud. وفى العشرات الأولى من هذا القرن نما هذا المجهود بشكل ملحوظ بفضل الأبحاث الممتازة لبارتولد ومينورسكى وكرامرس Kramers وروسكاRuska وفيرّان Ferrand وغيرهم من كبار المتخصصين فى ميدان الجغرافيا التاريخية عند العرب. غير أن مصنف كراتشكوفسكى يحتل مكانة ممتازة بين جميع هذه المؤلفات.

نال كراتشكوفسكى الشهرة فى الدوائر العملية كمستعرب واسع الأفق متعدد النواحى تناول جميع أطراف الحضارة العربية بالدرس والاستقصاء واهتم بجميع مظاهرها الكبيرة والصغيرة ، ابتداء من دراساته العميقة عن المتنبى وأبى العلاء إلى جمعه الحكايات الشعبية من بلدة الناصرة. وكان يعتقد اعتقادا جازما أن حضارة شعب ما إنما تتألف من جميع تلك العناصر المختلفة وأنه يجب لتفهمها تحديد مكانة كل ظاهرة فى التطور العام لتلك الحضارة وتبيان الروابط العضوية التى تجمع بينها. لذا فقد رأى فى الأدب الجغرافى بالذات عنصرا أساسيا فى الأدب العربى يجب معالجته من وجهة نظر تاريخ الأدب العربى والحضارة العربية ؛ ومدلول «الحضارة العربية» لديه واسع للغاية وهو قد استعمله للتعبير عن جميع أوجه النشاط الثقافى لشعوب الشرق الأدنى فلم يقتصر على العرب وحدهم بل أدخل شعوب آسيا الوسطى والقوقاز كما أدخل الإيرانيين والأتراك والسريانيين وغيرهم (٥).

٩

ويوكد المؤلف أكثر من مرة خلال الكتاب وفى المقدمة أن المنهج الذى اتبعه هو المنهج الفيلولوجى (Philological) وأنه ليس من غرضه كتابة تاريخ علم الجغرافيا أو تاريخ الاستكشافات الجغرافية عند العرب. وهو يولى نصيبا متعادلا من الاهتمام لكل من أدب الدوائر العلمية والأدب الشعبى حتى إنه لم يهمل قصص الرحلات التى تحمل طابعا أدبيا صرفا بل وأسطوريا. ورغما من هذا فلا يخلو الأمر من حالات تطرق فيها المؤلف إلى الكلام على تاريخ الجغرافيا العلمية والاستكشافات الجغرافية العربية فقدم لنا لوحة رائعة لهذا الفرع من العلوم عند العرب وبين الدور الخطير الذى لعبوه فى تطوير علم الجغرافيا جنبا إلى جنب مع الفرس والترك الذين ارتبطوا ارتباطا وثيقا بالثقافة العربية. ويبدو هذا واضحا غاية الوضوح عند كلام المؤلف على شخصيات مثل الخوارزمى وألوغ بيك (الفصل الثالث) والبيرونى (الفصل التاسع) وأحمد بن ماجد دليل فاسكو؟؟ داغاما (الفصل العشرون) الذى كشف كراتشكوفسكى عن ثلاثة من مصنفاته فى معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية (٦) ، أو مثل پيرى ريس وغيرهم من ممثلى الجغرافيا العلمية الكثيرين.

ويقدم المؤلف عرضا منظما للأدب الجغرافى ابتداء من ظهور التصورات الجغرافية الأولى عند العرب التى نلتقى بها فى أقدم آثار الشعر الجاهلى وفى القرآن ، ثم يتتبع ميلاد الجغرافيا الرياضية عند العرب معتمدا فى ذلك على المصادر الأصلية وعلى الدراسات الحديثة ويبحث مسألة علاقتها بالعلم اليونانى والهندى ؛ ويلى هذا فحص مفصل لميلاد بقية فروع الجغرافيا الأخرى مثل الجغرافيا الوصفية والرحلات والجغرافيا البحرية والجغرافيا العامة والإقليمية الخ مع ذكر مراكزها ومدارسها واتجاهاتها وأنماطها المختلفة.

