كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وردت الأوامر الشريفة السلطانية السليمانية بإصلاح عين حنين ، وإصلاح عين عرفات ، وعيّن لها ناظرا اسمه مصطفى من المجاورين بمكة ، فبذل جهده فى عمارتها ، وأصلح قناتها إلى أن أجرى عين مكة ، ودخلتها وخرجت من أسفلها من بركة ما جنّ ، وأصلح عين عرفات ، وأجراها إلى أن صارت تملأ البرك بعرفات ، وذلك فى سنة ٩٣١ ه‍.

وصار الحجاج يردون من ذلك الماء العذب الفرات ، بعد العطش فى يوم عرفات ، ويدعون لمن كان سببا لإجراء هذا الخيرات ، ثم اشترى ناظر العين عبيدا سودا من أهل السلطنة ، وجعل لهم جرايات وعلوفات من خزائن السلطنة الشريفة ، برسم خدمة العين ، ولإخراج ترميها من الذيول والقنوات ، وهذه خدمتهم دائما ، وصاروا يتوالدون ، وهم باقون إلى الآن طبقة يعد طبقة لهذه الخدمة.

ثم توجه مصطفى ناظر العين إلى أبواب السلطنة السليمانية ، وعرض فى أمر العين أحوالا يجب عرضها ، فأعطى ما سأل فيه ، وعاد مجبورا إلى مصر ، ثم ركب من بندر السويس إلى مكة ، فغرق فى بحر القلزوم شهيدا وما غرق إلا فى بحر رحمة الله تعالى فى سنة ٩٣٧ ه‍.

واستمرت عين حنين جارية إلى مكة ، لكنها تقل تارة ، وتكثر أخرى بحسب قلة الأمطار ، وكثرتها ، وعين عرفات تجرى من نعمان إلى عرفات ، إلى أن صارت عرفات بساتين ، وغرست بها الغروس ، وصارت مرجة خضراء ، تتجلى كالعروس ، إلى أن قلت الأمطار ، ويبست العيون ، ونزحت الآبار فى سنين متعددة من سنة ٩٦٥ ه‍ وما بعدها ، وكانت سنون متعددة ، تقارب سنى يوسف شداد عجاف ، وانقطعت العيون إلا عين عرفات ، فإنها لم تنقطع ، إلا إنها قل جريانها فى تلك السنوات.

ولما عرضت أحوال العيون إلى الأبواب الشريفة السلطانية السليمانية ، التفت الخاطر العاطر السلطانى ، وتوجه العطف الشريف العثمانى إلى تدارك ذلك بأى وجه يكون ، وأمر بالفحص عن أحوال العيون ، وكيف يمكن إجراؤها إلى بلد الله الأمين المأمون.

٣٤١

فاجتمع المرحوم عبد الباقى بن على العربى قاضى مكة يومئذ والأمير خيري الدين حضر سنجق جدة المعمورة حينئذ وغيرهما من الأعيان ، وتفحصوا وداروا ، وتزملوا واشتاروا ، فأجمع ريهم على أن أقوى العيون عين عرفات ، وطريقها ظاهرة ، وذبولها مبنية إلى بئر زبيدة خلف منى ، وإن الذى يغلب على الظن أن بلوغها من بئر زبيدة إلى مكة مبنية أيضا ، وإنما يحتاج إلى الكشف عنها والفحص إلى أن تظهر ، لأن زبيدة لما بنت الذبول من عرفه إلى بئرها المشهور خلف منى ، جميعها ظاهرة على وجه الأرض ، والباقى أيضا من ذلك المحل إلى مكة مبنى أيضا ، إلا أنه خاف من تحت الأرض ، واستغنى عنها بعين حنين ، وتركت هذه ، ونسيت وطمت ، وغفل عنها ، هكذا ظنوا وخمنوا ، إنهم إذا اتبعوا عين عرفات من أولها ، من الأجر إلى نعمان ثم إلى عرفة ثم إلى مزدلفة ثم إلى بئر زبيدة ، وأصلحوا هذه الذبول الظاهرة ، وكشفوا عنب الباقى ، وبنوا ما وجدوا منهدما ، ورمموا الباقى ، احتاجوا إلى ثلاثين ألف دينار ذهبا ، وزرعوه وقاسوه ، فكان من الأوجر إلى بطن مكة خمسة وثلاثين ألف ذراع بذراع البنائيبن الآن ، وهو أكثر من الذراعي الشرعى ، بقدر ربعه ، وهو الذى تخيلوه فى وجوه بقيةي الذيل تحت الأرض ، لما يوجد فى كتب التاريخ ، وإنما أداهم إلى ذلك الأمر ، مجرد الظن بحسب القرائن ، وعرضوا ذلك إلى الباب الشريف سنة ٩٦٥ ه‍.

فلما وصل علم ذلك إلى المسامع الشريفة السيلطانية ، التمست صاحبة الخيرات ، أكليلة المخدرات ، تاج المحصنات ملكة المملكات ، قدسية الملكات عليه الذات ، صفية الصفات ذات العلى والسعادات ، حضرة جانم سلطان كريمة حضرة السلطان سليمان (سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان) ، أن يأذن لها فى عمل هذا الخير ، حيث كانت صاحبة الخير أولا أم جعفر زبيدة العباسية ؛ فناسب أن تكون من صاحبة هذا الخير ، فاستشارت الحضرة السلطانية وزراء ديوانها الشريف العالى ، فيمن يصلح لهذه الخدمة الشريفة ، فاتفقت آراؤهم الشريفة على أن هذه الخدمة لا يقوم بها إلا دفتردار مصر ، الأمير الكبير المعظم ، فائض الجود والفضل والكرم ، صاحب السيف

٣٤٢

والقلم ، والعلم والعلم ، الأمير إبراهيم نفرى الوردى المهمندار ، بوأه الله جنات تجدى من تحتها الأنهار ، وسقاه من حوض الكوثر زلالا باردا ، يصطفى كل أدام وأوان.

وكان يومئذ قد عزل من منصب الدفتر داريه ، وأمر بالتفتيش عليه ، عن أيام دفتر داريه ؛ فعفى عن التفتيش وأعطته السلطانة خمسيني ألف دينار ذهبا ، بزيادة عشرين ألف ذهبا ، على ما خمنوه ؛ ليصرفها فى عمل هذه العين ؛ فتوجه من البحر إلى مكة المشرفة بتحمل عظيم ، وترق كثير ، وترتيب يعجز عنه كبار البكلاربكيه ، وكان ذا همة عالية وإقدام عظيم ، واهتمام تام ، وكرم نفس وشهامة ، وحسن تدبير ، ومعرفة وحذاقة وفطانة ، وكان بينى وبينه سابقة اجتماع ، وما رأيت أحدا من الأمراء والوزراء والبكلاربكيه مع كثرة من اجتمعت بهم ، أجمل نظاما ولا أحسن ترتيبا وانتظاما ، ولا أدق ذكرا ، ولا أعلى همة ولا أصدق وفاء منه م ، رحمه‌الله رحمة واسعة ، وغفر له مغفرة جامعة ، وبوأه الفردوس الأعلى ، وأرضى عنه خصماه يوم القيامة.

