تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي

تاريخ الأدب الجغرافي العربي - ج ١

المؤلف:

اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي


المترجم: صلاح الدين عثمان هاشم
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٩

__________________

(٢٢) ـ Moritz ,Ibn al ـ Gi؟a؟n ,p.II

(٢٣) ـ Brockelmann, GAL, II, p. ١٣١, No ٥; SB, II, p. ٣٦١ ـ Moritz, Ibn Kramers, EI, EB, p. ١٧ قارن al ـ Gi؟a؟n ,p.III ـ

(٢٤) ـ Reinaud, Introduction, p. CL ـ Brockelmann; GAL, II, p. ٠٣١, No ١; SB II, p. ١٦١ ـ Brockelmann, Al Dimashki, p. ٦١٠١ ـ Kramers, EI, EB, p. ٠٧

(٢٥) ـ Kramers ,Legacy ,p.٢٩

(٢٦) (ـ Devic ,Litt.ge؟ogr.arabe ,p.٦٩٣ t.a؟p.,p.٥٣

(٢٧) ـ Kramers ,EI ,EB ,p.٠٧

(٢٨) ـ Ruska ,GZ ,p.٦٩٥

(٢٩) ـ Fritsch ,p.٦٣

(٣٠) (ـ Devic ,Litt.ge؟ogr.arabe ,p.٦٩٣ t.a؟p.,p.٥٣

(٣١) ـ Ferrand ,Relations ,II ,p.٣٦٣ ـ ٣٩٣

(٣٢) ـ Hudüd ,p.٤٥٢

(٣٣) ـ Mehren ,Cosmographie ,p.VIII ـ Miller ,V ,p.٩٣١

(٣٤) ـ Miller ,V ,p.٠٣١ ـ ١٤١

(٣٥) راجع عن المؤلفين والكتب الذين ينقل عنهم الدمشقى.

Mehren, Cosmographie, p. LXXXVII ـ LXXXVIII

(٣٦) ـ Mednikov ,Palestina ,Issledovanie ,p.٢٨٢

(٣٧) ـ Mehren ,Cosmographie ,p.X

(٣٨) ـ Dorn ,Das Asiatische Museum ,p.٦٣

(٣٩) ـ Mehren ,Cosmographie ,p.XI

(٤٠) ـ Pozen, Meren, p. ٠٤ ـ ١٤ ـ Mednikov, Palestina, Perevod, p. ٦٦١١ ـ ٧٦١١

(٤١) ـ Dehe؟rain ,٨٩٨١

(٤٢) ـ Brockelmann, GAL, II, p. ٠٣١, No ٣; SB II, p. ١٦١ ـ ٢٦١ ـ Rozen, Notices Sommaires, p. ٥٧١ ـ ٦٧١ No ٤٢٢

(٤٣) ـ Brockelmann ,GAL ,SB II ,p.١٦١ ,note ١

(٤٤) ـ Kramers ,EI ,EB ,p.٠٧

(٤٥) راجع أيضا : Rozen ,Notices sommaires ,p.٥٧١ ـ ٧٧١ ,No ٤٢٢

(٤٦) ـ Rosen ,Notices sommaires ,p.٧٧١

٤٠١

__________________

(٤٧) ـ Brockelmann ,GAL ,SB II ,p.٢٦١

(٤٨) (شذور : ـ Dorn ,Me؟l.As ,,VI ,p.٧٤٣ (p.٨٤٣ ـ ٤٦٣

(٤٩) أسامة بن منقذHitti ,Kita؟b al ـ I\'tiba؟r

(٥٠) ـ Carra de Vaux, Les Penseurs, I, p. ٩٣١ ـ ٦٤١ ـ Reinaud, Introduction, II, p. XXXVIII

(٥١) ـ Carra de Vaux ,Les Penseurs ,I ,p.١٤١

(٥٢) ـ Lane Poole ,p.٠٩٢ note ٢

(٥٣) ـ Reinaud ,Introduction ,p.XXXI

(٥٤) ـ Mühlinen ,p.٨٥٦

(٥٥) شرحه ، p ٠٦٦

(٥٦) ـ Wiet, Catalogue, p. ١٨, NO ١١ and p. ٦٩١, No ٢٥١ (Collection Harari,

(No ٩٧١

(٥٧) ـ Brockelmann ,GAL ,SB II ,p.١.No ١ b

(٥٨) Kramers ,Legacy ,p.١٩ : ومع تشدد أكثر لديه ؛ ـ Kramers ,EI ,EB ,p.٠٧

(٥٩) ـ Blache؟re ,p.١٩٢

(٦٠) شرحه ـ Blachére, p. ١٩٢ ـ Reinaud et de Slane, TeXte, p. ٧٠٥

(٦١) ـ Kramers ,EI ,EB ,p.٠٧

(٦٢) ـ Bartold ,Geografia Ibn Sa ida ,p.٨٢٢

(٦٣) ـ Blache؟re ,p.١٩٢ ـ ٢٩٢

(٦٤) Reinaud ,II ,١ Partie ,p.٣ ; : الترجمة

ـ Cf. Reinaud et de Slane, Texte, p. ٣. Cf : Blachére, p. ٢٩٢

(٦٥) ـ Brockelmann ,GAL ,I ,p.٥٨٤ ,No ٨ ;SB I ,p.٧٨٨ ـ ٨٨٨

(٦٦) ـ Reinaud ,Introduction ,p.CDXLVII ـ CDXLIX

(٦٧) شرحه p.٣٤١١ ,note ٣ ـ p.CXXI الترجمةMednikov ,Palestina ,

(٦٨) ـ Reinaud ,Texte arabe ,p XLV ,note ١

(٦٩) ـ Mednikov ,Palestina ,Issledovanie ,p.٢٨٢

(٧٠) ـ Amari Nallino) ,I ,p.٨٥ ,NO ٤٢

(٧١) (p.١٦) خاصة ، Kimble ,p.٠٦ ٢٦

(٧٢) ـ Hudüd ,p.٢٧٣

(٧٣) ـ Yule ـ Cordier ,Cathay ,I ٢ ,p.٥٤١ ,٨٥٢

(٧٤) عن ملخصات وتنقيحات مصنف أبى الفدا فى الشرق راجع :

(٧٥) Reinaud ,Introduction p.CDLIII ـ CDLIV

٤٠٢

__________________

(٧٥) شرحه p.CDLIII

(٧٦) ـ Brockelmann, GAL, II, p. ٦٤, ٣٥٤, NO ٤; SB II, p. ٤٤, ٣٧٦ ـ Taeschner, DI, XIX, p. ٩٣, note ١

(٧٧) ـ Rozen ,Collections scientifignes ,p.٥٣ ,No ٩٦

(٧٨) ـ Dorn ,Caspia ,p.٧٦١ ـ ٩٦١ ـ Dorn ,Kaspi ,p.٣٦٢ ـ ٧٦٢

(٧٩) ـ Reinaud ,Introduction ,p.CDLIV

(٨٠) شرحه p.CDLV

(٨١) ـ Amari , Nallino) ,I ,p.٨٥ ,No ٤٢

(٨٢) ـ Carra de Vaux ,Les penseurs ,II ,p.٣١

(٨٣) ـ Reinaud ,Texte arabe ;p.XLII ,note ٢

(٨٤) ـ Abulfedae Chorasmiae et Mavaralnahrae descriptio, ed. J. Gravius, London, ٠٥٦١

(٨٥) راجع الحاشية رقم ٦٠

(٨٦) راجع الحاشية رقم ٦٦

(٨٧) ـ Guyard ,II ,deuxie؟me partie

(٨٨) ـ Bartold, MI, I, ٢١٩١, p. ٦٥ ـ ٧٠١ ـ Berthels, Rashid al ـ Din, p. ٣١٢١. ٤١٢١ ـ Romaskevich, MITT, I, p. ٢٥ ـ ٤٥ ـ Volin, Orda, II, p. ٧٢ ـ ٩٢ ـ Bartold, Iran, p. ٥٧ ـ ٩٧ ـ Krymski, Istoria Persii, III, p. ٤٤ ـ ٨٤ ـ Ferrand, Relations, II, p. ١٦٣ ـ ٢٦٣ ـ Schefer, Chrestomatie persane, p. ٢١ ـ ٤١ ـ Yule ـ Cordier, Cathay, III ٢, p. ٧٠١ ـ ٣٣١ ـ Browne, Literary History, III, p. ٨٦ ـ ٧٨

(٨٩) ـ Validi ,GZ ,XL ,p.٤٦٣ ـ ٥٦٣ and note ١

(٩٠) ـ Bartold, Iran, p. ٦٧ ـ Krymski, Istoria persii, III, P. ٤٤, note ٢

(٩١) ـ Validi, GZ, XL, p. ٥٦٣ ـ ٦٦٣, note ٥ ـ Validi, Schwerter, p. ٧٤ and note ١

(٩٢) ـ Yule ـ Cordier ,Cathay ,III ٢ ,p.٧٠١ ـ ٣٣١

(٩٣) ـ Bartold, Iran, p. ٩٧ ١٨ ـ Krymski, Istoria Persii, III, p. ٩٤ ـ ٠٥ ـ Romaske ـ vich, MITT, I, p. ٤٥ ـ ٥٥ ـ Reinaud, Introduction, p CLV ـ CLVI ـ Büchner. EI, II, p. ٤٠٩ ـ ٦٠٩ ـ Kramers, EI, EB, p. ١٧ ـ Ferrand, Relations, II, p. ٥٠٤ ـ ٧٠٤ ـ Le Strange, Description of Persia, p. ٩٤. ٣٦ ـ Browne, Literary History, III, p. ٧٨ ـ ٠٠١

(٩٤) ـ Browne, Literary, Historyp. ٣٩ ـ ٤٩ ـ Barbier de Meynard, Kazvin, p. ٧٥٢ ـ ٨٠٣

