كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

يحكى عنه أنه : كان يحكى عن نفسه لما جلب إلى مصر للبيع ، وهو إما مراهق أو بالغ : «كان معه رفيقه أحد المماليك الجلب فتحادثوا مع الجكمال فى ليلة من ليالى شهر رمضان.

فقالوا : لعل هذه ليلة القدر والدعاء فيها مستجاب فليدع كل واحد منا بدعاء يحبه.

فقال قايتباى : «فأما أنا فأطلب سلطنة مصر من الله تعالى».

وقال الثانى : «وأنا أطلب أن أكون أميرا كبيرا» ، والتفت إلى الجمال وقال له : أى شىء تطلبه أنت؟ قال : أنا أطلب من الله تعالى خاتمة الخير ، فصار قايتباى سلطانا ، وصار صاحبه أميرا كبيرا ، فكانا إذا اجتمعا يقولان : «فاز الجمال من بيننا (رحمه‌الله تعالى)».

وكان ملكا جليلا وسلطانا نبيلا له اليد الطول فى الخيرات والطول الكامل فى أسد الميراث ، بنى المدارس الثلاثة وعدة ربط ومدارس وجامع عظيمة الأثار وباهرة الأنوار ، وله بمصر ، والشام ، وغزة ، وغير ذلك أثار جليلة ، وخيرات جميلة أكثرها باق إلى الآن ، وجميع عمايره يلوح عليها لوائح النورانية والأنس.

وفى أول ولايته أرسل إلى مكة المراسيم والخلع للسيد الشريف محمد بركات بن حسن بن عجلان لولاية الحركمين الشريفين ، وإلى قاضى القضاة برهان الدين بن على بن ظهيرة الشافعى لقضاء مكة ومراسيم تتضمن الأمر بإبطال جميع المكوسات والمظالم والمراسيم ، وأن ينفرد ذلك على أسطوانة من أساطين الحرم الشريف من السلام.

وفى أواخر سنة ٨٧٤ ه‍ ـ والتى قبلها ـ بنى مسجد الخيف بناء عظيما محكما كما جعل وسط المسجد قبة عظيمة هى حد مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلصق القبة مأذنة غير المأذنة التى عقد باب المسجد فى خيف منى وبنيت جداراتها المحيطة به ، وهى أربع بوايك من جملة القبلة وصارت قبة عالية فى محراب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٤١

أدى مهندسا فيها الصناعة العظيمة بيوت جعلها على باب المسجد بثلاثة أدوار صنعة الأستاذين ، وهى دار بلصق الباب كان مسكن أمر الحاج ، وعلى الباب فى الدار المذكور سيلا مملا من صهريج كبير ، وجعل فى صحن المسجد يمتلأ من المطر ، وجعل للمسجد آخر إلى جهة عرفة وخوجة صغيرة إلى الجبل الذى فى صفحة «غار المرسلات» وهو الذى أنزلت فيه سورة المرسلات على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبالجملة : فهذا المسجد أثر عظيم باق إلى الآن من أثار المرحوم سلطان قايتباى ، وقد غلب الدثور (عمّر الله من عمره) ، وتسبب فى تعميره وعمر السلطان المذكور مسجد نمرة فى عرفة ، وهو المسجد الذى يجمع فيه الإمام بين الظهر والعصر جمع تقديم فى يوم عرفة للحاج المحرمين ، لأن لا يجمع عند أبى حنيفة فى غير ذلك الحال جمع تقديم إلا فى ذلك المسجد ، ولا جمع تأخير إلا فى المزدلفة ما بين المغرب والعشاء للحاج ، وجعل فى ذلك المسجد رواقين عظبمين يتظلل بها الحاج وقت الصلاة من الشمس ، وجدد العلمين الموضوعين بحد عرفة ، وبيض المسجد الذى بمزدلفة على جبل قزح ، وهو المسجد على رأى ، وجدد عين عرفات وابتدأ العمار العمل منها من سفح جبل الرحمة إلى وادى بعمان ، فوجد الماء كثيرا فاقتصر على ذلك ولم يصل إلى أم العين ، وكانت قد انقطعت مدة مائة خمسين ، وكان الحجاج يقلون فى يوم عرفة من قلة الماء لا يصبر عليه ، ثم أصلح البرك وسلاها بالماء ، ثم أصلح «عيني خليص» وأجراها ، وأصلح بركتها وأجرى فيها ، وامتلأت البرك ، وعم النفع بها وبعين عرفات.

وكان ذلك من أعظم الخيرات التى بالنسبة إلى الحجاج والزوار ـ وذلك فى سنة ٨٧٩ ه‍ ـ.

ووصل منه خشب للمسجد الحرام فى الخامس والعشرين من ذى القعدة إلى مكة المشرفة فى البر ، فركب من جهة باب السلام وجرى إلى المطاف وخطب عليه الخطيب فى أول ذى الحجة.

٢٤٢

وفى سنة ٨٨١ ه‍ أصلح خشب المسجد بالرواق الشرقى ، وغير رخام الحجرة الشريفة من داخله وخارجه ، ورصصت السقوف التى بين أحجار المطاف ورخم داخل البيت الشريف.