وكان وصوله إلى بندر جدة المعمورة فى يوم الجمعة لثمان بقين من ذى القعدة سنة ٩٦٦ ه‍ ، فتوجهت إلى ملاقاته لسابق إحسانه إلىّ ؛ فرأيته نزل بوطاقه خارج جده فى جهة الشام ، فعاملنى بالإجلال والإكرام ، وركب من جدة إلى سيدنا ومولانا المقام العالى ، نجم الدنيا والدين محمد بن أبى نمى ، خلد الله سعادته ، وأيد دولته وسيادته ، وكان يومئذ نازلا فى ممد الظهران ، فقابله بالإجلال والتعظيم والترحيب والتكريم ، ومد له سماطا عظيما ، ولاطفه وأكله وأكرمه ، وباسطه وجابره.

فعرض على حضرته الشريفة ما جاء بعدده ، فقوبل بامتثال الأمر الشريف السلطانى ، وبذل الهمة والجهد فى إتمام المهم المنيف الخاقانى ، وأنه يقوم بذلك بنفسه وولده وأتباعه وخدمه.

ثم ركب من عنده مجبور الخاطر ، مسدود الفؤاد ، وتوجه من عنده إلى مكة المشرفة ؛ ملاقاة عند دخوله إلى مكة سيدنا ومولانا المقام الشريف بدر

٣٤٣

الدنيا والدين السيد حسن بن أبى نمى ، صاحب مكة أدام الله تعالى عزه وسعادته ، وضاعف نصره وتأييده وسيادته ، وأمد له الإجلال والإكرام ، وقابله بالترحيب والاحترام ، وجابره ولا طفه وباسطه وواثقه.

وأقبل كل منهما على الآخر كمال الإكمال ، وتحادثا بغاية الأدب ، واستمر معه إلى أن فارقه من باب السلام ، فدخل المسجد الحرام ، فطاف طواف القدوم ، وكان محرما بالحج ، وسعى ما بين الصفا والمروة ، وعاد إلى مجمع قايتباى ، وهو المحل الذى عين لنزوله ومذله من قبل مولانا السيد حسن مد الله تعالى ظلال سعادته سماطا عظيما جميلا كبيرا ، فجلس عليه ، وأكل منه هو ، وخواصه ، وأذن لأهل الرباط والفقراء والفقهاء وعامة الناس ، وأكلوا وحملوا ، وفضل شىء كثير ، وأمر بتفريقه على الفقراء ، وألبس الذى مد السماط قفطانا ، ومن السراسر العال ، وأعطاه ذهبا كثيرا ، ثم جاء للسلام عليه سيدنا ومولانا رئيس الحرمين الشريفين ، وكبير البلد من المنفيين ، شيخ الإسيلام مرجع العلماء الأعلام ، سيدنا ومولانا بالقاضى حسين الحسينى أدام الله عزه وإقباله ، وخلد سعادته ودولته وإجلاله ، فرح به الأمير إبراهيم ، وقابله بالإجلال والتعظيم ، وعرض عليه أموره وأحواله ، واستشاره فى سائر ما بدى له ، وأسار عليه بآرائه الصائبة ، وأعلمه بما ينبغى رعايته ويرعى جانبه ، وما يجب عليه ملاحظته من الأمور اللازمة الواجبة.

فأول ما بدأ الأمير إبراهيم ، تنظيف بعض الآبار التى يستقى منها ، وأخرج ترابها ، وزيادة حفرها ليكثر ماؤها ، وحصل للناس بذلك رفق كثير ، وشرع فى جميع ما يحتاج إليه من عمله ، وتوجه الكشف عنه إلى أعلى عرفات ، وكثر تردده إليها ، وتفطنه لمجارتها ، ومسافتها ، ومشاربها ، والفحص عن أحوالها إلى أن كثر الركب المصرى ، وكان أمير الحجاج يومئذ افتخار الأمراء الكبار عثمان بيك بكلاربكى اليمن بن بكلاربكى اليمن بن بكلاربكى الحبشة ، اذدمر باشا ، وصار بعد ذلك عثمان بيك هذا بكلاربكى اليمن ، وأظهر اليد البيضاء فى افتتاح مدينة ثغر ، ثم صار بكلاربكى الحبشة ، بعد وفاة المرحم والده ، ثم توفى وصار بكلاربكى الحسا ، ثم البصرة ثم قرة أمد ، وهى من البكلزبكية

٣٤٤

الكرماء العظام المتجملين المشهورين بالكرم والشجاعة أبقاه الله تعالى ، ووصل إلى مكة قاضيها فى ذلك الموسم مع الركب الشامى ، وهو أعلم الموالى ، أفضل الفضلاء الأمالى ، مولانا فضيل أفندى بن مولانا على جلبى المفتى الجمالى ، وهو من أصلاء العلماء العظام ، له التصانيف الحسنة المتقولة ، وهو الآن يترقى فى الباب العالى مد الله تعالى ظلال أفعاله.

وحج الأمير إبراهيم بيك فرض حجه ، وعاد الحجاج إلى أوطانهم فائزين بالغفران والقبول ، فائزين بكل مطلوب ومأمول ، وشرع الأمير إبراهيم فى الكشف فى ذيول عين عرفات ، وضرب أوطاقه فى الأوجر وادى نعمان فى علو عرفات ، وشرع فى حفر قعرها ، وتنظيف ذبولها بهمة عالية جدا ، وكانت مماليكه القائمين فى خدمته ، أربعمائة مملوك فى غاية الجمال والرشاقة والحذاقة واللياقة ، أقامهم فى هذا العمل من الأوجر إلى مزدلفة ، وكتب نحو ألف نفس من العمال والبنائيين ، والمهندسين ، والحدادين ، وجلب من مصر ، وبلاد الصعيد ومن الشام وحلب وأسطنبول ، ومن بلاد اليمن طوائف بعد طوائف من المهندسين ، وخدام العيون والآبار والحدادين ، والبنائين ، والحجازين والقطاعين والنحاتين ، والنجارين وغيرهم ممن يحتاج إليهم بآلات العمارة صحبها معه من مصر من مكاثل ومساحى ومجاريف ، وحديد وبولاد ونحاس ورصاص ، وغير ذلك ، مع الهمة القوية ، والإقدام التام والاهتمام ، وعين لكل طائفة قطعة من الأرض ، لحفرها وتنظيف ما فيها مني الذبول ؛ ليظهر سعيه واجتهاده.

