تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي

تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

المؤلف:

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي


المترجم: صلاح الدين عثمان هاشم
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٩

ولكن لا يمكن القول إطلاقا بأنه قد استوفى أسماء جميع من استقى مادته منهم (٣٥). وقد حدث وأن عرضنا لعدد كبير منهم فيما مر من هذا الكتاب معتمدين فى ذلك أحيانا على ياقوت وحده وذلك لفقدان الأصول التى نقل عنها. ويختتم ياقوت المقدمة بتحليل لكتابه ولمنهجه فى التأليف (٣٦) ، وهى مسألة قد ألقى عليها روزن بعض الضوء فى بحثه المشار إليه. وقد رفض ياقوت فى كثير من الحدة والغيرة التماس من طلبوا منه مرارا اختصار كتابه ، وهو يستشهد فى هذا الصدد بحكاية للجاحظ فى عيوب اختصار الكتب (٣٧).

ويلى المقدمة خمسة أبواب بمثابة مدخل للمعجم ، يعرض أولها للنظريات المختلفة فى صورة الأرض معتمدا فى ذلك على معطيات الجغرافيا الرياضية المعروفة لنا فى جوهرها. ويميل ياقوت إلى اعتبار الأرض كروية تتجاذبها أطراف الفلك من جميع النواحى كالمغناطيس. ويبحث الباب الثانى فى نظام تقسيم الأقاليم ، ولكن ياقوت يورد فيه أيضا قائمة البروج الاثنى عشر والبلدان الواقعة تحت تأثيرها كما يعرض للطرق العملية المتبعة فى تحديد قبلة كل موضع من الأرض. وأما الباب الثالث ففى تفسير المصطلحات التى يرد ذكرها فى المصنفات الجغرافية كالبريد والفرسخ والميل ، وأيضا النواحى كالإقليم والكورة والمخلاف والاستان والرستاق والطسوج والجند وآباد والسكة والمصر ، ثم يوضح مصطلحات الجغرافية الفلكية كالطول والعرض والدرجة والدقيقة ، ثم المصطلحات الخاصة بالخراج وغلة الأرض كالصلح والسلم والعنوة والخراج والفىء والغنيمة والصدقة والخمس والقطيعة. ويعطى الباب الرابع تصنيفا قصيرا للبلاد المختلفة التى فتحها المسلمون وذلك وفقا للخراج الذى يجبى من كل منها. أما الباب الخامس فأشبه ما يكون بمقدمة فى أخبار البلاد وسكان النواحى المختلفة وتوزيع الممالك بحسب مكانتها وعراقتها فتأتى فى المرتبة الأولى بابل وتليها الهند فالصين فالترك فالروم. وفقط بعد هذه الأبواب المدخلية (Introductory) التى تشغل خمسين صفحة من الكتاب (١) يبدأ المعجم بمعناه الدقيق.

وترد فيه أسماء المواضع بحسب الترتيب الأبجدى كما هو الحال مع المعاجم السابقة المعروفة لنا ؛ ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن الترتيب قد يختلف داخل الحرف الواحد أحيانا ، وهو أمر غير معهود لنا من قبل. وبعد إيراد الاسم يرد توضيح مفصل بالألفاظ لنطقه مع ذكر اختلاف القراءات. وكثيرا ما يسوق ياقوت اشتقاق بعض التسميات ويحاول توضيح منشئها وأصلها ؛ وكما هو ديدن جميع اللغويين العرب فهو يحاول أيضا تفسير التسمية من صميم اللغة العربية ولا يسمح بفكرة وجود أصل غير عربى لها إلا فى حالات نادرة. وهذا القسم الأول اللغوى يصحبه فى العادة شواهد من الشعراء العرب ممن يمكن الثقة فيهم لتحديد النطق الصحيح الذى قد يعتمد أحيانا على البحر والقافية ؛ ثم يلى هذا عادة بيان طول وعرض المكان مع تحديد البرج الذى يقع تحته.

__________________

(*) ظهرت فى عام ١٩٥٩ ترجمة إنجليزية لهذه الأبواب الخمسة مع تعليقات وافية وإشارات إلى المراجع ؛ وهى بقلم وديع جويدة وقد طبعت بدار بريل Brill بليدن. (المترجم)

٣٤١

أما القسم التاريخى الذى يعقب هذا مباشرة فيبحث فى أصل الموضع الجغرافى المذكور ونشأته والظروف التى أحاطت بذلك ، ومن سكنه والدور التاريخى الذى لعبه ؛ وكثيرا ما يصحب هذا الأخبار والأساطير المتعلقة به. وإذا جاء ذكر الموضع فى القرآن أو الحديث سيقت فى ذلك الشواهد ، وإذا كان قد فتحه المسلمون فيعرض لتاريخ هذا الفتح ؛ كما يورد على الدوام تقريبا أسماء كبار علمائه خاصة الفقهاء وأهل الحديث وأسماء أساتذتهم وتلامذتهم. وبخلاف هذا فليس من النادر أن يعطى ياقوت وصفا دقيقا للأمكنة والمدن التى زارها ويورد تفاصيل دقيقة عن الأبنية المختلفة والقلاع والمرافئ ، وهو كثيرا ما يقف أيضا ليصف عادات وأخلاق القبائل والشعوب كما لا يهمل الكلام عن صنوف العجائب فى البلاد النائية. ويتخلل العرض أثناء ذلك ضروب من الحكايات الطريفة والنكات والقصص مع مختارات واسعة من الشعر ، وقد يضمنه قطعا ورسائل بأجمعها من المؤلفين السابقين. ونتيجة لهذا فقد تنشأ لديه أحيانا مقالة قائمة بذاتها تمتد أحيانا إلى عشر أو خمس عشرة صفحة.

ومن الطبيعى ألا تظفر جميع مواد المعجم بمثل هذه الصورة الحافلة ؛ وإذا كان القسم اللغوى موجودا على الدوام فإن التاريخى قد يختفى بالطبع عند الكلام على محلة مغمورة أو غير معروفة جيدا ، وفى هذه الحالة يختفى أيضا القسم الفلكى ويرد تحديد موقع المكان بصورة تقريبية ؛ وأحيانا قد تقتصر المادة على سطر واحد فقط مع التعريف بالاسم بشكل عام.

وليست بنا حاجة الآن إلى التحدث بشكل خاص عن مصادر المعجم الجغرافى لياقوت فقد رجعنا إليه أكثر من مرة فى الفصول السابقة من كتابنا هذا واقتنعنا بأنه يجمع شتات المادة الجغرافية الضخمة التى تراكمت على ممر ستة قرون. ورغما عن الميل اللغوى الملحوظ عند المؤلف فإن هذا المصنف الجامع ، كما تبين لنا أكثر من مرة ، لم يقتصر على الجغرافيا اللغوية أو الوصفية بل شمل أيضا الرياضية وحفظ لنا فى هذا المجال معطيات من مصادر أخرى ليست معروفة دائما ، الأمر الذى وضحه بالكثير من الدقة هو نغمان فى كتابه عن الأقاليم السبعة. كما يتوكد هذا فى مواضع أخرى من المعجم ؛ فمن بين جميع الزيجات (أى الجداول الفلكية) أولى ياقوت اهتماما خاصا لزيج أبى عون إسحاق بن على (٣٨). وهو لم يكن معروفا لخبير كبير فى الموضوع مثل نالينوNallino الذى استطاع أن يثبت شبه هذا الزيج «بصورة الأرض» للخوارزمى (٣٩) وذلك اعتمادا على الشذور التى حفظها لنا منه ياقوت. من هذا يتضح لنا أنه حتى فى هذا المجال الذى لم يهتم له كثيرا فإن ياقوت وجد تحت تصرفه مصادر لم تصل إلى أيدينا.

ومادة ياقوت متنوعة للغاية ؛ وهو لم يقصر نفسه على العالم الإسلامى وحده كما فعل ممثلو المدرسة الكلاسيكية ، كما وأنه لم يفرد أهمية استثنائية لمواضع جزيرة العرب دون غيرها كما فعل ممثلو المدرسة اللغوية.

وقد رأينا كيف وزع اهتمامه بالسوية على العالم الإسلامى والشرق الأقصى وأن هذا الحكم ينطبق أيضا على معالجته لأوروبا الشرقية والشمالية. ومن الطبيعى أن معرفته بالمشرق أفضل بكثير من معرفته بالمغرب ،

٣٤٢

ولكن فيما يتعلق بالأخير فإنه تقابلنا أحيانا تفاصيل تدل على معرفته الواسعة بأحواله. وقد أثبت أمارى Amari (٤٠) أن ياقوت هو المؤلف الوحيد الذى حفظ لنا شذرات من مصنفين مفقودين لمؤلفين من صقلية هما أبو على الحسن (حوالى عام ١٠٥٠) (٤١) وابن القطاع (توفى عام ٥١٥ ه‍ ـ ١١٢١) (٤٢) ؛ وهو يعتمد عليهما اعتمادا كليا فى معلوماته عن الجزيرة. وعلى العكس من هذا فإن معرفته بإيطاليا على العموم لم تكن جيدة ؛ ونفس هذا الحكم كما لاحظ زيبولدSeybold يصدق على معرفته بقورسيقا ولا نغوبرديه وكلابريا ومالطة وغيرها (٤٣).