وفى سنة ٨٨٣ ه‍ أمر السلطان قايتباى وكيله وتاجره الخواجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن ، وشاد عمائره الأمير سفر المالى أن يحصل له موضعا مشرفا على الحرم الشريف ليبنى له فيه مدرسة يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة ورباطا يسكنه الفقراء ، ويعمل ربوعا ومسقفات يحصل له منها ريع كثير يصرف منه على المدرسين وعلى القراوان يقرأ له ربعه فى كل يوم يحضرها القضاة الأربعة والمنصرفون ويقرر لهم وظائف ويعمل مكتبا للأيتام ، وغير ذلك من جهات الخير ، واستبدل له رباط السدرة ورباط المراغى وكانا متصلين ، وكان إلى جانب رباط المراغى دار الشريفة شمسيه من شريف بنى حسن اشتراها منها وهدم ذلك جميعه ، وجعل فيها اثنين وسبعين خلوة ومجمعا كبيرا مشرفا على المسجد الحرام وعلى المسعى الشريف ومكتبا ومأذنه ، وصير الجمع المذكور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف الذهب ، وقرر فيه أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وأربعين طالبا ، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم الشريف ، وجعل مقرها المدرسة المذكورة ، وجعل لها خازنا عين له مبلغا ، وقد استولت عليها أيدى المستعيرين ، وضيعوا منها جانبا كبيرا ، وبقى منها ثلثمائة مجلد ، وهى تحت متكلم مؤلف هذا الكتاب صنتها ، وكمّلت بعض ما فات منها ، وجلدت فيها ما يحتاج إلى التجليد ، واستخلصت منها وجدته ، وأعدته إلى الوقف (صانه الله تعالى) وجعل الواقف فى ذلك الحج للقضاة الأربعة حضورا بعد العصر مع جماعة من الفقهاء يقرءون ثلاثين جزءا من القرآن ، وجعل فقيها يعلم أربعين صبيا من الأيتام ، رتب لكل واحد من الأيتام وأهل الخلاوى ما يكفيهم من القمح فى كل سنة ، وللمدرسين ، والمؤذنين ، وقراء الأجزاء مبالغ من الذهب تصرف لهم كل سنة.

وبنى عدة ربوع ودور تغل كل عام نحو ألفى ذهب ، ووقف عليهم بمصر

٢٤٣

قرى وضياعا كثيرة وحبوبا كثيرة تحمل فى كل عام إلى مكة ، وعمل الخيرات العظيمة ما لم يعمل ذلك سلطانا قبل ، وذلك باق إلى الآن ، إلا أن الأكلة تسولت على تلك الأقاف فضعفت جدا ، وهى أيلة إلى الخراب ، وصارت المدرسة سكنى لأمر الحاج أيام موسم الحاج وسكنى لغيرهم من الأمراء إذا وصلوا إلى مكة وسط السنة ، وصارت أوقافها مأكلا للنظار (عمر الله من عمرها وأحيا من أحياها) ، وكان الفراغ من بناء هذه المدرسة والرباط والبيتين :

أحدهما : من ناحية باب السلام.

والثانى : من ناحية باب الحريريين.

فى سنة ٨٨٤ ه‍ على يدر الأمير سنقر الجمالى (رحمه‌الله تعالى) ، وفى هذه السنة وردت أحكام من السلطان قايتباى إلى صاحب مكة يومئذ مولانا الشريف جمال الدين أو الدين محمد بن بركات بن حسن عجلان (رحمه‌الله تعالى) يتضمن :

«أنه رأى مناما ، وأن بعض المعبرين عبر له ذلك المنام بغسل البيت الشريف من جانبه ، وداخله ، وخارجه ، وغسل المطاف ، وأنه من أن يفعل ذلك ، فحضر مولانا السيد الشريف محمد بن بركات (رحمه‌الله تعالى) بنفسه ، وقاضى القضاة برهان الدين بن على بن ظهيرة وباش الترك الراكن بمكة الأمير قانى بارى السيوفى ، والأمير سنقر الجمالى ، والدوى دار الكبير حافى بك نائب جدة المعمورة ، وبقية القضاة ، والأعيان ، وفاتح بيت الحرام عمر بن أبى راجح الشيبى ، والشيبون ، والخدام ، وغسلوا أرض الكعبة وسائر المطاف الشريف وطيبوها بالطيب.

وكان ذلك اليوم الخميس لثمان بقين من ذى الحجة الحرام من السنة المذكورة.

* * *

٢٤٤

فصل

ومن أعظم ما وقع فى أيام السلطان قايتباى من الأمور الهائلة :

حريق المسجد الشريف النبوى ، ذكرناه استطرادا لأنه أمر هائل عظيم الهول ، وتفسير ذلك :

أن فى ثلث الليل الأخير من ثلث ليلة الاثنين ثالث عشر شهر رمضان سنة ٨٧١ ه‍ طلع رئيس المؤذنين الشيخ شمس الدين محمد بن الخطيب إلى المئذنة الشريفة اليمانية من ركن المسجد الشريف المعمور بالبرشة وهو يذكر ويمجد ، وكانت السماء متراكمة بالغيوم ، متوازنة بالنجوم ، إذ سمع رعد هائل ، وسقطت صاعقة لها لهب كالنار أصابت بعض هلال المئذنة ، فانشق رسها ومات المؤذن (رحمه‌الله تعالى) ، وسقط باقيها على المسجد الشريف عند المئذنة فعلقت النار فيه ، ففتحت أبواب المسجد ونودى بالحريق فى المسجد ، فحضر أمير المدينة ـ يومئذ ـ السيد قسطل بن زهر الجمالى ، وشيخ الحرم ، والقضاة ، وسائر الناس ، وصعد أهل النجدة والقوة إلى سطح الحرم بالمياه فى القرب ليسكبوها على النار لتنطفئ فالتهبت وأخذت فى جهة الشمال والمغرب ، وعجزوا عن إطفائها فهربوا ، واستولت النار عليهم فمات منهم فوق عشرة أنفس ، وعظمت النار جدا ، وحاطت بسائر سقف المسجد الشريف ، وأحرقت ما فى المسجد من المصاحف وخزائن الكتب ، والربعات ، وكانت كتب نفيسة ، ومصاحف عظيمة.