وكان يظن أن يفرغ من هذا العمل الذى جاء بصدده ، فيما دون عام ، ويرجع إلى الأبواب السلطانية ؛ لينال المناصب العالية ، ويظفر بالمراتب السامية ، ويأتى الأبواب السلطانية ؛ لينال الإمارات وما كل ما يتمنى المريد من المراد ، والسنة الأقدار تناديه من وراء الحجاب كيف الخلاص؟ وإلى أين الذهاب؟ واستمر على هذا الجد والاجتهاد إلى أن اتصل عمله بعمل زبيدة إلى البئر التى انتهى عملها إليها ، ولم يوجد بعده منيل وآثار عمل ، وضاق ذرعه بذلك ، وعلم أن الخطب كثير ، وأن العمل كثير ، وتحققوا أن القدر

٣٤٥

الباقى من هذا العمل ، إنما تركته زبيدة اضطرارا بغير اختيار ، وعدلت عنه إلى عين حنين ، وتركت العمل من البئر لصلابه الحجر ، وصعوبة إمكان قطعه ، وطول مسافة ما يجب قطعه ، فإنه يحتاج من بئر زبيدة إلى ذبل منقور تحت الأرض ، فى الحجر الصوان ، طوله ألف ألف ذراع البابين حتى يتصل بذلك عين حنين ، وينصب منه ويصل إلى مكة ،

ولا يمكن نقب ذلك الحجر تحت الأرض ، فإنه يحتاج فى النزول إلى خمسين ذراعا فى العمق ، وصار لا يمكن ترك ذلك بعد الشروع ، حفظا لناموس السلطنة الشريفة ، فما وجد الأمير إبراهيم حيلة ، غير أن يحفر وجه الأرض إلى أن يصل إلى الحجر الصوان ، ثم يوقد عليه بالنار ، مقدار مائة حمل من الحطب الجزل ، ليلة كاملة فى مقدار سبعة أذرع فى عرض خمسة أذرع من وجه الأرض ، والنار ما تعمل إلا فى العلو ، لكنها تعمل عملا يسيرا جدا من جانب السفل فيلين الحجر من جانب السفل مقدار قيراطين ، من أربع وعشرين قيراطا من ذراع فيكسر بحديد ، إلى أن يصل إلى الحجر الصلب الشديد ، فيوقد عليه بالحطب الجزل ليلة كاملة أخرى ، وهلم جرى ، إلى أن ينزل فى ذلك الحجر خمسين ذراعا فى العمق فى عرض خمسة أذرع إلى أن يستوفى إلى ذراع يقطع على هذا الحكم ، وذلك يحتاج إلى عمر نوح ومال قارون ، وصبر أيوب ، وما رأى عن ذلك يحتاج من جميع الجبال فى مكة ، فصار يجلب الحطب من المسافات البعيدة ، وغلى سعره ، وضاق الناس بذلك ، وتعب الأمير إبراهيم لذلك ، وذهبت أمواله وخدامه وو أولاده ومماليكه ، وهو يتجلد على ذلك ، إلى أن قطع لمسافة ألف ذراع وخمسمائة ذراع ، وصار كلما فرغ المصروف أرسيل وطلب مصروفا آخر إلى أن صرف أكثر من خمسمائة ألف دينار من الخزائن العامرة السلطانية ، وغرق له مركب كان فيه باقى مجملاته وخزائنه ، ونقوده ، وفيه جمله من عبيده وأسيابه.

وكان ينوف على مائة ألف ذهب ، فى ابتداء أمره ، ثم مات طفل نجيب ، كان خلفه بمصر ، احترق عليه كثيرا ، ثم مات له ولدان مراهقان ناجبان فاضلان ، أخذ المجامع قلبه ، وفتت كبده ، ثم مات كتخدائه ، وكان بمنزله

٣٤٦

أمراء السناجق ، ثم مات أكثر مماليكه ، وهو يتجلد لتلك المصائف العظيمة ، ويظهر الجلد عليها ، إلى أن ذهب قواه ، وظهر بلاه ، وأثر فيه الإسهال ، ورمته الأهوال ، وجاءه الأجل الذى لا يتقدم ولا يتأخر ، وإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، فمات غريبا وشهيدا ، ومضى إلى رحمة الله ، وحيدا فريدا فى ليلة الاثنين ثانى رجب المرجب سنة ٩٧٣ ه‍ ، وصلى عليه عند باب الكعبة ، وكانت جنازته حافلة جدا ، وأسف الناسي على فقده لكثرة إحسانه ودفن بالمعلاة على يمين الصاعد إلى الأبطح ، وخلف طفلا وحملا وبنتا من أهل الخير ، كثيرة الصلاح والعبادة ، وكان ذكر إلى أن مولده سنة ٩٢٣ ه‍ رحمه‌الله تعالى ، وأرضى عنه خصمائه ، وآمنه يوم الفزع الأكبر ، وسقاه من حوض الكوثر.

ثم ولى بعده فى هذه الخدمة سنجق جدة أمير قاسم بيك ، بإقامة سيدنا ومولانا المقام الشريف العالى الدنيا والدين مولانا السيد حسين صاحب مكة أدام الله تعالى دولته وسعادته ، وشيد عزه وعظمته وسيادته.

وعرض ذلك إلى الباب الشريف العالى ، وأمره أن يباشره هذه الخدمة ، إلى أن يصل من عتبة السلطنة الشريفة لأداء هذه الخدمة ، وكانت السلطنة الشريفة العظمى ، والخلافة العلية الكبرى ، حتى انتقلت من المرحوم السلطان سليمان خان إلى نجله السعيد الأسعد الأمجد السلطان سليم خان ، سقى الله عهدهما صوب الرحمة والرضوان.