وبخلاف المعجم الكبير فإنه يرتبط باسم ياقوت أيضا مصنفان جغرافيان معروفان تم طبعهما قبل المعجم وهبطت قيمتهما عقب طبعه. أولهما وضعه بعد المعجم الكبير لهدف خاص وهو يحمل عنوان «كتاب المشترك وضعا والمفترق صقعا» أى أنه بمثابة معجم للمواضع التى تشترك فى الاسم. ويتضح من ألفاظ ياقوت نفسه فى مقدمة هذا الكتاب أنه قد استخرجه من معجمه الكبير ليكون أسهل عند المراجعة. ومادته مقتضبة إلى أقصى حد ؛ كما أسقطت منه جميع تلك الاستطرادات التى تضفى أحيانا على مصادرها أهمية خاصة. ونظرا لأنه قد تم تأليفه عقب المعجم الكبير فقد أضحى فى حيز الإمكان إضافة تفاصيل صغيرة إليه غير موجودة بالمعجم ، الأمر الذى يجعل من المفيد الرجوع إليه فى أمثال تلك الأحوال. أما من ناحية الكم فمادته هو أيضا واسعة جدا إذ يورد فيه ذكر ألف وواحد وتسعين اسما تعالج أربعة آلاف ومائتين وواحدا وستين موضعا جغرافيا.

أما المصنف الثانى الذى يحمل اسما تغلب عليه الصنعة هو «مراصد الاطلاع على أسماء الأماكن والبقاع» والذى طبع مسودته يينبول Juynboll (٤٤) فإنه ليس من عمل ياقوت نفسه. فهذا الكتاب الذى لا يمثل فى الواقع سوى موجز للمعجم الكبير قد عمله بعد مائة عام من ذلك على ما يظهر شخص يدعى صفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحكم (توفى عام ٧٣٩ ه‍ ـ ١٣٣٨) ؛ ولا تزال مسألة من هو المؤلف موضع نزاع (٤٥) ، فرينوReinaud الذى فحص الطبعة بعناية فائقة خرج بنتيجة مؤداها أنه قد وجد على الأقل ثلاث موجزات أو ثلاث مسودات تحت عنوان واحد ؛ إحداها فقط لياقوت ولكنها لم تصل إلينا (٤٦). وإذا تذكرنا موقف ياقوت من الموجزات كما حدده هو بنفسه فى آخر مقدمته للمعجم الكبير فإن وجود مصنف له من هذا النوع عرضة لشك كبير. أما المسودة الثانية فيرجعها رينو إلى عبد المؤمن هذا ، (٤٧) بينما ينسب الثالثة إلى السيوطى (٤٨) المشهور وقد تم العثور عليها منذ وقت غير طويل (٤٩). وطبعة يينبول فى ستة أجزاء (٥٠) قد أحيطت بالكثير من العناية والاهتمام (١) بحيث ساهمت مساهمة فعالة فى تيسير مهمة فستنفلد عند تحضيره لطبعة المعجم الكبير. وتقتصر أهميتها فى الوقت

__________________

(*) ظهرت له طبعة جديدة فى البلاد العربية لا أعتقد أنها تختلف كثيرا عن طبعة يينبول. (المترجم)

٣٤٣

الحاضر على أنه يمكن بواسطتها أحيانا توضيح النقاط المغلقة فى المعجم الكبير ، كما ستستمر على الدوام مفيدة وقيمة تعليقات يينبول عليها.

وكان ياقوت أديبا واسع الأفق وكاتبا جم النشاط متعدد النواعى ؛ ومن دون حاجة إلى ذكر مصنفاته التى لم تصل إلينا فإنه يكفى أن نشير إلى معجم الأدباء الذى لا يقل حجما أو أهمية عن معجمه الجغرافى بل وربما يفوقه فيما يتعلق بالمادة التاريخية والحضارية عن العالم الإسلامى. ومن المستحيل مقارنة ياقوت ببحاثة عالمى كالبيرونى أو رحالة من طراز المسعودى أو المقدسى ، غير أنه لدى المقارنة بجماعة الجغرافيين اللغويين من أمثال البكرى فإن ياقوت يبزهم أجمعين ، ليس فقط فى غزارة مادته وتنوعها بل أيضا فى منهجه المستقل الذى ينطوى على الذكاء. لكل هذا فإن مصنفه الجغرافى يختتم بجدارة العهد السابق للغزو المغولى ، أما هو نفسه فيمكن اعتباره من أبرز رجالات عصره خاصة فى هذا الفرع من الأدب الذى نعالجه فى كتابنا هذا. ولا يزال معجمه إلى أيامنا هذه يخدم غرضه ويلعب دوره كمرجع موثوق به ، مما يقف برهانا ساطعا على أهميته التى لا تضارع.

وبعد عامين من وفاة ياقوت توفى ببغداد معاصره الأكبر سنا منه (موفق الدين) عبد اللطيف (ابن يونس) البغدادى (٥١) ، الذى لم يكن عالما لغويا فى الأصل بل عالما بيولوجيا (Biologist) ، ولم يكن مؤلف سفر ضخم جامع بل رسالة صغيرة عن مصر ذات أهمية جغرافية عامة ممتازة.

وسيرة حياته معروفة لنا جيدا بفضل الإشارة إليها فى عدد من المؤلفات من ناحية وبفضل الشذرات من سيرة حياته التى كتبها بنفسه (Autobiography) والتى حفظها لنا ابن أبى أصيبعة (توفى عام ٦٦٨ ه‍ ـ ١٢٧٠) فى الفصل الذى أفرده له فى تاريخه للأطباء. وكان جد ابن أبى أصيبعة صديقا حميما لعبد اللطيف كما أن أباه قد درس الطب عليه. وقد ولد عبد اللطيف ببغداد عام ٥٥٧ ه‍ ـ ١١٦٢ وترعرع بها ودرس الأدب والكيمياء التى كانت تشمل آنذاك الكيمياء والطب. وكانت مراكز تلك العلوم قد أخذت منذ ذلك الوقت تنتقل غربا لذا ففد توجه عبد اللطيف فى طلب العلم ، لا فى إثر ياقوت إلى بلاد ما وراء النهر بل إلى الشام ومصر. وقد بدأ ترحاله عام ٥٨٥ ه‍ ـ ١١٨٩ من الموصل حيث استمع هناك إلى الرياضى الفقيه الذى ذاع صيته فى ذلك الوقت كمال الدين بن يونس ، وهو أحد العلماء الذين تمكنوا من حل المسألة الهندسية التى طرحها مع مسائل أخرى على العلماء العرب الإمبراطور فردريك الهوهنشتاوفنى Frederik of The Hohenstaufen (٥٢). وبفلسطين استرعى عبد اللطيف أنظار صلاح الدين الأيوبى الذى كان يقاتل الصليبيين فوصله وعينه مدرسا بإحدى مساجد دمشق. وبعد وفاة صلاح الدين فى عام ٥٨٩ ه‍ ـ ١١٩٣ انتقل عبد اللطيف إلى مصر وتمتع برعاية الأيوبيين وظل بها يدرس الفقه ويتابع أبحاثه فى الطب والنبات ؛ وقد يسرت له علاقته بالأيوبيين التعرف بعدد كبير من فطاحل العلماء بمصر والشام مثل عماد الدين الأصفهانى مؤلف سيرة صلاح الدين والقاضى الفاضل وزيره ،

٣٤٤

وأيضا موسى بن ميمون. وبمصر شهد عبد اللطيف المجاعة الهائلة والوباء الفتاك الذى حدث عام ٥٩٧ ه‍ ـ ٥٩٨ ه‍ ـ ١٢٠٠ ـ ١٢٠٢. وفى عام ٦٠٤ ه‍ ـ ١٢٠٧ نقابله مرة أخرى بحلب ومن هناك ذهب فى رحلة إلى آسيا الصغرى استمرت عدة أعوام ، وأمضى بعض الوقت ببلاط أمير أرزنجان قرب أرضروم. ومن المحتمل أنه فى أثناء رحلته هذه تعرف عن كتب على أخبار المغول ، وقد حفظ لنا المؤرخ الذهبى (توفى عام ٧٤٨ ه‍ ـ ١٣٤٨ (٥٣)) كثيرا من رواياته عنهم. ورجع عبد اللطيف إلى بغداد فى شيخوخته وتوفى بها عام ٦٢٩ ه‍ ـ ١٢٣١.

وكان عبد اللطيف رجلا جم المعرفة ضاربا فى جميع فروع العلم بسهم ، كما كان عالما دقيق الملاحظة فهو بهذا يمثل طراز العالم المحقق الذى يتوق إلى المعرفة الإيجابية مع ميل واضح إلى التجربة العلمية. ولم تقتصر معرفته على مصنفات العرب وحدهم بل عرف مصنفات اليونان خاصة أرسطو وديوسقوريدس وجالينوس. ولم يزاول مهنة الطب فقط بل كان أيضا بحاثة فى العلوم الطبيعية عامة ، وهو قد طبق نظريات جالينوس على الموميات الموجودة بمصر وصحح بعض معطياته فى التشريح. وقد تمكن بعد معاينة مومياء من بوصير أن يثبت على نقيض جالينوس أن الفك الأسفل لا يتكون من عظمين بل من عظم واحد (٥٤). ومثل هذا الاهتمام وتلك المقدرة فى التحليل الدقيق يسود جميع ملاحظاته سواء عن الطبيعة أو عن الناس فى جميع الملابسات.