وهو فى خلال ذلك يترجم لمعظم الشخصيات الكبيرة وأصحاب الأصالة ويوضح الروابط والمؤثرات التى تركت أثرها عليهم. ونتيجة لتحليله الدقيق لعدد هائل من مصنفات ما يزيد على ستين مؤلفا فقد استطاع كراتشكوفسكى أن يحدد درجة الثقة التى تتمتع بها مادتهم ومدى أهمية تلك المادة كمصدر لدراسة الجغرافيا التاريخية للأقطار التى تكلموا عنها. ويحتوى الكتاب إلى جانب هذا على ثبت بالمراجع يكاد يستغرق جميع المادة المتعلقة بهذا الموضوع ابتداء من العصور الوسطى إلى أيامنا هذه مع تقدير نقدى للمتون التى نشرت والأبحاث العلمية التى عملت حولها ؛ وينطبق هذا القول أيضا على الفصلين التاسع عشر (١) والحادى والعشرين المفردين للأدب الجغرافى الفارسى والتركى الذى يعالجه المؤلف بالقدر الذى يتلاءم مع ارتباطه بالأدب العربى.

إن هذا الأثر العظيم الذى ألفه كراتشكوفسكى قريبا من نهاية نشاطه العلمى ليقف فريدا فى ميدان الاستعراب العلمى لما يتصف به من سعة المادة سواء فيما يتعلق بالمصادر الأولى أو الأبحاث

__________________

(*) فى المتن الروسى ورد السادس عشر سهوا بدلا من التاسع عشر. (المترجم)

١٠

العملية ، ومن المتوقع أن يصبح نموذجا يحتذى فى عمل دراسات تركيبية من هذا الصنف تتناول الفروع المختلفة لتاريخ الأدب العربى.

وبعد فيمكننا أن نستخلص النتائج الآتية من دراسة هذا الكتاب :

(١) اعتمادا على مادة علمية ضخمة استطاع المؤلف ، دون سائر من سبقوه ، أن يوكد مكانة الحضارة العربية فى تاريخ البشرية والدور المرموق الذى لعبه علم الجغرافيا العربى فى هذا الميدان.

(٢) لقد حالف التوفيق المؤلف إلى أقصى الحدود فى أن يدلل على أن ممثلى حضارات آسيا الوسطى (تركستان) والقوقاز وإيران وتركيا وغيرها من الأقطار الإسلامية قد أسهموا فى تشييد هذه الحضارة وأنه قد برز من بينهم علماء كبار فى ميدان الجغرافيا العربية.

(٣) وأخيرا يتبين لنا أن المؤلف قد انتهج منهجا علميا دقيقا إذ أن دراسته العميقة لجميع الآثار الكبرى فى الأدب الجغرافى قد أثبتت أنه من الممكن استخراج مادة واقعية تساعد إلى حدما فى دراسة المسائل المتعلقة لا بالجغرافيا التاريخية وحدها بل أيضا بعلم الآثار وعلم الأجناس الخ ، وذلك من أكثر المصادر إغرابا وخيالا ، أى كتب «العجائب» Mirabilia. بيد أن أهمية كتاب كراتشكوفسكى لا تقف عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى ما أبعد من ذلك ، فهو قد كشف النقاب عن مسائل عديدة يجب أن يعنى العلم السوفيتى ببحثها وإيجاد الحلول لها. ونأمل أن يكون فى نشر هذا الكتاب حافزا قويا إلى ظهور أبحاث عديدة تتناول نقاطه المختلفة.

ومنذ أن فرغ المؤلف من كتابه هذا ظهر عدد من الأبحاث العلمية تتناول موضوعات شتى ، من ذلك ظهور طبعة جديدة لمتن الغرناطى من عمل دوبلرDubler (٧) ، وظهور الترجمة الفرنسية لتاريخ دمشق لابن القلانسى (٨) ، ومقالات عباس العزاوى عن على ريس وتاريخ الفلك فى العراق (٩) ، ودراسة عمر فرّوخ لابن خلدون (١٠) الخ. ولم يكن فى مقدور المؤلف بالطبع أن يطلع عليها جميعها ، وكان من الممكن فى حالات معينة أن تعاون فى استكمال الفصول الخاصة بذلك فى الكتاب. بيد أن الاستقراءات الأساسية التى يمكن استخلاصها من الكتاب لم تتأثر فى جوهرها بظهور تلك الدراسات.

