تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي

تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

المؤلف:

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي


المترجم: صلاح الدين عثمان هاشم
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٩

__________________

(٦٩) ـ Nallino, Le Tabelle, p. ٢٦١ ـ ٣٦١ ـ Nallino, Al ـ Battani I, p. XLII

(٧٠) ـ Nallino, Le Tabelle p. ٣٦١. Note ٠١ Nallino, Al ـ Battani, l, p. XLII

(٧١) ـ J.K.Wright ,Geogr Lore ,p.٣٩٣ ,Note ٧

(٧٢) ـ Honigmann ,Die Sieber Klimata ,p.١١١ ـ ٥٣١

(٧٣) ـ Reinaud, Introduction, p. XCIII ـ XCIV ـ Brockelmann. GAL, I, p. ٤٢٢. No ٤١ SBI, p. ٠٠٤ ـ ١٠٤ ـ Suter, lbn Yunus, p. ٦٥٤ ـ Sarton, Introduction, l, p. ٦١٧ ـ ٧١٧ ـ Mieli p. ٩٠١, ٢١٢

(٧٤) ـ Sarton ,Introduction ,l ,p.٧١٧

(٧٥) راجع : Sarton ,Introduction I.p.٧١٧ تحديد العرض لدى : Schoy ,Polho؟henbestimmungen ,p.٩١ ـ ١٢

(٧٦) ـ Reinaud ,Introduction ,p.XCIV

(٧٧) ـ Reinaud, Introduction, p. XCIV ـ XCV Reinaud, Notices sur les Dictionnaires p. ٦٧.

(٧٨) p.٠٧١ , نالينو ، الفلك ـ Brockelmann ,GAL I ,p.٢٧٤ ـ ٣٧٤ ,No ٣ ,SBI ,p.٢٦٨ (٦٧١, ٨٨١, ٥٣٢ ـ ٦٣٢ (ـ Racc. p. ١٢٢, ٥٢٢, ٥٣٢, ٢٧٢ Sarton, Introduction, l, p. ٨٥٧ ـ ٩٥٧ ـ Carra de Vaux, Les Penseurs, II, p. ٧٢٢ ـ ٠٣٢ ـ Mieli, p. ٤٨١ ـ ٧٨١

(٧٩) ـ Carra de Vaux ,Les penseurs II ,p.٩٢٢ ـ ٠٣٢

(٨٠) شرحه ، ص ٢٣٠

(٨١) ـ J.K Wright ,Georgr Lore ,p.٩٧ ,٤٩٣

(٨٢) ـ Mehren ,Udsigt ,p.٧٢ ـ ٨٢

(٨٣) المتن والترجمة ـ Khanikoff ,JAOS ,VI ,p.١ ـ ٨٢١ ;p.١ ـ ٨٧ ; زيادة المحرر ١٢٨ ـ ١٠٧ وزيادة المؤلف ١٠٧ ـ ٧٩.p

(٨٤) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٤٩٤, No I; SBI, p. ٢٠٩ ـ Sarton, Introduction, II, p. ٦١٢. ٧١٢ ـ Wi؟edemann Al ـ khazini, p, ٦٠٠١ ـ ٧٠٠١ Mieli, p. ٤٥١ ـ ٥٥١ ـ Suter, Mathematiker, p. ٢٢١, No ٦٩٢, p. ٦٢٢

(٨٥) ـ Nallino, Al ـ Battani I, p. LXVll, p. ١٦١, ٩٦٢ ـ ١٧٢. ٩٧٢ ـ ١٨٢

(٨٦) شرحه ، ص ٦٧

(٨٧) نالينو ، الفلك ، ص ١٧٩ (ـ Racc.,p.٧٢٢ ـ ٨٢٢)

١٢١

__________________

(٨٨) ـ Reinaud, Introduction, p. CXXXVIC ـ XXXVIII ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٣٧٤ ـ ٤٧٤, No ٧; SBI, p. ٦٦٨ ـ Sarton Introduoction, II, p. ١٢٦ ـ ٢٢٦ ـ Kramers, EI, EB, p. ٤٦, ١٧ ـ Mieli, p. ٠١٢ ـ ١١٢

(٨٩) عن طريقة ملاحظته للعروض راجع : ـ Schoy ,Polho؟henbestimmungen ,p.١٢ ـ ٣٣

(٩٠) ـ Reinaud ,Introduction ,p.CXXXVII ,

(٩١) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٨٠٥ ـ ٢١٥ No ٨; SBI, p. ٤٢٩ ـ ٣٣٩ ـ Ruska, Al ـ Tusi, p. ٣٦٠١ ـ Sarton Introduction. ll, p. ١٠٠١ ـ ٣١٠١ ـ Reinaud, Introduction, p. CXXXVlll. ـ CXLI ـ Carra de Vaux, Les penseurs, ll, p. ٢٢٢ ـ ٥٢٢ ـ Strothmann, Die Zwölfer schia ـ Mieli, p. ٠٥١ ـ ٤٥١ ـ Wiedemann, Beiträge, LXXV p. ٣٦٣ ـ ٩٧٣ ـ Wiedemann, Al ـ Tusi, p. ٩٨٢ ـ ٦١٣ ـ Browne, Literary History, ll, p. ٤٨٤ ـ ٥٨٤; III, p. ٧١ ـ ٨١

(٩٢) (ـ Nallino ,OM ,VIII ,p.٣٤ ـ ٤٤ (ـ Racc.,II ,٠٤٩١ ,p.٣٦٤

(٩٣) راجع أيضا عنه : ـ Schwartz, Iran, VIII, p. ٩١٠١; IX, p. ٣٠٤١ ـ ٤٠٤١, note ٢, ٣

(٩٤) ـ Minorsky ,Maragha ,p.٨٨٢

(٩٥) صالحالى ، ص ٥٠٠ ـ ٥٠١ ؛ راجع : Browne ,Lit History ,III ,p.٨١

(٩٦) ـ Reinaud ,Introduction p.CXXXIX ـ CXL

(٩٧) Schefer, Notice, p. ٤٢ ـ ٦٢ ـ Brockelmann, GAL, SBII. p. ٧٩٢, No I, C Blochet, Catalogue, p. ٩٦١, No ٩٣٠٦

(٩٨) ـ Bartold ,Kult ,Mus.,p.٥٨

(٩٩) ـ Brockelmann ,GAL ,I ,p.١١٥ ,NO ٥٤ : SBII ,p.٨٩٢

(١٠٠) شرحه ، ص ٥١١ ـ ٥١٢ ـ Greaves

(١٠١) ـ Ferrand ,Relations ,II ,p.٧٥٣ ـ ٨٥٣

(١٠٢) ـ Miller, I, p. ٢٢, No ٢٢ ـ Sarton, Introduction, II, p. ٩٠٠١, No ٧١ بالتفصيل فى كتاب : Mzik ,Abbildungen p.٩٤١ ومع وصف الخارطة لدى : G.Melgunof

(١٠٣) ـ Brockelmann, GAL, II p. ١١٢ ـ ٢١٢, NO ١, SB II, p. ٦٩٢ ـ ٧٩٢ ـ Wiedemann, Kutb ـ al Din. p. ٢٥٢١ ـ ٣٥٢١ ـ Sarton, Introduction, ll, p. ٧١٠١ ـ ٠٢٠١ ـ Mieli p, ١٥١, ٤٥١ note ٨ ـ Reinaud, Introduction, p. CXLI ـ Honigmann, Die Sieben Klimata p. ٢٦١ ـ ٣٦١, ٧٦١

(١٠٤) ـ Wiedemann ,Kutb ـ aldin ,p.٢٥٢١

١٢٢

__________________

(١٠٥) ـ Bartold ,Kult.Mus.,p.٢٨

(١٠٦) ـ Sarton ,Introduction ,II ,p.٧١٠١

(١٠٧) شرحه ، ص ١٠١٨

(١٠٨) ـ Wiedemann ,Kutb ـ aldin ,p.٢٥٢١

(١٠٩) ـ Wiedemann AGNT ,III p.٥٩٣ ـ ٢٢٤

(١١٠) شرحه ، ص ٢٥٠ ـ ٢٥٣

(١١١) شرحه ، ص ٤٣١ ـ ٤١٧

(١١٢) ـ Ferrand ,Relations ll p.٢١٦ ـ ٣١٦

(١١٣) رشيد الدين لدى : Blochet ,L\'E؟tude ,p.٤ مخطوطة طشقند ، رقم A ٦٣٢ a

(١١٤) ذكرها لدى : Sarton, Introduction, II, p. ٠٢٠١ ـ Wiedemann, Kutb ـ aldin, p. ٢٥٢١ ـ ٣٥٢١

(١١٥) ـ Brockelmann, GAL, ll, p. ٢١٢ ـ ٣١٢, No ٣; SB ll, p. ٨٩٢ ـ Bouvat, p. ٧٧٠١. ٨٧٠١ ـ Mieli, p. ٣٦٢, ٦٦٢ ـ ٧٦٢ ـ Carra de Vaux, Les, Penseurs II, p. ٥٢٢ ـ ٦٢٢ ـ Bartold, Ulughbek, p. ٧٠١ ـ ١١١ Bartold, Kult. Mus. p. ٤٩ ـ ٦٩

(١١٦) الصورة لدى : Bartold ,Kult.Mus.,p.٥٩

(١١٧) شرحه ، ص ٩٤

(١١٨) شرحه ، ص ٩٥

(١١٩) ـ Brockelmann, GAL, II, p. ٤٣٢ ـ ٥٣٢, No ٤; SB II, p. ٦٢٣ ـ ٠٣٣ Bel, EI, I, p. ٤٠٣