(٩٥) ـ Barbier de Meynard ,Kazvin ,p.٧٥٢

٤٠٣

__________________

(٩٦) ـ Le Strange, Description of Persia, p. ٤٥ ـ Browne, Literary History, III, p. ٨٩ ـ ٠٠١

(٩٧) p.٩٥ ـ ٣٦ شرحه ـ Le Stiange ,

(٩٨) شرحه p.٣٥ ـ ٤٥

(٩٩) ـ Ferrand ,Relations ,II ,p.٥٠٤ ٧٠٤

(١٠٠) ـ Büchner ,EI ,II ,p.٦٠٩

(١٠١) ـ Bartold ,Iran ,p.٠٨

(١٠٢) شرحه

(١٠٣) ـ Le Strange ,Description of Persia ,p.٤٥ ـ ٥٥

(١٠٤) ـ Bartold, Mechet, p. ٤١ et sui. ـ Petrushevski, Khamdallakh Kazvini

(١٠٥) p.٠٥ شرحه Le Strange

(١٠٦) ـ Kramers ,EI ,EB ,p.١٧

(١٠٧) (ـ Huart ,l\'Afrique ,p.١ t.a؟p.,p.٣١

(١٠٨) ـ Dorn ,Me؟l.As.VI ,p.٤٧٥ ,No ٣

(١٠٩) شرحه VII ,p.٣٤ ٤٤

(١١٠) (ـ Huart ,l\'Afrique ,p.١ t.a؟p.,p.٣١

(١١١) شرحه (p.١ ـ ٢ (t.a؟p.,p.٣١ ـ ٤١

(١١٢) ـ Salemann, Mél, As., IX, p. ٣٩٤ ـ Miklukho ـ Maklai, opisanie, p. ٣٤. ٥٤, No ٧٢

(١١٣) ـ Salemann ,Me؟l.As.,IX ,p.٣٩٤ ـ ٥٩٤

(١١٤) شرحه p.٤٩٤ ـ ٥٩٤

(١١٥) (ـ Huart ,I\'Afrique ,p.٢ t.a؟p.,p.٤١

(١١٦) شرحه

(١١٧) ـ Hermann ,p.٨٧٢ ,note ١ ,Table.VIII

(١١٨) شرحه

(١١٩) شرحه p.٩٧٢

(١٢٠) شرحه p.٨٧٢

(١٢١) Introduction ,p.٨٤. شرحه

Ferrand, Tuhfat al ـ albäb, p. ٨٨ ـ ٩٨ nofe ـ ٨٤, note ٢

(١٢٢) ـ Hermann ,p.٠٨٢

٤٠٤

الفصل الخامس عشر

موسوعات عصر المماليك ـ أسفار ابن بطوطة

وكد القرن الرابع عشر تفوق مصر الفكرى بوجه عام لا فى ميدان الأدب الجغرافى وحده ، فنحن نلتقى فى العصر المملوكى بأدب حافل قل أن نجد له مثيلا فى أى بلد من بلدان الشرق الأخرى (١). وقد تعرفنا حتى الآن على عدد من المصنفات الجغرافية المتعلقة بمصر كما أننا سنتحدث عن أخرى غيرها ؛ بيد أنها ليست هى التى تكسب الأدب الجغرافى لهذا العصر طابعه المميز فإن شرف ذلك يرجع إلى نمط الموسوعات التى ازدهرت فى تلك الآونة والتى أفرد فيها للجغرافيا على الدوام مكانة مرموقة ، وهى التى تترك طابعها المميز بوضوح على القرنين الرابع عشر والخامس عشر وتعتبر خير ما أنتجه ذلك العصر.

أما من وجهة نظر التاريخ الأدبى فإن الموسوعات تنتمى إلى طراز مصرى صرف من المؤلفات الوصفية التى وضعها عمال وعلماء حكومة عصر المماليك ؛ ويجب أن يضم إليها عدد من الأوصاف المستقلة فى جغرافيا مصر والشام وإدارتهما (٢) مما حدث وأن عالجنا الكلام عليه من قبل وسنعرض له حين الحديث على القرن الخامس عشر. وكنمط أدبى فإن هذه الموسوعات وليدة تاريخ طويل معقد فهى ترتبط بعض الشىء بتلك المجموعات التى وضعت فى الإدارة والجغرافيا والمعروفة لنا من القرنين التاسع والعاشر ، ولكنها تختلف عنها فى أنه قد قصد بها دائرة أوسع من القراء. وعلى الرغم من أنها عملت أساسا من أجل كتبة الدواوين الذين كانوا زينة الجهاز الكتابى والإدارى لمصر آنذاك إلا أن جميع المثقفين قد اهتموا بمطالعتها ، مما جعل مؤلفيها يولون اهتماما كبيرا للأسلوب الأدبى. وهى بلاشك أوسع مجالا من المؤلفات السابقة لها ، كما أنها تعالج مسائل أعم وأكثر شمولا فى جميع فروع العلوم التى يريد المؤلف أن يعرف بها. ولا تقف أهميتها عند حد الجغرافيا وحدها بل إنها بنفس القدر تولى اهتمامها أيضا إلى التاريخ والحضارة (٣) ؛ وهى وإن كانت لا تخلو من بعض الصلة بمصنفات الجغرافيا المبكرة إلا أنها إلى جانب هذا قد خضعت لتأثير قوى من ناحية المصنفات الكوزموغرافية للقرن الثالث عشر بحيث تستعير أحيانا طريقة تبويبها. والاختلاف الجوهرى الذى يميزها عن غيرها هو أن هدفها الأول لم يكن الإعلام بل الأدب الفنى ، كما أن مؤلفيها لم يروا فى أنفسهم علماء بل كتّابا ، أعنى كتّابا من موظفى ديوان الإنشاء كل زادهم هو بعض الخبرة فى الشئون الكتابية. وقد أدت وحدة الوسط الذى نشأت فيه الموسوعات إلى تشابهها فى الترتيب ، وهو ترتيب يعكس أحيانا بوضوح تام أثر التدريب الصارم فى الشئون الكتابية.

٤٠٥

وأكبر موسوعات القرن الرابع عشر هما موسوعتا النويرى والعمرى ، غير أنه وجد مؤلف سابق عليهما فى هذا الميدان من الناحية الزمنية ويمكن بوساطته تقصى أصل نمط الموسوعات هو محمد بن إبراهيم الوطواط الكتبى الوراق (توفى عام ٧١٨ ه‍ ـ ١٣١٨) (٤). ولقبه الوراق يشير بوضوح تام إلى أنه لم يكن من رجال الأعمال أو عمال الحكومة بل كان من المشتغلين بالكتب وربما كان من تجارها أو نسّاخها ، وعلى أية حال فقد كان وثيق الصلة بالأدب.

ولا تتوفر لدينا معطيات عن سيرة حياته إنما يؤخذ من ألفاظه أنه مغربى المولد مصرى الوطن والدار (٥). وكان شاعرا أديبا اشتهر بمؤلف فى المختارات الأدبية نال رواجا كبيرا كما هو الشأن مع المؤلفات من هذا النوع ، كما اشتهر أيضا بكتاب آخر فى شعراء الأندلس غير معروف لنا عن كثب (٦). ويمثل أهمية أساسية بالنسبة لنا مصنف له لم يطبع حتى الآن ويقف فى الحد الفاصل بين الكوزموغرافيا والموسوعة والمختارات الأدبية ، جامعا بين هذه العناصر الثلاثة وأشبه ما يكون بحلقة موصلة إلى مصنف النويرى. وكما هو الحال دائما مع أمثال هذه المؤلفات فهو يحمل عنوانا متكلفا يختلف أحيانا فى المصادر والمخطوطات هو «مباهج الفكر ومناهج العبر» ؛ ويهدف المؤلف بكتابه إلى الموعظة والعبرة وهو كبقية الكوزموغرافيات غرضه تفسير «معالم» الطبيعة المختلفة ، لهذا فإنه يمثل موسوعة فى العلوم الطبيعية والجغرافيا ولكنه معروض فى أسلوب المصنفات الأدبية وموضح بالشواهد من شعر ونثر. وينقسم الكتاب إلى أربعة فنون الأول فى الفلك والأجرام السماوية والثانى فى الجغرافيا والاثنوغرافيا مع استثناء الشعوب المنحدرة من أولاد يافث وأولاد حام «لأن رائد العقل بهمت عليه أسماؤها فما عرّج عليها ولا حام» (٧) والثالث فى الحيوان والرابع فى النبات. وكل فن ينقسم بدوره إلى تسعة أبواب (٨) ينعكس فى تتابعها تأثير نظام العرض المعهود فى كتب الكوزموغرافيا. والفن الثانى المكرس للجغرافيا يبحث فى بابه الأول فى خلق الأرض وهيئتها ، ولعل مما لا يخلو من الطرافة اعترافه بكروية الأرض وحركتها (٩) ؛ والباب الثانى منه فى الجبال والمعادن والثالث فى البحار والجزائر والرابع فى العيون والآبار والخامس فى ذكر أسباب من سكن المعمور. أما السادس فيبحث فى ذكر البلاد ونواحيها وما ملك المسلمون منها والسابع فى طبائع البلاد وأخلاق من سكنها من العباد والثامن فى المبانى التى بقى أثرها ووعظ خبرها والتاسع فيما وصفت به المعاقل والمنازل.