وتعتمد هذه الطبعة على النسخة الأصلية المطبوعة بالآلة الكاتبة ، وروجعت على نسخة المؤلف المكتوبة بخط يده وضمت إليها مجموعة البطاقات التى خلفها المؤلف والتى تحتوى على بعض الزيادات ؛ وقد بذل الناشرون جهدهم فى جمع هذه البطاقات وترتيبها وفقا لحروف المعجم. وتم طبع المتن دون إحداث أية تغييرات ، وفى مواضع متفرقة منه فقط استبدلت بعض ألفاظ بأخرى أو أعيدت صياغتها ابتغاء المزيد من الوضوح. هذا وقد نقلت الحواشى الموجودة فى أسفل الصفحات والتى تشير إلى المراجع عن مخطوطة المؤلف بحذافيرها وتمت مراجعتها على ضوء البطاقات ؛ كما استكمل

١١

الناشرون الحواشى الناقصة والمفقودة ولكنهم خشية إثقال المتن لم يجدوا ضرورة إلى الإشارة إلى تلك الزيادات (١). ولنفس السبب احتفظ الناشرون ما أمكن بالاختصارات (Abbreviations) التى استعملها المؤلف أو استعاضوا عنها بأخرى من عندهم إن لم يجدوها. وأضيف إلى الكتاب فهرس بالمراجع يحوى ثبتا بالاختصارات وثبتا بأسماء الكتب التى رجع إليها المؤلف ، ثم يلى هذا فهارس أسماء الأعلام والأسماء الجغرافية والأثنوغرافية ، فأسماء المصادر من شرقية وغربية ، وأخيرا يأتى فهرس الموضوعات والمصطلحات. وآخر فهرس موجود بالكتاب هو فهرس الصور والرسومات التى انتقتها من أجل الكتاب السيدة ف. ا. كراتشكوفسكايا ؛ وقد عملت على اختيار النماذج من المخطوطات الموجودة بالاتحاد السوفيتى

أما الألفاظ والمصطلحات العربية التى نقلها المؤلف كما هى ووضعها جنبا إلى جنب مع ترجمتها الروسية فقد ضبطت بالحروف الروسية (Transcription) وفقا للطريقة التى انتهجها كراتشكوفسكى نفسه فى كتابة الألفاظ العربية بالحروف الروسية (١١) ..

هذا وقد قام بإعداد هذا الجزء الرابع من «منتخبات آثار الأكاديمى كراتشكوفسكى» وتهيئته للطبع ف. ا. كراتشكوفسكايا (٢) وا. ا. ميخايلوفاA.A.Mikhailova يعاونهما ف. ا. بليايف V.A.Beliaev وا. ا. بيكوف A.A.Bekov ول. ز. بيساريثمسكى L.Z.Pisarevski ، وجميعهم من المتخصصين فى الدراسات العربية والإسلامية. أما الصور والرسوم البالغ عددها خمسا وتسعين والتى قامت بانتقائها ف. ا. كراتشكوفسكايا فتشمل إلى جانب صورة المؤلف نماذج من مخطوطات الكتب التى تحدث عنها المؤلف فى صلب كتابه (وهى مأخوذة من مجموعة معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية ، ومن مجموعة جامعة لينينجراد ومجموعة مكتبة م. ى. سالتيكوف ـ شيدرين M.E.Saltykov ـ Shchedrin الخ) كما تشمل أيضا صورا لنباتات وحيوانات ومناظر طبيعية وأجهزة فلكية وأجرام سماوية (٣) الخ.

وقد قام بالتقاط الصور مؤسسة «لافوكى» LAFOKI وس. غ. غاسيلوف S.G.Gasilov ومعمل تصوير جامعة لينينجراد. أما الفهارس فقد قام بإعدادها س. ن. سكلوف S.N.Sokolov وپ. ا. جريازنيقتش P.A.Griaznevich.

غ. تسرتيلى

G. Tsereteli

__________________

(*) رأينا من الأفضل جمع الحواشى المتعلقة بكل فصل ووضعها فى آخره بدلا من ـ تركها فى أسفل كل صفحة كما فعل الناشرون. (المترجم)

(**) زوج المؤلف وهى عالمة سوقيتية ذات شهرة عالمية فى ميدان النقوش الإسلامية ولا تزال على قيد الحياة. (المترجم)

(+) جميع هذه الصور لا تمثل شيئا ذا أهمية بالنسبة للقارئ الشرقى ، لذا فقد طوينا عنها كشحا. (المترجم)

١٢

حواشى مقدمة الناشر

__________________

(١) ـ Cf : Ignati Iulianovich Krachkovski, Materialy K biobibliografii utchenykh SSSR, M ـ L., ٩٤٩١, P. ٧

(٢) شرحه ص ١٦٢

(٣) شرحه ص ١٦٢

(٤) منال دلك أنه فى المنهج الدراسى ١٩١٥ ـ ١٩١٦ لمعهد اللغات الشرقية بجامعة بتروغراد ذكر المراجع الآتية لدراسة الأدب الجغرافى العربى :

١ ـ M. Reinaud, Géographie d\'Aboulféda, T. I, Paris, ٨٤٨١.

٢ ـ L. M. Devic, Coup D\'oeil sur La Littérature géographique arabe au Moyen age, Paris, ٢٨٨١.