وصار المسجد كبحر لجى من نار ترمى بشرر كالقصر إلى أن استوعب الحريق جميع المسجد والقبة العليا التى فوق قبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذاب رصاصه ، ولم يصل أثر النار للحجرة الشريفة النبوية (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) سلامة القبة السفلى ، وعدم التأثير فيها مع ما يسقط عليها كما هو أمثال الجبال ، واحترقت حتى حجارة الأساطين ، وسقط منها نحو مائة وعشرون أسطوانة ، واحترق المنبر الشريف النبوى ، والصندوق الذى فى

٢٤٥

المصلى الشريف ، والمقصورة التى حول الحجرة الشريفة وسلم الأساطين الملاصقة للحجرة الشريفة.

وسلم ما حول الناس من البيوت ، وشواهد أشكال طيور بيض يحومون حول النار كأنها تكفها عن بيوت جيران النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وقوع بعض شرر النار فيها وعدم تأثيره.

قال عالم المدينة ومؤرخها ونقيبها مولانا السيد نور الدين على بن عبد الله السمهودى رحمه‌الله يعد سوق الحكاية بأبسط من هذا فى كتاب : «خلاصة الوفا بأخبار المصطفى (عليه الصلاة والسلام) ، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه ، فلما ساءت الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإنذار بإظهار النار المجازى بها فى يوم العرض.

قال الله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(١).

وقال تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(٢).

قال : وشرعوا فى تنظيف المسجد ونقلوا نقضه من مقدم المسجد إلى مؤخره للصلاة فيه ، وعمل فى ذلك أمير المدينة ، وقضاتها ، وعامة أهلها حتى النساء والصبيان تقربا إلى الله تعالى ، وبادروا بإرسال قاصد إلى مصر وعرضوا ذلك على السلطان قايتباى رحمه‌الله فتهول من هذا الحادث العظيم ، وتوجه إلى عمارة المسجد الشريف ، وعرف نعمة الله عليه بتأهله لهذا الشريف العظيم ، وأرسل إلى نحو ثلثمائة من أرباب الصنايع ، وكثير من الحمر والجمال والبغال وسائر مؤنتهم ، ومبلغا من الخزينة نحو مائة ألف دينار ، فأكثر وجهز المؤن الكثيرة إلى أن امتلأ البنادر بها كالطّود ، والينبع ونقلت من المدينة الشريفة ، واستقبلوا العمارة بجد واجتهاد ، وإلى أن كملت عمارة المسجد الشريف والقبة الشريفة ، والمواذن ، وفرغوا منها على هذا الوجه الذى هو عليه الآن فى هذا الزمان».

__________________

(١) الآية رقم ٥٩ من سورة الإسراء ، مكية.

(٢) الآية رقم ١٦ من سورة الزمر ، مكية.

٢٤٦

وذكره السيد السمهودى رحمه‌الله فى «خلاصة الوفا» فراجعه إن أردت إحاطة العلم به ، وذكر بأبسط من ذلك فى تاريخه الكبير الذى سماه : «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى (عليه الصلاة والسيلام)».

وأمر السلطان قايتباى أن يبنى له رباطا ومدرسة ، ومئذنة حول المسجد الشريف من باب السلام ، وباب الرحمة ، وأرسل إلى المدينة خزانة كتب وتحفها جليلة جعل مقرها المدرسة موقوفة على طلبة العلم الشريف ، وأرسل مصاحف كثيرة وكتبا لخزانة المسجد الشريف عوض عما احتراق منها فيه.

ووقف قرى كثيرة بمصر تحمل غلاتها إلى جيران رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيفرق عليهم لكل شخص ما يكفيه من الحب بطول السنة ، وكان حصة كل نفر سبعة أردب فى العام سواء فى ذلك الكبير والصغير ، والحر ، والعبد.

وذلك الخير جار إلى الآن ، وزاد عليه الآن سلاطين آل عثمان أكثر مما وقفه السلطان قايتباى بمكة والمدينة (جزى الله المحسنين خيرا وضاعف لهم ثوابا وأجرا).

* * *

فصل فى حج السلطان قايتباى (رحمه‌الله تعالى)

اعلم أن ملوك الجراكسة ما حج منهم أحد غير السلطان قايتباى! لتمكنه فى الملك ، وكثرة ما فعله من الأثار الجميلة فى الحرمين الشريفين ، فأقام الأمير الكبير يشبك الدّواد نائبا عنه بمصر.

وخرج إلى الحج فى سنة ٨٨١ قبل وقوع حريق المسجد بعامين ، وكان أمير الحاج فى الحج المصرى الأمير خشقدم ، فخرج بالمحمل الشريف وركب الحاج المصرى ، فخرج السلطان قايتباى بقصد الحج والزيارة بعد خروج ركب الحاج بثلاثة أيام ، ووصلت القصاد إلى شريف مكة سيدنا ومولانا المقام الشريف العالى جمال الدين أو الدين السيد محمد بن بركات بن حسن بن عجلان (سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان).