(١٢٠) ـ Brockelmann ,GAL ,SB II ,p.٨٩٢

(١٢١) ـ Kramers ,EI ,EB p.٤٦

١٢٣

الفصل الرّابع

الجغرافيون اللغويون ورحالو القرن التاسع

فى القرن التاسع ظهرت لدى العرب جغرافيتهم الرياضية ؛ وقرب منتصف ذلك القرن بدأت تتشكل الجغرافيا الوصفية ببطء ملحوظ فى أول الأمر كأنما كانت تتحسس الاتجاهات التى ستسلكها فى تطورها التالى ؛ ذلك أنها لم تحد أمامها نماذج معدّة لتسير وفقا لها. وهذا الميدان لم يشتغل به ممثلو العلوم الدقيقة بقدر ما اشتغل به اللغويون الذين أخضعوا المادة لمطالبهم. ومن العسير علينا أن نحكم على المحاولات الأولى فى هذا المجال ، ذلك أنه لم يحفظ لنا فى معظم الأحوال من المصنفات إلا أسماؤها فحسب. وفى بداية النصف الثانى للقرن التاسع فقط بدأت تظهر مصنفات قائمة بذاتها ولكنها لم تعرف إلا فى روايات أو موجزات بأقلام بعض المتأخرين :

وقد سبق لنا الحديث عن بعض الأنماط الألى فى صياغة المادة الجغرافية بواسطة اللغويين ، أعنى ما يعرف «بكتب الأنواء» التى ضمنها اللغويون جميع صنوف الملاحظات عن الطقس وظواهر الطبيعة الأخرى مصحوبة بتعليقات لغوية وغير لغوية. وقد ربط العرب الأقدمون الأنواء بحركات المنازل القمرية وأورثوها الخلف فى أغلب الأحيان على هيئة سطور قصيرة مسجوعة يكثر فيها غريب اللغة حتى احتاجت منذ القرن التاسع إلى الشرح والتوضيح. وقل أن وجد عالم لغوى من المتخصصين فى العهد الجاهلى لم ير من اللازم أن يظهر علمه بالأنواء فى هيئة رسالة خاصة. وتبدأ سلسلة هذه الرسائل فى الأنواء فى الحد الفاصل بين القرنين الثامن والتاسع بمؤرج السدوسى (توفى عام ١٩٥ ه‍ ـ ٨١٠) (١) أحد المقربين إلى المأمون عندما كان الأخير واليا على خراسان ؛ وتمضى السلسلة هكذا متصلة الحلقات على امتداد القرنين التاسع والعاشر ؛ ويمكن أن نكون فكرة عنها من خلال الاقتباسات العديدة الموجودة غالبا فى المعاجم العربية. ولعل أبعدها صيتا على الإطلاق مصنف لأبى حنيفة الدينورى (توفى عام ٢٨٢ ه‍ ـ ٨٩٥) المعروف لنا على الأخص كمؤرخ. وأحد الأمثلة الفريدة لكتب الأنواء يقدمه لنا «تقويم قرطبة» The Calendar of Cordova المشهور لعام ٩٦١ ه‍ ؛ وهو بالطبع ليس مصنفا لغويا بل مرشدا لصغار المزارعين يقدم لهم معلومات لا فى الزراعة فحسب بل وفى الفلك والطقس. ولإعطاء فكرة عن الأساس الذى يستند عليه يكفى أن نذكر فقط تقسيمه للعام إلى ثمانية وعشرين منزلا قمريا ؛ كما وأن العنوان الذى اتخذه باللاتينية وهوLiber Anoe

١٢٤

ليس من العسير أن يتعرف فيه القارئ على اللفظ العربى أنواء (١) (٢).

والفلكيون المتخصصون الذين أفردوا للمنازل القمرية رسائل خاصة قد وقفوا (٣) من مصنفات اللغويين موقف التشكك الذى له ما يبرره ، والفلكى الشهير عبد الرحمن الصوفى (توفى عام ٣٧٦ ه‍ ـ ٩٨٦) كتب يقول بصدد مصنف الدينورى السالف الذكر،وذلك بعد قرن منه :

«ووجدنا فى الأنواء كتبا كثيرة أتمها وأكملها فى فنه كتاب أبى حنيفة الدينورى فإنه يدل على معرفة تامة بالأخبار الواردة عن العرب فى ذلك وأشعارها وأسجاعها فوق معرفة غيره ممن ألفوا الكتب فى هذا الفن. ولا أدرى كيف كان معرفته بالكواكب على مذهب العرب عيانا فإنه يحكى عن ابن الأعرابى وابن كناسة وغيرهما أشياء كثيرة من أمر الكواكب تدل على قلة معرفتهم بها وأن أبا حنيفة أيضا لو عرف الكواكب لم يسند الخطأ إليهم» (٤).

ولقد طغى الاهتمام اللغوى على المنهج الواقعى فى جميع الأحوال المماثلة تقريبا ؛ غير أن مقدار المادة كان من الضخامة بحيث كشف عن نواح أخرى للصورة. ففى بداية القرن التاسع وضع النضر بن شميل (توفى عام ٢٠٣ ه‍ ـ ٨١٨) (٥) ، وهو من أصحاب كتب الأنواء ، ما يشبه موسوعة قائمة بذاتها فى الحياة البدوية بعنوان «كتاب الصفات». وترتيب مادة هذا الكتاب معروف لنا ، رغما من أن بعض عناوين محتوياته الداخلية قد أصابها الخلط والاضطراب. ويضعه ابن النديم ورّاق القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) المشهور كالآتى (٦) :

«كتاب الصفات وهو كتاب كبير ويحتوى على عدة كتب ... الجزء الأول يحتوى على خلق الإنسان والجود والكرم وصفات النساء. الجزء الثانى يحتوى على الأخبية والبيوت وصفة الجبال والشعاب والأمتعة. الجزء الثالث للإبل فقط. الجزء الرابع يحتوى على الغنم الطير الشمس القمر الليل النهار الألبان الكماة الآبار الحياض الأرشية الدلا صفة الخمراء الجزء الخامس يحتوى على الزرع الكرم العنب أسماء البقول الأشجار الرياح السحاب الأمطار».!

يتضح من هذا أن تبويب مادة الكتاب يمكن اعتبارها نموذجا للمؤلفات من هذا النوع ، فهو يحفل بمادة مختلطة تحوى أمشاجا من الجغرافيا الطبيعية والاثنوغرافيا والجغرافيا الحيوية وغيرها تفتقر إلى الكثير من الترابط والانسجام من وجهة نظرنا الحديثة. ويمكن أن نفترض أن طريقته فى العرض تشبه إلى حد كبير مؤلفات اللغويين من نفس الصنف وتتلخص فى سرد ألفاظ كل موضوع على حدة مع توضيحها بشواهد عديدة من أمثلة استعمالها فى الشعر الجاهلى. ومن الجلى أن بعض أوجه الحياة البدوية التى ورد وصفها فى المؤلفات التى من هذا النوع قد عولجت بتفصيل واف. وكتاب النضر هذا الذى لم يصلنا

__________________

(*) واجع فى هذا الصدد : Le Calendrier de Cordue. Publi ـ nar R. Dozy. Nouvelle edition accompagnee d\'une traduction francaise annotee par. Ch. Pellat. Leiden. ١٦٩١.

(المترجم)

١٢٥

قد نقل عنه كثيرا كما يزعم الوراقون معاصره الأصغر منه سنا أبو عبيدة (توفى عام ٢٢٣ ه‍ ـ ٨٣٧) الذى أمضى معظم سنى حياته كالنضر بخراسان (٧). ويمثل معجمه «غريب المصنف» محاولة مبكرة لتوزيع المادة اللغوية حسب الأنواع (٨) ؛ وبالطبع فإن المادة الجغرافية لديه قد وردت على نفس الصورة التى كانت عند النضر.

أما فيما يتعلق بالجغرافيا الإقليمية (Regional) فقد انصرف اللغويون انصرافا تاما إلى جزيرة العرب. وقد لاحظ ياقوت بالكثير من الدقة ، وذلك عند تحليله لمصادر معجمه ، أن الكتب التى صنفت فى أسماء الأماكن صنفان «منها ما قصد بتصنيفه ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة المشهورة ... ومنها ما قصد به ذكر البوادى والقفار واقتصر على منازل العرب الواردة فى أخبارهم والأشعار» (٩) ، فأولئك «الذين قصدوا ذكر الأماكن العربية والمنازل البدوية» فهو ينسبهم إلى «طبقة أهل الأدب» (١٠) ، أى اللغويين كما أسميناهم فى هذه المناسبة ؛ وقد التقينا فيما بينهم بعدد غير قليل من الشخصيات المشهورة ولكن منهجهم جميعا فى التأليف يكاد يكون واحدا.