Carl Brockelmann, GAL, Berlin ٨٩٨١ ـ ٢٠٩١.

أما النصوص فمن كتاب دى خويه :

De Geoje, Selections from Arabic Geographical Literature, Leiden, ٧٠٩١.

(٥) تعرض كراتشكوفسكى لهذا بالتفصيل منذ عام ١٩١٢ وذلك فى نقده لبحث تومانسكى :

A. G. Tumanski,» Arabski lazyk i Kavkazovedenie «(Mir Islama, I, ٢١٩١, p. ٧٣٢) , ـ Arabskia Literatura, Literatura Vostoka, Sbornik Statei, ٩١٩١, p. ٤٢

.

ـ Arabskia Poezia, Vostok, ٤, ٩٢٩١, p. ٧٩.

(٦) راجع كراتشكوفسكى «بين المخطوطات العربية» ، موسكو ـ لنينغراد ، ١٩٥٥ ، ص ٧٦ ، ٧٨ (بالروسية)

(٧) ـ Abu Hamid el Granadino y su relaicün de Viaje Por Tierras Eurasiaticas, Por César E. Dubler, Madrid, ٣٥٩١.

(٨) ـ Damas de ٥٧٠١ a ٤٥١١ par Roger Le Tourneau, Damas, ٢٥٩١.

ونقده لجعفر الحسنى ، مجلة المجمع العلمى العربى ، ١٩٥٤ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥

(٩) عباس العزاوى ، مجلة المجمع العلمى العربى ، ١٩٥٤ ، ص ٨٩ ـ ١٠٣

(١٠) عمر فروخ ، مجلة المجمع العلمى العربى ، ١٩٥٤ ، ص ٦٧ ـ ٧٦ و ٢٠٣ ـ ٢١٤

(١١) كراتشكوفسكى ، أبو الفرج الوأواء الدمشقى ، بطرسبرغ ١٩١٤ ، ص ١٠ (بالروسية) : وأيضا بحثه : حكايتان عربيتان من الناصرة ، منشورات الجمعية الفلسطينية الروسية ، لنينغراد ١٩٢٦ ، ص ٢٨ ـ ٤١.

راجع الجزء الأول من «منتخبات آثار كراتشكوفسكى» موسكو ـ لنينغراد ١٩٥٥ ، ص ٧ ـ ٨.

١٣

مقدمة المؤلف

إن هذا المصنف الذى أخذ أعواما طويلة ليقف على قدميه إنما يعتمد فى الأصل على مواد المحاضرات التى ألقيتها بجامعة بطرسبرغ ثم بجامعة لينينغراد فى فترات متباينة ابتداء من عام ١٩١٠. وليست الغاية الأساسية منه تقديم عرض عام لتاريخ الجغرافيا بقدر ما قصد به عرض تاريخ الأنماط الأدبية المرتبطة بعلم الجغرافيا فى صورة أو أخرى ؛ وهو يهدف إلى جانب هذا تبيان الخطوط العريضة لتطور هذه الأنماط ابتداء من الإيماءات الأولى فى الشعر الجاهلى حتى أيامنا هذه.

والكتاب يقدم فى آن واحد نصيبا متكافئا لكل من الأدب العلمى والأدب الشعبى ، ويجهد فى أن يلم بأطراف الجغرافيا الرياضية والوصفية كما جهد فى الإحاطة بالجغرافيا العامة والإقليمية ، وهو لا يهمل قصص الرحلات حتى تلك التى تحمل طابعا أدبيا صرفا بل وأسطوريا.

وبالرغم من أننا لم نهمل عند فحصنا للآثار الأدبية علاقتها بعلم الجغرافيا وتاريخ الاكتشافات الجغرافية ، وبالرغم أيضا من أن العرض العام قد سار على ضوء التطور العام للثقافة العربية إلا أن المنهج الذى اتبع هو المنهج الفيلولوجى الذى يهدف قبل كل شىء توضيح طبيعة الظواهر الأدبية وتطورها. وهو بهذا يقف فريدا فى هذا الميدان ، وقد تدنو منه من حيث الفكرة العامة أقسام متفرقة من كتاب رينوReinaud الذى جاوز عمره قرنا من الزمان تجمعت خلاله مادة غزيرة وتقدم فيه منهج البحث فى الفيلولوجيا العربية. وقد دعت الحاجة لتوضيح دور الأدب الجغرافى العربى فى تأثيره على الشرق والغرب إلى أن أفرد فصلين مستقلين للأدب الجغرافى الفارسى والتركى ، واهتم بمعالجة الأمثلة البارزة لانتقال التراث الثقافى فى ميدان الجغرافيا إلى أوروبا الغربية.