إن هذا المضمون يذكرنا إلى حد كبير بما هو معروف لنا فى المصنفات الكوزموغرافية خاصة كتاب القزوينى ، غير أن أسلوبه يختلف عنها اختلافا كبيرا لأن الوطواط يقرر منذ البداية فى كل قسم من كتابه بالتقريب أنه لم يقصد إلى الإعلام أو إلى استنباط نتائج عملية من النظريات التى يعرضها ولكن يترك هذا للمتخصصين. فهو مثلا فى الفن الأول الذى أفرده للكلام على الفلك لا يمس الجانب التطبيقى منه وهو التنجيم (١٠) ؛ وكذلك الشأن مع الفن الثالث الذى يمس الحيوان نراه لا يتعرض فى شىء إلى نفعها أو ضررها

٤٠٦

أو تشريح أعضائها «إذ ذلك موضوع لهم فى كتب مدونة». وهذا القول نفسه يصدق على الفن الرابع الذى يتعرض فيه للكلام على النبات فهو لا يتحدث فيه عن منافع النبات ومضاره أو ذكر ماهيته وقواه وطبائعه بل يكتفى بذكر طرف من تجارب الفلاحين والطرق التى مارسوها فى علاجه والعناية به (١١). ولا ينفى مؤلفنا أن الهدف من كتابه هو تقديم جماع ما عرفه فى زمانه علماء العرب واليونان والسريان فيما يخص الأرض والسماء ، وفيما عدا ذلك فإنه يغلب عنده بصورة واضحة الميل الأدبى على الميل العلمى (١٢) فيحفل بنماذج من النثر والشعر من كل لون معروضة عرضا جيدا يكشف عن خبرة كبيرة بالمسائل الأدبية ، وبهذا فإن كتابه لم يقف عند حد تلك العلوم التى أفرد لها «فنونا» مختلفة فحسب بل يعالج «الأدب» فى معظمه (١٣). وينعكس هذا بصورة أوضح فى طريقة عرضه للمادة فى كل باب ، فهو يصدر مواضع بحثه بالقول النقلى من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومذاهب فى التفسير ثم يعقب على ذلك بآراء العلماء من اليونان والعرب. ويلى هذا فى العادة توضيح لغوى تصحبه أمثلة من مجال الأدب بمفهومه الواسع كالنوادر والأمثال والشعر (١٤) ؛ وهو يستشهد بعدد كبير من الشعراء من مختلف العصور (١٥) كما يذكر أسماء عدد وافر من الكتب (١٦).

والكتاب فى جوهره مؤلف نقلى بالطبع ، غير أن هذه الظاهرة يجب ألا تدهشنا فى محيط الأدب العربى ابتداء من القرن الثانى عشر ؛ وعلى أية حال فإن واحدا من البحاثة القلائل الذين فحصوا هذا المصنف فحصا دقيقا يثبت أنه أكثر جدية وأحفل مادة من كوزموغرافيا القزوينى (١٧) وأنه لا يعكس ذلك الميل الواضح إلى العجائب كما هو الحال مع الكتاب الآخر. ومما يزيد فى صعوبة التعرف على هذا المصنف أنه لم يطبع إلى الآن ، وليس هذا فحسب بل أيضا لأن مجموعات المخطوطات المختلفة لا تحتوى منه إلا على أجزاء متفرقة (١٨) ؛ والنسخة التامة الوحيدة المعروفة حتى الآن هى تلك الموجودة بالمكتبة المارونية بحلب والتى لفت إليها الأنظار منذ القرن الثامن عشر أحد كبار ممثلى النهضة الأدبية فى الشام جرمان فرحات (١٦٧٠ ـ ١٧٣٢) (١٩) الذى وضع لها عناوين شاملة فى عام ١٧٢٧ (٢٠) ؛ ثم قام بوصف هذه النسخة بالكثير من الدقة والتفصيل عالمان مختلفان من حلب (٢١) أحدهما هو الذى يجب الاعتماد عليه اعتمادا تاما فى التعرف على الكتاب.

ونظرا لأنه مصنف نقلى متأخر لم يقتصر على الجغرافيا وحدها فإن «مباهج الفكر» لا يمثل خطوة هامة فى تطور الأدب الجغرافى ؛ غير أنه لا يخلو من أهمية بالنسبة لنا لا فى وصفه لذلك العصر وذلك الوسط فحسب بل لأنه يسوقنا إلى التاريخ المبكر للموسوعات فيمكننا من تبين الصلة التى تربطها بالكوزموغرافيا وبالمصنفات الأدبية الأخرى. فهذا المصنف قد لعب بلا شك دورا كبيرا فى تطوير هذا النمط ويرتبط ارتباطا مباشرا بموسوعة النويرى ؛ وبرهان ذلك ليس فقط فى أن هذا الأخير ينقل عنه مرارا بل لأنه من المحتمل أن يكون النويرى قد استعار عنه طريقة التبويب إلى «فنون» محتفظا أحيانا

٤٠٧

بمحتويات الكتاب نفسها ؛ ففى القسم الخاص بالنبات مثلا يعيد النويرى تصنيف النبات كما دونه الوطواط (٢٢) ؛ ومن هذا نجد أن التفاصيل من ناحية والتبويب من ناحية أخرى يشيران إلى ارتباط وثيق بين الكتابين.

ويعتبر شهاب الدين أخمد بن عبد الوهاب البكرى النويرى (٦٧٧ ه‍ ـ ٧٣٢ ه‍ ـ ١٢٧٩ ـ ١٣٣٢ (٢٣)) خير ممثل للوسط الذى عملت فيه ومن أجله الموسوعات ؛ وهو مصرى الأصل أخذ اسمه من اسم محلة غير كبيرة فى مصر العليا ، وقد اكتسب أبوه الشهرة ككاتب فى مختلف دواوين الحكومة وكان الابن من المقربين إلى السلطان الناصر الذى شمل أبا الفدا برعايته. وشغل النويرى لبعض الوقت منصب رئيس لكتبة إدارة الجيش بطرابلس الشام ثم فيما بعد منصب رئيس الكتبة فى عدد من المقاطعات المصرية. ويرتبط على السواء بالأعمال الإدارية وبالإنشاء الأدبى مصنفه الأساسى الكبير الذى رفعه إلى الملك الناصر. وعنوانه «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يشير على وجه التحديد إلى المضمون الأدبى للمصنف والدور الحاسم الذى يلعبه فى هذا المقام لفظ «فن». ويبين لنا المؤلف نفسه الطريق الذى سلكه فى تنفيذ فكرته فهو يذكر أنه فى بداية نشاطه الأدبى قد أولى كل جهده إلى «الكتابة» ، ثم تحول إلى «الأدب» بمفهومه العام عقب ذلك. وقد جعل هدف موسوعته تلخيص جميع العلوم الاجتماعية مما يحتاج إليه كبار الكتاب ؛ وهذا الوضوح فى الهدف يتفق تماما مع ما هو ملحوظ فى كتابه من الانتظام الشديد فى العرض ولو أنه يقوم على أسس شكلية.

وإلى جانب الفنون الأربعة الموجودة لدى الوطواط يضيف النويرى «فنا» خامسا ويعدل كثيرا فى مادة «الفن» الثانى. وينقسم كل فن عنده إلى خمسة «أقسام» يحتوى كل واحد منها على عدد من الفصول يختلف مقدارها باختلاف الأقسام. فالفن الأول مفرد للسماء والأرض (ويشمل الجزء الأول من الطبعة المصرية) ، أما الفن الثانى فعن الإنسان (الأجزاء من الثانى إلى التاسع) والثالث للحيوان (الجزآن التاسع والعاشر) والرابع للنبات (الجزآن الحادى عشر والثانى عشر) والخامس للتاريخ. ولا تتفق الفنون فى أحجامها فالقسم التاريخى الذى يصل به المؤلف إلى العام السابق لوفاته (٧٣١ ه‍ ـ ١٣٣١) يشغل بالتقريب نصف الكتاب ، أى أنه يمثل فى الطبعة ما يقرب من تسعة آلاف صفحة من القطع الكبير ؛ وإلى جانب التقسيم إلى فنون ينقسم الكتاب إلى أجزاء يصل عددها إلى واحد وثلاثين جزءا. وكان المؤلف خطاطا كتب بخط يده أربع أو خمس نسخ تامة من مصنفه هذا قدرت قيمة كل واحدة منها بألفى درهم ؛ وكان بمقدوره أن يخط ثمانين صفحة فى اليوم.

والقسم الجغرافى من الموسوعة يشغل القسمين الرابع والخامس من الفن الأول ، وفيه نلتقى بكل المعلومات المعروفة لنا عن خلق العالم والظواهر الجوية (meteorological) والعناصر وقياس الوقت والفصول ، وكذلك عن الأرض وأبعادها والأقاليم السبعة والجبال والبحار والجزر والأنهار والبحيرات والبلدان المختلفة والمدن وسكانها وآثار المنازل والمحال (٢٤) ؛ وهكذا نجد هنا أيضا توافقا ملحوظا

٤٠٨

فى المضمون مع الوطواط : ومعطياته فى الجغرافيا الإقليمية (regional) بوجه عام طفيفة للغاية عند مقارنتها بالمعلومات ذات الطابع العام ؛ وكما هو الحال مع الأقسام الأخرى من الكتاب فإن النويرى لا يدعى لنفسه أصالة خاصة بل يذكر بالتحديد أنه إنما يقتفى أثر السابقين له ويلقى بجميع المسئولية على عاتقهم. وتبدو أصالته الأساسية فى معالجته الأدبية لمادته وينعكس هذا بوضوح تام فى القسم الذى يفرده للنبات مثلا فهو يعالج الكلام على النبات من وجهة نظر الأدب ويورد عنه ما هو ضرورى فقط للتثقيف الأدبى ، فالنبات نافع للإنسان كغذاء أو عطر أو أدوية طبية ولكن توضيح ذلك لديه يجريه فى الغالب عن طريق إيراد الأشعار ولهذا فإن القزوينى مثلا يفوقه فى وصفه لعدد أكبر من النباتات (٢٥) رغما من أن القسم النباتى لدى النويرى أكبر منه حجما.