ويجب أن يحتل مكانة أولى فى هذا التراث الجغرافى اللغوى ، وذلك ليس من ناحية الأسبقية الزمنية فحسب ، المؤرخ المشهور هشام الكلبى (توفى حوالى عام ٢٠٦ ه‍ ـ ٨٢٠) (١١) وهو خبير ممتاز بالجاهلية وصاحب «كتاب الأصنام» الذى يكاد يمثل إلى الآن المصدر الأساسى للتعريف بأديان عرب الجاهلية ، وأيضا كتاب كبير فى الأنساب هو «جمهرة الأنساب». والاعتراف به كحجة فى هذه الموضوعات يوكده بشكل قاطع قول ياقوت «ما تنازع العلماء فى شىء من أمور العرب إلا وكان قوله أقوى حجة وهو مع ذلك مظلوم وبالقوارص مكلوم» (١٢). ومن بين العدد الضخم من مؤلفاته يذكر لنا ابن النديم عشرة منها فى الجغرافيا (١٣) ، فنبصر من بينها «كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب» و «كتاب قسمة الأرضين» و «كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين». وإذا كانت هذه التسميات تتعلق بجزيرة العرب على نمط اللغويين فثمة أخرى على ما يظهر تعالج موضوعا أوسع من ذلك وتبدى نواحى سيهتم العلماء كثيرا بمعالجتها فيما بعد ، فلديه «كتاب الأقاليم» ، ثم «كتاب البلدان الصغير وكتاب البلدان الكبير». ومعرفتنا بجميع أوجه النشاط العلمى لابن الكلبى يجعل من العسير علينا أن نفترض أن مادة هذه الكتب قد تجاوزت نطاق الجزيرة العربية ، غير أن عناوينها التى تذكرنا بالأدب التاريخى الجغرافى المتأخر تعطينا الحق فى افتراض ذلك. ونفس الحكم يصدق بصورة أقوى على عنوان كتابه الذى أورده ابن النديم وهو «كتاب العجائب الأربعة» ، فهو يذكرنا بجميع صنوف كتب العجائب التى ازدهرت عقب ذلك بفترة طويلة. ومن المغرى أن نفترض أن هذا الكتاب بالذات هو الذى نقل عنه الإدريسى كثيرا فى القرن الثانى عشر تحت اسمه المختصر «كتاب العجائب» مشيرا إلى اسم المؤلف على أنه حسن بن المنذر بدلا من هشام أبى المنذر. فإذا كان الأمر كذلك فإن ابن الكلبى إذا هو أول

١٢٦

مؤلف بالنسبة لعصره يكتب فى موضوعات جغرافية عامة تتجاوز نطاق جزيرة العرب (١٤). ويوكد هذا تلك الاقتباسات التى ينقلها عنه ياقوت مشيرا فى العادة إلى «كتاب أنساب البلدان» (١٥) ؛ وهو يقصد فى أغلب الظن كتاب «اشتقاق البلدان» (١٦) المذكور فى مقدمته ، بل وربما أيضا «كتاب البلدان» الوارد ذكره فى «الفهرست». وهذه الاقتباسات تمس بعض المدن خارج جزيرة العرب مثل الكوفة (١٧) والرها (١٨) والمخرّم (١٩) قرب بغداد والنهروان (٢٠). والرأى الذى نودى به أخيرا وهو أن ابن الكلبى ألف رسالة عامة فى الجغرافيا فى «عشر مجلدات» (٢١) يستند على محض وهم مرده إلى أن ابن النديم أورد أسماء عشرة من مؤلفاته.

ومهما يكن من شىء فابن الكلبى يمثل ظاهرة نادرة بين لغويى ذلك العهد بما اتصف به من اتساع الأفق ، ذلك أن أغلبهم قد اكتفى بوضع ملخصات لغوية عن بلاد العرب. وخير مثال لهذا الأصمعى المشهور (توفى حوالى عام ٢١٦ ه‍ ـ ٨٣١) (٢٢) الذى يدين له العلم بحفظ عدد من آثار الشعر الجاهلى ؛ فبجانب مصنف له فى الأنواء (٢٣) له أيضا رسالة ذات طابع عام هى «رسالة فى صفة الأرض والسماء والنباتات» (٢٤). بيد أن ياقوت يعتبره المصدر الأساسى عن جزيرة العرب بفضل مصنفه «كتاب جزيرة العرب» (٢٥) ؛ ويكفى أن نذكر أن اسمه ورد حوالى ثلاثمائة وخمسين مرة عند ياقوت (٢٦). وكانت له أيضا رسائل تبحث موضوعات أخص من ذلك ، مثل «كتاب مياه العرب» (٢٧) ؛ وقياسا على بقية مؤلفاته اللغوية الأخرى يمكننا أن نفترض بكل اطمئنان وثقة أن هذه أيضا تمثل تعدادا لأسماء ومصطلحات مصحوبة بشروح موجزة وشواهد من الشعر. ويبدو أن رسالة تلميذه سعران بن المبارك «كتاب الأرضين والمياه والجبال والبحار» (٢٨) قد سارت فى نفس الاتجاه ولم تخرج مادتها عن نطاق جزيرة العرب.

ومن بين العلماء اللغويين الذين سلكوا نفس ذلك الاتجاه نلتقى بشخصية طريفة لأعرابىّ أمىّ يدعى عرّام بن الأصبغ ؛ وهو لمّا أبصر إقبال الناس على مثل هذه الموضوعات أملى فى سن الشيخوخة (بعد عام ٢٣١ ه‍ ـ ٨٤٥) «كتاب أسماء جبال التهامة ومكانها» (٢٩) معتمدا فى ذلك على معرفته الجيدة بمواضع جزيرة العرب. وقد نال مصنفه انتشارا وصيتا واسعين ورواه علماء مختلفون من بينهم السيرافى المعروف (٣٠) (توفى حوالى عام ٣٦٨ ه‍ ـ ٩٧٩) الذى ندين له أيضا بكتاب مستقل عن الجزيرة العربية هو «كتاب جزيرة العرب» (٣١). هذا وقد حفظت لنا من مصنف الأعرابى مقتطفات هامة فى المعجمين الجغرافيين للبكرى وياقوت. والتحليل الدقيق الذى قامت به إلزا رايتميرElse Reitemeyer (٣٢) قد أثبت أن مصنف هذا الأعرابى كان يشمل مادة تخرج عن نطاق عنوانه ، فهو لم يقتصر على ذكر الجبال التى أولى اهتمامه من بينها لتلك الواقعة بين مكة والمدينة بل ذكر أيضا المياه والنباتات الموجودة بها (١).

__________________

(*) تحققت صحة هذه الفروض بالكشف عن رسالة عرام ونشرها. راجع فى هذا مقدمة الأستاذ عبد السلام محمد هارون لطبعته المحققة لمخطوطة «كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه لعرام بن الأصبغ السلمى» القاهرة ١٩٥٦. (المترجم)

١٢٧

ومن المعهود فى الأدب العربى تكرار أسماء الرسائل بحيث يضحى من العسير القول هل نحن أمام مصنف مستقل أم رواية جديدة لمصنف سابق. ويمثل بعض الأهمية مصنف لمعاصر للدينورى هو اللغوى ابن لغزى الأصفهانى (قبل عام ٢٨٢ ه‍ ـ ٨٩٥) (٣٣) بعنوان «كتاب مياه وجبال وبلاد جزيرة العرب». وكما هو متوقع فإن المعلومات الجغرافية كما يتضح من وصف المخطوطة الوحيدة المعروفة (٣٤) لهذا الأثر يصحبها شواهد من الشعر القديم.

هذا النمط المتشابه للمصنفات الجغرافية للغويين المكرسة لجريرة العرب وحدها بدأ يطرأ عليه التغيير منذ النصف الثانى للقرن التاسع فشمل مضمونه بلادا وأقطارا أخرى ، الأمر الذى ظهرت تباشيره عند ابن الكلبى كما مر بنا ؛ كما أخذت تتغير أيضا العناوين وظهرت بالتدريج أنماط لم تلبث أن أصبحت الغالبة والمسيطرة بمرور الزمن. وأحيانا قد تكون المعلومات الموجودة بين أيدينا طفيفة للغاية ولكنها رغما من ذلك لا تخلو من بعض الفائدة ؛ فأحد لغويى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) وهو وكيع القاضى الذى وضع رسالة فى الأنواء (٣٥) يقال عنه أيضا «وله من الكتب ... كتاب الطريق ويعرف أيضا بالنواحى ويحتوى على أخبار البلدان ومسالك الطرق ولم يتمه» (٣٦). وهنا يتضح لنا من مضمون الكتاب بل ومن عنوانه ظهور اتجاه جديد فى التأليف الجغرافى.

أما كبار العلماء فإنهم بالطبع لم يحصروا نشاطهم فى حدود ضيقة كاللغويين ، فعالم كالجاحظ (توفى عام ٢٥٥ ه‍ ـ ٨٦٩) (٣٧) تنعكس فى مادته الجغرافية شخصيته الأدبية الفريدة بما تمتاز به من سعة الأفق وتنوع الموضوعات التى يطرقها وملاحظاته الفنية الدقيقة ؛ ولكنه من جهة أخرى كما هو معهود فيه يفتقر إلى الترتيب ، هذا إلى جانب ميله المعروف إلى الإمتاع على حساب الفائدة. وتقدم لنا مؤلفات الجاحظ العديدة فى الأدب مادة جغرافية ضخمة ؛ ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى كتابه الكبير «كتاب الحيوان» الذى يحفل بالكثير فى الجغرافيا الحيوانية والانثر وبولوجيا والاثنوغرافيا على الرغم من غلبة الموضوعات الأدبية عليه ؛ وقد أصبح من الممكن الآن بفضل العرض الموجز لمحتويات الكتاب الذى قام به آسين بلاسيوس Asin Palacios (٣٨) أن يخوض الباحث فى خضمه المتضارب دون كبير عناء. أما مصنف الجاحظ فى الجغرافيا فلم يعثر عليه إلى الآن ومن ثم فليس من الممكن الحكم عليه إلا مما نقله عنه الآخرون ؛ أضف إلى هذا أن عنوانه غير معروف لنا بالضبط ولعل أقربها إلى الصحة هو العنوان الذى يورده المسعودى وهو «كتاب الأمصار وعجائب البلدان» (٣٩). ويقابلنا أحيانا عنوان «كتاب البلدان» (٤٠) و «كتاب الأمصار» (٤١) ؛ أما الشذرة المحفوظة فى إحدى مخطوطات المتحف البريطانى فتحمل اسم «كتاب الأوطان والبلدان» (٤٢) وهو عنوان لا يقرب كثيرا من الواقع. ويتضح مما نقله عنه ياقوت أن الجاحظ قد تابع إلى حد ما نمط ما يسمى بالفضائل أو الخصائص الذى ازدهر فى العصر الأموى ، أى صفات ومحاسن الحواضر الكبرى ، حيث يدور الكلام أحيانا عن مواطنيها أكثر مما يدور عن

١٢٨

البلاد نفسها. وفى هذه المقتطفات يتحدث الجاحظ عن أهل دمشق (٤٣) وعن عجائب البصرة (٤٤) ومساوئها (٤٥) وعن مساوئ مصر (٤٦). ويوكد هذا ويدعمه الاقتباسات العديدة الموجودة لدى جغرافيى العهد الكلاسيكى ، مثال ذلك ما ينقله المقدسى عن طريق الرواية الشفوية عن الجاحظ فى خصائص المدن العشرة الكبرى وهى بغداد والكوفة والبصرة والفسطاط والرى ونيسابور ومرو وبلخ وسمرقند (٤٧) ؛ ويسوقه هذا بدوره إلى إفراد فصل بأجمعه لخصائص الأقاليم المختلفة. وأحيانا قد يختلط بالمعلومات من هذا النوع ذكر مختلف أصناف العجائب التى تحولت بالتالى إلى نمط قائم بذاته من أنماط الأدب الجغرافى. وفى الفصل الذى أفرده للعجائب ينقل ابن خرداذبه عن الجاحظ خبرا عن الأهواز (٤٨) كما يفعل هذا أيضا ابن الفقيه (٤٩) ؛ أما ابن حوقل فيروى حكاية أسطورية تتعلق بصخرة بهستون يذكر فيها على وجه التحديد أن مصدره «كتاب البلدان» للجاحظ (٥٠).