وبالرغم من أن تبييض الكتاب قد بدأ قبل الحرب الوطنية (١) ، إلا أن العمل فيه قد سار بنسبة أسرع أثناء حصار لينينغراد عام ١٩٤١ ـ ١٩٤٢. وكنت قد فرغت قبل الحرب من تدوين سبعة فصول فقط إلى جانب الفصلين اللذين تشتمل عليهما المقدمة. وتضم هذه الفصول التسعة الأولى الفترة من القرن السادس إلى القرن الثانى عشر وتحتوى على نحو اثنتى عشرة ملزمة طباعية. وفى أثناء الحرب ، وذلك ابتداء من يوليو ١٩٤١ إلى لحظة مغادرتى مدينة لينينغراد فى آخر يوليو ١٩٤٢ أضيفت إلى هذه الفصول التسعة أربعة عشر فصلا أخرى ، وبهذا توقف الكتاب عند الفصل الثالث والعشرين المفرد لمعالجة القرن السابع عشر والذى يرد فيه الكلام فيما يرد على رحلة مكاريوس

__________________

(*) يطلق اسم الحرب الوطنية فى الاتحاد السوفيتى على الكفاح العنيف فى الجبهة الشرقية أثناء الحرب العالمية الثانية بين الألمان والسوفيت. (المترجم)

١٤

الأنطاكى إلى روسيا فى عهد الكسى ميخايلوقتش. كما وقد تم أيضا إعداد مواد الفصل الرابع والعشرين الذى يبحث فى الآثار الأدبية فى ميدان الجغرافيا فى القرن الثامن عشر. وهكذا قفز عدد الصفحات المعدة للطباعة إلى أربعين ملزمة طباعية.

ولإتمام هذا الكتاب ، وهو أمر لا يتسنى إلا بلينينغراد ، يتحتم إلقاء ضوء على العصر الحديث (القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) (١) ، الذى يحتاج فى أغلب الظن إلى ثلاثة أو أربعة فصول أخرى. ولا تزال محتاجة إلى إكمال الملاحظات وثبت المراجع الذى سيرد فى آخر الكتاب حينما يكتمل عقده. فإذا أمكن تنفيذه هذه الكفرة الأصلية بالصورة المرجوة لها فإن هذا الفرع من فروع الثقافة الإسلامية يكون قد حظى إذا لأول مرة بدراسة واسعة تتناول جميع المادة المدونة. ولم يقصد بالكتاب المستعربون وحدهم بل قصد به كذلك مؤرخو الأدب والجغرافيون ومؤرخو الحضارة عامة.

موسكو فى ١٠ / ١٠ / ١٩٤٣

ا. ى. كراتشكوفسكى

__________________

(*) لعله يقصد (التاسع عشر والعشرين). (المترجم)

١٥
١٦

مدخل

١ ـ عرض عام

ان المكانة المرموقة التى تشغلها الحضارة العربية فى تاريخ البشرية لأمر مسلم به من الجميع فى عصرنا هذا ؛ وقد وضح بجلاء فى الخمسين عاما الأخيرة فضل العرب فى تطوير جميع تلك العلوم التى اشتقت لنفسها طرقا ومسالك جديدة فى العصور الوسطى ولا زالت حية إلى أيامنا هذه ـ أعنى علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا. أما فيما يتعلق بالأدب الفنى العالمى فإن العرب قد أسهموا فيه بنصيب وافر يمثل جزءا أساسيا من التراث العام للبشرية ، كما امتد تأثيرهم كذلك إلى عدد كبير من المصنفات والفنون الأدبية التى نشأت فى بيئات غير عربية.