وقد أخذ النويرى وقتا طويلا فى تأليف كتابه يصل إلى عشرين عاما ، وهو أمر ليس بالغريب إذا أخذنا فى الاعتبار حجم الكتاب الهائل. وهذا يفسر لنا تفسيرا كافيا السبب الذى جعل الأقسام المبكرة من الكتاب تضم زيادات ترجع إلى تاريخ متأخر وأن المؤلف ظل يضيف إلى القسم التاريخى على هيئة حوليات من عام لآخر إلى قرب وفاته. وكتاب النويرى مصدر من الدرجة الأولى بالنسبة للتاريخ والجغرافيا التاريخية المعاصرة له أو القريبة العهد منه ، أما بالنسبة للفنون الأخرى فإن أهميته تختلف باختلاف نوع المادة التى يعالج الكلام عليها فى كل فن.

وبفضل العدد الكبير من أجزائه المختلفه الذى وجد طريقة إلى مجموعات المخطوطات بأوروبا فقد بدأ الاهتمام بموسوعة النويرى منذ القرن الثامن عشر واجتذب الأنظار بصورة خاصة الجزء التاريخى منها. وقد بالغ العلماء أحيانا فى تقدير الأقسام المفردة لتاريخ الأزمنة السالفة ولكن لم يلبث أن تبين فى القرن العشرين أن النويرى مصدر ذو أهمية ثانوية فى هذا المجال بعد أن أصبحت فى متناول الأيدى معظم المصادر التى اعتمد عليها فى كتابة تلك الأقسام. وعلى النقيض من هذا فإن كتابه سيظل على الدوام مصدرا ذا أهمية كبرى بالنسبة للفترة التاريخية القريبة من عهد المؤلف سواء كان ذلك عن شمال أفريقيا والأندلس وصقلية (٢٦) أم عن أقطار مثل دولة الأوردو الذهبى ؛ وقد بين أهمية النويرى بالنسبة لتاريخ تلك الدولة أبحاث تيزنهاوزن Tiesenhausen ثم وكدت ذلك الأبحاث الأخيرة التى ظهرت فى الاتحاد السوفيتى. أما الأجزاء الأخرى من موسوعة النويرى فإنها لم تجتذب كثيرا أنظار البحاثة على الرغم من أن القسم الذى يحتوى على سير مشاهير الرجال يمكن أن يقدم مادة لبعض الدراسات ؛ وتحليل كل من قيدمان (٢٧) وفيران (٢٨) للفصول التى تبحث فى العطور والأدوية والنباتات بوجه عام يبين أن الكتاب لا يخلو من مادة قيمة تهم الجغرافى كما تهم عالم النبات ومؤرخ الحضارة.

ومما كان يعوق التقييم العام لموسوعة النويرى هو عدم وجود طبعة كاملة للكتاب ؛ ولقد كان من أفضل خدمات العلامة المصرى أحمد زكى باشا (توفى فى الخامس من يوليو عام ١٩٣٤) هو ما بذله من جهد

٤٠٩

فى سبيل جمع نسخة كاملة من هذا الكتاب فى واحد وثلاثين جزءا البعض منها فى الأصل والبعض الآخر مصور من مخطوطات استنبول والمكتبات الأوروبية (٢٩). هذا وقد وصلت الطبعة التى بدأئها دار الكتب المصرية فى عام ١٩٢٣ إلى الجزء الثانى عشر (١) الذى ينتهى به الفن الرابع ؛ أما الأجراء الباقية فتحتوى على القسم التاريخى. وبهذا أصبح من الممكن تقدير هذا الأثر الجليل لعهد المماليك تقديرا أساسيا يتفق مع أهمية الكتاب الكبرى بالنسبة للأدب الجغرافى ولجميع تاريخ حضارة ذلك العهد.

ويظفر بأهمية أكثر منه بالنسبة لنا مصنف معاصره العمرى (٧٠٠ ه‍ ـ ٧٤٩ ه‍ ـ ١٣٠١ ـ ١٣٤٩) وإن لم تبلغ سمعته فى الدوائر العلمية سمعة النويرى (٣٠). واسمه الكامل وهو شهاب الدين أحمد بن يحيى ابن فضل الله العمرى الدمشقى يدلنا على أنه خلافا للنويرى لا ينتمى من ناحية الميلاد إلى مصر ؛ ويرتفع نسب أسرته إلى عمر بن الخطاب وهو أمر تشكك فى صحته أحيانا بعض من لا بحبون الخير للناس ؛ أما أجداده الأقربون فقد استقروا منذ بعض الوقت فى البرلس بمصر السفلى (٣١) ولكنهم كانوا يحسون على الدوام بأنهم أكثر ارتباطا بدمشق (٣٢) منهم بمصر فاحتفظوا باسم الدمشقى كنسبة أساسية ؛ وبدمشق ولد العمرى ولكنه شب وتعلم بمصر. وقد ربطته تقاليد أسرته كما هو الحال مع النويرى بعمل الدواوين ؛ وكما يذكر المقريزى فإن أسرته قد تولت رئاسة ديوان الإنشاء بمصر مدة قرن من الزمان تقريبا (٣٣). وإلى جانب ممارسته للكتابة يوميا فقد تتلمذ العمرى على أساتذة مبرزين فى مختلف فروع العلوم ومعروفين بسعة الأفق نذكر من بينهم برهان الدين بن الفركاح الذى يتصل نشاطه العلمى بالجغرافيا أيضا والذى سيرد ذكره حين الكلام على جغرافيا فلسطين فى ذلك العهد ؛ كما تتلمذ على أحد علماء البلاغة وهو شهاب شهاب الدين الحلبى (٣٤). وعلى أية حال فإن العمرى لم يتخذ العلم مهنة له وقد شغل حينا من الوقت وظيفة قاض بمصر وخلف أباه فى رئاسة ديوان الإنشاء فى عهد السلطان الناصر ؛ وفى عام ٧٣٨ ه‍ ـ ١٣٣٨ كان عضوا فى بعثة الحج المصرية (٣٥). ولم تلبث حدة طباعه أن ساقته إلى النزاع مع ولى نعمته فأمضى الأعوام الأخيرة من حياته بدمشق أشبه بالمغضوب عليه (٣٦) وبها توفى فى سن مبكرة لا بسبب الوباء الذى وقع بالشام آنذاك بل من الربء ??? Quartenfieber (٣٧).

ولما كان العمرى يتمتع بثقافة عريضة وذوق أدبى مرهف فقد وقاه هذا من ضيق الأفق الذى يسوق إليه الوسط الدواوينى الذى أمضى فيه كل حياته. وهو لم يكن ناثرا فحسب بل وكان شاعرا أيضا ؛ وتنسب إليه المصادر المختلفة ما يقرب من أحد عشر مصنفا (٣٨). وإلى جانب موسوعته الكبرى العديدة الأجزاء يمثل أهمية خاصة بالنسبة للأدب الجغرافى سفر جامع متوسط الحجم قصد به العمرى عرض كل ما يحتاج إليه فى عمل الدواوين وذلك بالمعنى الضيق لهذا اللفظ. وعلى الرغم من أنه قد قصد به أن

__________________

(*) كان ذلك فى اللحظة التى دون فيها المؤلف هذه السطور ، أما الآن أى فى عام ١٩٦٣ فإن الطبعة قد وصلت إلى الجزء الثامن عشر (١٩٥٥). (المترجم)

٤١٠

يكون أنموذجا فى فن الكتابة فقد أصبح بفضل المنهج الذى اتبعه المؤلف مصدرا هاما بالنسبة للتاريخ والجغرافيا التاريخية. ويرجع تأليفه إلى الفترة التالية لعام ٧٤١ ه‍ ـ ١٣٤٠ يوم كان المؤلف يتمتع بخبرة واسعة فى فن الإنشاء ؛ وعنوانه «التعريف بالمصطلح الشريف» يحدد بدقة الغرض الرئيسى من الكتاب. وينقسم الكتاب إلى سبعة أقسام الأول منها فى رتب المكاتبات والثانى فى عادات العهود والتقاليد والتفاويض والتواقيع والمراسيم والمناشير والثالث فى نسخ الإيمان والرابع فى الأمانات والدفن والهدن والمواصفات والمفاسخات والخامس فى نطاق كل مملكة وما هو مضاف إليها من المدن والقلاع والرساتيق والسادس فى مراكز البريد والحمام ومراكز هجن الثلج والمراكب المسفرة به فى البحر والمناور والمحرقات والسابع فى أوصاف ما تدعو الحاجة إلى وصفه (٣٩). والعلماء الذين توفروا بصورة خاصة على دراسة هذا الأثر مثل هارتمان Hartmann وغودفروا ديمومبين G Demombynes يقدورنه تقديرا كبيرا سواء فى تفاصيله أو فى مجموعه. وتحليل المقالتين الخامسة والسادسة المفردتين لمصر والشام ولوسائل المواصلات فى دولة المماليك يبين بجلاء الأهمية الكبرى لهذا الأثر من الناحية العملية ودقة المعلومات التى يشتمل عليها ، وهو أمر يجب ألا ندهش له إذ أن معظم هذه المعلومات لا تستند على الوثائق الرسمية فحسب بل وعلى معرفة المؤلف المباشرة بمعظم الوقائع. ومما يسترعى النظر أن المؤلف استطاع فى مثل هذا المصنف الجاف بطبيعته أن يرتفع إلى مستوى راق فى العرض الأدبى من غير أن يفقد فى ذات الوقت النظرة الشاملة إلى موضوعه. وقد كان لمعرفته الجيدة بأسرار البلاغة وتملكه بجدارة لناصية اللغة العربية أن تجنب بمهارة فائقة الإطالة والإسهاب وحصر اهتمامه فى الجوهرى ، الأمر الذى يميزه عن الكثيرين ممن كتبوا فى العصور التالية لذلك رغما من أن أسلوبه لم يكن يتصف على الدوام بالسهولة. والترتيب المنطقى لمادة كتابه يجعل من هذا المصنف مصدرا حافلا لدراسة مختلف الموضوعات (٤٠) خاصة الجغرافية والتاريخية ؛ وبعد أن نفحص مصنف خليل الظاهرى الذى ألف كتابه بعد قرن من هذا سيستبين لنا بجلاء البون الشاسع الذى يفصل بين العمرى وبين أولئك الذين اقتفوا أثره فعالجوا نفس الموضوعات التى كتب فيها. ويبدو أن كتابه كان مرغوبا فيه للغاية ففى نهاية القرن الثامن الهجرى (الخامس عشر الميلادى) قام بتنقيحه والزيادة عليه اثنان من أفراد أسرة المحبى الشامية المعروفة باشتغالها بالعلم وذلك بعنوان «تكثيف التعريف بالمصطلح الشريف» (٤١). وبفضل المخطوطة الموجودة لدينا بمعهد الدراسات الشرقية فقد أصبحت هذه الرواية المعدلة للكتاب معروفة لدى المستشرقين الروس ولفت تيزنهاوزن الأنظار إلى أهميتهما بالنسبة لتاريخ الأوردو الذهبى (٤٢).