وعدد مصنفات عبد اللطيف كبير بعضها فى العلوم الفقهية والأدب والبعض الآخر فى العلوم الطبيعية بالمفهوم الواسع للفظ كالنبات والطب والتشريح. غير أن شخصيته تنعكس بصورة جلية فى أثره المعروف لنا أكثر من غيره والذى يتصل اتصالا مباشرا بالأدب الجغرافى ، أعنى بذلك سفره الصغير عن مصر الذى عرفه العلم الأوروبى منذ نهاية القرن الثامن عشر والذى يحمل عنوان «كتاب الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر». وكما يقرر عبد اللطيف نفسه فإن كتابه ليس سوى ملخص لمصنف كبير له فى نفس الموضوع وأنه بدأ تأليفه فى رمضان عام ٦٠٠ ه‍ ـ ١٢٠٤ بالقاهرة وأتم تهذيبه ببيت المقدس عام ٦٠٣ ه‍ ـ ١٢٠٦ ورفعه إلى أحد خلفاء صلاح الدين وهو أخوه الملك العادل «لئلا ينطوى عن العلوم الشريفة شىء من أخبار بلاده وإن تراخت أو يخفى بعض أحوال رعاياه وإن تناءت» (٥٥).

وينقسم الكتاب إلى مقالتين تنقسم كل منهما إلى بضعة فصول ، الفصل الأول من المقالة الأولى يقدم ملاحظات عامة عن مصر ، طبيعتها وسكانها ؛ والثانى والثالث يصفان نباتها وحيوانها ، وقد أثبتت الأبحاث الخاصة فى تاريخ النبات أنهما يحتويان على معطيات ذات قيمة كبيرة (٥٦). أما الفصل الرابع فطريف جدا فى فكرته إذ يصف فيه عبد اللطيف آثار مصر القديمة ، وكما هو معروف فإن الاهتمام بالآثار القديمة (الأركيولوجياAchaeology) نادر ما وجد بين العرب ، وفى هذا المضمار يمثل

٣٤٥

عبد اللطيف حالة استثنائية. وأطرف من هذا أن عبد اللطيف يعترض على التخريب الوحشى للآثار القديمة وإتلافها كما يعترض أيضا على البحث عن الكنوز القديمة الذى يستند على الأساطير والمعتقدات الباطلة. وفى الفصل الخامس يصف الأبنية فى مصر المعاصرة له وأيضا السفن ، بينما يبحث الفصل السادس فى صنوف الأطعمة والمأكل. أما المقالة الثانية من رسالته فتحتوى على ثلاثة فصول فقط ، الأول منها مكرس للنيل وفيه ينتقد عبد اللطيف مرة أخرى بعض المعتقدات الباطلة السائدة عن منابعه وعن أسباب حدوث الفيضان ؛ وقد حاول عبد اللطيف أن يقيس ارتفاع الفيضان كل عام على أساس الملاحظة المتتابعة. أما الفصلان الأخيران فيقدمان وصفا حيا لا يخلو من الرهبة لحوادث ٥٩٧ ه‍ ـ ٥٩٨ ه‍ ـ ١٢٠٠ ـ ١٢٠٢ التى اجتاح فيها مصر قحط هائل ووباء مروع. وقد دفعته نزعته العلمية كطبيب وبحاثة إلى الاحتفاظ بقوة ملاحظته ورباطة جأشه ، فهو يصف لنا بهدوء وبدقة تامة الحالات الرهيبة لأكل لحوم البشر وكيف كانوا يختطفون الأطباء الذاهبين لعيادة مرضاهم وكيف أحرق المجرمون الذين ثبتت عليهم تهمة أكل الغير وكيف وجدت جثث هؤلاء المجرمين مأكولة فى الصباح. وفى جميع هذه الظروف المروعة لم يفقد عبد اللطيف حب الاستطلاع وروح البحث المتأصلين لديه فأجرى عددا من الملاحظات التشريحية والطبية. ولا يزال كتابه فى هذا الصدد محتفظا بقيمته كوثيقة إنسانية حية. وهو مهم ليس فقط من وجهة النظر الجغرافية الصرفة بل كوصف للأحوال التاريخية والاجتماعية لعصره ، ناهيك ما يحفل به من مسائل علمية متنوعة.

وقد تعرف الاستعراب الأوروبى على هذا الأثر مبكرا وأولاه اهتماما جديرا به منذ الخطوات الأولى فى تاريخ تطوره ؛ فمنذ مستهل القرن السابع عشر جلب مؤسس الاستعراب الإنجليزى بوكوك الأكبرE.Pococke مخطوطة قديمة جدا من الشرق ، وهى موجودة الآن بالمكتبة البودليةBodleyan. وكان يحلم هو وخلفاؤه بنشر هذا الأثر وترجمته ، بل وبدأوا فعلا ذلك أكثر من مرة ، ولكن يلوح أنه قد أحاطت بهذا الأثر طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر لعنة شريرة (٥٧) فلم تظهر الطبعة التى أعدها وايت White إلا عام ١٧٨٩ (٥٨) ، وأعيد طبع المتن مرة ثانية فى عام ١٨٠٠ (٥٩) وعنها ترجم الكتاب مرتين إلى الألمانية ومرة إلى اللاتينية ، كما نشرت وترجمت معه سيرة عبد اللطيف البغدادى لابن أبى أصيبعة. ولم يلبث أن توّج هذا المجهود فى آخر الأمر بظهور ترجمة علمية مصحوبة بالشروح والتعليقات لسلفستر دى ساسى Sylvestre de Sacy (١٨١٠) ، أعنى بذلك بحثه المشهور «Relation d\'Egypte». وهى محاولة كانت بالنسبة لعصرها شيئا ممتازا ، ولا يزال بحثه يحتفظ إلى الآن ببعض الأهمية التى يتمتع بها الأثر نفسه ، بل إن روزن لم يجد كفئا له فى أوائل القرن التاسع عشر إلا بحث فرين المشهور عن ابن فضلان. وكان آخر من اهتم بتقدير الأثر حق قدره ممثلو النهضة الأدبية العربية المعاصرة الذين احتذب أنظارهم عبد اللطيف بشكل خاص فى السنوات الثلاثينات فأفرد له النقادة المعروف سلامة موسى

٣٤٦

كتيبا (١٩٣٤) (٦٠) والمؤرخ محمد عبد الله عنان فصلا فى كتابه القيم «مصر الإسلامية» (١٩٣١) (٦١). وهكذا ظفر عبد اللطيف بتقدير المستعربين والعرب وتردد اسمه لدى علماء الحياة (biologists) والمؤرخين. ورغما من أنه ينتمى إلى طراز من الناس يخالف تماما طراز ياقوت إلا أنه يعتبر بنفس الدرجة مثالا نموذجيا لعصره وبيئته بل ولجميع الحضارة العربية عشية الغزو المغولى.

ولم يكن الاهتمام بعلم النبات شيئا غريبا على الجغرافيين العرب بل كان يمثل أحيانا هدفا أساسيا لرحلاتهم ومصنفاتهم ؛ فبعد عبد اللطيف زار مصر عالم من الأندلس يحمل لقب «النباتى» ، كما أن كنيته «ابن الرومية» تشير إلى أن والدته من نصارى أسبانيا. أما اسمه فلم يختلف عن الأسماء المعهودة لدى المسلمين وهو أبو العباس أحمد بن محمد ، وقد ولد باشبيلية وتوفى بها على ما يظهر عام ٦٣٧ ه‍ ـ ١٢٣٩ بعد رحلات واسعة (٦٢).

ورغما من حمله للقب «الحافظ» (وذلك لحفظه القرآن) فإن ميوله على أية حال اتجهت نحو علم النبات بحيث اعتبره العرب من أكبر علمائهم فى هذا الفرع من العلوم. ولهذا ما يبرره فقد درس النبات نتيجة لاهتمامه المباشر به وليس بأغراض الطب فحسب كما جرت العادة. وفى البداية ساح فى أسبانيا وحدها وعلى محاذاة جبل طارق ثم عبر البحر حوالى عام ١٢١٧ إلى شمال أفريقيا ومصر وأدى فريضة الحج مدفوعا دائما بنفس أهدافه فى دراسة النبات. وقد حاول السلطان الأيوبى العادل أن يغريه بالبقاء بمصر لمعرفته الواسعة بالطب ولكن «النباتى» آثر الرحيل إلى الشام والعراق ليتعرف على نباتاتها غير الموجودة بالمغرب ؛ ولعله رجع إلى الأندلس عن طريق صقلية. وقد أودع نتائج ملاحظاته ودراساته كتابه الذى يحمل عنوانا عاديا وهو «كتاب الرحلة» ؛ ويتضح من المقتطفات المتبقية منه أن الكتاب قد كرس فعلا بتمامه للمسائل النباتية وحدها وحفل بمعلومات جديدة فى صددها مثال ذلك ما يورده عن نباتات سواحل البحر الأحمر. ومصنفه معروف إلى الآن فى مقتطفات كبيرة فقط حفظها لنا معاصره الأصغر وتلميذه عالم النبات الشهير ابن البيطار (توفى عام ٦٤٦ ه‍ ـ ١٢٤٨) (٦٣).

وانتساب جميع هؤلاء العلماء إلى عصر الموحدين يبرر الكلام عن مؤرخ قام بمحاولة طريفة لفصل المنهج التاريخى عن المنهج الجغرافى وهو الأمر الذى لم يحفل له كثيرا التأليف العربى كما رأينا ، ذلكم هو عبد الواحد المراكشى سمى الفلكى المعروف الذى مر بنا الكلام عليه (٦٤). وقد ولد بمراكش عام ٥٨١ ه‍ ـ ١١٨٥ ودرس بفاس وأقام بالأندلس وأدى فريضة الحج ثم استقر بمصر وكان بها أثناء استيلاء الصليبيين على دمياط (٦١٧ ه‍ ـ ٦١٩ ه‍ ـ ١٢٢٠ ـ ١٢٢٢) (٦٥).