وكان من أخص المخصوصين به ، وصاحب الحل والعقد عند قاضى القضاة

٢٤٧

شيخ الإسلام مولانا القاضى برهان الدين إبراهيم بن على بن ظهيره الشافعى ـ يومئذ ـ بمكة طيب الله ، فتهيأ هو والسيد الشريف محمد بن بركات لملاقاة السلطان ، فإن القصاد أخبروا أنهم فارقوه من عقبة إيلياء ، وهو نهاية الربع الأول من طريق الحج ، فأرسل مولانا الشريف أحد قواده بسيفه إلى ملاقاة السلطان بسماط ملوى ، فوصل إلى الحوذى ولاقاه السلطان ، مد له السماط الحلوى هناك ، فوصل عليه السلطان بنفسه وأظهر عليه اللطف والمجابرة ، وأكل ، وقسم على أمرائه وعسكره ، وكان سماطا كبيرا جميلا.

ويحكى من لطافة السلطان قايتباى : أنه لما جلس على السماط تناول شيئءا من الحلوى يقال له : كل واشكر ، فقال له : سلم على سيدك ، وقل له : أكلنا وشكرنا.

ثم لما وصل السلطان إلى الينبع عدل منه إلى المدينة لزيارة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوجه إليها ، وكان قد خرج لملاقاته سيدنا ومولانا الشريف محمد بن بركات ، وولده السيد هيزع بن محمد ، ومولانا القاضى إبراهيم ظهيره الشافعى ، وابنه القاضى أبو السعود ، وأخوه القاضى أبو البركات بن ظهيره قاضى جدة.

فبلغهم فى أثناء الطريق أن السلطان عدل إلى زيارة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتوجهوا إلى منزلة بدر وأقاموا به منتظرين عود السلطان من المدينة الشريفة.

قال السيد على السمهودى فى تاريخه الكبير : «حج السلطان قايتباى فى سنة ٨٨١ ه‍ ، وبدأ بالمدينة النبوية لزيارة التربة المصطفوية (على الحال بها أفضل الصلاة والسلام) ، فقدمها طلوع الفجر من يوم الجمعة الثانى والعشرون من ذى القعدة الحرام ، فلبس فى حولها حلل التواضع والخشوع ، وتحلى ما يجب لتلك الحضرة النبوية من الهيبة والخضوع ، فترجل عن فرسه عند باب سورها ، ومشى على أقدامه بين ارتباعها ودورها حتى وقف بين يدى الجناب الرفيع الحبيب (عليه أفضل الصلاة والسلام) ، وناجاه بالتحية والتكريم ، وفاز من ذلك بالحظ الجسيم ، ثم ثنى بصحبيه رضي‌الله‌عنهما بعد أن صلى بالروضة الشريفة التحية ، وعفر جبهته فى ساحتها السنية ،

٢٤٨

وعرض إليه الدخول إلى الحجرة الشريفة فتعاظم ذلك ، وقال : «لو أمكننى أن أقف أبعد من هذا الموضع وقفت ، فالجناب أعظم أو من ذا الذى يقوم بما يجب له من التعظيم» ، ثم صلى صبح الجمعة فى الروضة الشريفة فى الصف بين فقر الزوار ، وإلى جانبه إمامه الشيخ الإمام العلامة برهان الدين الكردكى ، ثم توجه لزيارة السيد حمزة عم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حوله من الصحابة الذين استشهدوا يوم أحد ، فمشى مترجلا حتى خرج من باب المدينة ولم يرق دابته ، ولم يركب بالمدينة تأدبا مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعاد من الزيارة وحضر صلاة الجمعة.

قال السيد السمهودى (رحمه‌الله تعالى) : فبدأنى السلطان بالملاطفة ، وسألنى عن بعض المباحث ، فرأيت من تواضعه وحمله ، وثقوب فهمه ما يفوق وصف الواصف فأنشدته بيتى التلخيص :

وهما كانت مسائله الركبان تخبرنى

عن أحمد بن سعيد أطيب الخبرى

حتى التقيت ـ فلا والله ـ ما سمعت

أذنى بأطيب مما قد رأى بصرى

فطرب به جدا ، واجتمعت به قرب صلاة المغرب فى الروضة ففاتحنى فى الكلام.

ورأى فى المحراب النبوى مكتوبا قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١).

فسألنى عن هذه الآية : هل نزلت قبل المعراج أم بعده؟ وكيف كان الاستقبال قبل نزولها؟ فشرعت له فى الجواب فأقيمت الصلاة ، وفى أثناء ذلك فصلينا ، فلما فرغ من هذه الصلاة صلى ست ركعات بسكوت وتؤدة.

فلما انقضت تلك الصلاة قال : أقبل علىّ ـ طالبا الجواب ـ فذكرت له : أن نزولها بالمدينة ، وأن فرض الصلاة كان بمكة ليلة المعراج ، وذكرت ما حكى فى تعدد نسخ القبلة وصلاته (عليه الصلاة والسلام) بمكة بين الركنين

__________________

(١) الآية سبقت الإشارة إليها.

٢٤٩

اليمانيين جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، إلى غير ذلك من الفوائد وهو مصغ إليها ملتذا بسماعها ، واستمر بنا على ذلك حتى أقيمت صلاة العشاء ، فصلينا ، ثم عرضت عليه رفع بعض البدع من المدينة فأمر برفعها ، وطلبت منه رفع المكوس من المدينة فأمر بإزالتها ، وجعل لأمير المدينة ـ فى مقابلة ذلك ـ ألف أردب قررها له فى كل عام ، وفرق بالمدينة الشريفة على فقرائها وفقهائها وعلمائها نحو ستة آلاف ذهب وحصل لى منه خير كثير وإحسان جزيل ، ثم برز فى اليوم الثانى والعشرين من المدينة قاصدا حج بيت الله الحرام» انتهى كلام السيد السمهودى ملخصا.