أما موسوعة العمرى فإنها تعادل من حيث الضخامة موسوعة النويرى ويبلغ عدد أجزائها السبعة والعشرين جزءا موزعة بين دور المخطوطات المختلفة ؛ ولكن الموسوعة فيما يبدو كانت تتألف من اثنين وثلاثين جزءا كما أثبت ذلك أحمد زكى باشا الذى استطاع بمجهوده الشخصى أن يجمع نسخة

٤١١

كاملة منها بالقاهرة. وفى الواقع أن هذه النسخة التى جمعها أحمد زكى باشا والتى تعتمد أساسا على مخطوطات استنبول تحتوى على ستة عشر جزءا مزدوجا وتقع فى تسعة آلاف وثمانمائة وإحدى وثمانين صفحة خطية ؛ وعلى الرغم من ضخامة هذا الحجم فإن مضمون الموسوعة أضيق بكثير من مضمون موسوعة النويرى إذ أن مادتها تقتصر على الجغرافيا والتاريخ وحدهما ؛ وينعكس هذا فى نفس العنوان الذى يذكرنا بمذهب قديم فى الجغرافيا العربية وهو «مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» ؛ وقد يحمل الكتاب أحيانا عنوانا مختصرا بعض الشىء ولكنه يفتقر إلى الدقة وهو «أخبار الملوك». وينقسم المصنف إلى قسمين أحدهما مكرس للأرض والآخر لسكانها من مختلف الشعوب ، وينقسم القسم الأول بدوره إلى قسمين يطلق العمرى عليهما مصطلحا لا يجرى عادة فى الاستعمال وهو «النوع» ، ولعله أراد من ذلك أن يجعله مقابلا لاستعمال النويرى للفظ «الفن». ويحمل «النوع الأول» عنوانا موجزا هو «فى ذكر المسالك» ويجب أن يؤخذ هذا العنوان بمفهومه العريض ليشمل فى الواقع الجغرافيا العامة ؛ أما الباب الأول منه فيبحث فى أبعاد الأرض و «حالها» والثانى فى الأقاليم السبعة وهنا يرد استطراد طريف بعنوان «ممالك عبّاد الصليب» الذى سنعود إلى الكلام عليه. أما الباب الثالث ففى البحار وكل ما يتعلق بها وهنا يرد ذكر «القنباص» (معرب كومباس Compass وهو البوصلة) ؛ ويبحث الباب الرابع فى القبلة والأدلة عليها ، أما الخامس ففى الطرق. هذا فيما يتعلق بالنوع الأول فإذا ما انتقلنا إلى النوع الثانى فهو يحمل أيضا اسما مقتضبا هو «فى ذكر الممالك» وينقسم إلى خمسة عشر بابا تصف على التوالى الدول والبلاد الآتى ذكرها ابتداء من الشرق فى اتجاه الغرب : الهند والسند ، ممالك بيت جنكيز خان ، الجيل (كيلان) ، الجبال ، الأتراك بالروم (آسيا الصغرى) ، مصر ومعها الشام والحجاز ، اليمن ، المسلمون بالحبشة ، السودان ، مملكة ملىّ ، جبال البربر ، أفريقيا ، مملكة بر العدوة (مراكش) ، الأندلس ، العرب البدو المعاصرين وأماكن سكناهم. والقسم الثانى من الكتاب الذى يبحث فى سكان الأرض من طوائف الأمم» ينقسم إلى خمسة أنواع ؛ أما النوع الأول منها الذى يبدو وكأنه يمثل مرحلة انتقالية فإنه يحوى مفاخرة بين المشرق والمغرب تمس الطبيعة والحيوان بل وطوائف العلماء مما يذكرنا بعض الشىء بالنمط القديم فى «الفضائل» ، أى مزايا البلدان والأشياء المختلفة ولو أنه يصوغه بالطبع فى صورة مختصرة وفى قالب أدبى. ويبحث النوع الثانى فى الديانات المختلفة بينما يبحث الثالث فى طوائف المتدينين ، أما الرابع فمكرس للتاريخ ويتضمن بابين أحدهما فى ذكر الدول التى وجدت قبل الإسلام والثانى فى ذكر الدول الكائنة فى الإسلام.

هذا هو مضمون كتاب «مسالك الأبصار» كما يعرضه المؤلف نفسه بإسهاب فى مقدمة الكتاب (الجزء الأول ، الصفحات من ٦ إلى ١٣). والحكم على حجم كل قسم من أقسام الكتاب المختلفة وكذلك البحث فى مطابقة هذا التبويب لمضمون الكتاب الواقعى أمر عسير إذ أنه لم ير النور منه حتى الآن سوى

٤١٢

الجزء الأول (عام ١٩٢٤) ؛ غير أنه بفضل ما تم نشره من أقسامه المختلفة سواء من المتن نفسه أو فى ترجمات (أفريقيا الشمالية وأوروبا الغربية والأناضول ودولة الأوردو الذهبى والصين) فقد صار من المستطاع تكوين فكرة عن الهدف الأساسى للمؤلف وهو أن يضع موسوعة تاريخية جغرافية جامعة لا تقوم على أساس علمى صرف بل على أساس أدبى عريض.

والمؤلف رجل نقالة جامع لصنوف العلوم وموسوعى (Encyclopaedist) ولكنه يتميز بالقليل من الأصالة ؛ وهو يعوض هذا النقص باطلاعه الواسع. وقد هيأ له عمله الحكومى الاطلاع على الوثائق كما أن مصادر أخباره ومعلوماته متعددة للغاية مما مكنه من إخراج لوحة مفصلة فى وصف العالم المعاصر له. وهو قد قصد من مؤلفه هذا قبل كل شىء إلى وضع مرجع جامع من أجل كتبة الدواوين كما هو الشأن أيضا مع كتابه «التعريف» ، إلا أن هذا الأخير لا يرتفع من الناحية الأدبية إلى درجة «المسالك» ؛ كما أن الاختلاف بين المصنفين لا يقوم فى جوهره على أساس أن «التعريف» إنما يحوى أرقاما أكثر فحسب أو أن «المسالك» يتضمن مادة جغرافية أكثر كما دلل على ذلك هارتمان (٤٣) ، بل أيضا فى أن منهج العرض فى الكتابين مختلف للغاية. «فمسالك الأبصار» يمكن أن يسد مسد كتاب عام للمطالعة لا من أجل الكتاب وحدهم بل وأيضا من أجل الأدباء بوجه عام ؛ ووضع كتاب كهذا يستلزم وفرة فى الذوق الأدبى وقدرا معلوما من الملكة النقدية ، وهما شيئان ضرب فيهما العمرى بسهم كبير ولو أنه يجب ألا يدهشنا منه تصديقه للمعتقدات السائدة فى عصره والتى لم تكن قد اطرحت بعد. وهو يطبق أحيانا المنهج العلمى بطريقة بدائية ولكنه على أية حال يفعل ذلك بالكثير من الأصالة ، ففى موضع من كتابه يقول : «ونأخذ فى هذا الباب على التحرير فى أكثر ما عرفنا ، والتحقيق لأكثر مما نعرف بتكرار السؤال واحدا بعد واحد عما يعلمه من أحوال بلاده وما فيها وما اشتملته عليه فى الغالب نواحيها ، وكنت أسأل الرجل عن بلاده ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق. فما اتفقت عليه أقوالهم أو تقاربت أثبته ، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت تركته ، ثم إنى أترك الرجل المسئول مدة أناسيه فيها عما قال ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت ، فإن ثبت قوله الأول أثبت مقاله وإن تزلزل أذهبت فى الريح أقواله ، كل هذا لأتروى فى الرواية وأتوثق فى التصحيح (٤٤)».