فعين لها فى الباب العالى دفتردار مصر يومئذ محمد بيك أكمل حى داره ، وكان مجملا مبرئا من أعيان الأمراء الصناجق الكبراء ، وله عقل تام ، ذا رأى ثاقب ، وإحسان وإنعام وتلطف وتعطف وإكرام ، ووصل إلى هذه الخدمة الشاقة وبذل فيها نفسه ، وماله ، وأظهر تجلده ، وتحمله واحتماله ، وقطع مسافته ، وما بلغ التمام ، إلى أن وفاه الحمام ، وانتقل إلى رحمة الله تعالى سعيدا شهيدا بمرض الإسهال ، وأقدم على ربه الكبير المتعال ، فى ليلة الثلاثاء وقت السحر ، لأربع ليال بقين من جمادى الأولى سنة ٩٧٠ ه‍ ، وصلى عليه عند باب الكعبة الشريفة ، ودفن فى المعلا قباله تربة الأمير إبراهيم

٣٤٧

الدفتردار على يسار الصاعد إلى الأبطح ، وتأسف الناس على فقده ، وترحموا عليه ، وأثنوا عليه خيرا ، رحمه‌الله ، وخلف ولدا صغيرا اسمه بير أحمد ، وبنتا اسمها خديجة ، وكان وصية عليهما ، عتيقة فرهاد كتخداية ، وفقه الله تعالى وأعانه عليه ، ثم أقيم فى خدمة العين ، والأمير قاسم المذكور سابقا سنجق جدة المعمورة ، أقامه فيها سيدنا ومولانا السيد حسين ، صاحب مكة ، أدام الله تعالى عزه ودولته ، وأمره بمباشرة العمل ، وعرض ذلك على الأبواب الشريفة العثمانية ؛ فبرز الأمر الشريف السلطانى ، باستقرار جانم بيك المذكور فى خدمة العين ، أمينا على مصارفها ، وأن يكون سيدنا ومولانا شيخ الإسلام ، قاضى القضاة ، وناظر المسجد الحرام ، بدر الدنيا والدين القاضى حسنين الحسينى ، خلد الله تعالى ظلال سيادته وأبد قيام سعادته ناظرا على ما بقى من عمل عين عرفات ، إلى أن تصل إلى مكة المشرفة ، واستمر الأمير قاسم مباشرا لتعاطى هذه الخدمة ، وكان لا يخلو من قصور الفهم ، وحب الاستقلال وبعض عناد ، ومما أراد مولانا شيخ الإسلام معارصته ؛ فتركه على رأيه ، وما أراد الله ـ تعالى ـ أن يتم العمل الشريف على يد قاسم بيك ، فكان ثالث الأميرين السابقين ، فتركه الأجل وأدركه الحسين ، وفاز بمرتبه الشهادة ، وصار من شهداء العين ، لليلة خلت من رجب المرجب الفرد الأصب الحرام سنة تسع وسبعين وتسعمائة ، وصلى عليه عند باب الكعبة الشريفة ، ودفن بالمعلاة إلى جانب الأمير محمد بيك الدفتردار المتوفى قبله ، أمين العين المذكور.

واستوفت العيد به ثلاثة من الأمراء الصناجق سقاهم الله شرابا طهورا ، وكان بهم برا رحيما غفورا ، ثم توجه سيدنا ومولانا شيخ الإسلام القاضى حسين الحسينى ، أمد الله ـ تعالى ـ ظلال أفضاله ، وأقام خيام عزته وعظمته وإجلاله ، توجها تاما إلى تكميل ما بقى من عمل عيد عرفات ، باعتبار ما بيده ، من النظر عليها ، حسبة الأحكام الشريفة السلطانية النافذة فى أحكام الأقطار روايحها والجهات ، وجد فى الاهتمام ، وبذل الجهد التام وعرض إلى الأبواب الشريفة ، وفاة قاسم بيك المرحوم ، وعدم تعطيل العمل

٣٤٨

إلى أن يأتى أمين لإكمال العين من الباب العالى ؛ فبرزت الأوامر الشريفة السلطانية السليمانية بأن يكمل ذلك العمل سيدنا ومولانا شيخ الإسلام القاضى حسين الحسينى المشار إلى حضرته الشريفة آنفا.

فأقدمت بهمته العلية ، أتم إقدام إلى إكمال هذا العمل الشريف ، بالاهتمام التام ، فساعدته السعادة والإقبال على الإتمام والإكمال ، فعمل العمل المبارك فيما دون خمسة أشهر ، بعد أن عجزوا عن إتمامه ، الأمراء المذكورين قريبا ، عن عشرة أعوام وهللت نفوسهم وأموالهم ، وخدامهم ، وما ظفروا بهذا المرام ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، فجرت عين عرفات ، وانفجرت ينابيعها الجاريات ، ووصل الماء ، وهو يجرى فى تلك الذبول والقنوات ، إلى أن دخل مكة المشرفة لعشر بقين من شهر ذى القعدة الحرام سنة ٩٧٩ ه‍.

وكان ذلك اليوم عيدا ، كبر عند الناس ، وزال بوصول ذلك الماء للبلد كل هم وبأس ، وعمل فى ذلك اليوم سيدنا ومولانا المشار إلى حضرته الشريفة أسمطة عظيمة فى الأبطح ببساتينه الواسع الأفيح ، وجمع جميع الأكابر والأعيان فى ذلك المكان ، ونصب لهم السرادقات والصيوان ، وذبح أكثر من مائة من الغنم ، ونحر عدة من الإبل والنعم ، وقدم للناس على طبقاتهم ، أنواع الموائد والنعم ، وخلع على أكثر من عشرة أنفس من المعلمين والبنائين ، والمهندسين خلعا فاخرا ، وأحسن إلى باقيهم بالإحسانات الوافرة ، وتصدق على الفقراء والمساكين ، وأنعم على الكبراء والأساطين ، شكرا هذه النعمة الجزيلة ، وحمدا على هذه المنة الجميلة ، حيث أنعم الله تعالى به على عباده وأحيائها ، وأخصب خير بلاده ، وكان يوما مشهودا ، وسعادة سعيدة ، وزمانا مشهودا.

ثم جهز أخبار هذه البشائر العظمى ، وفضول هذه النعم الجزيلة الكبرى إلى الباب الشريف العالى إلى السلطان الأعظم والخاقان الأكرم الأفخم ، السلطان سليم خان سقاه الله كئوس الرحمة والرضوان ، وحوض الكوثر فى أعلى غرفات الجنان ، وإلى سرادقات الحجاب الرفيع والستر السابل المسبوغ

٣٤٩

البديع ، صاحبة الخيرات ملكة الملكات بلقيس الزمان ، حضرة جانم سلطان أدام الله تعالى ظلال عفتها وعصمتها ، وأسبغ أستار رفعتها وعظمتها ، فأنعمت الصدقات الشريفة السلطانية بالإنعامات الجزيلة ، والترياقات الكثيرة الجميلة ، على سائر المباشرين ، والمتعاطين بهذه الخدمة الشريفة الجميلة ، وحصل لمولانا شيخ الإسلام المشار إلى حضرته ترياقات عظيمة ، فصارت مدرسة السلطانية غاية عثمانى وما عهد لذلك لأحد من الموالى العظام فى مدارسهم ، وجهزت إليه أنواعا من الخلع الشريفة الفاخرة ، وخوطب من قبل السلطنة الشريفة الخاقانية ، بالخطاب العليّة الوفية السامية المتضمنة للشكر الجميل منه ، وإنه داخل فى حوض السلطنة الشريفة ، المشمولين بنظر عواطفها الشريفة ، وإنعاماتها الجزيلة الوريفة.