لا شك أن كتاب الجاحظ عالج الكلام عن بلاد خارج نطاق العالم الإسلامى ولكن لم يحفظ لنا مع الأسف عن هذا سوى إشارة واحدة جديرة بالثقة ، ولكن فى مقابل هذا واسعة الانتشار وهى نظريته فى أن نهرى النيل والسند ينبعان من موضع واحد ؛ وهى نظرية ترتبط على ما يبدو بالنظرية اليهودية المسيحية القائلة بأن منابع الأنهار الكبرى موجودة بالفردوس (٥١). وقد كانت هذه النظرية سببا فى دهشة المسعودى ، الذى مكنته أسفاره العديدة من التعرف على حقيقة الأمر ، بصورة جعلته يقف عندها أكثر من مرة. ففى كتابه المبكر «مروج الذهب» كتب يقول :

«وقد ذكر الجاحظ أن نهر مهران السند من نيل مصر واستدل على ذلك بوجود التماسيح فيه فلست أدرى كيف وقع له هذا الدليل وذكر ذلك فى كتابه المترجم بكتاب الأمصار وعجائب البلدان وهو كتاب فى نهاية الحسن وإن كان الرجل لم يسلك البحار ولا أكثر الأسفار ولا تقرّا الممالك والأمصار ولم يعلم أن مهران السند يخرج من أعين مشهورة من أعالى السند» (٥٢)

وفى موضع آخر من نفس كتابه هذا يكرر المسعودى هذه النظرية بإيجاز وذلك بصدد كلامه عن وجود التماسيح فى مواضع أخرى (٥٣) ؛ ويعود إليها مرة أخرى وبتفصيل أكثر فى آخر كتبه «التنبيه والإشراف» حيث يقول :

«وقد ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فى كتابه فى الأخبار عن الأمصار وعجائب البلدان أن مخرج مهران السند والنيل من موضع واحد واستدل على ذلك باتفاق زيادتهما وكون التمساح فيهما وأن سبيل زراعتهم فى البدين واحد ولا أدرى كيف ذلك وقع له وقد توجد التماسيح فى أكثر أخوار الهند .. وتلحق الناس وسائر الحيوانات منها الأذيّة على حسب ما يلحق أهل مصر وحيواناتهم» (٥٤).

وليس غريبا أن تفسح هذه النظرية المجال لعالم رزين كالبيرونى ليصم الجاحظ بالبساطة والسطحية (٥٥). وعلى العموم فقد قدر الجغرافيون مصنف الجاحظ هذا حق قدره ، وقد رأينا كيف كان موقف المسعودى

١٢٩

منه رغما عن تخطئته للجاحظ ؛ وقال عنه ابن حوقل «كتاب نفيس له فى معرفة الأمصار» (٥٦) ، أما المقدسى فقد أبدى بعض التشدد وذلك بقوله «وأما الجاحظ وابن خرداذبه (٥٧) فإن كتابيهما مختصران جدا لا يحصل منهما كبير فائدة» ، وعلى أية حال فإن تأثيره على الأجيال الأدبية التالية لا يرقى إليه الشك حتى أن ابن الفقيه مثلا اعتبر مقلدا له (٥٨) ، ويتضح هذا من ألفاظ المقدسى أيضا «وإذا نظرت فى كتاب ابن الفقيه فكأنما أنت ناظر فى كتاب الجاحظ والزيج الأعظم» (٥٩). ومن وقت لآخر كانت تظهر مقتطفات من كتاب الجاحظ هذا فى مجموعات أدبية بحتة ؛ وأحد كبار المعجبين بالجاحظ وهو الثعالبى (توفى عام ٤٢٩ ه‍ ـ ١٠٣٨) كان يعنى على ما يبدو هذا الكتاب عند ما أشار إلى «خصائص البلدان» للجاحظ (٦٠). وقد تم الكشف فى الآونة الأخيرة عن مصنف للجاحظ يقف دليلا على اهتمامه الواسع بالجغرافيا ويمثل على وجه العموم أهمية كبرى بالنسبة للتاريخ الحضارى للعالم الإسلامى ، كما يمكن اعتباره أول محاولة للعرب فى الجغرافيا الاقتصادية أو على الأصح جغرافيا الاستيراد (Import Geagraphy). أعنى بذلك الرسالة الصغيرة الحجم المعروفة باسم «التبصر بالتجارة» التى عثر عليها بتونس العلامة العربى المعروف حسن حسنى عبد الوهاب ونشرها فى مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق (١) (٦١). وبالرغم من أنه لم يرد أىّ ذكر لهذه الرسالة فى ثبت مصنفات الجاحظ (٦٢) إلا أن صحة نسبتها إليه لا يتطرق إليها الشك ، سواء من ناحية الاستقراء الداخلى لمادتها أو لأن بعض العلماء نقل عنها كالثعالبى والنويرى فى موسوعته الكبرى التى وضعها فى عهد المماليك (٦٣). وتنقسم الرسالة إلى بضعة أبواب تعالج السلع التجارية المختلفة وأسعارها ومزاياها والزائف منها ؛ وهنا يتناول البحث الكلام على الذهب والفضة والأحجار الكريمة ثم العطور والطيب والأنسجة والثياب. وأكثر الأبواب متعة هو «باب ما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجوارى والأحجار وغير ذلك» ، حيث يعدد لنا الجاحظ أسماء السلع المستوردة من مختلف الأقطار ابتداء من الهند والصين ، أحيانا فى شكل تعداد جاف وأحيانا بتفاصيل تختلف طولا وقصرا. ويرد بالطبع ذكر للبلاد الشمالية كخوارزم وبلاد الخزر وبلاد البلغار ؛ أما البابان الأخيران فيغلب عليهما طابع الارتجال ويحس منهما أنهما أضيفا مؤخرا ؛ فالأول منهما أفرد لجوارح الطير مما يستعمل فى الصيد والأخير لما يفضّل من صفات الأشياء سواء بين الحيوان أو الناس ، وهو لا يخلو من الحكمة والموعظة. ويغلب على الرسالة طابع الإفادة العملية ويندر أن تلجأ إلى الاستطرادات الأدبية. وقد تستعصى فى مواضع منها على الفهم نتيجة لمصطلحات غريبة أو غير مدروسة ولكن بعد التغلب على هذا فإن الرسالة تعتبر مصدرا من المصادر الأساسية للتاريخ والجغرافيا الاقتصادية للعالم الإسلامى. وقد كان المؤلفون المتأخرون على إلمام جيد بها ويتضح من المقارنات التى أجراها حسن حسنى عبد الوهاب أن ابن الفقيه مدين أيضا بقدر غير قليل لرسالة الجاحظ هذه.

__________________

(*) طبعت بالتالى على حدة فى القاهرة. (المترجم)

١٣٠

إن التسلسل التاريخى لظهور المصنفات المختلفة لبعض أنماط الجغرافيا الوصفية لم يكن واضحا على الدوام حتى للعرب أنفسهم فى العهد المبكر. فصاحب كتاب «الفهرست» مثلا يذكر أن أول من صنّف فى «المسالك والممالك» هو الأديب أبو عباس جعفر بن أحمد المروزى (٦٤) ؛ وهذه الرواية يكررها ياقوت (٦٥) بالرغم من أن ذلك الشخص قد توفى بالأهواز حوالى عام ٢٧٤ ه‍ ـ ٨٨٧ أى عندما كان ابن خرداذبه قد فرغ من المسودة الأولى بل وربما من الثانية لكتابه الذى يحمل نفس العنوان (٦٦). ولم يحفظ لنا التاريخ أية معلومات عن كتاب المروزى هذا أو عن مصنفات أخرى له ، ومن المؤكد أنها لم تكتسب صيتا ما أو ذيوعا رغما عن إشارة ابن النديم التى تحمل طابع الاستحسان والإشادة. وقد تنسب إليه حكايات من وقت لآخر عند الجغرافيين المتأخرين ، فابن الفقيه (٦٧) يروى عنه أسطورة تتعلق بحجر المطر (٦٨) كما ينقل عنه أيضا روايات عديدة عن القبائل التركية ؛ وهذه الروايات تسوق إلى الافتراض بأن آثار المروزى كانت تضم مادة قيمة بالنسبة لاتحادنا السوفيتى خاصة فيما يتعلق بجغرافيا آسيا الوسطى.