وقد أحس العمرى بالمطالب الأدبية لعصره إحساسا مرهفا لذا فإن كتابه لا يمثل موسوعة تاريخية جغرافية فحسب بل وأيضا مجموعة كبيرة من المنتخبات الشعرية تضم بوجه خاص الأشعار المرتبطة بالمواضع المشهورة (٤٥) ؛ وكما هو معروف فإن هذا العنصر قد لعب دورا ليس بالضئيل فى المعاجم الجغرافية المختلفة خاصة معجم ياقوت. وإذا كانت موسوعة العمرى لا تخلو من الطرافة كمصنف أدبى قائم بذاته فهى أيضا معين لا تنضب مادته فيما يتعلق بمختلف الأقطار ، ولا يسعنا فى هذا المجال إلا أن نكتفى بإيراد نماذج معينة منه. فأمارى Amari عند فحصه للقسم الخاص بصقلية وإيطاليا قد أثبت

٤١٣

أن المادة التاريخية فيه هى بوجه عام تكرار لما جاء فى مصنف أبى الفدا ، هذا بينما تمثل المادة الجغرافية أهمية خاصة لأن المؤلف استقاها من المؤلفين السابقين كما استقاها أيضا من الوثائق الرسمية وروايات المعاصرين له (٤٦). وهو بوجه عام على معرفة جيدة بمجريات الحوادث فى حوض البحر الأبيض المتوسط ، فمادته التى يقدمها مثلا عن مسلمى جزيرة بانتلارياPantellara قد أيدتها الوثائق الدبلوماسية التى تم الكشف عنها فى القرن التاسع عشر ؛ أما فيما يتعلق بجزيرة صقلية فإن العمرى لم يقف عند مصنف الإدريسى وحده بل رجع أيضا إلى مصنف مجهول بالنسبة لنا عن عهد النورمان (٤٧). وأما إيطاليا كما وردت فى «مسالك الأبصار» فإن وصفه لها يعتمد فى الغالب على الإدريسى ، وهو يورد تعدادا للمدن الرئيسية بإيطاليا موزعة وفقا للأقاليم والمناطق ويتناول بعضها بالوصف (٤٨). وإلى جانب هذا فقد تسرب إلى كتابه الوصف الأسطورى القديم لمدينة رومة والذى يتكرر فى صورته التقليدية الأدبية عند عدد كبير من الكتاب على ممر القرون (٤٩). وفى هذا الصدد تجدر الإشارة إلى مصدر آخر من مصادر العمرى فريد فى نوعه وهو شخص من أهل جنوا يدعى دومينيك دورياDominic Doria كان قد سيق أسيرا إلى الشرق وعرف هناك باسم بلبان الجنوى وكان من مماليك الأمير المملوكى بهادور المعزى (توفى فى عام ٧٣٩ ه‍ ـ ١٣٣٩) (٥٠) ؛ أما فى الوسط العلمى الروسى فقد اجتذب هذا الجنوى اهتمام العلامة سرزنفسكى Srezneveski فذكره فى كتابه الذى أفرده لرحلة افناسى نيكتين Afanasi Nikitin (١٨٥٦) (٥١). ويبدو أنه كان شخصا واسع المعرفة لأن العمرى قد أخذ عنه فكرة جيدة عن عدد من البلاد والشعوب الأوروبية ؛ وهو يذكر مثلا أن الدور الرئيسى فى ذلك العصر كانت تلعبه فرنسا وأن ملك أسبانيا كان أشبه بنائب لملك فرنسا ؛ وهو يعلم أن الألمان أقوياء فى البر وحده. ولا شك أن هذا الجنوى قد زار بروقنس أيضا كما أنه يورد معلومات وافرة عن لومبارديا وصقلية والبندقية وبيزا وفلورنسه وقطلونيا ، وعن جنوه بشكل خاص لأنه يفصل القول عن تجارتها مع المشرق بصورة تدل على معرفته العميقة بهذا الموضوع. هذا وقدأ لقت به الأقدار فى ظروف معينة إلى آسيا الصغرى التى يعتبر وصفه لها من أقيم فصول كتاب العمرى (٥٢) خاصة تلك التفصيلات التى يوردها عن بلاد القرمان وطربيزون (٥٣) ؛ ويبدو أنه لم يزر القسطنطينية لأن وصف العمرى لها لا يرد بألفاظه (٥٤). أما روايته عن القاهرة والشام فإنها تحمل على الاعتقاد بأن ذلك الجنوى الذى جاب الآفاق قد عرفهما معرفة مباشرة ؛ وفيما يتعلق بالصليبيين فإن العمرى كان إلى جانب ما زوده به الجنوى من معلومات يتصرف أيضا فى مادة غنية ومتنوعة.

وفى مقابل هذه الروايات التى يوردها عن الغرب فإن من الطريف أن نقدم مثالا لما يقوله عن الشرق الأقصى. فقد أثبتت الدراسة التى عملها شيفير للأقسام المتعلقة بالصين (٥٥) أنه يجب ألا نعتبر. العمرى بالنسبة لهذه الأصقاع نقالة فحسب يكتفى بتسجيل ما وصل إليه عن طريق الصدفة ؛ وهو يقدم لنا فيما

٤١٤

يتعلق بشمال الصين وحدها معلومات جمة مروية بألفاظ عدد ممن التقى بهم (٥٦) ؛ وكان هذا الضرب من الرحالة ينتمى إلى مجموعتين من الناس هما التجار ثم الفقهاء الذين ساقهم إلى تلك الجهات فى أغلب الظن حاجة الأقليات المسلمة المهاجرة إلى قضاة وأئمة. وكان من بين هؤلاء الرحالة عدد من أهل العراق وإيران وما وراء النهر ؛ وتوكد جميع قصصهم أن الصين قد فتحت أبوابها فى عهد المغول للتجار ولمن دفع بهم حب الاستطلاع إلى الضرب فى الأرض (٥٧). وكان التجار العرب يحملون إليها الخيل وطيور الصيد والحلى الثمينة بل وحتى الآنية المطلية بالميناء من حلب (٥٨) ؛ وتمس معلوماتهم (٥٩) مختلف أوجه الحياة فى الصين ولكن ليس فى عرض منتظم إلا أنه يتميز على الأقل بالإحاطة والشمول. وقد اهتموا اهتماما خاصا بوصف نظام الإدارة وطرق المواصلات والتجارة بالطبع وبما يتصل بذلك من حرف ومهن ؛ ولم تقف معرفتهم بحياة أهل الصين عند حد الجوانب المتعلقة بالنظام النقدى وحده بل تجاوزته إلى موضوعات شتى كمهارة الصينيين فى عمل الأسنان الصناعية.

هذان المثالان من الغرب والشرق يقفان دليلا على الأهمية الكبرى لموسوعة العمرى كمصدر لدراسة ذلك العصر ؛ وليس ثمة حاجة إلى القول بأنها لا تقل أهمية عن بقية موسوعات عهد المماليك بوصفها مصدرا من مصادر تاريخ الأوردو الذهبى ؛ إلا أنه تجدر الإشارة فى هذا المقام ولو عرضا إلى أن ترجمة تيزنهاوزن لمادته عن الأوردو الذهبى وما يرتبط بذلك من استنتاجات يتطلب الآن إعادة النظر فى نقاط معينة وتحقيق النصوص من جديد استنادا على المصادر التى تم الكشف عنها منذ ذلك الوقت وعلى الطبعات العلمية التى أصبحت فى متناول الأيدى فى الستين عاما التى انقضت على ظهور هذا الأثر الذى يمثل فاتحة عهد جديد بالنسبة لدراسة تاريخ تلك الدولة. وإذا كان هذا هو مبلغ أهمية موسوعة العمرى بالنسبة للبلدان التى لم يزرها بنفسه فحرى أن تزداد قيمتها بالنسبة لبلاد دولة المماليك أى مصر والشام اللتين عرفهما المؤلف عن كتب ؛ وفى الواقع أن كلا مصنفيه يعدان من أهم آثار عصرهما فى هذا المجال. والعمرى رغما من اتباعه للمذهب التاريخى التقليدى عرف كيف يحتفظ بشخصيته كمؤلف ، وقد لقيت مصنفاته تقديرا عاليا من الأجيال التالية التى تدين له بالكثير فى سبيل تطوير هذا الاتجاه.

ويرتبط بالعمرى ارتباطا مباشرا مؤلف آخر موسوعة كبرى لعصر المماليك وهو القلقشندى ؛ ورغما من أن نشاطه يدخل فى نطاق بداية القرن الرابع عشر إلا أن الفرصة مواتية للكلام عنه فى هذه اللحظة. والقلقشندى اسم معروف فى ميدان التأليف التاريخى بمصر الإسلامية بل وفى العالم الإسلامى بأجمعه لذلك العصر ؛ وإلى جانب معرفة العرب الجيدة به فقد عرفه جيدا أيضا العلماء الأوروبيون منذ القرن التاسع عشر إلا أنه لم يكن من المستطاع إعطاء فكرة عن مجهوده العلمى بصورة شاملة إلا بعد ظهور كتابه فى طبعة مرضية تشمل أربعة عشر جزءا وذلك فى الفترة بين عامى ١٩١٣ و ١٩٢٠ ؛ ويرجع الفضل فى ظهور هذه الطبعة إلى مجهود ذلك العلامة المصرى الذى لم يعرف الكلل إلى نفسه سبيلا وهو أحمد

٤١٥

زكى باشا وثمة دراسة هامة لهذا الكتاب تستند على تلك الطبعة هو البحث الخاص الذى قام به بيوركمان Bjo؟ikman عن مصنف القلقشندى ؛ وبالرغم من أنه يعالج موضوعه من وجهة نظر تاريخ تطور النثر الدواوينى بمصر الإسلامية إلا أنه يقدم لنا أساسا متينا لتحليل المصنف من كافة نواحيه وذلك فى دراسة لم تتمتع بها أية موسوعة أخرى من موسوعات عهد المماليك.