وصارت هذه العين من جملة الأثار الباقية على صفحات الليل والأيام ، والأعمال الصالحات الباقيات التى لا يمحوها تكرر السنين والأعوام ، وما عند الله من تضاعيف الأجر والثواب ، فهو خير وأبقى عند أولى الألباب.

ومن أثار المرحوم السلطان سليمان بمكة المشرفة ، المدارس الأربعة السليمانية ، وبسبب ذلك الأمير إبراهيم أمين إجراء عين عرفات ، أسكنه الله تعالى فى أعلى الجنة فى الغرفات.

وعرض على الأبواب الشريفة السلطانية السليمانية ، فأجابه السلطان سليمان المرحوم إلى عمل ذلك ، فى أحسن الأماكن اللائقة ، فأجمع رأى الأمير قاسم ، فإبراهيم بيك وغيرهما من الأعيان ، اللائق لبناء هذه المدارس الجانب الجنوبى من المسجد الحرام ، المتصل من ركن المسجد الشريف إلى باب الزيادة.

وكان البيمارستان المنصورى ومدرسته لصاحب كسايه السلطان أحمد باشا ، وسلطان كجرات من أقاليم الهند ، وكان من أصحاب الخير الكثير ، شديد المحبة للعلماء كثير البر والصدقات ، فكانت المدرسة بيد مؤلف هذا التاريخ ، والبيمارستان المنصورى وأوقاف المؤيد السلطانى ، الملك المؤيد شيخ سلطان

٣٥٠

مصر من ملوك الجراكسة ، وعدة دور تتعلق بسيدنا ومولانا المقام الشريف العالى السيد حسن صاحب مكة المشرفة ، أدام الله تعالى عزه ، وإقباله ورباط يقال له رباط الظاهر ؛ فاستبدل البيمارستان ، واستبدلت المدرسة برباط كان بناه الخوجا يحيى الفرمانى ، ولم يثبت وقفيته ؛ فباعه ورثته بالشراء لجهة السلطنة الشريفة ، وجعل بدلا من مدرسة الكناينة ، واستبدل رباط الظاهر برباط أخر فى سويقة أحسن وأمكن منه ، ووفق بدلا عنه ، وأنشأ الدور المتعلقة بسيدنا ومولانا الشريف العالى ، بدر الدنيا والدين مولانا السيد حسن ، أدام الله تعالى عزه ودولته ، فقدمها جميعها للسلطنة الشريفة ، واستبدلت أوقاف المؤيد ، بضياع قرى فى الشام ، اختارها ذرية المؤيد الموقوف عليهم ، وكتب مستنداتها ، وحججها.

وشرع الأمير قاسم فى هدمها ، وطلب العلماء والصلحاء والأشراف ، ووضعوا الأساس ، فتقدم قاضى مكة المشرفة يومئذ ، قدوة العلماء الأمالى ، وصفوة العظماء الموالى ، مولانا شمس الدين أحمد بيك السايحى ، عظم الله شأنه ، ورفع قدره ، ووضع بيده الشريفة الأساس ، وكان يوما مشهودا مباركا مسعودا ، وذلك لليلتين خلتا من شهر رجب المرجب سنة ٩٧٣ ه‍.

وكان عمق الأساس عشرة أذرع ، وعرضه أربعة أذرع بذراع العمار ، ووضعوا فيه صخارا كبارا جدا ، وأحكموا الأساس إحكاما قويا ، واستمر قاسم بيك فى بذل الجد والاجتهاد ، مشدود الوسط ، كأنه بعض العمال ، يجرى بعضا ، من أول العمل إلى آخره ، بقوة وجلاده له ، من غير دقة فهم ولا إلف طبع مع الخلافة ، والغلاظة ، واستبد بالرأى ، وعدم المشورة ، وعدم الإصغاء إلى رأى أحد ، ثم بنى المدارس الأربع فى غاية الإحكام ، وزاد فى عرض الجدارات من غير تعميق ، وعمل بها مآذنة عالية ، أحسن فيها ، ولفق لسقوف المدرسة ، وأدروا أبوابها خشبات عتيقات ذائبات ، تكسرت وسقطت بعد وفاته ، وجددها مولانا شيخ الإسلام على وجه الإتقان والإحكام ، وكتب قاسم بيك فى بعض طرازها بخط ردئ منحط ، وبعض بخط رائق فائق ؛ لكونه أميا ، لا يعرف الكتابة ، ولا يصغى إلى كلام أحد.

٣٥١

وصارت الأحكام الشريفة السلطانية ، تتوارد إليه بالاستعجال والاهتمام ، وغير ذلك ، وعين المرحوم السلطان سليمان خان (عليه الرحمة والرضوان) وظائف المدرسين والطلبة ، وغير ذلك من أوقافه بالشام.

وعين لكل مدرس خمسين عثمانيا فى كل يوم ، وعين للمعيد أربعة عثمامن ، ولكل مدارس خمسة عشر طالبا ، لكل طالب عثمانين ، والفراش كذلك وللبواب نصف ذلك ، يجهزها فى كل عام ناظر الأوقاف السليمانية بالشام مع الركب الشريف الشامى إلى مكة المشرفة ؛ فيوزع على المدرسين والطلبة وظائفهم.

ولم يكمل المدارس الأربع فى أيام دولة السلطان الأعظم ، مالك ممالك الترك والروم والعرب والعجم ، السلطان سليمان خان سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان.

وأنعم بالمدرسة المالكية السليمانية ، وهى رأس المدارس الأربعة ، على سيدنا ومولانا ، شيخ مشايخ الإسلام ، سيد العلماء والموالى العظام ، قاضى القضاة ، وناظر المسجد الحرام ، مولانا السيد القاضى حسين الحسنى أدام الله تعالى عوائده على الدوام ، بخمسين عثمانيا ، ثم رقاه إلى أن صار بمائة عثمانى.