ومصنفه الأساسى هو «كتاب المعجب فى (تلخيص) أخبار المغرب» الذى كرسه لتاريخ دولة الموحدين مع مقدمة قصيرة فى الحوادث السابقة لذلك ؛ وقد أتمه حوالى عام ٦٢١ ه‍ ـ ١٢٢٤. والكتاب معروف منذ السنوات الأربعينات للقرن الماضى بفضل طبعة دوزى Dozy ثم الترجمة الفرنسية

٣٤٧

بقلم فانيان Fagnan. وتحقيقا لرغبة مولاه يعطى المراكشى فى القسم الأخير من الكتاب وصفا جغرافيا لدولة الموحدين ولكن يسبقه بالألفاظ الآتية التى يتضح منها أنه يعتبر هذا الموضوع غير مناسب على الإطلاق لمهنة المؤرخ :

«وقد رسم مولانا حرس الله مجده أن يضاف إلى هذا التصنيف ذكر أقاليم المغرب وتعيين مدنه وتحديد ما بينها من المراحل عددا من لدن برقة إلى سوس الأقصى وذكر جزيرة الأندلس وما يملكه المسلمون من مدنها على ما تقدم فلم ير المملوك بدّا من الجرى على العادة فى سرعة الإجابة وامتثال مرسوم الخدمة لوجوب ذلك عليه شرعا وعرفا هذا مع أن هذا الباب خارج عن مقصود هذا التصنيف وداخل فى باب المسالك والممالك وقد وضع الناس فيه كتبا كثيرة ككتاب أبى عبيد الله البكرى الأندلسى وكتاب ابن فيّاض الأندلسى أيضا وكتاب ابن خرداذبه الفارسى وكتاب الفرغانى وغيرها من الكتب المفردة لهذا الشأن المستوعبة له ونحن إن شاء الله ذاكرون من ذلك موافقة لرأى مولانا العالى بما يقف به على حدود البلاد ويصور له صورتها على التقريب من غير تطويل جارين فى ذلك على ما سلف من عادتنا فى سائر الكتب» (٦٦).

من هذا القول يتضح أنه قد وجدت لدى العرب رغبة صادقة للتفريق بين المادتين التاريخية والجغرافية وإخضاع كل منهما لمنهج خاص يقوم على أسس عامة ، ولو أنهم فى الواقع لم يتمكنوا من ترجمة ذلك فى صورة واقعية.

وقد أصبحت مصر الأيوبية التى لم تمسها وطأة الغزو المغولى ملاذا للعلماء من الشرق والغرب فكانت بدلك كأنما تتهيأ لتتسنم مركز الثقافة العربية الذى أصبحته بالتالى نتيجة لاستيلاء المغول على بغداد. هذا وقد داوم علماء مصر على الاحتفاظ بالتراث الذى نشأ هناك ، فنلتقى فى هذا العصر بمصنفات من أنماط معروفة لنا. فمن جهة يقابلنا ذلك النوع الفريد لجغرافيا الدواوين وهى مراجع إدارية واقتصادية عملت من أجل كتاب الدواوين ، وخير مثال لهذا كتاب ابن مماتى «قوانين الدواوين» الذى لم يكن الوحيد من نوعه. ومن جهة أخرى تجمعت بالتدريج ونمت مادة نمط «الخطط» ، وهى أوصاف تاريخية وإدارية للنواحى والأحياء المختلفة من المدن الكبرى. ولعل خير مثال لهذين الاتجاهين ما يقدمه فى مصنفاته الإدارى والجغرافى النابلسى (توفى عام ٦٤١ ه‍ ـ ١٢٤٣) (٦٧).

واسمه الكامل وهو عثمان بن إبراهيم النابلسى الصفدى يشير إلى أن أصله من فلسطين ، ولكنه عاش بمصر وعمل بها فى عهد السلطان الأيوبى نجم الدين أيوب (٦٣٧ ه‍ ـ ٦٤٧ ه‍ ـ ١٢٤٠ ـ ١٢٤٩) ولعله لم يتفاد تأثير ابن مماتى حينما وضع مصنفا مماثلا لمصنفه وهو «كتاب لمع القوانين المضيئة فى دواوين الديار المصرية» المعروف إلى الآن فى المخطوطات فقط. ويبحث القسم الأساسى من الكتاب كما هو الحال عند ابن مماتى فى نظام الدواوين المالية المختلفة التى يحتل من بينها مركز الصدارة ديوان الأحباس

٣٤٨

الذى يعالج الأوقاف كما يعالج أيضا جزءا هاما من الإدارة المالية ، وهو الديوان الوحيد الذى كان بمقدوره أن يتخذ قرارات دون توقيع خاص من السلطان (٦٨). وقد عين النابلسى حاكما على الفيوم عام ٦٤١ ه‍ ـ ١٢٤٣ فوضع خلال عامين (٦٩) وصفا وافيا لها يوجد فى متناول الأيدى فى طبعة لموريتزMoritz. ومن العسير القول بأنه هل يتفق هذا المصنف مع المخطوطة الموجودة باستنبول والتى تحمل عنوان «إظهار صنعة الحى القيوم فى ترتيب بلاد الفيوم» (٧٠) ؛ وعادة يحمل مصنفه عنوانا بسيطا هو «تاريخ الفيوم وبلاده». وينتمى المصنف إلى طراز الجغرافيا الإقليمية (Regional) ويقدم فى عشرة أبواب وصفا يمس فى الغالب الأماكن المأهولة من الفيوم (٧١) ؛ والأبواب التسعة القصيرة كأنما تخدم غرض مقدمة للباب الأخير. فبعد وصف عام مجمل للمنطقة ترد معطيات موجزة عن المناخ ومزاج السكان وأكثر تفصيلا من ذلك وصفه للنظام الهيدروغرافى (hydrographic) للمنطقة واتصال قنواتها بالنيل. وفى الباب الذى عقده عن السكان يتحدث عن انقسامهم إلى حضر وبدو مع سرد أسماء القبائل العربية. كما أفرد اهتماما خاصا فى أبواب الكتاب المختلفة للمساجد والأديرة وأخيرا لطبيعة الأقاليم. ويلى هذا القسم الأساسى من الكتاب الذى يصف فيه المواضع المأهولة ، وهو حافل ومفصل بحيث يمكن من وضع خارطة تخطيطية لمنطقة الفيوم. وهو كجميع المصنفات من هذا الطراز يحفل بالتفاصيل المختلفة سواء فى المسائل الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالمنطقة أو فى الجغرافيا الطبيعية. وقد مكنت هذه التفاصيل بدورها أحد العلماء من وضع قائمة بنباتات الفيوم (٧٢) بالرغم من أن النابلسى تفسه لم يكن البتة عالما بالنبات كبعض السابقين له ممن مر ذكرهم للتو.

وقد ضربت الجغرافيا الإقليمية فى هذا العصر فى اتجاهات أخرى بالطبع ، ولم يكن مؤلفوها دائما من أهل المنطقة الموصوفة نفسها. وغير واضح بالنسبة لنا مثلا لماذا أصبح خبيرا ممتازا بجنوب جزيرة العرب والحجاز الأوسط شخص مثل يوسف بن يعقوب الدمشقى المشهور بابن المجاور (٧٣) الذى ولد بدمشق ونشأ وترعرع ببغداد (٧٤). وكانت له صلات بالهند فقد أقام بعض الوقت بملتان ؛ وفى عام ٦١٠ ه‍ ـ ١٢٢١ عبر البحر من الديبل إلى عدن ، وكان ببلاد العرب على أية حال فى عام ٦٢٧ ه‍ ـ ١٢٣٠ ـ والتاريخ الأخير يقابلنا فى مصنفه (٧٥) ، لهذا فإن الرأى الغالب هو أنه قد تم تأليفه قبل عام ٦٣٠ ه‍ ـ ١٢٣٣ بقليل (٧٦) ؛ وهذا بدوره دفع إلى الافتراض بأن تاريخ وفاته. الذى يرجعه بعض المؤلفين عادة إلى عام ٦٩٠ ه‍ ـ ١٢٩١ (٧٧) متأخر جدا على أغلب الاحتمال. وربما يمكن تفسير هذا التردد فى التواريخ بأن اسم ابن المجاور ليس اسمه الشخصى بل هو اسم عام استعمل للتوقير وحمله عدد من من أفراد هذه الأسرة. ونفس هذا التردد فى الاسم يصدق أيضا على مصنفه فهو بحسب آراء البحاثة السابقين يحمل عادة اسم «تاريخ المستنصر» ولكن نظرا لأن مادته لا ترتبط فى شىء مع هذا العنوان الواسع الانتشار فمن المحتمل أنه يجب قراءته «تاريخ المستبصر» وفقا لرأى آخر بحاثة طرق هذا الموضوع (٧٨).