قال العز بن فهد : «فلما وصل الخبر بعود السلطان وبروزه من المدينة الشريفة ، أن السيد الشريف محمد بن بركات ومن معه ركبوا من بدر لملاقاة السلطان فاجتمعوا به فى منزله الصفراء ، وتلاقيا على ظهور الخيل وتصافحا ، ومشى السيد الشريف على يمين السلطان ، والقاضى برهان الدين ابن ظهيره على يساره ، وباقى من معهما سيلموا على السلطان على بعد ومشوا أمامه ، وصار السلطان يلاطفهم ، ويسأل عن أحوالهم ويشكر مسعاهم ويطمئن خواطرهم ، ويحاسرهم بالمكالمة وينصت إليهم إذا تكلموا ، واستمروا كذلك إلى أن وصل السلطان أوطافه ، فرجعوا عنه إلى مخيمهم ثم صاروا يسايرونه فى طريق ويظهر كل النشط ، ويبدى لهم وافر الانبساط ، وألبسهم السلطان خلعا فاخرة مرارا عديدة وفارقوه من بدر ، وتقدموا على السلطان إلى وادى ممر الظهران وزينوا هناك رباطا حافلا جميلا للسلطان ولمن معه.

فلما كان صبح يوم الأحد مستهل ذى الحجة وصل السلطان إلى مخيمه بالوادى ، وجد السماط ممدود فجلس السلطان وأكل منه وأطعم وفرق على من معه من عساكره على الخدم والأعيان من مكة للسلام على السلطان ، فسلموا عليه وانصرفوا أمامه وركبوا وركب السلطان هو وشيخ الإسلام القاضى إبراهيم بن ظهيرة ، وولده القاضى أبو السعود ، وأخوه القاضى أبو البركات ، وإمام السلطان الشيخ برهان الدين الكركى الحنفى ، واستمروا إلى أن دخلوا إلى مكة من أعلاها ، وكان القاضى إبراهيم هو الذى تقدم لتطويف

٢٥٠

السلطان ، وصار يلقنه الأدعية والتلبية إلى أن دخل السلطان من باب السلام البرانى وطلع بفرسه منه ، فجعل به جواده فسقطت عمامته ، واستمر مكشوف الرأس إلى أن تقدم المهيار رمضان ، وتناول العمامة من الأرض ومسحها وناولها للسلطان فلبسها ، وكان ذلك تأدبا له من الله تعالى ، حيث كان يتعين عليه يترجل ويدخل محرما مكشوف الرأس تواضعا لله تعالى.

ثم لما وصل إلى العتبة الداخلة من باب السلام ترجل ونزل وقرأ بين يديه الرّيّس بصوت جهرى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)(١).

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢).

ثم إنه فع يديه بالدعاء للسلطان وأمّن من حوله من أهل الأصوات ، ودخل من باب السلام ومولانا القاضى إبراهيم يلقنه الدعاء إلى أن دخل الطواف ، وقبل الحجر الأسود وهو يطوف ، ويلقنه الأدعية ، والريس ينادى بالدعاء من أعلى قبة زمزم ، والناس يحيطون بالمطاف الشريف يشاهدونه ويدعون له إلى أن تم طوافه ، وصلى خلف مقام إبراهيم ، ثم خرج من باب الصفا إلى الصفا ، وسعى راكبا ومعه مولانا القاضى إبراهيم يلقنه الدعاء ، فلما فرغ من سعيه ركب فعاد إلى الزاهر وبات فى مخيمه ، وركب فى الصبح فى موكبه ، ولاقاه مولانا الشريف السيد محمد بن بركات وأرلاده ، وقاضى القضاة البرهانى إبراهيم بن ظهيرة وابنه الجمالى أبو السعود ، وأخه القاضى فخر الدين ، وابن عمه ، والخطباء وأعيان الناس ، وأكابر التجار ، فخلع السلطان قايتباى على الجميع ومشوا أمامه فى موكب عظيم ومهابة عظيمة ، ولم يتخلف أحد بمكة من النساء والرجال حتى المخدرات ، ودخل

__________________

(١) الآية رقم ٢٧ من سورة الفتح ، مدنية.

(٢) الآية كانت بدون «المشركون» ، والآية سبقت الإشارة إليها.

٢٥١

مكة بهذا العنوان إلى أن وصل إلى مدرسته ، فترجل الناس له وسلم عليهم ، ودخل مدرسته ، ومد له بها السيد الشريف محمد بن بركات سماطا جميلا.

واستمر على ذلك يمد له صبحا وليلا الأسمطة الجميلة ، ومد له فى ثانى يويم قاضى القضاة البرهانى إبراهيم سماطا جميلا ، واستمر السلطان بمدرسته ما ظهر لأحد غير أنه كان يتصدق بالليل كثيرا ، وركب مرة إلى درب اليمن يشاهد ما قدمه له مولانا السيد الشريف من الإبل والخيل وشكر من فضل الشريف ، واستمر بمدرسته إلى أن طلع إلى عرفات ومعه أمامه راكب إلى جنبه وهو شيخ الشيوخ إبراهيم بن الكركى والأمير بشك الجمالى ، وأولاد القاضى يحيى بن الجيعان ، ورمضان المهتار ، ووقف بجبل الرحمة متضرعا إلى الله سائلا من رحمته القبول ، وكانت الوقفة يوم الاثنين فأفاض مع الناس ، وتم حجه ، وقرب للأضاحى غنما كثيربا ، وأهدى شيئا كثيرا ، وكان يناسب أن ينحر شيئا من البدن ، فما أشار إليه أحد بذلك ، وعاد بعد أيام الشريف إلى مكة ، وتوجه الركب المصرى ، وتأخر هو بمكة أياما.