وأنعم بالمدرسة السليمانية على مؤلف هذا الكتاب بخمسين عثمانيبا فى أوسط جمادى الأول سنة ٩٧٥ ه‍ ، فأقرأت فيها قطعة من الكشاف والهداية ، وقطعة من تفسير المفتى الأعظم ، مولانا بو السعود ، بوأه الله عرف الجنان ، وأنزل عليه شبائب العفو والرحمة والرضوان ، وأقرت فيها درسا فى الطب ، ورسالة فى الحديث فى أصوله ، وإنى أدرس الآن فيها ، تكميل شرح الهداية للعلامة الكمال بن الهمام ؛ الذى كمله الآن ، علامة علماء الإسلام ، فهامة فضلاء الموالى العظام ، مالك ناصية العلوم ، وفارس ميدانها ، وحائز قصبات السبق والإتقان فى جلبه دهاتها ، فريد دهره فى التحقيق والإتقان ، وحيد عصره فى التدقيق ، صاحب التصانيف الفائقة ، التى سارت بها

٣٥٢

الركبان ، وتداولتها العلماء والطلبة ، فى سائري البلدان الكريم المحسن إلى مجيبه غاية الإحسان ، مولانا شمس الملة والدين ، أحمد المعروف بقاضى زاده أفندى ، قاضى العسكر بولاية الناطولى ، أظهر الله على لسان قلمه مارق وخفى عن الأفهام ، وأفاض من زلال ألفاظه العذبة ما يروى عطش أكباد العلماء الأعلام.

ذكر فيه من التحقيقات ما فات ابن الهمام ، وقلد عناق علماء مذهب النعمان قلائد در منسق النظام ، ومد طلاب العلم الشريف فوائد ، وضعها لهم على طرق التمام ، وأورد فيه من خاصة طبعه الشريف ثلاثة آلاف تصرف من بنات أفكاره.

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ولا شك أن ذلك فيض من الله الكريم ، أفاض به من خزائن جوده العميم ، فشكر الله تعالى صنعه الحميد ، ونفع بتأليفه سائر طلبة العلم الشريف وأبقى فى صفحات العالم ، كتابه المفيد اللطيف ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين ، ولقد أحسن إلىّ فى أيام صدارته ، ورقانى لدى الحضرة الشريفة السلطانية ؛ فرقانى السلطان الأعظم والخاقان الأكرم الأفخم السلطان مراد خان ، خلد الله تعالى سعادته الزاهرة ، مد الزمان ، فصارت مدرستى بهمه العليمة ، بستين عثمانيا ، جزاه الله على أفضل الجزاء ، وأسبغ عليه من خزائن فضله وكرمه واسع الخير والعطاء.

وأنعمت السلطنة الشريفة بالمدرسة السلطانية السليمانية الشافعية ، لأمراء مذهب الشافعية بمكة المشرفة ، على بعض العلماء الشافعية بخمسين عثمانية ، وأدرس فيها كتب فقه الإمام الأعظم محمد بن إدريس الشافعى رضي‌الله‌عنه ، وأحيى فقه الشافعية بها ، كما شرط الواقف المرحوم السلطان سليمان (رحمه‌الله تعالى) ، وأسكنه فسيح الجنان ، وغمره فى بحر الرحمة والإحسان.

وأما المدرسة الرابعة السليمانية ، فقد جعلها المرحوم الواقف لإحياء مذهب

٣٥٣

الإمام أحمد بن حنبل رضي‌الله‌عنه ، فلم يوجد بمكة يومئذ من يكون نائبا عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل ؛ فعدل عنه إلى علم الحديث الشريف وجعلت تلك المدرسة دار الحديث ، بخمسين عثمانية ، يقرأ فيها الصحاح السنة ، فرحم الله تعالى السلطان سليمان ، وأثابه على مقاصده الجميلة ، فى ابتداء الخيرات ، واقتناء المثوبات ، بإحياء العلوم الشريفة ، وسائر الباقيات الصالحات ، أعلى غرف الجنان ، والنظر إلى وجه الكريم ، فى أعلى مراتب السعادات الأخروية الباقيات.

وهذا الذى ذكرناه بعض ما فعله من الحسنات ، ولو أردنا استيفاء ما فعله من الخيرات ؛ لاحتجنا إلى عدة مجلدات ؛ فعدلنا عن ذلك إلى ما ثبتناه فى هذه الوريقات ، ووكلنا ما عداه إلى المشاهدات فليس الخبر كالعيانات.

* * *

٣٥٤

الباب التاسع

فى دولة السلطان الأعظم الأفخم العثمانى

السلطان سليم خان الثانى ؛ صاحب

الخيرات الجارية والجوامع والمبانى

تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان ، وسقى ضريحه زلال الكرم والعفو والإكرام ، وحفه بروائح الروح والريحان.

كان مولده وجلوسه الكريم على تخت ملكه الشريف القسطنطينية العظمى ، فى يوم الاثنين لتسع مضين من شهر ربيع الآخر سنة ٩٧٤ ه‍ ، ومدة سلطنته الشريفة تسع سنين ، وسنه حين تسلطن ست وأربعون سنة ، وعمره كله ثلاث وخمسون سنة ، وبعد ثلاثة أيام من جلوسه على التخت الشريف توجه إلى سكتوار ؛ لحفظ عساكر الإسلام المجاهدين فى سبيل الله ، فى حاق بلاد الكفر ، مشغولين بفريضة الجهاد ، بغاية الجد والاجتهاد ، وسار سيرا حثيثا إلى أن وصل ركابه الشريف إلى سرحر ـ ويقال له سرم ـ فلاقته عروض حضرة الوزير الأعظم ، أصف الزمان محمد باشا ، أنعش الله تعالى بوجوده الإسلام إنعاشا ، يتضمن هجوم الشتاء ، وتيسير فتح قلعة سكتوار ، وقمع مردة الكفار الفجار ، والتماس الأذن الشريف السلطانى بذلك المكان إلى أن وصل ركابه الشريف السلطانى ، والالتحال بتراب الباب الشريف الخاقانى.

وبعد ذلك يعودون فى الخدمة الشريفة العثمانية ، إلى مقر التخت الشريف السلطانى بالقسطنطينية العظمى ، فأجيب إلى حضرة الوزير الأعظم ، إلى أن ما أشار إليه ، واستقر ركاب السلطنة الشريفة بذلك المحل ، والقرار عليه إلى أن ورد عليه حضرة الوزير الأعظم المشار إلى حضرته العليّة ، وباقى الوزراء

٣٥٥

وأركان الدولة الشريفة السلطانية ، وقبلوا الركاب الشريف السلطانى ، وهنّوه بالملك الشريف الخاقانى.