٣٤٩

وكان أول عالم يتعرف عن كتب على كتاب ابن المجاور هو اشبرنجرSprenger ، فقدره حق قدره (١٨٦٤) ووضعه أحيانا جنبا إلى جنب مع المقدسى (٧٩). وابن المجاور قد زار تقريبا جميع النواحى التى وصفها ، ووصفه لبلاب العرب الجنوبية لا يعتمد على وصف المقاطعات والنواحى بل وصف الطرق فيورد المسافات ويذكر آثار كل منزلة ويتحدث عن أخلاق السكان وعاداتهم ويسجل الروايات والأساطير المحلية التى يشعر بميل شديد نحوها. ومعرفنه بالتاريخ القديم ليست كبيرة فهو ليس بعالم نقلى ؛ وارتياب اشبرنجر فى معرفته بالأدب الجغرافى السابق له (٨٠) قد خفف منه دى خويه De Goeje كثيرا ، فقد اتضح له أثناء اشتغاله بإعداد ذلك الأثر للطبع أن عددا من المصادر المكتوبة التى يرجع إليها ابن المجاور تدل على اطلاعه الواسع فى ذلك الأدب (٨١) وعلى معرفته العميقة لا بالشعر العربى وحده بل وبالفارسى أيضا (٨٢). وقد مكنته رحلاته البحرية من معرفة تلك المراجع الفريدة المعروفة باسم الراهنامجات (أى المرشدات الملاحية) التى ألقى ضوءا على أهميتها المستشرق الفرنسى فيران Ferrand (٨٣). وكان ابن المجاور على معرفة دقيقة بخطوط الملاحة فيورد مثلا ذكر المسافة بين نجران ببلاد العرب الجنوبية وجاوه (٨٤) ؛ ويلوح أنه كان مولعا أشد الولع بالمسائل الملاحية وحفظ لنا شهادة فريدة ذات قيمة كبرى كما برهن فيران عن وجود أسطول ملغاشى قوى فى الأزمنة القديمة (٨٥). غير أن أهمية ابن المجاور لا تقوم على هذه المعلومات المدونة بل على أساس ملاحظاته المباشرة عن الحياة العامة ، ومن العسير أن نلتقى بهذه الكمية الضخمة من المعطيات الطبوغرافية والحضارية والأسطورية لدى أى مؤلف آخر. وهى جميعها تكشف عن معرفة عميقة بالهند خاصة فى محيط الأثنوغرافيا والأدب الشعبى (الفولكلور) (٨٦) ؛ وهو يصف بالتفصيل عادات الزواج وطقوس العرس فى زبيد باليمن (٨٧) ؛ وفى بلد كمكة (٨٨) كما يسرد بحيوية فائقة التقاليد البدائية لقبيلة بجيلة التى تقطن محلة السرو بين الطائف وتبالة (٨٩). وجميع هذه الروايات أيدها الرحالون فيما بعد ؛ فخبير لهجات جنوب الجزيرة العربية لا ندبرج Landberg الذى كانت لديه وقتا ما فكرة نشر هذا الأثر (٩٠) استخرج منه مادة اثنوغرافية ضخمة (٩١) يمكن على ضوئها تكوين فكرة واضحة عن مضمون تلك الأقسام من كتابه وعن سلاسة أسلوبه وسهولته (٩٢).

وقسما كبيرا من «تاريخ المستبصر» ينوف على الخمس يشغله وصف مدينة عدن (٩٣) ؛ وهو قد عرف منذ وقت طويل يرجع بالتقريب إلى عهد الكشف عن المصنف نفسه. وكما هو ديدنه دائما فقد قدم لنا فيران فى الآونة الأخيرة تعليقا وافيا على جزء منه (٩٤) ، أما الطبعة الكاملة لهذا القسم فقد نشرها أخيرا (١٩٣٦) لوفغرين Lo؟fgren (٩٥). وكما هو الحال مع بقية أقسام الكتاب فإن وصفه لعدن يمثل خلطا غريبا مبتكرا بين الرواية الأسطورية للتاريخ القديم والملاحظات الدقيقة للمؤلف نفسه. أما المادة الأثنوغرافية فوافرة جدا ، كما تتوفر لديه أيضا المعطيات الطبوغرافية ؛ ومن الطريف ملاحظة أن بعض مخطوطات الكتاب تحمل صورة بدائية لتخطيط مدينة عدن (٩٦).

٣٥٠

وتاريخ مخطوطات هذا الكتاب معقد للغاية (٩٧) ؛ فإلى جانب المخطوطات التى وجدت طريقها إلى أوروبا بفضل مجهودات شيفيرSche؟fer (٩٨) أضيفت مخطوطتان أخريتان فى عهد دى خويه ولاندبرج (٩٩) ؛ ورغما عن هذا فلم يقدر لأحد هذين العالمين أن يتخذ قرارا حاسما بإخراج طبعة كاملة للكتاب مع أن كليهما كان يعد العدة لذلك ، ولعل لوفغرين كان أكثر حظا منهما فقد استطاع أن يضيف إلى تلك المخطوطات مخطوطة استنبول (١٠٠) وينشر قطعا من كتاب ابن المجاور. والأثر حقا جدير بطبعة كاملة ولو أنه من المبالغة بالطبع وضعه جنبا إلى جنب مع المقدسى كما فعل أول باحث فى الموضوع ، أو مع الهمدانى كما فعل آخر باحث (١٠١). ومع ذلك فيمكن القول بدون تردد أن ابن المجاور كاتب أصيل له طابعه الخاص به وأنه ربما يحتل المكانة الأولى فيما يتعلق بالملاحظات الاثنوغرافية.

من كل هذا يتضح لنا أن البلاد العربية لم تمسها جميعا وطأة الغزو المغولى فى النصف الأول من القرن الثالث عشر ، فاستمرت تنمو وتترعرع بها الأنماط المعروفة للأدب الجغرافى. بل إن كاتبا كياقوت الذى اضطر إلى الفرار أمام جحافل جنكيز خان قد استطاع بالتالى أن يضع مؤلفا كان بمثابة القول للفصل والخاتمة الحسنة فى ميدان المعاجم الجغرافية. وبعد سقوط بغداد فى أيدى المغول عام ١٢٥٨ انتقلت مراكز النشاط الأدبى للغة العربية كما ذكرنا من قبل إلى الشام وأبعد منها إلى الغرب. غير أن هذا لا يعنى أن التأليف الجغرافى قد اختفى من المشرق كلية ؛ وكما هو معروف فقد ظهر باللغة الفارسية فى عهد المغول عدد من الآثار الممتازة فى مجالى التاريخ والجغرافيا. بل إن اللغة العربية نفسها قد عرفت فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر مصنفا من أكثر مصنفاتها انتشارا وتداولا بين جماهير القراء ، أعنى بذلك كوزموغرافيا القزوينى. وهذا المصنف كمعجم ياقوت يمثل الأوج كذلك فى نمطه الخاص به ، وهو ذلك النمط من التصنيف الجغرافى الذى ينتحى ناحية العجائب Mirabilia والذى أوفى على غايته واستنفذ أغراضه فى كتاب القزوينى بحيث لم يكشف بالتالى عن أية طاقة جديدة فاكتفى المؤلفون باختصار كتاب القزوينى أو تنقيحه فى صورة أو أخرى.

٣٥١

حواشى الفصل الثانى عشر

__________________

(١) ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ، المقدمة ، ص ٧

(٢) شرحه ، ص ١١

(٣) (ـ Gronovius, p. ٦١ Günther, Gesch. d. Erdkunde, p. ٢٤, note ٢

(٤) ـ Kovalevski ,p.٠١

(٥) ـ Barbier de Meynard ,Dictionnaire ,p.XV ـ XVI

(٦) ـ Senkovski ,Bibl.dlia cht ,XXX ,p.١٥١ ـ ٢٧١

(٧) (ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ص ٧٥٨ ـ ٨٥٩ ـ) ـ Senkovski ,Sobr.Soch.,VI ,p.٢٩١ ـ ٥٩١

(٨) شرحه ، ص ١٩١

(٩) شرحه ، ص ١٩٥

(١٠) عن المخطوطات راجع : Kovalevski ,p.٤٧١ ـ ٨٧١

(١١) ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ، ص ٥

(١٢) فى ثمانية أجزاء راجعها أحمد أمين الشنقيطى (توفى عام ١٣٣١ ه‍ ـ ١٩١٣). راجع ياقوت ، المعجم ، الجزء الثامن.

(١٣) الشنقيطى : راجع ياقوت ، المعجم ، الجزء الثامن ، ص ٥٣٦

(١٤) (استبدل ص ٥٢٦ بص ٥٣٦ عند القراءة) ـ Kovalevski ,p.٩٧١ ـ ٠٨١

(١٥) ياقوت ، المنجم ، التاسع والعاشر

(١٦) ـ Heer

(١٧) ـ Bloch. ـ Heer

(١٨) ألقى مدنيكوف Mednikov محاضرته"Obarabskom geograficheskom slovare yakuta " (معجم ياقوت الجغرافى باللغة العربية) بتاريخ ٢٧ / ٢ / ١٨٩٠ (راجع : Krachkovski, Pamyati N. A. Mednikova, p. ٤٢٤, note ٢) (١٩) ياقوت ، الإرشاد ، الجزء السابع ، ص ٢٦٧ ، رقم ١٦٣

(٢٠) شرحه ، ص ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، رقم ١٦٤

(٢١) ياقوت ، المعجم ، الجزء الخامس ، مقدمة ، ص ٥٨ ـ ٦٥

(٢٢) ابن خلكان ، الجزء الرابع ، ص ٢٣ ، الملاحظة السابعة

(٢٣) ياقوت ، الارشاد ، الجزء الثالث ، ص ٧٧

(٢٤) ـ Streck ,Kais ,p.٥٩٦ ـ ٧٩٦

(٢٥) ـ Bartold ,Vostok ,IV ,p.٦٢١ ـ ٨٣١

٣٥٢

__________________

(٢٦) عن سيرة ابن القفطى راجع : ياقوت ، الارشاد ، الجزء الخامس ، ص ٤٧٧ ـ ٤٩٤ وMittwoch ,EI ,II ,٣٢٤

(٢٧) ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ، ص ١٢

(٢٨) ابن خلكان ، الجزء الرابع ، ص ٢٢

(٢٩) شرحه

(٣٠) ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ، ص ٦

(٣١) ياقوت ، المعجم ، الجزء الأول ، ص ١

(٣٢) شرحه ، ص ٢ ـ ٣

(٣٣) شرحه ، ص ٣

(٣٤) شرحه ، ص ٥

(٣٥) شرحه ، ص ٧ ـ ٨

(٣٦) شرحه ، ٨ ـ ١١

(٣٧) شرحه ١١ ـ ١٢

(٣٨) شرحه ، الجزء السادس ، ص ٣١٧

(٣٩) ـ Heer ,p.٤٢

(٤٠) ـ Amari (Nallino) ,II ,p.١٩٤

(٤١) ـ Heer ,p.٤٤ ,f.