وكما هو الشأن فى حالات مماثلة مرت بنا فإنه لا يوجد اتفاق تام بين المصادر فيما يتعلق باسم القلقشندى ، ولعل مرد ذلك إلى الخلط بينه وبين ابنه الذى كان من رجالات الأدب أيضا. ويتفق رأى الغالبية على أن اسمه هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن على ؛ وقد ولد فى عام ٧٥٦ ه‍ ـ ١٣٥٥ بمحلة صغيرة قرب قليوب بمصر وإليها نسب إلا أنه من أصل عربى صرف فهو ينتمى إلى قبيلة فزارة التى استقرت بمصر عقب الفتح. وقد تلقى العلم بالإسكندرية وأصبح منذ عام ٧٧٨ ه‍ ـ ١٣٧٦ مدرسا للحديث والفقه ، غير أن ميوله الشخصية ذهبت به إلى اتجاهات أخرى فقد اهتم اهتماما بالغا بنسب القبائل العربية وله فى هذا الصدد مصنف لقى انتشارا واسعا عند القراء العرب فأكمله وزاد عليه فى مستهل القرن التاسع عشر (فى عام ١٢٢٩ ه‍ ـ ١٧١٤) العلامة العراقى السويدى. ولم يبق القلقشندى طويلا فى مهنته التدريسية فقد التحق منذ عام ٧٩١ ه‍ ـ ١٣٨٩ بديوان الإنشاء الذى كان يرأسه آنذاك أحد أفراد أسرة العمرى من أقرباء مؤلف الموسوعة المعروف لنا ؛ هذا وقد ترك العمل بديوان الإنشاء أثره الخاص على نشاط المؤلف وهو قد ظل مرتبطا به على ما يبدو إلى وفاته فى عام ٨٢١ ه‍ ـ ١٤١٨ ، أى بعد سبعين عاما من وفاة العمرى. وكان القلقشندى معاصرا لشخصيات كبرى وأحداث عظمى ففى عصره عاش بمصر ابن خلدون المشهور ، وشهد القلقشندى مثله زحف التتار على الشام تحت قيادة تيمور لنك.

هذا وقد حفزه عمله بديوان الإنشاء على وضع المصنف الأدبى الأكبر لحياته ، فقد بدأ العمل فى سفره الضخم فور انتقاله للعمل بديوان الإنشاء فى عام ٧٩١ ه‍ ـ ١٣٨٩ ؛ وهو قد وضعه فى الأصل من أجل كتاب الدواوين وأطلق عليه اسم «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» ؛ وقد أتم الجزء الرابع الرابع عشر منه فى عام ٨١٤ ه‍ ـ ١٤١٢ وظل يزيد عليه إلى حين وفاته. ولعله قد أحس بنفسه كبر حجم المصنف فدفعه هذا إلى اختصاره فى مجلد مكتنز بعنوان «ضوء الصبح المسفر وجنى الدوح المثمر» (٦٠) ؛ وبعض الصيغ الإنشائية التى عالجها فى هذا المصنف الأخير تعتبر أكثر تفصيلا مما جاء فى مؤلفة الضخم. إن موسوعة القلقشندى تعتمد اعتمادا كبيرا على مصنفى العمرى كليهما ولكنها تتميز بدقة التبويب وبأن غرضها الأساسى هو أن تكون مرجعا من أجل كتاب الدواوين أى عمال ديوان الإنشاء. وفيها يلخص المؤلف جميع المعارف التى يحتاج إليها الكاتب المثالى ابتداء من التوجيهات الفنية بالكلام على المداد والقلم والورق والخط إلى المعطيات الواسعة فى محيط الجغرافيا والتاريخ والأدب والبلاغة. وهو يقدم وصفا

٤١٦

لنواحى مصر والشام بل ولجميع الدول التى لها أدنى علاقة بمصر موليا اهتماما خاصا لنظامها السياسى والإدارى وأساليب «المعاملات» بين السكان ؛ وهو يوضح الأسس التى يقوم عليها نشاط الدواوين ويفرد عددا من أجزاء كتابه لنماذج المكاتبات الدبلوماسية وقرارات تعيين الممثلين الرسميين وللوثائق الحكومية الرسمية من كل صنف. ولا يكتفى القلقشندى بإيرادها فى صيغها الكتابية الخاصة فحسب بل يسوق نماذج من الوثائق الأصلية الموجودة «بالمحفوظات» Archives مما يجعل من كتابه مصدرا أساسيا بالنسبة للتاريخ والإدارة والحياة الاجتماعية للعالم الإسلامى والأقطار المتصلة به فى أوائل القرن الخامس عشر (٦١).

وتنقسم الموسوعة من حيث التبويب إلى عشرة أقسام كبيرة فى هيئة مقالات غير متساوية الحجم ولا تتفق مع تقسيم المصنف إلى أجزاء ؛ ويوجد بالمقدمة تحليل دقيق لمهنة الكتابة وفضلها فى المجتمع البشرى. وفى المقالة الأولى من الكتاب (الأجزاء من الأول إلى الثالث) يعالج المؤلف الكلام فى ما يحتاج الكاتب إلى معرفته من المعلومات المتعلقة بالخط واللغة والنحو والبلاغة ومختلف العلوم ذات الفائدة العلمية بالنسبة له. ويفرد المقالة الثانية (الأجزاء من الثالث إلى الخامس) للمعلومات من محيط الجغرافيا والتاريخ وهى تمثل بالنسبة لنا أهمية خاصة. أما المقالة الثالثة (الجزآن الخامس والسادس) فتعالج المسائل العامة التى تشترك فيها كل المكاتبات والولايات فيعرض للناحية الشكلية المتعلقة بالورق والكتابة ويبحث فى الأسماء والكنى والألقاب ومواضع ذكرها واستعمال الصيغ المختلفة. وتتناول المقالة الرابعة (الأجزاء من السادس إلى التاسع) المكاتبات وأنواعها ومصطلحها مع إيراد عدد كبير من الوثائق الرسمية برمتها ؛ وتمثل هذه الوثائق سواء فى هذا القسم أو فى الأقسام الأخرى عنصرا جوهريا فى أهمية هذا المصنف ؛ أما المقالة الخامسة (الأجزاء من التاسع إلى الثانى عشر) فتقدم لنا بعض المعلومات النظرية ونماذج للولايات والعهود والبعثات وطريقة تفويضها ، وتحتل هذه المقالة مكانة هامة فى هذا الكتاب وذلك لأنها تلقى ضوءا على النظام الإدارى المعقد الذى ساد فى عهد المماليك ؛ والنماذج التى يسوقها فى هذه المقالة حافلة بشكل غير معهود. أما بقية المقالات فإنها صغيرة الحجم بمقارنتها بالسابقات عليها فالمقالة السادسة (الجزء الثالث عشر) تقدم صورا من المكاتبات مما لا يخضع للتصنيف ، كما تحلل المقالة السابعة (من نفس ذلك الجزء) الوثائق المتعلقة بالإقطاعات ؛ أما المقالة الثامنة (فى نفس الجزء أيضا) فتبحث فى الأيمان وصور الأقسام المختلفة واليمين بينما تتحدث التاسعة (الجزآن الثالث عشر والرابع عشر) عن عقود الصلح والفسوخ والهدنة بين المسلمين والكفار ؛ وتتناول المقالة العاشرة والأخيرة (الجزء الرابع عشر) فنونا من الكتابة تختلف باختلاف الظروف الداعية إليها.

أما خاتمة الكتاب فتحتوى على أبواب تبحث أساسا فى وسائل النقل والمواصلات : فهنا يرد الكلام على البريد العادى وبريد الحمام كما يبحث فى طريقة نقل الثلج من الشام إلى مصر على ظهور الجمال وعلى

٤١٧

السفن ، وفى استعمال الإشارات النارية. وليس من العسير أن نبصر فى هذا التبويب اقتفاء القلقشندى لأثر كتاب «التعريف» للعمرى بل إنه يطبق فى بعض الأحيان ترتيبه وتبويبه بحذافيره ، وسيزداد اقتناعنا بقوة الصلة التى تربط بين هذين المصنفين فى جوانب أخرى كلما أو غلنا فى دراسة المصادر التى استقى منها القلقشندى.

ونلتقى على طول هذا الكتاب بمعلومات جغرافية متنوعة للغاية وتختلف باختلاف الموضوعات التى يتناولها بالبحث. وإلى جانب هذا فإن المؤلف قد أفرد المقالة الثانية من كتابه بأجمعها للجغرافيا وحدها ؛ وهى تمثل فى الحقيقة عرضا تاريخيا جغرافيا مستقلا (٦٢) تحتل مركز الصدارة فيه مصر المملوكية ويدور العرض جميعه حولها. وفى بداية هذه المقالة ترد المعلومات التقليدية التى لا تتغير عن شكل الأرض على سبيل الإجمال ، ويلى هذا عرض تاريخى قصير للخلافة مع اهتمام بالجوانب التى انتعشت بشكل خاص فى مصر المملوكية كشعائر الخلافة ونظمها ومراسيمها. أما القسم الخاص بالجغرافيا بمفهومها الضيق من هذه المقالة والذى يبدأ بوصف مفصل للديار المصرية (الجزء الثالث ابتداء من صفحة ٢٨٢ وكذلك الرابع إلى صفحة ٧١) فيعد من أهم أقسام الكتاب ولا يزال يقف حتى الآن فريدا فى بعض نواحيه (٦٣). وكان المستشرق قستنفلدWüstenfeld قد قام بعرضه بطريقة موجزة فى عام ١٨٧٩ إلا أن ذلك العرض الذى يعد مجهودا مقدرا بالنسبة لعصره والذى لعب آنذاك دورا لا ينكر قد أصبح الآن فى حاجة إلى فحص جديد على ضوء الطبعة التى ظهرت للمتن وبسبب ما تجمع من مواد علمية فى خلال هذه الفترة (٦٤). والقلقشندى يولى أهمية خاصة فى هذا القسم لمصر الفاطمية والأيوبية كما أنه قد اهتم بالطبع بالعصر المملوكى الذى عاش فيه. وبنفس طريقته المفصلة يعالج الحديث فى وصف الشام ؛ ووصفه هذا معروف لنا جيدا بفضل الدراسة المتقنة التى ندين بها لغو دفرواديمومبين (١٩٢٣). ويلى هذا وصف الحجاز لوقوعه آنذاك فى دائرة نفوذ مصر.