وقرر وظائف مدرسته لأهلها من المدرسين والطلبة ، وقرأه صحيح البخارى ، وقرأه الربعة وخادمها ، وخادم المصحف والسبيل والأيتام والعريف ، والفيه ، والمؤذنين ، وناظر المدرسة ، والوقف ، والجابى ، والصيرفى ، وأصحاب الخلاوى ، ونحو ذلك ، وجعل لكل واحد كفايته من القمحج والدراهم والمرتب ، وكتب بذلك رقعة أشهد على نفسه بذلك فيها ، وعمل من الخيرات ما لم يسبق إليه ، وحضر بنفسه يوم الجمعة لثلاثة عشر ليلة خلت من ذى الحجة بطرف الإيوان الشمالى ، وقاضى القضاة إبراهيم البرهانى بن ظهيرة يصدر الإيوان وقدامه المصحف على كرسى ، وفرق على الحاضرين أجزاء الربعة الشريفة ، وتناول السلطان أجزاء منها كأحد القراء ، وقرأ إلى أن ختم القاضى إبراهيم ، ولم يؤخذ من السلطان الجزء حتى وضعه بنفسه ، وجمعت الأجزاء فى صندوق الربعة الشريفة ، ودعا الداعى ، ومد للحاضرين سماطا وحلوى بدور المدرسة ، ونزل السلطان ، وجلس إلى جنب القاضى إبراهيم وأكلوا ثم سقاهم سكرا وسوبية ، وفرق عليهم فتوحات وانصرفوا ،

٢٥٢

وكان بنى السلطان سبيلا على يمين الداخل إلى خان البزار على المسعى يقال له : العلقمية ، وكان أمامه إلى جهة القبلة بالمسعى سبيل قديم للقاضى شهاب الدين الطبرى على يسار الذاهب إلى المروة ، فأشار الخواجا شمس الدين بن الزمن والمهندس أن يهدم هذا السبيل حتى تظهر عمارة السلطان وسبيله فهدم ، وصار المسعى مكشوف ، وعمارة الخان والسبيل ظاهرة.

وسافر السلطان فى ظهر يوم بالسبت لأربعة عشر ليلة خلت من ذى الحجة بعد أن طاف للوداع والريس يدعو له على قبة زمزم ، ومشى القهقرى إلى أن خرج من باب الخسرون وركب معه السيد الشريف محمد بن بركات وأولاده ، وقاضى القضاة إبراهيم بن ظهيرة إلى الزاهر ، ثم زودهم ووادعهم ، وسار إلى مصر وعاد إلى مملكته ، ولم يختل عليه شىء من أمر ملكه من غيبته من تحت سفره مدة الحج ، وهى نحو ثلاثة أشهر ، وذلك لإتقانه أمر المملكة وتدبره ، وضبطه رحمه‌الله.

وكان واسطة عقد ملوك الجراكسة وأقربهم إلى قلوب الرعية فى اللطف والمؤانسة وأجملهم جمالا وإجمالا ، وأحسنهم إحسانا ، وأفضلهم أفضالا ، وأكملهم عقلا ، ونبلا واعتدالا ، وأكثرهم فى جهات الخيرات إيثقارا وثاثا ، وأكثرهم عمائرا وقافا وأدورا طولهم طولا وزمانا ، وأملكهم ملكا وقوة وإمكانا ، وكانت أيامه كالطراز الذهب ، ودولته تتجلى كالعروس فى حلل الجوهر والذهب.

وعاشت الرعية فى أيامه عيشا رغدا ، وظهرت العلماء فى أيامه فكثروا ونموا ، فصاروا نجوم الهدى إلى أن انتبه الزمان الجائر ، واستفضيت له عيون صروف الليالى العواثر ، ودارت عليه ـ كما دارت على من قبله ـ الدوائر ، وهذا شأن الدنيا الدنية فى أبنائها الأصاغر والأكابر ، ودأبها فى السلاطين والملوك الغوائر ، والبقاء والدوام لله عزوجل القدير القاهر ، فقدم على قايتباى بريد أجله ، وما أغنى عنه ما جمعه من حيله ومن حوله ، ولا منع شىء من حوله فأقدم على ما قدم من صالح عمله وترك ما خوله من متاع الدنيا وراء ظهره ، وأورج فى أكفان أعماله بعد ما غسل بدموع فقره ، وأنزل

٢٥٣

من سرير الملك على التابوت إلى قبره ، وقدم إلى رب كريم ، ووقف بين يدى ملك غفور رحيم.

وأنشد لسان حاله وهو بين يدى ملك الملوك الحكيم يقول :

ذا أمسى فراشى من تراب

وصرت مجاور الرّمس الرميم

فهنونى أصيحابى وقولوا

لك البشرى قدمت على كريم

وكان انتقاله إلى رحمة الله تعالى فى أخر يوم الأحد بثلاث بقين من ذى القعدة سنة ٩٠٩ ه‍ ، وصلى عليه يوم الاثنين ودفن بتربة فى الصحراء بناها فى حياته فى غاية الحسن والزينة وبها مساكن للفقراء ، وأوقافا دارة عليهم إلى الآن ليس بمصر أحسن تربة منها ، وصلى عليه ـ بعد ذلك ـ صلاة الغائب بالمساجد الثلاثة ، وكان له مشهد عظيم لم يعهد لملك قبله.

وكانت مدة سلطنته ثلاثين سنة إلا ثمانية أشهر ، ولم يملك أحد من ملوك الجراكسة قدر مدة ملكه (رحمه‌الله تعالى) أمين أمين ، ثم ولى بعده الملك ولده الناصر أبو السعادات محمد ، وكان شابا يغلب عليه الجنون والسيفه ، وما كان له الثقات إلى الملك ولا إلى السلطنة ، بل غلب عليه اللهو واللعب والحركات المستبشعة!!