(٤٢) شرحه ، ص ٤٣ ـ ٤٤

(٤٣) ـ Seybold ,Analecta Arabo ـ itali؟ca ,p.٦٠٢ ـ ٣١٢

(٤٤) ـ Juynboll ,Mara؟sid al ittila ?

(٤٥) ـ Reinaud ,Introduction ,p.CXXXIII ـ CXXXV

(٤٦) ـ Reinaud ,Notice sur les dictionnaires ,p.١٩ ـ ٢٩

(٤٧) شرحه ، ص ٩٣ ـ ٩٩

(٤٨) شرحه ، ص ٩٩ ـ ١٠١

(٤٩) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.٠٨٨ ,NO ٠١ ,I ,b

(٥٠) ـ Reinaud, Notice sur Les dictionnaires, p. ١٠١ ـ ٦٠١

(٥١) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ١٨٤, NO II; SBI, p. ٠٨٨ ـ ١٨٨ ـ Houtsma, Abd al ـ Latif, p. ٠٥

(٥٢) ـ Brockelmann, GAL, SBI, p. ٩٥٨ ـ ٠٦٨, NO ٩ p. ـ Suter, AGNT, IV, Erlangen, ٢٢٩١, p. ١ ـ ٨

(٥٣) ـ Somogyi ,DI ,XXIV ,p.٦٠١ ـ ٠٣١

(٥٤) ـ De Sacy, Ralation, p. ٨١٤ ـ ٠٢٤ ـ Sarton, Introduction, II, p. ٩٩٥

٣٥٣

__________________

(٥٥) عنان ، ص ١٠٦ ـ راجع : Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.١٨٨ ,No ,I.

(٥٦) ـ Meyer ,III ,p.١٠٣ ـ ٦٠٣

(٥٧) ـ Schnurrer ,p ٠٥١ ـ ٢٥١

(٥٨) ـ White ,Abdallatif\'s compendium.

(٥٩) ـ White ,Abdallatif\'s historiae Aegypti

(٦٠) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.١٨٨

(٦١) عنان ، ص ٩٦ ـ ١٠٦.

(٦٢) ـ Sarton, Introduction, II, p. ٠٥٦ ـ ١٥٦ ـ Gonzälez Palencia, p. ٩٦٢ ـ ٠٧٢ ـ Kramers, EI, EB, p. ٠٧.

(٦٣) الأبحاث فى هذا : Simonet, Glossario, p. CL, No ٢١ and note ٤, p. XCIV, note I.

(٦٤) ـ Brockelmann, GAL, I, p ٢٢٣, No ٥; SB, I, p, ٥٥٥ ـ Sarton, Introduc ـ tion, II, p. ١٨٦ ـ EI, I, p. ٠٧ ـ Dozy, Recherches, II, ١٨٨١, p. ١٦٤ ـ Pons Boigues, p. ٣١٤ ـ Gonzälez Palencia, p. ١٦١ ـ ٢٦١ ـ Reinaud, Introduction, p. CXXXV ـ CXXXVI

(٦٥) ـ Reinaud ,Introduction ,p.CXXXV

(٦٦) ـ Dozy ,History of the Almohades ,p.٢٥٢ ـ ٣٥٢

(٦٧) عن هذا التاريخ راجع : Kramers ,EI ,EB ,p.١٧ و: Brockelmann ,GAL ,I ,p.٥٣٣ ,NO ٤ ,SB ,I ,p.٣٧٥

(٦٨) ـ Bjo؟rkman ,Beitra؟ge ,p.٣٣ ـ ٤٣

(٦٩) ـ Moritz ,Description du Faiyoum ,p.٢

(٧٠) شرحه ص ٣.

(٧١) سركيس ، ص ١٢١٠.

(٧٢) ـ Salmon ,Flore du Fayyoüm ,p ,٥٢ ـ ٨٢

(٧٣) ـ Brockelmann, GAL, I, p. ٢٨٤, No ٥١; SB, I, p. ٣٨٨, No ٥١ ـ Kramers, (على حدة ص ١٣٩) EI ,EB ,p.٠٧ ـ Ferrand ,K\'ouen Louen ,p.٩٦٤ ـ ٣٨٤

(٧٤) ـ De Goeje ,Ibn al ـ Modjawir ,p.١٣

(٧٥) شرحه.

(٧٦) شرحه ، ص ٢٣.

(٧٧) ـ Brockelmann ,GAL ,SBI ,p.٣٨٨ ,No ٥١

(٧٨) ـ Lo؟fgren ,Aden ,p ,٩١

(٧٩) ـ Sprenger ,Reiserouten ,p.XXI.XXIV

٣٥٤

__________________

(٨٠) شرحه ص XXI

(٨١) ـ De Goeje.Ibn al ـ Modja؟wir ,p.٤٢

(٨٢) شرحه ، ص ٢٥.

(٨٣) ـ Ferrand ,L\'Element Persan ,p.٣١٢ ,٧٥٢

(٨٤) (فى نقده لكتاب : ـ Ferrand (G. Coedés, Le Royaume de Crivijaya, p. ١٩١

(٨٥) (على حدة ص ١٣٩) ـ Ferrand ,K\'ouen Louen ,p.٩٦٤ و (على حدة ص ١٤٦ ـ ١٤٩) p.٦٧٤ ـ ٩٧٤

(٨٦) ـ Lo؟fgren ,Aden ,p.٠٢

(٨٧) ـ De Goeje ,Ibn al ـ Modja؟wir ,p ٦٢ ـ ٨٢

(٨٨) شرحه ، ص ٢٥ ـ ٢٦.

(٨٩) شرحه ص ٢٨ ـ ٣٠.

(٩٠) شرحه ، ص ٣١ ـ ٣٣.

(٩١) ـ Landberg, Etudes, II, Datinah, ٢, Commentaire, p. ٦٢٨ ـ ٩٢٨, ٩٥٨ ـ ٩٦٨, ٨٠٩ ـ ٣١٩, ٨١٩ ـ ٩١٩, ٩٩٩.

(٩٢) تعداد كامل للاقسام فى : Lo؟fgren ,Aden ,p.٠٢ ,note ١

(٩٣) شرحه ، ص ٥.

(٩٤) (على حدة ص ١٣٩ ـ ١٥٣) ـ Ferrand ,K\'ouen Louen ,p ٩٦٤ ـ ٣٨٤

(٩٥) عن شخصية ابن المجاور راجع : Lo؟fgren ,Aden ,p.٩١ ـ ١٢

(٩٦) (خارطة عدن ص ٧٠ ، ٥٠) ـ Lo؟fgren ,

(٩٧) شرحه ، ص ٢٠ ـ ٢١.

(٩٨) ـ Sprenger ,Reiserouten ,p.XXI

(٩٩) ـ De Gocje ,Ibn al ـ Modja؟wir ,p.٠٣

(١٠٠) ـ Lo؟fgren ,Aden ,p.٧

(١٠١) شرحه ، ص ١٩.

٣٥٥

الفصل الثالث عشر

النصف الثانى من القرن الثالث عشر

يتميز القرن الذى أعقب الغزو المغولى بظهور عدد من الآثار الكبرى فى محيط الأدب الجغرافى تحتل بالنسبة لأنماطها نفس المكانة التى يحتلها معجم ياقوت ولو أنها لا تبلغ قيمته : هذا وقد كسبت أسماء القزوينى وأبى الفدا والدمشقى صيتا واسعا سواء فى الشرق أو فى محيط الاستعراب الأوروبى : غير أن هذه الأسماء أخذت تفقد مكانها وتتقهقر إلى الصف الثانى منذ أواخر القرن التاسع عشر نتيجة للكشف عن مصنفات المؤلفين السابقين لهم ؛ ورغما من هذا فقد أزاح البحث الحديث الستار عن جوانب جديدة فى كتبهم لم يكن قد التفت إليها البحاثة من قبل ولهذا فمن العسير القول بأن مادتها قد درست دراسة كافية إلى يومنا هذا. ومما يميز هذا العصر أيضا كما يميز العصر السابق له تلك المصنفات الجغرافية أو المتعلقة بالجغرافيا التى تم تدوينها باللغة الفارسية والتى تمثل أوج ما بلغه هذا الفن من الأدب فى تلك اللغة.