ويلى هذا من الناحية الزمنية فى تثبيت نمط «المسالك والممالك» تلميذ الفيلسوف الكندى وصديقه أحمد بن محمد بن الطيب السرخسى (توفى عام ٢٨٦ ه‍ ـ ٨٩٩) (٦٩) وهو يمثل نوعا نادرا من الكتاب فى ميدان الأدب العربى وذلك بجمعه على السواء بين الاهتمام بالفلسفة والعلوم الدقيقة من جهة والأدب الفنى من جهة أخرى. ويمكن إرجاع اهتمامه بالأدب إلى اتصاله ببلاط الخليفة المعتضد الذى راح ضحية لسخطه عندما كان يشغل فى آخر سنى حياته وظيفة المحتسب ببغداد. وفى ميدان الأدب الجغرافى ينضم السرخسى من ناحية إلى المدرسة الرياضية الجغرافية ذات النزعة اليونانية وهذا بالطبع كان نتيجة لتأثير أستاذه عليه ، ومن ناحية أخرى نراه يهتم بالجغرافيا الوصفية من طراز «المسالك والممالك» ؛ فتوجد له فى المجال الأول رسالة «فى البحار والمياه والجبال» (٧٠) ترتبط ارتباطا وثيقا بمصنف مماثل لأستاذه مما جعل المسعودى يربط بينهما دائما عند وصفه للبحار ؛ ومن الجائز أنها نفس الرسالة التى يشار إليها أحيانا باسم «كتاب منفعة الجبال» (٧١). ويذكر المسعودى (٧٢) فى موضع آخر أن السرخسى إلى جانب ذلك «قد صنف ... كتابا حسنا فى المسالك والممالك والبحار والأنهار وأخبار البلدان وغيرها» ؛ وهو معروف أيضا باسم «كتاب المسالك والممالك» (٧٣). وينقل ياقوت منه كثيرا خاصة فيما يتعلق بعصر المعتضد (٧٤) الذى صحبه السرخسى فى بعض أسفاره.

ولو كانت جميع هذه المصنفات التى ذكرناها موجودة وفى متناول أيدى العلماء لاختلفت كثيرا لوحة التسلسل التاريخى لنشأة الأنماط المختلفة للجغرافيا الوصفية. ولكن ، وفى غير حاجة إلى دراسة القليل الذى حفظ لنا منها ، فإنه من الممكن أن نقرر على أساس ما أوردناه من حقائق أن الجغرافيا الوصفية بدأت تتخذ منذ النصف الثانى للقرن التاسع أنماطا ثابتة كما هو الحال مع الجغرافيا الرياضية التى سبقتها بقليل. وفيها انفسح المجال لا للفلكيين والرياضيين بل للغويين بصورة خاصة ، فهم الذين

١٣١

وضعوا كتب الأنواء والرسائل الجغرافية اللغوية عن جزيرة العرب. وقد اتسع شيئا فشيئا وصف المدن والأقطار المختلفة من طراز «الفضائل» أو «الخصائص» الذى يرجع إلى العصر الأموى ليصبح «كتب البلدان» ؛ وأحيانا تحت تأثير الموضوعات الأسطورية والرغبة فى الإمتاع والتشويق ليتحول إلى «كتب العجائب». وأخيرا دفعت الرغبة الملحة فى تنظيم المادة ووصفها على هيئة طرق إلى ظهور كتب «المسالك والممالك». وفيما بعد ستختفى من بين هذه المجموعة كتب «الأنواء» وحدها ، أما الأنماط الأربعة الأخرى فقد أبدت جميعها حيوية فياضة عاشت بها فترة طويلة من الزمن ولم تطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة.

وإلى جانب هذه الأنماط المذكورة للجغرافيا الرياضية والوصفية ثبتت فى القرن التاسع أيضا الصورة النهائية للقصص عن الرحلات وعن البلاد الأجنبية فى جميع ألوانها وأنواعها ابتداء من الرحلات الأسطورية إلى أوصاف الطرق العملية والمراحل أو السرد الجاف للأسماء ؛ ولا يقل هذا الصنف عن سابقه من ناحية الكم حتى فى الأزمنة الأولى. وقليلا ما وصلتنا أوصاف مباشرة عن ذلك العهد إذ أن معظمها لم يحفظ منه شىء ؛ وفى كثير من الأحيان تقتصر مادتنا على فقرات يسيرة أو مجرد ذكر الموضوع دون أية تفصيلات عنه. وهذا بدوره قد يشير أحيانا إلى اتساع مجال الرحلة ويمكّننا من تكوين فكرة عن أنواع الرحلات المختلفة. وقد انتظمت الرحلات مناطق عديدة فلم تقتصر على المشرق وحده الذى ربط العرب به تاريخ طويل من العلاقات التجاربة بل دخل فى نطاقها الغرب أيضا.

وابتداء من هذا العصر نلتقى بأخبار رحلات علمية فريدة فى نوعها تستهدف فى معظم الأحوال أغراضا عملية. ويحفظ لنا الإدريسى (٧٥) قصة مؤداها أن أخ الخليفة هارون الرشيد (١٧٠ ه‍ ـ ١٩٣ ه‍ ـ ٧٨٦ ـ ٨٠٩) وهو ابراهيم بن المهدى (المتوفى عام ٢٢٤ ه‍ ـ ٨٣٩) (٧٦) روى فى مصنفه «كتاب الطبيخ» (٧٧) أن الخليفة بعث إلى اليمن أشخاصا ليعرفوا من أين يأتى العنبر وأنهم فى أثناء رحلتهم استقصوا أحوال سكان عدن وخاسك على ساحل المهرة (٧٨) وغيرها من الأماكن المأهولة بجنوبى الجزيرة. وتحمل هذه القصة جميع علامات الصحة ، إذ أن أهمية العنبر الأشهب (الذى يجب التفريق بينه وبين العنبر الأصفر) كوسيلة للعلاج وكضرب من الطيب أمر جد معروف فى ذلك العهد (٧٩) ؛ وكان يحصل عليه غالبا من السواحل الشرقية لأفريقيا قبالة اليمن (٨٠) ولعب دورا ما فى اقتصاديات الخلافة ويذكره ابن يوسف معاصر الرشيد المعروف كمورد هام للخراج يعادل اللؤلؤ (٨١).

وليس بمقدورنا أن نقف موقف الثقة التامة من جميع الروايات التى تقترن بشخصية هذا الخليفة ، أضف إلى هذا أن التاريخ الأدبى يدل على أنه كثيرا ما نسجت حول اسمه مختلف الموضوعات الأسطورية. وقد لفت فرين ، واضع أسس الاستعراب الروسى خاصة فى ميدان الجغرافيا ، الأنظار إلى الرواية الآتية الواردة فى مصدر متأخر ، وذلك فى كتابه الكلاسيكى عن ابن فضلان.

١٣٢

«وكانت للخلفاء العباسية جواسيس من الرجال والنساء وكان عبد الله الشهير بسيد غازى يتجسس الأخبار من بلاد الروم عشرين سنة وكان سأله هارون الرشيد عن عجائب الأمور فكان يخبره كما حكى الإمام الدمشقى فى فضايل الجهاد» (٨٢).

واستنادا إلى سمعة فرين العلمية ثبتت هذه القصة فى الدوائر العلمية وتناقلها عدد من العلماء ابتداء من رينو (٨٣). ومن المؤكد أن العرب كانت لهم جاسوسيتهم المنظمة فى ذلك العهد خاصة فى آسيا الصغرى بالذات ؛ لكن هذه القصة التى لفت إليها الأنظار فرين لا تثبت عند التمحيص ، فهى أولا ترجع إلى مصدر متأخر جدا لا يمكن اعتباره مصدرا موثوقا به فقد نقل فرين هذه القصة عن مخطوطة «رسالة الانتصار» (٨٤) التى يبدو أنها من عمل المؤرخ البوسنوى على دده (المتوفى عام ١٠٠٧ ه‍ ـ ١٥٩٨) (٨٥) من أواخر القرن السادس عشر الذى تستند شهرته أساسا على مصنف نقلى له أصاب نجاحا ملحوظا فى القرون الثلاثة الأخيرة ولكن قيمته التاريخية كما أثبت أحد المتخصصين فى فن التاريخ لدى العثمانيين «لا تساوى شروى نقير» (٨٦) ؛ أضف إلى هذا أن ذكر اسم عبد الله سيدى غازى يدل على أننا أمام رواية أخرى للأسطورة المعروفة عن سيد البطال بطل الملحمة العربية ـ التركية. والشخصية التاريخية الواقعية التى صيغ حولها هذا الموضوع الأدبى ترجع إلى منتصف القرن الثامن وترتبط بحملات الأمويين العسكرية على آسيا الصغرى ، وقد لقى عبد الله البطال مصرعه فى معركة ضد البيزنطيين عام ١٢٢ ه‍ ـ ٧٤٠ (٨٧) ، ولم تلبث أن زحزحت الفترة التى عاش فيها إلى نهاية القرن العاشر لتتفق مع تطور الملحمة ؛ ثم تم ربطه بشخصية الرشيد الأسطورية لدى على دده حيث يظهر البطل فى دور لا تسنده أية وقائع تاريخية صحيحة. ولعله ليس من محض الصدفة أن تقترن باسم حفيد الرشيد وهو الخليفة الواثق (٢٢٧ ه‍ ـ ٢٣٢ ه‍ ـ ٨٤٢ ـ ٨٤٧) سلسلة من الرحلات والبحوث الخاصة بالجغرافيا ، بالرغم من أن الباعث إليها فى بعض الأحيان كان مجرد عوامل خيالية بحتة. واثنان منها قد أخذ فيهما طرفا بأمر من الخليفة الواثق رياضى شهير هو محمد بن موسى (توفى عام ٢٥٩ ه‍ ـ ٨٧٣) (٨٨). ولا يوجد ميل فى الآونة الحاضرة ليبصر فى هذا اسم الفلكى المشهور محمد بن موسى الخوارزمى (٨٩) ناشر بطلميوس المعروف لنا جيدا ؛ وكان البعض قد نادى بهذا الرأى من قبل. أما الرحلة الأولى فقد توجهت بعد الحصول على موافقة إمبراطور بيزنطة إلى آسيا الصغرى لفحص كهف الرقيم بين عموريةAmorium ونيقيةNicaea. ومما هو جدير بالملاحظة أن محمد بن موسى رفض أن يرى فى الجثث المحنطة أهل الكهف الوارد ذكرهم فى القرآن. والظاهر أن قصة الرحلة قد نالت بعض الانتشار حتى أثناء حياته ، إذ يرويها لنا ابن خرداذبه (٩٠) بألفاظ المؤلف نفسه ، وهى موجودة فى ترجمة روسية (٩١) ؛ كما يرويها لنا أيضا السرخسى وبألفاظ المؤلف كذلك ، وروايته موجودة لدى المسعودى (٩٢). ويميل علماء اليزنطيات المعاصرون إلى اعتبار هذه الرحلة واقعة تاريخية صحيحة (٩٣). أما الرحلة الثانية التى شارك فيها محمد بن موسى بأمر الخليفة

١٣٣

فقد بعث بها إلى طرخان حاكم الخزر (٩٤) وهى ترتبط برحلة سلّام الترجمان المشهورة إلى سد يأجوج ومأجوج التى سيأتى ذكرها بالتفصيل عند الكلام على الرحلات إلى شرقى العالم الإسلامى.