يحكى عنه أمورا قبيحة ، منها : أنه كان إذا سمع بامرأة حسناء هجم عليها وقطع دابر فرجها ونظمه فى خيط أعده لنظم فروج النساء».

ومنها : «أن والدته كانت من أعقل النساء وأجملهن هيأت له جارية جميلة جدا وجمعتها به فى بيت مزين أعدته لهما ، فدخل وقفل الباب على نفسه وعليها وربطها وشرع يسلخ جلدها كالجلادين وهى حية تصرخ ، فلما سمعوا صراخها أرادوا الهجوم عليها ، فما أمكنهم لأنه قفل الباب من داخل محكما واستمر كذلك إلى أن سلخها وحشى جلدها بالأثواب السندسية ، وخرج يظهر لهم أستاذيته فى السلخ وأن الجلادين يعجزون عن كماله فى صنعته».

ومنها : أنه مر ـ وهو فى موكبه ـ بدكان حلانى يبيع الحلاوة وبسطته قدامه

٢٥٤

فأقامه من دكانه وجلس معه يبيع الحلاوة ودار حوله أمراؤه يشترون منه الحلاوة وأخذ بيده الميزان وصار يزن لهم إلى أن جبرت الحلاوة ، وكانت له حركات من هذه الخرافات ، منها ما يضحك ، ومنا ما يبكى إلى أن سقط من أعين العسكر وسطوا عليه كما سطوا بالجسام الأبتر وسلخوه من الملك كما سلخ تلك الضعيفة بالخنجر ومزقوه كل ممزق : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ)(١).

فمن غروره : أنه خرج متحقبا منفردا عن عبيده وخدمه متباعدا من حوله وحشمه ، فتوجه يمشى وحده إلى بر الجزيرة ، فأكمن له عشرة أنفس من مماليكبي أبيه فى خبيئة على ممره ، فلما وصل إليهم ، وكان وحده منفردا خرجوا عليه من الخيمة وسلموا بلجام فرسه وضربوه بالسيف إلى أن قطعوه ، وجاءوا به مقتولا إلى القاهرة ودفنوه فى تربة أبيه سنة ٩٠٤ ه‍ ، ثم ولوا بعده خاله الملك الظاهر أبو النصر قانصوة ، وهو خال الملك الناصر محمد بن قايتباى ، وكان ساد جاميا لا يعرف إلا بلسان الجركسى قريب العهد ببلده لأن السلطان قايتباى جلبه من بلاده وهو كبير وخطه الشيب ، وصار يرقبه بواسطة زوجته «حوندام الناصر» لأنه أخوها ، وهى التى أقامته مقام ولدها الناصر وبذلت له الأموال والخزائن ، وأرادت تقويه وإقامته مقام وإصلاحه (ولن يصلح العطار ما أفسده الدهر) ، فما استكمله الجندى لحمل أعباء المملكة ، وما أهلوه السلطنة ، وكيف له بها؟ وأنى له؟! فخلعوه بعد أن ساسهم سنة وسبعة أشهر ، وأخرجوه من الملك فى أواخر سنة ٩٠٥ ه‍ ، وولى مكانه الملك العادل جان بلاط وتلقب بالملك الأشرف جان بلاط فى أوائل سنة ست وتسعمائه ، ولا تهنأ بالسلطنة ، ولا وافقه أحد عليها ، وخلع بعد ستة أشهر ، وولى مكانه الملك العادل طومان باى ، فما استكمل يوما واحدا ، بل هجم عليه العسكر وقتلوه فما قدم أحد من الأمراء.

وكانت العساكر متوفرة ، وكلهم يشير بعضهم على بعض فى الجلوس على تخت الملك فاتفقوا على أن يولوا قانصوه الغورى لأنهم رأوه لين العريكة

__________________

(١) الآية رقم ٣٣ من سورة القلم ، مدنية.

٢٥٥

سهل الإزالة أى وقت أرادوا إزالته أزالوه لأنه كان أقلهم مالا ، وأضعفهم حالا ، وأوهنهم قوة ، فأشاروا إليه أن يتقدم فأبى ، وألزموه بذلك ، فقال : أقبل ذلك منكم بشرط ألا تقتلونى! فإذا أردتم خلعى من السلطنة فأخبرونى بما تريدون وأنا أوافقكم على ذلك ، وأترك لكم الملك وأمضى حيث أريد ، فعاهدوه على ذلك ، فقبل منهم ، وولوه السلطنة ، ولقبوه الملك الأشرف قانصوه الغورى سنة ٩٠٦ ه‍ ، وفرح العسكر بولايته لأنهم سئموا تعدد السلاطين وسرعة تقضى ملكهم ، وفرح العامة وأمنوا على أنفسهم وأموالهم فى الجملة.

وكان قانصوه الغورى كثير الدهاء ذا رأى وفطنة وتيقظ ، إلا أنه كان شديد الطمع ، كثير الظلم والعسف ، بخيلا ، محبا للعمارة.

ومن جملة عمارته :

الجامع والتب بالقرب من بين القصرين بمصر ، وكان فى نيته أن يدفن بها ، ووقف عليها أوقافا كثيرة ، وما قدر له دفنه فيها ، بل ذهبت تحت سنابك الخيل وما عرف : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(١).