وإلى جانب أوصاف الرحلات التى تتفاوت من حيث قيمتها يسترعى النظر فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر مؤلفان يرتبط أحدهما بمغرب البلاد العربية بينما يرتبط الثانى بمشرقها. فأبو الحسن على الغرناطى الذى اشتهر بابن سعيد ولد قريبا من غرناطة فى حوالى عام ٦١٠ ه‍ ـ ١٢١٤ ؛ ومصدر معلوماتنا عنه فى الغالب هو النبذة التى كتبها عن نفسه والتى حفظها لنا المقرى فى مصنفه المعروف (١). وقد نال ابن سعيد حظه من التعليم باشبيلية وأمضى الجانب الأكبر من حياته متنقلا فى طلب العلم ؛ وكما عبر عن ذلك أحد علماء القرن التاسع عشر فإنه قد تنقل فى تجواله «من المغرب الأقصى على المحيط الأطلنطى إلى الخليج الفارسى والتقى بأكابر العلماء ورأى أفضل الكتب» (٢). وقد صحب أباه فى أولى رحلاته إلى الحج عام ٦٣٨ ه‍ ـ ١٢٤٠ فزار شمال أفريقيا ومصر ؛ وفى طريق العودة توفى والده بالإسكندرية عام ٦٤٠ ه‍ ـ ١٢٤٣ (٣) فتخلف ابن سعيد بالقاهرة حتى عام ٦٤٨ ه‍ ـ ١٢٥٠ ثم غادرها إلى الشام وأقام حينا من الدهر بالموصل وبغداد والبصرة. وقبل استيلاء هولاكو على بغداد بأعوام قليلة تمكن ابن سعيد من متابعة دراساته بمكتباتها البالغ عددها ستا وثلاثين مكتبة والتى يصفها لنا بحماس يماثل الحماس والإعجاب الذى وصف به ياقوت مكتبات مرو لعهده. ثم رحل إلى حلب ودمشق فى صحبة المؤرخ الشهير ابن العديم وحج إلى مكة مرة ثانية (٤) ؛ ونلتقى به فى عام ٦٥٢ ه‍ ـ ١٢٥٤ ببلاط أمير تونس ؛ وفى عام ٦٦٦ ه‍ ـ ١٢٦٧ خرج فى رحلة أخرى فمر بالإسكندرية وحلب متجها إلى أرمينيا (٥) حيث دفعه حب الاستطلاع

٣٥٦

ليرى بعينى رأسه هولاكو الجبار (توفى عام ٦٦٣ ه‍ ـ ١٢٦٥) (٦) ؛ وهذا التناقض فى التواريخ يسوقنا إلى التشكك فى صدق هذه الواقعة الأخيرة (٧). وقد توفى ابن سعيد على قول إحدى الروايات بدمشق فى خلال عودته من هذه الرحلة وذلك فى عام ٦٧٣ ه‍ ـ ١٢٧٤ ؛ وترجع رواية أخرى تاريخ وفاته إلى ما بعد هذا بأعوام طويلة فتذكر أنها قد حدثت بتونس فى عام ٦٨٥ ه‍ ـ ١٨٢٦. ويعتبر ابن سعيد بصفة عامة من أخصب الكتاب إنتاجا على الرغم من أسفاره التى لم تنقطع ، هذا إلى جانب ميوله الواضحة نحو الأدب الفنى (٨) خاصة الشعر الذى نال فيه حظا وافرا من الشهرة.

وكان ابن سعيد محبا لوطنه الأندلس وانعكس حنينه إلى الوطن فى أشعار عاطفية عميقة (٩) ؛ وقد رد على ابن حوقل لأنه ارتاب فى أخلاق أهل الأندلس (١٠) كما وأنه وضع سائر المدن التى زارها فى مرتبة دون مرتبة مدن الأندلس. وقد عبر عن أحاسيسه هذه بإيجاز فى قوله (١١) :

«وأنا أقول كلاما فيه كفاية منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت فى بر العدوة ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة ثم طفت فى إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط ، فرأيت بجاية وتونس ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلبا وما بينهما لم أر ما يشبه رونق الأندلس فى مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ومدينة دمشق بالشام وفى حماة مسحة أندلسية ولم أر ما يشبهها فى حسن المبانى والتشييد والتصنيع إلا ما شيد بمراكش فى دولة بنى عبد المؤمن وبعض أماكن فى تونس وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع ومبانى حلب داخلة فيما يستحسن لأنها من حجارة صلبة وفى وضعها وترتيبها إتقان» (١٢).

أما فى الدوائر العلمية فقد لفتت الأنظار بشكل خاص مصنفاته التاريخية ، ذلك أن ابن سعيد سار على نهج أسرته فأتم مؤلفات كان قد بدأها جده وأبوه (١٣) وهى تعالج تاريخ العرب والبلاد العربية منذ الجاهلية إلى العصر القريب من حياة المؤلف. هذا وقد أصبحت تلك المؤلفات معروفة فى القرن العشرين عن طريق الأبحاث الخاصة (١٤) وعن طريق طبعات للفصول التى لم تمتد إليها يد الضياع (١٥) ؛ وهى تضم إلى المادة التاريخية جانبا ليس بالقليل من المعطيات الجغرافية ينعكس فيها بجلاء ميل المؤلف إلى الأدب الفنى ، من ذلك وصفه لصقلية الذى استخرجه موريتزMorits من إحدى مصنفاته التاريخية التى أشرنا إليها (١٦) وذلك فى مخطوطة كتب قسم منها بخط يد المؤلف نفسه.

أما نشاطه فى محيط الجغرافيا فإنه لا يتصل بالأدب بقدر ما يتصل بالاتجاه الذى يمثله الإدريسى ؛ ويتضح ذلك من عنوان مصنفه «كتاب جغرافيا فى الأقاليم السبعة» ، وكأنه يشير بهذا إلى المذهب الذى ينضوى تحت لوائه المؤلف. غير أنه يجب أن نضيف إلى هذا أن المشكلة المتعلقة بمسودات هذا الكتاب ومختصراته لا يمكن القول بأنها قد حلت تماما (١٧) ؛ ولا يزال البحث الذى بكر به بارتولد منذ السنوات

٣٥٧

التسعينات من القرن الماضى هو الدراسة الوحيدة حول هذا الموضوع وفيه ينعكس الاهتمام الخاص بمحتويات هذا الكتاب. غير أن عدم وجود طبعة له حتى يومنا هذا ليقف حجر عثرة فى سبيل دراسته دراسة صحيحة.

وترجع معرفتنا بهذا المصنف إلى قطعة واحدة ترتفع إلى بداية القرن الرابع عشر وتوجد نسخة خطية لها بمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية (١٨). وقد اعتقد بعض البحاثة استنادا على إحدى النسخ بأن الكتاب من تأليف أحمد بن ياقوت الحموى وهو ابن ياقوت المشهور (١٩) ؛ إلا أن الواقع يكذب هذا الزعم ذلك أنه إذا كان تأليف القطعة يرجع حقا إلى ما بين عامى ٧٢١ ه‍ ـ ١٢٣١ و ٧٢٣ ه‍ ـ ١٢٣٣ كما هو مبين بها فإن هذا يعنى أن ابن ياقوت لم يكن عمره آنذاك ليقل عن سبعة وتسعين عاما (٢٠). وثمة قطعة أخرى من هذا الكتاب تحمل عنوانا مغايرا هو «كتاب بسط الأرض فى طولها والعرض» (١) ؛ ومن الطريف أن إحدى نسخ هذه الأخيرة التى استعملها أبو الفدا وعلق على هامشها بملاحظاته العديدة محفوظة الآن بباريس (٢١). وعلى الرغم من الغموض الذى يحيط بمسودات الكتاب إلا أنه يمكن القول بأن «جغرافيا» ابن سعيد تعتمد على الإدريسى اعتمادا كبيرا فى مادتها الأساسية وفى تبويبها فالأقاليم فيها مقسمة إلى سبعة وكل واحد منها مجزأ بدوره إلى عشرة أقسام ، ولكنه كما لاحظ هونغمان Honigmann (٢٢) «لا يترسم فى هذا مذهب بطلميوس إطلاقا» ذلك أن مفهول «الإقليم» بمعناه الخاص الذى يقوم على الفكرة الفلكية قد أخذ يختفى شيئا فشيئا. ويزيد ابن سعيد على الإدريسى أنه قد بين عروض وأطوال جميع المواضع المأهولة بطريقة دقيقة يمكن معها إلى حد كبير تخطيط مصور جغرافى متكامل.

وعلى الرغم من الطابع النقلى الذى يغلب عليه إلا أنه يجب الاعتراف بأنه مصنف غنى حافل وان ما أورده من معلومات عن أوروبا الغربية خاصة فرنسا وهنغاريا لا يخلو من الطرافة ، كما لا يخلو منها أيضا وصفه لآسيا الصغرى ولمنطقة قسطمونى بالذات التى كانت آنذاك مركزا للتركمان. وابن سعيد يقدم لنا معلومات عن الصقالبة الغربيين على سواحل بحر البلطيق ؛ وقد أخضع بارتولد مادته عن أوروبا الشرقية وآسيا الداخلية لدراسة ممتازة ؛ وهو على معرفة بالروس على سواحل بحر آزاق Azov ونهر الدون (٢٣) كما وأنه يورد بعض التفاصيل عن جبال القوقاز (٢٤) والشعوب القاطنة إلى الشمال والشرق منها كالبرطاس والغز والقومان والقبچاق (٢٥) ؛ أما معرفته بالصين فتعتمد فى الغالب على الإدريسى ولكنه كان على علم بالاسم التركى لبكين وهو خانبالق وباسم حاكمها لذلك العهد وهو محمود يلواج من أهل خوارزم ؛ وقد ساور الشك أبا الفدا فى صحة هذه الرواية الأخيرة فآثر ألا ينقلها فى مؤلفه الجغرافى (٢٦).