ومن أهم الحوادث التى ساعدت على توسيع مدارك العرب عن أقطار الغرب فى عهد الواثق كان بلا شك حادث افتكاك مسلم بن أبى مسلم الجرمى (٩٥) من أسر البيزنطيين. ولسنا على بينة من حقيقة اسمه إذ يمكن قراءته الحزمى كما حدث أحيانا ، أو بصيغ أخرى. أما عن شخصه فلا يعرف سوى هذه القصة المتعلقة بإطلاق سراحه والتى حفظها لنا المسعودى ، وهى تمثل أهمية ليست بالضئيلة :

«الفداء الثالث فداء خاقان فى خلافة الواثق باللامس فى المحرم سنة ٢٣١ (الموافق سبتمبر ٨٤٥) .... وفيه خرج مسلم بن أبى مسلم الجرمىّ وكان ذا معل فى الثغور ومعرفة بأهل الروم وأرضها وله مصنفات فى أخبار الروم وملوكهم وذوى المراتب منهم وبلادهم وطرقها ومسالكها وأوقات الغزو إليها والغارات عليها ومن جاورهم من الممالك من برجان والإبر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم وحضر هذا الفداء مع خاقان رجل يكنى أبا رملة من قبل أحمد بن أبى دؤاد قاضى القضاة يمتحن الأسارى وقت المفاداة فمن قال منهم بخلق التّلاوة ونفى الرؤية فودى به وأحسن إليه ومن أبى ترك بأرض الروم فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك وأبى مسلم الانقياد إلى ذلك فنالته محن ومهانة إلى أن تخلص» (٩٦).

ولا تخلو التفصيلات الأخيرة من طرافة بالنسبة للتاريخ الفكرى للخلافة ، فهى دليل على أن المذهب العقلى للمعتزلة كان لا يزال سائدا إلى ذلك العهد ومتمتعا بنفس القبول الذى تمتع به فيما بعد مذهب أهل السنة (٩٧). غير أن الأهمية الجوهرية بالنسبة لنا فى هذه القصة هو القول بوجود مصنفات للجرمى ؛ وبالطبع لو كان قد تبقى لنا شىء منها لاستطعنا بلا ريب أن نصدر الحكم على كثير من المسائل المتصلة بتطور المعلومات الجغرافية عند العرب ، إلا أننا مع الأسف لا نعرف فى الحقيقة من جميع مصنفاته سوى شذرة واحدة لا يعتور الشك صحة نسبتها إلى الجرمى وهى المتعلقة بتعداد الولايات البيزنطية Themata)) (١)وما يرتبط بذلك من وصف نظم تلك الدولة. وقد حفظ لنا هذه القطعة ابن خرداذبه ويرجع تاريخها إلى عام ٨٨٥ ه‍ (٩٨). وأغلب الظن أن المعلومات التى يوردها قدامة (٩٩) عن بيزنطة ترجع إلى الجرمى خاصة وأنه توجد من بينها إشارات إلى أوقات الإغارة على آسيا الصغرى (١٠٠) الأمر الذى نوه إليه المسعودى عند كلامه على مصنفات الجرمى. ومسألة الجزم بوجود مقتطفات وشذرات لدى المؤلفين المتأخرين نقلوها عن مصادر قديمة مفقودة أو مجهولة العناوين من أصعب المسائل وأعسرها ؛ وقد أحسن بعض العلماء ، خاصة ماركفارت Markwart ، بميل شديد إلى أن ينسبوا إلى مسلم الجرمى جميع ما أورده الجغرافيون العرب بصدد الموضوعات التى ذكرها المسعودى عند كلامه على الجرمى (١٠١). والأمر الوحيد

__________________

(*) أو البنود كما يسميها العرب. (المترجم)

١٣٤

الذى لا يتطرق إليه الشك هو أن مصنفاته كانت مصدرا هاما للغاية فى معرفة العرب بالدولة البيزنطية بل وتقدم لنا لأول مرة معلومات مباشرة ومفصلة عن الصقالبة وجيرانهم. ويمكن أن نقرر وفقا لرأى بارتولد أن مادته قد تناقلها جميع الجغرافيين المتأخرين حتى القرن الثالث عشر فى جميع العالم الإسلامى (١٠٢) دون أن يشيروا إلى مصدرها. ويظهر أن تسمية البحر الأسود ببحر الخزر ترجع إليه ؛ وهو قد عرف الصقالبة كجيران لمقدونيا من ناحية الغرب وميز عنهم البرجان أو بلغار الطونة كجيران لتراقيا من ناحية الغرب ولمقدونيا من ناحية الشمال.

وبعد نصف قرن تقريبا من مسلم الجرمى وذلك فى حوالى عام ٢٨٨ ه‍ ـ ٩٠٠ وجد فى أسر البيزنطيين هارون بن يحيى الذى حفظ لنا حقائق هامة خاصة وصفه القيم للقسطنطينية فى ذلك العهد. ويبدو أن محيط معلوماته كان أضيق بعض الشىء من محيط مسلم الجرمى ؛ ولكن مما يزيد فى أهمية روايته أنه قد حفظ لنا قطعة كبيرة منها الجغرافى ابن رستة (١٠٣) ، كما توجد مقتطفات منها لدى القزوينى (١٠٤). وكان هارون بن يحيى قد وقع فى أسر قراصنة من أهل أطاليه Attaleia بآسيا الصغرى وذلك قرب عسقلان بفلسطين فساقوه بحرا وبرا إلى القسطنطينية وامتدت إقامته بعض الوقت زار خلاله رومه عن طريق سلانيك كما زار أيضا أرض الصقالبة والبندقية ؛ وفى رومة حصل على معلوماته عن برغنديا والفرنجة وبريطانيا. وينصب الجزء الأساسى من روايته على وصف القسطنطينية ، وقد لفت النظر إليه حتى قبل طبع كتاب ابن رسته المستشرق الروسى روزن Rosen فنشر النص مع ترجمة روسية منذ عام ١٨٧٩ (١٠٥) وكتب عنه مقالا فى عام ١٨٨٧ (١٠٦). وفى القرن العشرين أخضع ماركفارت (١٠٧) الرواية جميعها لفحص دقيق ، كما أن علماء البيزنطيات وجهوا اهتمامهم فى الأعوام الأخيرة إلى وصفه للقسطنطينية (١٠٨). هذا وقد ظهرت أبحاث عديدة واختلافات فى وجهات النظر حول الفترة التى يرجع إليها وصفه هذا ، فالبعض يميل إلى نسبته إلى عام ٩١٢ (١٠٩) ، هو فرض بعيد الاحتمال (١١٠). ومما يلفت النظر أنه إذا كان وصفه للقسطنطينية لا يخلو من معلومات هامة طريفة تقوم على الملاحظة المباشرة فإن وصفه لرومة على عكس ذلك يقتصر على إيراد «العجائب» Mirabilia ويمثل رواية نقلية ترتفع إلى مصادر مسيحية شرقية ، على أغلب الظن سريانية ؛ وهذا الحكم يصدق على رواية بقية الجغرافيين العرب عن رومة (١١١).

وقد لعبت السفارات إلى جانب الأسرى دورا ملحوظا فى توسيع نطاق المعلومات الجغرافية ؛ ولم تكن أخبار هذه السفارات حتى فى القرن التاسع نفسه شيئا نادرا ولكن فيما يتعلق بالمغرب الإسلامى يجب أن نخص بالعناية شخصية حفظت لنا عنها معلومات جمة تلكم هى شخصية يحيى بن الحكم البكرى (١٥٣ ه‍ ـ ٢٥٠ ه‍ ـ ٧٧٠ ـ ٨٦٤) الملقب بالغزال لجماله والذى لعب دور الدبلوماسى مرتين. وهو شاعر فنان وعلى معرفة بعدد من اللغات ، وكان أمير قرطبة عبد الرحمن الثانى قد وجهه إلى بلاد الشمال ، إلى جتلاندJutland على ما يبدو ، لمفاوضة النورمان. الذين أغاروا قبل ذلك بقليل فى

١٣٥

عام ٨٤٤ على الأندلس ونهبوا اشبيليه. ويلوح أنه قد زار قبل هذا القسطنطينية ضمن سفارة أوفدت لعقد معاهدة صلح مع الإمبراطور تيوفيل. وقد حفظ لنا أخبار السفارة الأولى مؤرخ الأندلس فى بداية القرن الثالث عشر ابن دحية (١١٢) ، أما الثانية فيرويها لنا فى القرن السابع عشر علامة المغرب المقرى (١١٣) ؛ غير أنه تم فى الآونة الأخيرة العثور على معلومات لدى مؤلفين سابقين لهذا (١١٤). وفد حفظ لنا إلى جانب التفاصيل عن الرحلة نفسها ، وهى تفاصيل تتسم بالاقتضاب والتشويش ، بعض شعر للغزال نفسه يمس جوانب من هذه الرحلة. ولا يخلو من طرافة فى هذا الصدد مخاطبته لسيدات البلاط البيزنطى فى شعر عربى رصين تستشف من خلاله تلك العواطف الوجدانية الجياشة التى حفل بها شعر التروبادورTroubadours. وقد نادى أحد العلماء الفرنسيين منذ أمد غير طويل برأى مؤداه أن رحلة الغزال إلى بيزنطة هى الوحيدة التى حدثت فعلا بينما تستند رحلته إلى النورمان على محض اختلاق (١١٥). بيد أنه من العسير الاتفاق مع هذا الرأى المتطرف لأن الرحلة فى واقع الأمر تحفل بتفاصيل واقعية ، بل إن شخصية الملك المذكور فى الرحلة والذى أجهد تحقيق اسمه العلماء وقتا طويلا قد تمكن أخيرا العلامة النرويجى زايبل Seippe من إثبات شخصيته (١١٦).