وتبرز فى المكانة الأولى من بين البلاد التى لا تخضع لسلطان المماليك «ممالك بيت جنكيز خان» أى أراضى إمبراطورية المغول التى يقسمها إلى مملكتين كبيرتين هما مملكة إيران ومملكة توران ؛ وفى القسم الخاص بالمملكة الثانية يقدم لنا معطيات هامة عن دولة الأوردو الذهبى ، وقد أصبح قسم منها فى متناول الأيدى منذ عهد تيزنهاوزن (٦٥). ثم يعود القهقرى للكلام عن بلاد العرب فى أجزائها شبه المستقلة أى التى لا تمثل قسما من الإمبراطورية المصرية ، فيتكلم عن اليمن والساحل الشرقى بما فى ذلك عمان ويضم إلى هذا وصفا مفصلا للهند (الجزء الخامس ، الصفحات من ٦١ إلى ٩٨) حدث وأن أفرد له المستشرق اشبيس Spies بحثا خاصا منذ عهد غير بعيد (١٩٣٦) (٦٦). ثم يلى هذا وصف منظم للبلدان الواقعة إلى الغرب من مصر وإلى الجنوب والشمال منها ؛ فالمجموعة الأولى تبدأ بتونس ويليها المغرب «الأوسط» وقصبته تلمسان ثم المغرب «الأقصى» المسمى ببر العدوة والذى تمثله الآن مراكش ؛

٤١٨

ثم يتكلم فى صورة منفصلة عن «جبال البربر» بالأندلس (١). أما البلاد الواقعة إلى الجنوب من مصر فتدخل تحت اسم عام هو «بلاد السودان» وتشمل ستة ممالك آخرها الحبشة. وإلى الشمال من مصر يصف بلاد الروم (آسيا الصغرى) فى ذلك الجزء الذى كان لا يزال فى أيدى البيزنطيين ؛ وهو يغتنم هذه الفرصة ليقدم عرضا تاريخيا عن اليونان القدماء وعن البيزنطيين الذين خلفوهم مشيرا كمرجع له إلى كاتب من القرن الرابع الميلادى يدعى هروشيش الذى نقل عنه على ما يبدو فى رواية العمرى. ومن بين الشعوب والبلدان الأوروبية يدور الكلام على التوالى عن «الألمان» والبنادقة والجنويين و «رومية» وبلاد الفرنج (فرنسا) والجلالقة (غاليسيا) واللنبردية (لمبارديا). وإلى الشمال من القسطنطينية يرد ذكر شعوب القوقاز خاصة الچركس الذين كانوا يمدون مصر عادة بالمماليك ، وأيضا الآس وغيرهم. أما من سكان جنوب شرقى أوروبا فيرد ذكر البلغار والصرب والصقالبة والروس والباشقرد والبرجان ؛ وتتسم معلوماته من هذه الشعوب الأخيرة بالإيجاز كما وأنها لا تخلو من الاضطراب فى بعض مواضعها ، وبها ينتهى القسم الجغرافى.

ومن الواضح أن قيمة هذا القسم الجغرافى ، شأنه فى هذا شأن بقية الكتاب ، إنما تعتمد على المصادر التى يستعملها القلقشندى أكثر من اعتمادها على طريقة تبويبه للمادة. وكما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة فإن هذا المصنف يمثل قبل كل شىء مصنفا نقليا إلا أنه يجب أن نستدرك على هذا بقولنا إنه يضم مادة ضخمة جديرة بكل ما يليق بها من تقدير ؛ فهو بهذا يعد إلى حد ما مصنفا فريدا فى نوعه (٦٧). ويمكن تقسيم مصادره إلى مجموعتين كبيرتين تنتميان إلى مختلف المجالات والوثائق الرسمية ، وهو يشير إلى مصادره بالكثير من الدقة وكلما استدعت الحال ذلك (٦٨) ، كما أنه يعتمد عليها اعتمادا كليا لا من حيث المادة فحسب بل ومن حيث تبويبه لكتابه مقتفيا فى أغلب الأحيان أثر «التعريف» للعمرى. ويعتمد القلقشندى قبل كل شىء على آثار السابقين له فى المضمار الذى سلكه ، ونعنى بهذا أولئك الخبيرين بالإنشاء والعمل الدواوينى من جهة ورجالات الأدب من جهة أخرى. وبفضل كتابه هذأ أصبح من اليسير تقصى مدى تطور هذا الفن فى الأدب العربى الأمر الذى أسهم فيه المستشرق بيوركمان ببحثه الذى أشرنا إليه. بيد أن القلقشندى قد أفاد إلى حد كبير أيضا من جميع فروع الأدب الأخرى الحافلة التى اعتبرها ذات أهمية بالنسبة للكاتب. وقد تبين أن عدد مصادره فى هذا الصدد كبير بشكل ملحوظ ، قام بتلخيصها لنا بيوركمان (٦٩) بدرجة تقرب من الكمال وليس ثمة ما يدعو إلى الوقوف عندها بالتفصيل ؛ غير أن العرض السريع لمصادر القسم الجغرافى أمر هام بالنسبة لنا لما يلقيه من ضوء على تطور الأدب

__________________

(*) يبدو أن ثمة خلط وجد طريقه إلى المتن الروسى فقد جاء فى كتاب القلقشندى ما نصه : «المملكة الخامسة من بلاد المغرب جبال البربر ؛ المملكة السادسة من ممالك المغرب جزيرة الأندلس». أى أنه لم يدخل «جبال البربر» فى الأندلس كما يفهم من المتن الروسى. (المترجم)

٤١٩

الجغرافى ويساعد بذلك على تحديد تلك الآثار التى ظلت تتمتع بالحيوية فى العصر الذى عاش فيه المؤلف ؛ ولما لم يكن القلقشندى نفسه منقطعا للجغرافيا فإن هذا العرض يخلو من أهمية خاصة. وبالرغم من أن العمرى يحتل المكانة الأولى لديه (٧٠) إلا أنه لم يعتمد عليه وحده فى جمع مادته الضخمة ، فمن بين ممثلى الجيل «الأول» من الجغرافيين نلتقى فى «صبح الأعشى» بأسماء ابن خرداذبه وابن حوقل والمسعودى والهمدانى والمهلبى والسمعانى ؛ ومن بين ممثلى القرن «الفضى» بأسماء البكرى والإدريسى والغرناطى وابن سعيد وياقوت وأبى الفدا. وإلى جانب هؤلاء المؤلفين البارزين نلتقى بمروجى المادة الأسطورية مثل ابن وصيف شاه ؛ وإلى جانب مصنفات ممثلى الجغرافيا الوصفية نلتقى أيضا بمصنفات ممثلى الجغرافيا الرياضية ولكن بصورة أقل ، وعلى كل حال فإن القلقشندى كثيرا ما ينقل عن الزيجات المختلفة وعن «المجسطى» لبطلميوس ؛ ومن مراجعه الأساسية فى هذا المجال البيرونى (٧١) خاصة فى كتابه «القانون المسعودى». والقلقشندى يعتمد فى القسم الخاص بالجغرافيا الرياضية من كتابه اعتمادا كاملا على المذاهب القديمة ويخضع للنظريات الكوزموغرافية لبطلميوس بحيث ينعكس جيدا من مثاله كيف كانت الدوائر الكتابية فى القاهرة تتأرجح بين النظريات العلمية القديمة الموجودة فى بطون الكتب وبين الوقائع الجغرافية المحدثة (٧٢) التى كانت معروفة لديهم جيدا والتى وكدتها آنذاك التجربة المباشرة لمختلف الشعوب. وهكذا يرفع رأسه مرة أخرى ذلك الفاصل الذى تحدثنا عنه أكثر من مرة والذى يفصل بين النظرية والواقع فى الأدب الجغرافى.

ويجب ألا يغيب عن ذهننا أن الأهمية الكبرى فى المادة الجغرافية لدى القلقشندى تحتلها معلوماته من تلك الأقطار التى عرفها معرفة مباشرة ، وقد رأينا مثال ذلك عند الكلام على مصر والشام. ولا تقل أهمية عن ذلك تلك المعلومات التى يوردها عن البلاد التى ربطتها صلات دبلوماسية منتظمة كانت أم متقطعة بدولة المماليك. وفيما يتعلق بممالك النصارى فقد تعرض الأب لامنزLammens لتحليل مادته فى عدد من المقالات بنفس الطريقة التى حلل بها تيزنهاوزن مادته عن الأوردو الذهبى وجورجيا (٧٣) أو كما حللها كانارCanard بالنسبة لبيزنطة (٧٤). غير أنه حتى بالنسبة للبلاد التى لم يكن لديه عنها معلومات باستثناء المادة الأدبية وقصص الرحالة فإنه يجب ألا نطرح سلفا هذه المادة بوصفها خالية من كل قيمة ؛ وخير مثال لهذا ما كتبه عن الهند فإن المصادر التى اعتمد عليها فى هذا الصدد (٧٥) ابتداء من العمرى إما أن تكون قد طبعت أو عرفت فى مخطوطاتها بحيث أضحت مادته عنها ليست من الأهمية فى المكان الذى كان يعتقد من قبل. وعلى الرغم من كل هذا فإن القلقشندى قد وفق فى تقديم عرض مزود بالتفاصيل يمكن أن يستدل منه على أنه كان للعرب فى ذلك العصر فكرة لا بأس بها عن الهند (٧٦).

كل هذا يوكد لنا صحة النتيجة التى وصلنا إليها من قبل وهى أن مصنف القلقشندى يمثل ظاهرة مبرزة فريدة فى نوعها فى مجال الأدب الجغرافى أيضا ويختتم بجدارة سلسلة موسوعات عهد المماليك التى

٤٢٠