وبالطبع ليس فى وسع جميع الفنون المختلفة للأدب العربى الحافل أن تدعى لنفسها مكانة واحدة من حيث القيمة ومن حيث الأهمية العلمية ؛ وإذا كان بعضها مثل علم اللغة والعلوم الشرعية يمثل موضوعا لدراسات المتخصصين ، الأمر الذى لا يمنع بالطبع من أهمية استقراءاتهم فى حالات معينة بالنسبة للنواحى العريضة فى تاريخ الحضارة ، إلا أن عددا من فروع الأدب العربى قد اكتسب أهمية تجاوزت بكثير حدود اختصاصاته الضيقة. ولعل هذا يصدق قبل كل شىء على الأدب التاريخى والجغرافى العربى الذى اعترف العلماء به منذ عهد بعيد بأنه المصدر الأساسى والموثوق به فى دراسة ماضى العالم الإسلامى ، إذ تتوفر فيه مادة لا ينضب معينها لا للمؤرخ أو الجغرافى فحسب ، بل أيضا لعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخى الأدب والعلم والدين ، وللغويين وعلماء الطبيعة. ولا يقتصر محيط الأدب الجغرافى العربى على البلاد العربية وحدها بل يمدنا بمعلومات من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التى بلغها العرب أو التى تجمعت لديهم معلومات عنها ، وذلك بنفس الصورة المتنوعة التى وصفوا بها بلاد الإسلام. وقد يحدث أحيانا أن تمثل المادة الجغرافية العربية إما المصدر الوحيد أو الأهم لتاريخ حقبة معينة لقطرما. فمثلا فيما يتعلق بتاريخ إيران فى عهد الساسانيين ـ وهو نفس العصر الذى تمثله تلك الآثار البديعة المحفوظة لدينا بمتحف الارمتاج Ermitage بلنينغراد ـ نجد أن المادة الأساسية قد حفظها لنا المؤلفون العرب. لذا فليس من الغرابة فى شىء إذا صرحنا بأن هذا الأدب يوشك أن يكون المعين الأول الذى يرده مختلف المتخصصين من غير المستعربين وأن يصل الاهتمام به إلى درجة عالية. هذا الاهتمام يبرره الغنى الهائل لهذا الأدب ؛ ولتكوين فكرة عن ضخامته نذكر مثلا أن مؤرخ الأندلس الذى عاش فى القرن السابع عشر وهو المقرّى قد أورد أسماء مائتين وثمانين شخصا

١٧

عندما أراد وضع قائمة باسماء الاندلسيين الذين رحلوا إلى المشرق فى طلب العلم وحده وليس بغرض التجارة أو الحج ، معترفا رغما عن ذلك بأنه لم يستوعب كل الأسماء (١). ويزيد فى الاهتمام بالأدب الجغرافى أحيانا طابعه الفنى الحى ، ويكفى أن نتذكر فى هذا الصدد مصنفات من طراز أسفار السندباد ، تلك القصص الجغرافية الفريدة فى نوعها.

ويمكن بوجه عام تمييز اتجاهين أساسيين فى الأدب الجغرافى العربى ، فهو من ناحية يولى وجهه شطر العلوم ، أعنى العلوم الدقيقة وذلك بالمعنى الذى نفهمه حاليا إذا ما أردنا تحديد علم الجغرافيا ؛ ومن ناحية أخرى فهو يولى وجهه شطر الأدب الفنى بالغا ببعض آثاره فى هذا المجال ذروة الإبداع. وقد أدرك العرب أنفسهم هذا الطابع المزدوج لعلم الجغرافيا وبينوه بدقة فى تصنيفهم للعلوم. وهم قبل أن يتوصلوا إلى وضع التصنيف على أسس منطقية صارمة ، بل وقبل أن يتعرفوا على نظام التصنيف الثلاثى Trivium (النحو والبيان والجدل) والرباعى Quadrivium (الحساب والهندسة والفلك والموسيقى) (٢) الذى ساد بالتالى فى أوروبا الوسيطة ، أقول قبل هذا قسم العرب العلوم من وجهة نظرهم الخاصة معتمدين فى ذلك على سير تطورها التاريخى. ففى العهد الإسلامى قسمت العلوم إلى «العلوم القديمة» و «العلوم الحديثة» (٣). فالمجموعة الأولى (وهى اللغة والكلام والفقه والتاريخ) أرجعوا نشأتها إلى العصر الأموى ، أما الثانية (وهى الفلك والرياضة والطب والفلسفة) فإلى العصر العباسى. وقد ضموا الجغرافيا إلى العلوم الدقيقة ، أقرب ما يكون إلى الفلك. وهم لم يتنكبوا الصواب فى ذلك ، ففى الواقع نشأت الجغرافيا الرياضية والفلكية بين ظهرانيهم فى نهاية القرن الثامن أو بداية التاسع الميلادى نتيجة لتعرفهم واتصالهم بالعلوم الهندية أولا ثم اليونانية بعد ذلك حيث طغت فى الأخيرة على جميع المؤثرات شخصية بطلميوس Ptolemaeus (١) بمصنفاته الفلكية الجغرافية. ومنذ ذلك الوقت سار تطور الجغرافيا العلمية عند العرب من غير توقف إلى العصور المتوسطة الأخيرة ، محتفظة على الدوام بصلتها بتقاليد المصنفات الأولى فى هذا الميدان.