وعاد فى الخدمة الشريفة إلى أسطنبول بغاية اليمن واليسر والقبول ، وعند الوصول إلى باب السراى الشريف السلطانى ، حصل من رعاع العساكر وغوغاتهم ، مدافعة وممانعة عن الدخول إلى السراى الشريف ، عند تجدد السلطان أدى إلى سوء أدب من بعض جهالهم ، فجاء المرحوم المفتى الأعظم رئيس العلماء والأعلام ، وكبير كبراء الموالى العظام ، مولانا أبو السعود أفندى العمادى ، عشر الله تعالى خطاه فى الجنة ، وأفاض عليه سحائب الأجر والثواب فى الجنة ، والفضل والمنة.

فوعظ العسكر ، وألان لهم الكلام ، والتزم لهم بعوائدهم وترقياتهم وعطاهم العظام ، فلانوا بعد القسوة ، واستغفروا من تلك الهفوة ، وصحوا من سكرة الجهالة ، واهتدوا بعد الضلالة ، ودخل حضرة السلطان الأعظم إلى سراية الشريف ، وجلس على تخته العالى المنيف.

ووفى العسكر ما التزم لهم به حضرة المفتى الأعظم ، وأفاض إحسانه عليهم ، وأنعم ، وصرف فى ذلك خزائن كثيرة لا تحصى ، ووزع عليهم من الورق المسجد مالا يحصى ولا يستقصى ، وأمر بقتل من كان سببا لهذا الغوغاء من السفهاء ، وسكنت الفتنة ، ولله الحمد على جزيل النعمة ، وله الشكر على جميع الألاء ، وله الحمد فى الآخرة والأولى.

ودخل عليه الموالى العظام لتهنئة بالملك والتحية والإكرام ، ثم أركان الدولة على قوانينهم ، وحصل لهم بحسب مراتبهم الإجلال والإكرام ، وقرت عيون الأنام بكمال الأمن والاطمئنان ، وتمام أحسن الانتظام ، ثم جهزت البشائر السلطانية بين الممالك الشريفة العثمانية بالخلع الشريفة الفاخرة الخاقانية ، فحصل لنواب السلطنة الشريفة كمال الفرح والسرور وتمام الشرح والحبور ، بانتظام الأمور ، ووصلت التهنئة من ملوك الأطراف ، بالتحف والهدايا اللطيفة الظراف ، وقرت العيون ، وزالت الغبون ، واستقرت الخواطر والظنون ، فكان سلطانا كريما رؤوفا بالرعية ، رحيما عفوا عن الجرائم ،

٣٥٦

حليما محبا للعلماء والصلحاء ، محسنا إلى المشايخ والفقراء ، كان إحسانه يصل إلى فقراء الحرمين الشريفين ، وهو شاه زاده ، وفضل بتشارفه وكساويه فى كل عام إلى الفقراء والعلماء ، وكان يصل إحسانه فى كل سنة ، وبعد أن ولى السلطنة الشريفة ، لم يقطع عادة إحسانه ، واستمر يصل ذلك إليهم فى كل عام ، بحيث أضيف ذلك إلى دفتر الصرة الرومية ، ويقسم كل سنة على الحكم السابق إلى الآن ، فهو الملك الهمام ، المحسن النعام ، الفائض الإحسان والإنعام ، طالما طافت بكعبة الأمالى ، واعتمرت ، وصدع بأوامره الليالى والأيام فأوتمرت ، وغرس فى رياض السعادة عروس أشجار السيادة ؛ فسقت وأثمرت وغمر بحسن نظره أرجاء البلاد ، فهدت بعد الخراب وعمدت ، ودمر بسياسته أرباب الظلم ؛ فخربت ديار الظالمين ودمرت ، وكم أظهرت لسواد الكفر يد صارمة بيضاء آية للناظرين ، وكم جهز جيوشا للجهاد فى سبيل الله ؛ فقطع دابر الكافرين.

فمن أكبر غزواته فتح جزيرة قبرس ، بسيف الجهاد ، ومنها فتح تونس الغرب ، وحلق الواد ، ومنها فتح ممالك اليمن ، واسترجاعها من العصاة البغاة ، أهل الإلحاد.

ومن خيراته تضعيف صدقة الحب وإرساله مدة سلطنته إلى الحرمين الشريفين ومنها الأمر ببناء المسجد الحرام ، زاده الله شرفا وتعظيما ، وكل ذلك من الآثار العظيمة ، والمزايا الفاضلة الكريمة ؛ فلنذكرها بطريق الإجمال ؛ لضيق المحال ، فأما قبرس فهو بالسين لا بالصاد ، كما يغلط فيه العوام ، جزيرة فى البحر.

قال الفقيه العدل المفنن أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور الحميرى فى كتابه «الروض العطار فى أخبار الأقطار» : قبرس جزيرة على البحر الشامى ، كثيرة القطر ، مقدارها مسيرة ستة عشر يوما ، وبها قرى ومزارع وأشجار وهواشى ، وبها معدن الزاج القبرس ، ومنها يجلب إلى سائر الأمطار ، ومنها ثلاث مدن ومن قبرس ومنها ، ومن قبرس إلى أبلس الشام مجريان فى البحر ، وقبرس على ممر الأيام رخاءها شامل ، وخيراتها

٣٥٧

كاملة ، وكان معاوية غزاها ، وصالح أهلها على جزية سبعة الاف دينار ؛ فنقضوا عليهم ؛ فغزاهم ثانية ، فقتل وسبى كثير ، وروى : أنه لما افتتحت مدائن قبرس ، واشتغل المسلمون بقسم السبى فيما بينهم ، بكى أبو الدرداء وتنحى مدائن عنهم ، ثم اختبئ بحبائل سيفه ودموعه على خديه ، فقيل له : أتبكى فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ، وأزل الكفر وأهله؟ ؛ فضرب على منكبيه وقال : ويحك! ما أهون الخلق على الله إذ تركوا مرة ؛ فصاروا أذلة ، وصار حالهم على ما ترى من السبى والإهانة.

وبين جزيرة قبرس وساحل مصر خمسة أيام ، وبينها وبين جزيرة رودس مسيرة يوم واحد ، وإنما سميت جزيرة قبرس يرثن كان هناك ، يسمى قابرس كان يعظمه الكفار ، ويعظمون لأجله جزيرة قبرس ، وأهل مدينة قبرس موصوفون بالغناء واليسار ، وبها معادن الصفر ، ويجمع منها اللادن الحسن الرائحة ، الذى يغلب العود فى طيب رائحته ، وهو الذى يجمع منه على الشجر خاصة.