وأبو الفدا بوجه عام يقف موقف المتشدد من ابن سعيد بل إنه يذكر فى مواضع من كتابه أنه قد اعتمد على روايته عن المغرب كل الاعتماد فى مبدأ الأمر لأن ابن سعيد مغربى ولكنه ما لبث أن تبينت

__________________

(*) نشره مؤخرا معهد مولاى الحسن بتطوان بعنايةJuan Vernet Gines الأستاذ بجامعة برشلونه. (المترجم)

٣٥٨

له أخطاؤه فصار يتحاشاه (٢٧). غير أن هذا الحكم القاسى لأبى الفدا لم يقره عليه العلم الأوروبى بصفة دائمة ، فأمارى Amari وهو من خيرة العارفين بالمصادر فى هذا الميدان قد أماط اللثام عن معرفة ابن سعيد الجيدة بجنوبى أوروبا (٢٨) وبإيطاليا بوجه خاص ؛ أما فيما يتعلق بنواحيها ومدنها مثل سردينيا وقورسيقا ونابلى وسالرنو ورومه وبيزه وجنوه فقد أورد بشأنها عددا من المعطيات الجديدة مما لم يعرفه المؤلفون الآخرون ، ولعله استقاها من التجار الأندلسيين والأفارقة (٢٩). وهذا الحكم عينه يصدق بدوره على معرفته بسواحل أفريقيا الغربية والشرقية التى لم يزرها بنفسه بل استقى مادته عنها من ملاح عربى لا نعلم عنه شيئا يدعى ابن فاطمة ولعله عاش فى القرن السابق على ذلك (٣٠) ؛ وقد أبحر هذا الملاح على طول الساحل الغربى لأفريقيا حتى بلغ مصب نهر السنغال الذى كان يعتبر فى ذلك الوقت متصلا عن طريق نهر النيجر بحوض النيل الذى كان الجغرافيون يضمون إليه فى ذلك العهد منطقة بحيرة تشاد (٣١) (١). أما فى شرقى أفريقيا فإن ابن فاطمة بلغ سفالة الزنج على ما يبدو وعرف جيدا مدغشقر (٣٢) وربما ترتفع إليه تلك الرواية الهامة التى ينفرد ابن سعيد بروايتها دون المؤلفين العرب قاطبة والتى تتعلق باستيطان الهنود لجزيرة مدغشقر (٣٣). وكل هذه الاعتبارات ذات الطابع العام والخاص تقف دليلا على أن «جغرافيا» ابن سعيد تستحق اهتمام البحاثة المعاصرين ؛ ولا يزال محتفظا بقيمته ذلك الرأى الذى أفصح عنه بارتولد منذ نصف قرن حين قال : «ويمثل هذا المصنف لدى مقارنته بالإدريسى وأبى الفدا قائمة بذاتها ... ولم يستطع أبو الفدا أو المترجمون والناشرون أن يستغرقوا جميع مادته (٣٤)» ، أى أن المصنف لا يزال فى حاجة إلى بحث خاص وعند ذلك فقط يمكن توضيح الجوانب الغامضة فيه توضيحا كافيا.

وإذا استحال القول بأن ابن سعيد كان مؤلفا مغمورا ، سواء عند العرب أو لدى العلماء الأوروبيين ، فإن الصيت الأكبر فى ذلك العصر بل وفى العصور التالية له كان من نصيب القزوينى الذى يكاد يكون أكثر الكتاب العرب قاطبة قربا إلى الجماهير ؛ ذلك أن معرفة جمهرة القراء بالآثار الأدبية لم ترتبط بالطبع دائما بأسماء كبار العلماء بل كانت فى أغلب الأحيان من نصيب تلك المصنفات المحببة إلى نفوسهم والتى تتجاوب مع رغباتهم. وإذا كان ياقوت قد بلغ الأوج فى نمط المعاجم فإن القزوينى يعتبر أكبر كوزموغرافى ومبسط للعلوم من أجل الجمهور. وكما رأينا من قبل فإن ممثلى هذا النمط بدأوا فى الظهور منذ نهاية القرن

__________________

(*) لدى المترجم ما يحمله على الاعتقاد بوجود بعض الاختلاف بين هذا الكلام وبين النص الذى اعتمد عليه المؤلف ، لذا فقد آثر إيراده بحذافيره : The Author Ibu Said, ou the thirteenth century, is very well acquainted, through the travels of»

with the Atlantic coast as far as the Senegal) which was thought to be connected with the ابن فاطمة Niger and even to belong to the same fluvial system as the Nile (, and with the negro peoples living

(المترجم)(round lake Chad (p.٢٠١ ,Legacy of Islam ,٠٦٩١

٣٥٩

الثانى عشر ، وهم لم يقفوا عند حد عرض القوانين التى تتحكم فى نظامنا الشمسى فحسب بل اهتموا على السواء بجميع الظواهر التى تحدث على الكرة الأرضية فلعبوا فى وقت واحد دور الفلكيين والجغرافيين والجيولوجيين وعلماء المعادن والنبات والحيوان والاثنوغرافيا وبهذا يعتبرون إلى حد ما مكملين للحاحظ والمسعودى والبيرونى ولكن مع الافتقار إلى الأصالة فى البحث وعمق التحليل. وهم فى كثير من الأحيان قوم متصوفون ولكن بطريقة بدائية ، يرون فى كل شىء «معجزات الخالق» وكثيرا ما اتخذت رسائلهم طابع الموعظة والتهذيب. وهم على عكس أولئك لم يهدفوا الإبداع والأصالة بل اكتفوا بالنقل والجمع ولكنهم كانوا فى العادة أمناء فى نقلهم وبلغوا درجة رفيعة فى التصنيف التركييى ؛ ومؤلفاتهم وإن افتقرت إلى عنصر الذاتية إلا أنها كانت تتطلع فى معظم الأحايين إلى الوضوح فى الأسلوب والتزام منطق فى العرض له سمانه المميزة. والميزة الكبرى للقزوينى هى فى بلوغه بهذا النمط أقصى درجة من الإبداع الفنى ؛ وسينضم إلى هذا الاتجاه فى العصور التالية الدمشقى وابن الوردى (٣٥).

والقزوينى بالطبع ناقل مثالى ويقدم لنا نموذجا حيا لأدب عصر التدهور ؛ وهو بالرغم من اطلاعه الواسع ومعلوماته الغزيرة إلا أنه لا يأتى بجديد أو يصوغ نظرية أصيلة. وقد عاونته ثقافته على أن يفقه كل شىء وفقا لطريقته الخاصة مما أدى به فى آخر الأمر إلى وضع مصنف تركيبى يجمع كل معارف عصره. والقزوينى ككاتب يتميز بالوضوح فى الأسلوب الذى يبلغ به فى واقع الأمر درجة رفيعة ، وهو بلا ريب نابغة كمبسط للمعارف يعرض مادته العلمية فى كثير من المهارة بحيث لا تنفر القارئ العام. ولديه مقدرة فائقة فى تبسيط أكثر الظواهر تعقيدا وذلك بطريقة جذابة واضحة كما وأن أسلوبه يجمع بوجه عام بين البساطة والتنوع ولو أنه يقدم فى كثير من الأحايين صورة متداخلة الألوان (mosaic) من روايات المؤلفين السابقين عليه (٣٦). ويرى أحد العلماء المعاصرين أن كوزموغرافيا القزوينى هى أهم أثر أنتجه كاتب عربى فى العصور الوسطى ؛ وكثيرا ما قارنه العلماء يهيرودوت Herodotus وبلينى Plinius ولعل هذه المقارنة لا تخلو من بعض الوجاهة على الرغم من أنه يجب الاعتراف بأن القزوينى لا يفضل هذين المؤلفين الكلاسيكيين سواء من ناحية الروح النقدية أو المنهج (٣٧).

والقزوينى هو زكريا بن محمد ، ويجب عدم الخلط بينه وبين سميه حمد الله قزوينى المؤرخ والجغرافى الفارسى الشهير الذى سيرد الكلام عنه فى حينه. وقد ولد القزوينى فى عام ٦٠٠ ه‍ ـ ١٢٠٣ ، ورغما من النسبة التى يحملها فهو ينحدر من أسرة عربية أصيلة استقر بها المطاف فى العراق العجمى منذ عهد طويل. ومن الملاحظ أن لغته العربية يكثر بها الغريب ولا ترتفع إلى مصاف اللغة الكلاسيكية مما يمكن أن يستدل منه على أنها لم تكن لغة طفولته (٣٨). أما عن حياته وأساتذته فلا نعرف سوى النزر اليسير ، من ذلك أنه كان بدمشق حوالى عام ٦٣٠ ه‍ ـ ١٢٣٣ وهناك وقع تحت تأثير الصوفى الشهير ابن العربى (توفى عام ٦٣٨ ه‍ ـ ١٢٤٠) (٣٩) كما ربطته علاقة بالكاتب والأديب الكبير ضياء الدين بن الأثير

٣٦٠