وفى موازاة هذا الاتجاه وجد اتجاه آخر تشكل معه فى وقت واحد ، بل وربما تشكل قبله تبعا لبعض المصادر ، أعنى منهج الجغرافيا الوصفية التى يرتبط بها ارتباطا وثيقا قصص الرحلات. وهو من بعض الوجوه ، خاصة فى بداية ظهوره ، يرتبط بعلوم الشريعة وباللغة ثم بالأدب الفنى ، الأمر الذى لم يحل بالطبع دون تشبعه بين آونة وأخرى بالجغرافيا العلمية. ولكن يجب الاعتراف بأن المنهج الثانى ، أى منهج الجغرافيا الوصفية ، هو الذى يسترعى النظر بغزارة مادته وهو الذى يغلب على الأدب الجغرافى العربى ويسبغ عليه طابعه المميز ويعطيه شكله الخاص به مما يصعب إيجاد مثيل له فى آداب الأمم الأخرى. وهذا الطابع المتنوع ، أقول بل هذا التلون فى الأدب الجغرافى العربى ،

__________________

(*) هذه هى الطريقة الصحيحة لكتابة هذا الاسم ، أى أن تسبق الميم الياء لا العكس. (المترجم)

١٨

يضحى أكثر فهما لنا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوامل العديدة التى عاونت على انبعاثه وظهوره.

لقد أدى اتساع رقعة أراضى الخلافة الإسلامية وتدعيم سلطانها فى القرنين الثامن والتاسع إلى ظهور مهام إدارية عديدة خاصة فى محيط الشئون المالية والخراج. وبالطبع كان بمقدور العرب الإفادة من النظم السابقة لهم وهو ما حدث بالفعل ، ففى إيران استطاعوا الإفادة من سجلات خسرو أنوشروان (٥٣١ ـ ٥٧٩) فى مسح الأراضى ؛ وفى مصر نسجوا على منوال النظام البيروقراطى البيزنطى. بيد أن ظروف الأحوال الجديدة استلزمت بدورها جمع معلومات دقيقة محققة عن تقسيم الولايات وعن الأماكن المأهولة والمحاصيل الزراعية والصناعية وتقدير الخراج والضرائب عينية ونقدية. ولهذا الغرض ظهرت كتب خاصة هى «كتب الخراج» التى قصد بها فى أول الأمر إرشاد عمال الخراج ولكنها لم تلبث أن أصبحت فى متناول أيدى الجميع. هذا وقد تطلبت المركزية فى النظام الإدارى الذى تجمعت خيوطه فى بغداد شق طرق جيدة للمواصلات واستيفاء معلومات دقيقة عن تلك الطرق مع تعداد المراحل ومنازل البريد وتحديد المسافات وظروف السفر. ومن أوائل المصنفات التى وصلت إلينا فى هذا كتاب وضعه عامل للبريد بإحدى ولايات الخلافة الهامة.

ثم إن مصالح الدولة ، التى أصبحت أكبر قوة عالمية لذلك العهد ، حالت دون اكتفائها بمعرفة أراضيها وحدها ، بل كان من الضرورى أن تحصل على معلومات دقيقة عن الأقطار الأخرى خاصة المتاخمة لها. وقد ساعد على هذا الحرب والسلم معا ، فالمعلومات قد أتت بها السفارات وأسرى الحرب العائدون إلى أوطانهم ؛ ولأحد هؤلاء ممن كانوا فى أسر البيزنطيين ندين بأول معلومات للعرب لا عن بيزنطة وحدها بل أيضا عن جيرانها من الصقالبة وغيرهم من سكان جنوبى روسيا.

وقد اتخذت الرحلات طابعا جم الحيوية والنشاط منذ القرون الأولى للخلافة ، وكما هو معلوم فإن من فروض الإسلام حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، أى إذا ساعدت الظروف وكانت الطرق مسلوكة. كما استخدمت التجارة الطرق البرية والبحرية على السواء وتأتّى من هذا ربط أقاصى أراضى الخلافة ببعضها البعض ، بل إن التجارة تجاوزت تلك الحدود فجذبت فى فلكها أواسط أفريقيا وشمال شرقى أوروبا وجنوب شرق آسيا ؛ وهى التى ابتدعت تلك الشخصية الخالدة شخصية السندباد البحرى الذى ترتبط أسفاره بالأدب الجغرافى ارتباطا أوثق مما كان يظن من قبل. وهكذا ساعد الدين والتجارة على توسيع مدى الأسفار ، كما ساعد فى هذا المضمار أيضا التعليم ، فقد جاء فى الحديث الشريف «اطلبوا العلم ولو بالصين» ، فأصبح الارتحال فى طلب العلم منذ القرن الأول للهجرة أشبه بالضرورة اللازمة لتكملة «دورة الدراسة». ففى طلب العلم رحل الناس من الأندلس إلى بخارى ومن بغداد إلى قرطبة ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى مثال فقيه أندلسى من القرن الثانى عشر هو أسعد الخير الأنصارى الأندلسى (المتوفى عام ٥٤١ ه‍ ـ ١١٤٦ م) الذى نعت بالصينى لارتحاله إلى