وكان يحمل إلى ملك القسطنطينية ، لأن أفضله وما يجمع منه ، فما تساقط على وجه الأرض يبيعونه للناس ، وكانت أم خزام بنت ملحان الصحابية رضي‌الله‌عنها شهدت غزوة قبرس ؛ فتوفت بها ، وأهل قبرس يتباركون بقبرها ، ويقولون : هو قبر المرأة الصالحة ، وكانت سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليدعوا الله عزوجل ، أن يجعلها من الذين يركبون بيح البحر يجاهدون فى سبيل الله ؛ ففعل ذلك.

وهو حديث معروف ، وكان الأوزاعى يقول : إنا نرى هؤلاء ـ يعنى أهل قبرس ـ أهل عهد ، وإن صلحهم وقع على شىء فيه شرط لهم وشرط عليهم ، وأنه لا يسعهم نقضهم إلا بأمر يعرف به عذرهم ، ورأى عبد الملك ابن صالح فى حدث أحدثموه ، وإن الذى نقض لعهدهم ؛ فكتب إلى عدة من الفقهاء ، يشاورهم فى أمرهم ، منهم الليث بن سعد ، وسفيان بن

٣٥٨

عيينة ، وإسحاق بن الفزارى ، ومحمد بن الحسن ؛ فاختلفوا عليه ، وأجاز كل واحد مما ظهر له ، قالوا : وانتهى خراج أهل قبرس الذى يؤدونه إلى المسلمين بعد المائتين من الهجرة إلى أربعة ألف وسبعمائة ألف وسبعة والسبعين ألفا. انتهى ما ذكره صاحب «الروض العطار»(١).

وقلت : وقد تقدم مما نقلناه ، إنها افتتحت فى أيام الدولة الشريفة العثمانية ، متهاونين يدفعون إلى الخزينة العامرة السلطانية ، ما كان مقررا عليهم غير إنهم أخذوا فى المكر والخداع ، وإظهار الطاعة والوفاق ، وإخفاء الغدر والشقاق ، فصاروا يقطعون الطريق فى البحر على المسلمين ، وإذا أخذوا سفينة من سفائن المسلمين ، قتلوا جميع من ظفروا به فى تلك السفينة ، وغرقوها فى البحر ؛ لإخفاء ما فعلوه ، وصاروا يؤون قطاع الطريق من النصارى ، ويساعدوهم على المسلمين ، إلى أن كثر أذاهم وعم ضررهم ؛ فاستفتى المرحوم السلطان سليم خان مفتى الأنام مولانا أبى السعود أفندى العمارى (رحمه‌الله تعالى) ، فأفتاه بأنهم غدروا ونقضوا العهد ، وإن قتالهم جائز بسبب ارتكاب ما ارتكبوا من الغدر والخيانة ، فجهز عليهم حضرة السيلطان سليم خان ، جيشا كثيفا وعسكرا منيفا منصورا ، أرسلهم من البر ، وعمارة عامرة من جانب البحر ، وجعل سردان الجميع حضرة الوزير المعظم ، والمشير المفخم ، نظام العالم ، مدبر مصالح جماهير الأمم ، قائد جيوش الموحدين ، قاهر جنود الكفار والملحدين ، اعتضاد الملوك والسلاطين ، اعتماد الغزاة والمجاهدين ، المخصوص بعناية رب العالمين ، حضرة مصطفى باشا اللألاء ؛ زاده الله تعالى عزا وجلالا ، وسعادة وإقبالا ، وأيده بالنصر المبين والفتح القريب ، إسعادا وإجلالا.

__________________

(١) الروض العطار : لم أعثر على كتاب بهذا الاسم ، ولعله يقصد : الروض المعطار ، وهو كتاب : الروض المعطار فى أخبار الأقطار «الأمصار» لأبى عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميبرى ، المتوفى سنة ٩٠٠ ه‍ ، وهو كتاب فى السير والأخبار جمع فيه لب كتب عديدة. كشف الظنون : ١ / ٩٢٠.

٣٥٩

فامتثلل الأمر الشريف السلطانى ، وبرز محفوفا بالنصر الصمدانى ، والعون الربانى ، ومعه عسكر جرار ، حلو وجه الأرض بحرا وبرا ، كأنهم قطعة نار مضطرمة ، واشتد حرا ؛ فحاصرهم المجاهدون فى سبيل الله ، وضيق عليهم جنود الإسلام الغزاة ، ورسوا بالمدافع الكبار السلطانية عليهم ؛ فحطمت دورهم ، وهدمت قصورهم ، وصارت بيوتهم قبورهم ، وكسرت ظهورهم ، فافتتحت ببركة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلعتان ، وبقيت الثالثة ، وهى ماغوسا ، وفيها سلطانهم محصور ، وكل محصور مأخوذ ومأسور ؛ فأظهر الجلد وثبت وكابد فى محاصرته أنواع الكمد إلى أن وهن قواه ، وذاب كبده وحشاه ، واضطر إلى الأمان ، والبذل لحضرة الوزير الرفيع الشأن ، فشملت عناية حضرة الوزير المعظم المكين ، وأعطاه الأمان ، وشرط عليه أن يفلت من عنده من أسارى المسلمين ، ويدوس البساط الشريف السلطانى ؛ ليتم له التأمين ، ويحصل له التطمين ، فوافق على ذلك ، وأطلق الأسرى ، وحضر ليقابل حضرة الوزير المعظم جبرا وقهرا ؛ فأخبروه الأسارى ، إنه خان بعد انعقاد الأمان ، وقتل جماعة من أسارى المسلمين ، وأخفى ذلك عن المسلمين ، وفعل هذه الخيانة سرا ، فلما علم حضرة الوزير المعظم أن ملكهم قد خان ، طلبه إلى ما بين يديه ، وأهانه غاية الهوان ، وركب وحمله غاية السرح ، وأمره أن يمشى قدامه كسائر الغلمان ، ثم ضرب عنقه لخيانته ، ونقض عهده ، وأخذ أمواله وذخائره ، وقتل من أراد ، واستأسر واسترق من أراد.

وصارت جيرة قبرس دار الإسلام ، وأضيفت إلى سائر الممالك الإسلامية العثمانية باجتهاد هذا الوزير العظيم ، وإصابة رأيه وتدبيره الصائب الأتم ، وما بلغنى تفصيل ما وقع فى هذه الغزوة ، وما أمكننى تحققها وأرادت كثيرا إفرادها بالتأليف ، وذكر ما وقع فيها ، فلم أظفر بذلك ، فإن أظفرنى الله تعالى بالاطلاع ، أجعل له تاريخا مستقلا ، واسع المجال ، لطيف الفاكهة ، بليغ المثال إن شاء الله تعالى.

وإما فتح بلاد اليمن ، فإن إقليم اليمن من صنعاء إلى عدن كانت داخلة فى

٣٦٠