وقد اقتدى عرب المغرب بإخوتهم عرب المشرق فلم يقصروا اهتمامهم على المشرق وحده الذى ربطه بالعرب تاريخ طويل من العلاقات ، بل جهدوا أيضا فى التعرف على الغرب والكشف عن بلاده غير المعروفة لهم. وعرب الأندلس رغما من خوفهم من المحيط الأطلنطى الذى اقترن فى أذهانهم «ببحر الظلمات» الرهيب قد قاموا بمحاولات عديدة للكشف فيه ؛ ولكن نظرا لأنه لم يصلنا عن هذه الاستكشافات خبر متواتر فقد استمر مجهولا من العالم إلى أن أماط سره الأوروبيون. ويروى لنا المسعودى خبر إحدى تلك المغامرات فى عبارات موجزة مع الإشارة إلى مصنف له لم يصل إلينا :

«ويذهب قوم إلى أن هذا البحر أصل ماء سائر البحار وله أخبار عجيبة قد أتينا على ذكرها فى كتابنا فى أخبار الزمان وفى أخبار من غرّر وخاطر بنفسه ومن نجا منهم ومن تلف وما شاهدوا منه وما رأوا وإذ منهم رجل من أهل الأندلس يقال له خشخاش وكان من فتيان قرطبة وأحداثهم فجمع جماعة من أحداثها وركب بهم فى مراكب استعدّها فى هذا البحر المحيط فغاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة وخبره مشهور عند أهل الأندلس» (١١٧)

ويمكن من الناحية الزمنية إرجاع هذه المغامرة إلى القرن التاسع ، أما النقطة التى بلغوها فهى مجال للتخمين والافتراضات (١١٨).

وقد حفظت لنا بتفصيل أكثر من هذا أخبار رحلة من لشبونة قام بها ثمانية شبان أبناء عمومة لقبوا «بالمغرورين» ، أى المخاطرين. ويروى لنا قصتهم بشكل مفصل الإدريسى (١١٩) وذلك بمناسبة كلامه عن لشبونة ، فقد كان يوجد بها درب يعرف باسمهم هذا (١٢٠) ؛ ويعيد القصة أبو حامد الغرناطى ،

١٣٦

والعمرى (١٢١). وجوهرها أن ثمانية إخوة عزموا على «ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه» فأبحروا مع الريح الشرقية مدة أحد عشر يوما إلى موضع صخرى مخيف شديد الظلمة. ثم اتجهوا جنوبا مدة اثنى عشر يوما إلى أن بلغوا «جزيرة الغنم» فأبصروا قطعان هائلة منها ؛ ثم توغلوا اثنى عشر يوما أخرى فى نفس الاتجاه حتى بلغوا جزيرة أخرى فأسرهم أهلها وكانوا ذوى بشرة حمراء وشعرهم قليل ناعم وطوال القامة. وعندما بدأ هبوب الريح الغربية أمر سيد الجزيرة بترحيلهم معصوبى الأعين إلى القارة التى بلغوها بعد إبحار ثلاثة أيام بلياليها. وهناك علموا من البربر أنهم بجنوبى مراكش على مسيرة شهربن من بلدهم ، وكان موضع نزولهم البقعة التى قامت بها فيما بعد ميناء آسفى Asfi.

وواضح من هذا أن نقاطا عديدة من هذه القصة تدخل فى محيط الأدب الشعبى «الفولكلور» (Folklore) العالمى للقرون الوسطى ؛ وقد استطاع دى خويه أثناء تحليله للأساطير الأوروبية المبكرة عن رحلة القديس براندان أن يكشف عن عدد من نقاط الشبه الطريفة بين القصتين ، مما يشير إلى مصدر مشترك (١٢٢). وبالطبع فإن تحديد زمان ومكان رحلة «المغرورين» يفسح مجالا واسعا للتخمين والافتراضات (١٢٣). ويبدو أن وصف الرحلة يرجع إلى القرن العاشر كما يرى دى خويه ، وذلك قبل إنشاء ميناء آسفى (١٢٤). ويميل بيزلى Beazley إلى الاعتقاد بأن الجزيرة الأولى الوارد ذكرها فى الرحلة هى جزيرة ماديره Madeira أما الثانية فيرى فيها إحدى جزر الكنارى Canaries (١٢٥). وبخلاف هذا فإن أى قول يتعلق بالرحلة لا يخرج عن حيز الافتراضات التى لا يدعمها الواقع ؛ ورغما عن هذا فقد اعتقد المتخصصون فى جغرافيا العصور الوسطى أن هذه الرحلة ربما ساهمت فى الحث على الرحلات المتأخرة التى قام بها الملاحون الأوربيون فى المحيط الأطلنطى (١٢٦). وقد لاقت تسمية هؤلاء الملاحين بالمغررورين ، أو «المغرّرين» كما تروى أحيانا ، انتشارا واسعا ؛ ومما يدعم صحة اشتقاق اللفظ الثانى الاستعمالات العديدة التى وردت لدى المسعودى (١٢٧) ، مما لا يفسح المجال للأخذ برأى متزMetz فى أنه يجب قراءتها «المغربين» أى الضاربين فى الغرب (١٢٨).

إن مغامرة هؤلاء «المغرورين» تخرج بعض الشىء عن الحدود الزمنية الموضوعة لهذا الفصل ولكنها من ناحية أخرى تكمل سلسلة المحاولات العربية للتجوال فى الغرب فى ذلك العهد. فإذا ما ولينا وجهنا شطر المشرق مرة أخرى أمكننا أن نقرر بكل ثقة أن الاهتمام الرئيسى للعرب قد انصب حقا على البلاد الواقعة إلى الشرق من العالم الإسلامى وأن أفق معرفتهم الجغرافية بتلك النواحى قد اتسع بصورة ملحوظة. وهنا يقتصر الحال فى أول الأمر بالطبع على مجرد ذكر الرحلات المختلفة وقد يصحب ذلك سرد لمراحل الطريق ، وشيئا فشيئا يقابلنا عدد من الروايات عن هذه الرحلات احتفظ بها مؤلفون متأخرون أو أعادوا صياغتها فى قالب جديد. أما فى القرن التاسع نفسه فلا نكاد نلتقى بوصف لرحلات يسرده الرحالون أنفسهم.

١٣٧

وفيما يتعلق بالتجارة عن طريق البحر مع الهند وأرخبيل الملايو والصين فإن العرب قد ساروا على التقاليد القديمة لمنطقة جنوبى العراق وسواحل الخليج الفارسى فى العصر الساسانى. ويروى أنه عندما سقطت ميناء الأبلة قرب البصرة فى يد العرب فى خلافة عمر وجد بها المسلمون سفنا صينية (١٢٩). وواضح أن الفرس ظلوا حتى فى عهد السيادة العربية أكثر العناصر جسارة فى ركوب البحر ؛ ومن المعلوم منذ عهد طويل أن المستعمرة العربية الفارسية بميناء كانتون Canton بالصين بلغت حدا من القوة استطاعت معه فى عام ٧٥٨ أن تضع يدها على المدينة وتنهبها وتغادرها عن طريق البحر (١٣٠). وفى الآونة الأخيرة حالف التوفيق العلامة البولندى لفيتسكى Lewicki فعثر على شواهد تثبت زيارة بعض العرب للصين فى ذلك العهد (١٣١) ، وذلك فى تاريخ طائفة الإباضية من الخوارج ؛ ومصدر هذه الشواهد مصنف لأبى سفيان محبوب العبدى المتوفى فى النصف الأول من القرن التاسع (١٣٢) جاء فيه أن أحد شيوخ تلك الطائفة وهو أبو عبيدة عبد الله بن القاسم من أهل عمان كان عالما كبيرا لعصره وتاجرا معروفا اشتغل بتجارة المر. وكان قد سافر بتجارة له إلى الصين ؛ ولكن تاريخ الرحلة غير معروف لنا ولو أنه لاعتبارات شتى يمكن القول بأنها حدثت دون شك قبل نهب كانتون السالف الذكر فى عام ٧٥٨ (١٣٣). أما التاجر الإباضى الآخر فهو النضر بن ميمون الذى عاش بالبصرة على ما يظهر على حدود القرنين الثامن والتاسع ومن هناك سافر إلى الصين ؛ ولكن ليست لدينا أية تفاصيل عن رحلته هذه (١٣٤). وعلى أية حال فإنه يمكن اعتبار هؤلاء التجار الإباضيين بمثابة ممهدى الطريق للتاجر المعروف سليمان ولابن وهب اللذين سنلتقى بهما فى رواية أبى زيد السيراقى التى دونت بعد قرن من ذلك.