١٩

تلك البلاد النائية (٤). كل هذا أدى لا إلى اتساع مدى المعلومات الجغرافية فحسب ، بل ترك فى الوقت نفسه أثره على الأدب الجغرافى فظهرت أشتات من المصنفات يتناول بعضها أوصاف الطرق بطريقة جافة ويحفل البعض الآخر بالقصص الممتعة التى تسمو أحيانا إلى مرتبة الأدب الفنى الصرف.

ولم يقف الدين عند فريضة الحج بل تطلب اهتماما خاصا بالجغرافيا الفلكية. فتحديد بداية الصوم ونهايته ومواقيت الصلوات الخمس استدعى معرفة جيدة بالفلك والرياضيات (٥). ولتحديد مواقيت الصلاة صنعت الساعات الشمسية الأفقية «البسيطة» التى استلزم تخطيطها معرفة دقيقة بخط عرض المكان المعين ، كما وأن تحديد ظل المزولة فى كل يوم استلزم عملية حسابية ودراية بالأمر (٦). وفى اللحظة التى يتجاوز فيها ظل العصر ظل منتصف النهار بمقدار «مقياس» (Gnomon) يبدأ ما يسمى بوقت العصر (٧). واختلفت القبلة فيما يتعلق بالصلاة أو ببناء المسجد من بلد إلى آخر وارتبط تحديدها بمعرفة خط طول وعرض (Geographical Coordinates) مكة والنقطة المعينة (٨).

ومن المسلم به أن تباين الظروف يؤدى إلى التنوع فى الصور الأدبية ، هذا إذا تركنا جانبا الميل إلى البحث والاستقصاء مما يتأتّى لجميع الشعوب والأجناس. وقد تردد صدى هذا التنوع فى الأسماء العديدة التى أطلقها العرب على علم الجغرافيا. ففيما يتعلق بالجغرافيا الفلكية ثبت فى العادة اللفظ اليونانى «جغرافيا» ، الذى ترجم أحيانا فى صورة أقرب إلى الفهم هى «علم الأطوال والأغراض» أو «علم تقويم البلدان» ، أما الجغرافيا الوصفية فقد أطلق عليها اسم «علم المسالك والممالك» ، وفى الحالات التى يدور فيها الكلام على مراحل الطرق بصورة خاصة أطلق عليها اسم «علم البرود». وإذا غلب الجانب الكوزموغرافى (Cosmographic) ـ أى فى وصف الكون ـ بما يصحبه من ميل واضح نحو العجائب والغرائب فقد استعملت تسمية «علم عجائب البلاد».

وتاريخ نشأة الأنماط المختلفة للأدب الجغرافى ليس أقل دلالة من مصطلح التسميات على التنوع فى البحث والأهداف. وفى هذا الصدد يمكن ملاحظة عصور محددة فى تاريخه ، فقبل القرن التاسع لم تكن هنالك مصنفات جغرافية قائمة بذاتها ، إنما تقابلنا من وقت لآخر معلومات جغرافية متناثرة حفظها لنا الأدب اللغوى فيما بعد أو تردد صداها فى الرحلات الخيالية. وقد كان القرن التاسع بحق عصر الانبثاق ، إذ تم فيه من ناحية التعرف على مصنفات بطلميوس وأدى هذا بدوره إلى ظهور الترجمات التى بدأت بها سلسلة الجغرافيا العلمية ، كما تشكلت فيه من ناحية أخرى الأنماط المتعددة للجغرافيا الوصفية. وقرب نهاية هذا القرن ظهرت المداخل الجغرافية التى وضع البعض منها لكتاب الدواوين والبعض الآخر للمشتغلين بالأدب ، كذلك تنوعت أوصاف الرحلات فغلب على بعضها العنصر الواقعى بينما احتفظ البعض الآخر بالطابع القصصى. أما القرن العاشر فهو العصر الذى بلغ فيه الأدب الجغرافى أوجه ، وذلك بظهور المدرسة الكلاسيكية للجغرافيين العرب بما تميزت به من اهتمامها

٢٠