يتضح لنا مما مر أن العرب قد جمعوا عن بلدان الشرق الأخرى مادة وجيزة منذ ذلك العهد المبكر السابق للقرن التاسع معتمدين فى ذلك على روايات لشخصيات عربية ؛ ويروى لنا ابن رسته حقائق عن الهند ينقلها عن شخص غير معروف لنا يدعوه أبا عبد الله محمد بن إسحاق ، وكان قد أمضى عامين من حياته فى قمار (أى خميرKhmer ، وهو الاسم القديم لكمبوديا) (١٣٥) وحدث هذا على أغلب الظن الظن فى بداية القرن التاسع (١٣٦). ويعتبره بارتولد المصدر الأساسى عن الهند لا بالنسبة لابن رسته وحده ، وهو الذى نقل عنه فقرات معينة ، بل أيضا «بالنسبة لابن خرداذبه وغيره من الجغرافيين العرب» (١٣٧). وهذا لا يعنى بالطبع أن مادتهم فيما يتعلق بتلك البلاد قد اقتصرت على أبى عبد الله وحده (١٣٨) ، إذ يلوح أن مثل هذه الحالات لم تكن نادرة.

وإلى نفس هذا العهد المبكر ترجع أول معرفة للعرب بالطريق البرى الذى يخترق آسيا الوسطى إلى الصين ، وذلك اعتمادا على الوصف الذى يقدمه تميم بن بحر المطوعى. وكما يتبين من نسبته فإنه لم يكن تاجرا أو عالما بل انتمى إلى فئة المتطوعة من جنود الثغور الإسلامية الذين كثر عددهم على تخوم الخلافة خاصة فى آسيا الوسطى. وقد توجه تميم إلى خاقان الترك التغزغز بمهمة دبلوماسية على ما يظهر ؛ ويرجع

١٣٨

بارتولد تاريخ هذه الرحلة مع بعض التردد (١٣٩) إلى الفترة بين عامى ٧٦٠ و ٨٠٠ (١٤٠). وحفظ لنا ياقوت (١٤١) أهم قطعة من هذه الرحلة أمكن بوساطتها الاستدلال على شخصية المؤلف الذى ترجع إليه القطعتان المجهولتا المؤلف فى معجم ياقوت وكتاب ابن خرداذبه (١٤٢) ؛ وبهذا فإن الأخير هو أول جغرافى عربى يحفظ لنا وصف الطريق البرى إلى الصين (١٤٣). ويمكن أيضا تتبع أثر تميم عند بعض الجغرافيين مثل أبى دلف وقدامة (١٤٤) بل وحتى عند الإدريسى (١٤٥). وتميم هو أول عربى يمدنا بمعلومات عن التغزغز تستند على معرفة مباشرة بهم فى ديارهم (١٤٦) ، وهو إلى جانب الأخبار الطريفة عنهم وعن غيرهم من القبائل التركية الأخرى يصف لنا عاصمة التغزغز خامچوKan ـ Chou قرب طرفان Turfan (١٤٧). وقد ورد لديه أيضا ذكر لحجر المطر عند الترك ، الأمر الذى دفع ياقوت بهذه المناسبة إلى نقل الرواية الأكثر تفصيلا والمأخوذة عن المروزى الذى مر ذكره (١٤٨). والفرض الذى نادى به ماركفارت وهو أن تميما قد زارا الأويغور على نهر الأورخون Orkhon قبل هجرتهم منه (١٤٩) قد ثبتت صحته فى الآونة الأخيرة بعد الاطلاع على مخطوطة ابن الفقيه التى عثر عليها بمشهد ، فهى تورد لنا قصة تميم بصورة أوفى مما لدى ياقوت (١٥٠).

وباسم الخليفة الواثق (٢٢٧ ه‍ ـ ٢٣٢ ه‍ ـ ٨٤٢ ـ ٨٤٧) الذى مر الكلام عليه كمشجع للرحلات تقترن الرحلة الشهيرة لسلام الترجمان إلى الأصقاع الشمالية. وتتخذ هذه الرحلة بالنسبة لوطننا السوفيتى أهمية خاصة ، فليس غريبا إذن أن يرجع الاهتمام بها بين ظهرانينا إلى أكثر من قرنين فيكتب عن سلام الترجمان (Alsalemo Altargjeman) واحد من أوائل الأكاديميين لدينا وهو بايرBayer وذلك فى أول جزء من «التعليقات» (Commentaries) الأكاديمية (١٥١). ولم تتغير كثيرا نظرة الدوائر العلمية فيما يتعلق بسلام فى السبعين عاما الأخيرة ؛ وإذا كان اشبرنجرSprenger قد اعتبر الرحلة منذ عام ١٨٦٤ «تضليلا مقصودا» (١٥٢) ، وهو موقف انضم إليه بالتالى غريغورييف Grigoriev (١٥٣) فإن مينورسكى Minorsky أيضا ، وذلك فى عام ١٩٣٧ ، يرى فيها «حكاية خرافية تنتثر فيها بضعة أسماء جغرافية» (١٥٤). إلا أنه لا يجب أن نهمل الآراء المعارضة لذلك ، فمنذ عام ١٨٨٨ اعتبر دى خويه (١٥٥) الرحلة واقعة تاريخية لا شك فيها وأنها جديرة باهتمام العلماء ، وقد أيده فى هذا الرأى (١٥٦) خبير ثقة بالجغرافيا التاريخية هو توماشك Tomaschek (١٥٧) ، وفى الآونة الحاضرة يرى عالم البيزنطيات فاسيلييف Vasiliev أنه من الممكن القول بأن سلاما «قد نقل إلى الخليفة الروايات المحلية التى سمعها فى الأماكن التى زارها (١٥٨)» ، ويلوح لى أن هذا الرأى الأخير لا يخلو من الوجاهة رغما من أن وصف الرحلة ، شأنه فى هذا شأن جميع الآثار من هذا النوع ، لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية بل مصنفا أدبيا يحفل بعناصر نقلية من جهة وانطباعات شخصية صيغت فى قالب أدنى من جهة أخرى.

١٣٩

ويجب قبل كل شىء ملاحظة أن القصة قد وصلت إلينا فى رواية جديرة بالثقة ، فابن خرداذبه يرويها لنا بألفاظ سلام نفسه (١٥٩) ويوكد فى آخر روايته (١٦٠) أنه قد سمعها فى بداية الأمر من سلام ثم أمليت عليه من التقرير الذى رفعه سلام إلى الخليفة (١٦١). ومما يدعم صحة هذه الرواية قول المقدسى عن ابن خرداذبه بصدد هذا : «لأنه كان وزير الخليفة وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين» ، هذا إلى جانب أنه قد سمعها مباشرة من صاحبها (١٦٢). وقد نالت القصة انتشارا واسعا فى الأدب الجغرافى العربى ورواها الجغرافيون المتقدمون والمتأخرون مع تفاوت فى التفاصيل ، مثل ابن رسته (١٦٣) وياقوت (١٦٤) وأبى حامد الغرناطى والإدريسى (١٦٥) والقزوينى (١٦٦) والنويرى (١٦٧) وغيرهم. وحفظ لنا الإدريسى بضعة تفاصيل منها وجدت على ما يظهر فى المسودة الأصلية لابن خرداذبه (١٦٨) التى لم تصل إلينا ، وسقطت من موجز كتابه الموجود بين أيدينا الآن.

وكان الدافع إلى إرسال هذه السفارة دافعا خياليا بحتا كنفس الدافع الذى جعل الخليفة يبعث محمد بن موسى الفلكى ليستقصى خبر أهل الكهف. فقد تراءى للخليفة فى المنام كأنما انفتح السد الذى بناه الإسكندر ذو القرنين ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج ؛ ولعل هذا الحلم المزعج قد سببته للخليفة الشائعات عن تحرك القبائل التركية فى أواسط آسيا نتيجة لقضاء القرغيز على دولة الأويغور حوالى عام ٨٤٠. هذا وإذا طرحنا جانبا كل التفاصيل نجد أن خط سير سلام (١٦٩) قد اتجه شمالا خلال أرمينيا وجورجيا (بلاد الكرج) إلى بلاد الخزر ، ثم اتجه من هناك شرقا إلى بحر قزوين فوصل إلى بحيرة بلقاش Balkash وجنغارياZhungaria ، وعاد من هناك إلى سامرا بالعراق مارا فى طريقه على بخارى وخراسان. وهو بلاشك قد أبصر سد القوقاز المشهور عند دربند (١٧٠) ؛ ومن ناحية أخرى فإن من الممكن جدا أن يكون قد بلغ سور الصين العظيم كما أثبت ذلك دى خويه (١٧١). ويمكن تفسير الخلط فى وصفه للحائطين بأن عصر الخوارزمى ، معاصر سلام ، قد عرف روايتين عن سدى ذى القرنين إحداهما تضعه فى الشرق والأخرى فى الشمال (١٧٢). ومن المحتمل جدا أن سلاما قد حاول إلى جانب تسجيل انطباعاته المباشرة أن يردد أيضا وفى قالب أدبى الرواية الموجودة فى القرآن (١٧٣) عن سد يأجوج ومأجوج. ومن المستحيل بالطبع تحديد ميدان تجواله بالمنطقة الواقعة بين القريم والأورال كما فعل منذ عهد غير بعيد العالم الهنغارى زيتشى Zichy (١٧٤) الذى أبصر فى السد ممرا من ممرات جبال الأورال حصنته البلغار (١٧٥). وأحد كبار العلماء المحدثين وهو خبير فى الجغرافيا التاريخية لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى يختتم كلامه عن سلام بقوله : «لا يوجد أدنى شك فى أن سلاما قام فى حوالى عام ٨٤٢ ـ ٨٤٣ مرحلة عبر فيها القوقاز ، وأرض الخزر متجها صوب الشرق ، ثم مر فى طريقه على برسخان وطراز (تالاس) وسمرقند راجعا إلى خراسان ؛ وهو قد أبصر بالفعل فى هذه الرحلة حائطا أو ممرا جبليا يشبه الحائط» (١٧٦). وبهذا يمكن القول بأن سلاما قد ظفر أخيرا ببعض الثقة لدى الدوائر العلمية.

١٤٠