وله أثار جميلة فى طريق الحج فى عقبة إيلياء ، ومأثر بمكة المشرفة وغيرها ، وكان يحفظ حرمه على الأمراء بالدّرية ، والتنزيل معهم فى غير التشديد عليهم ، ولإظهار عظمة أوامر ونهى ، وذلك فى ابتداء أمره إلى أن تمكن من قوته وبأسه ، واشتغلوا عنه بضرورات أخرى ، وطال معه الجيل إلى أن صار يأخذهم واحدا بعد واحد فيتخافل ثم يحصل جيلة أخرى وعلة أخرى لأحدهم فيأخذهم بها ، ويوقع بين الاثنين ، ويأخذ هذا بذاك ، وذا بذا ، ويدسن لهم الدسائس من الطعام والسم ونحوه ، حتى هو أفنى قرانصتهم ودهاتهم إلا قليلا منهم ، واتخذ مماليكا لنفسه جددا ، واستجلب جلبانا ، وأعد عددا ، وصاروا يظلمون الناس ، ويعاملون الخلق عسفا وعشما ، وصار يتغافل عنهم ويتغاضى لهم ، فأظهروا الفساد ، وأهلكوا العباد ، وأكثروا

__________________

(١) الآية رقم ٣٤ من سورة لقمان ، مكية.

٢٥٦

الفساد ، وطغوا فى البلاد ، وصار هو يصادر الناس ويأخذ أموالهم بالقهر والبأس ، وكثرت العوانية فى أيامه لكثرة ما يصغ إليهم.

وصاروا إذا شاهدوا واحدا توسع فى دنياه ، وأظهر التجمل فى ملبسه ومثواه فشوا به إلى السلطان فيرسل إليه الأعوان ، ويطلبه بالقرض ويستصفى أمواله ، ويسلمه إلى الوباشا ليأخذ ماله ويهلك أهله وعياله ، ويعذبه بأنواع الإسكنجة إلى أن يصير فقيرا بعد غناه ومعدوما بعد أثرته واستغناه.

وجمع من هذا الباب أموالا عظيمة وجزايل وسيعة ذهبت فى أخر الأمر سدى ، وتفرقت بيد العذا ، وتمزقت بددا ، وهكذا كل مال يؤخذ على هذا الأسلوب ، ويجمع بهذا الطريق المنكوب لا ينفع من جمعه بل يضر صاحبه ويهلك معه وهيهات!

لن ينفع مال حصل ما بين كل خزين ، وسلبت بالقهر والقسر من كل مظلوم مسكين ، وكيف ينفع سالبه؟ وما نفع صاحبه!! وينتهى به من اكتسبه على هذا الوجه وأبكى كاسبه إلا إن مالا كان من غير حيلة سيخرب يوما أهله وأقاربه.

وأما الميزان : فبطل من أيامه وصار إذا مات أحد يؤخذ له جميع سلطته ، ويترك أولاده فقراء إلا اغتنابه كثيرا فعل له قدرا يسيرا من مال أبيه ، وأخذ لنفسه باقية ، واشتد طمعه ، وكثر ظلمه من أخر أيامه ، فاستجاب الله فيه دعاء المظلومين.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١).

حكى لى والدى رحمه‌الله عن شخص حجاب الدعوة من ألوياء الله تعالى أنه : رأى عهد فى آخر أيام السلطان الغورى حينئذ يأمن الجراكسة الجلبان أخذ منا عافر دلال ، ولم يرضه فى قيمته ، فتبعه الدلال يطلب منه حقه ـ وهو ممتنع ـ فقال الدلال : بينى وبينك شرك الله ، فضربه بالدبوس

__________________

(١) الآية رقم ٤٥ من سورة الأنعام ، مكية.

٢٥٧

ففتح رأسه ، وقال : هذا شرع الله فسقط الدلال مغشيا عليه ، ومضى الجندى بالمتاع ، وما قدر أحدا من المسلمين على منعه.

قال الرجل : فصعب علىّ مشاهدة هذا الحال فرفعت بيدى إلى الله تعالى ودعوت على الجندى المذكور وعلى سلطانه وعلى الظلمة من أعوانه فصادفت ساعة الإجابة ، وبت تلك الليلة على طهارة ، وأنا أفكر فى أمرهم ، وحدثت نفسى بذلك وأقول : كيف يزول ملك هذا السلطان العظيم؟ وقد ملأت جنوده الأرض وأتى للمسلمين بسلطان آخر يترفق بالرعايا وتطمئن فى دولته البرايا؟

وأخذ فى النوم فنمت فرأيت فيما يرى النائم : ملائكة نزلت من السماء وبأيديهم مكانس وهم يكنسون الجراكسة من أرض مصر ، ويلقونهم فى بحر النيل ، واستيقظت من النوم فإذا بقارئ بقراء القرآن فأنصت إليه ، فإذا هو يقرأ قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)(١).

فعلمت أن الله يأخذهم أخذا وبيلا ، فمضى قليل إلا وبرز الغورى بجنوده وأمواله ، وخزائنه من مصر لقتال المرحوم المغفور له السلطان سليم خان إلى حلب ، فجاء الخبر بعد قليل بأنه كسر وقتل جنوده ، وفقد تحت سنابك الخيل فى «مرج دابق» ، وهرب بقية السيوف من الجراكسة إلى مصر ، وصيروا الدوادان طومان باى سلطانا ، والسلطان سليم فى أثرهم يفتح البلاد ويضبطها إلى أن وصل إلى «الريدانية» خارج مصر فخرج طومان باى ومن معه إلى قتاله ، فما حمل هو ومن معه ساعة إلا وانكسر ، وأدخل السلطان سليم خان إلى مصر ، وضرب أوطاقه فى الجزيرة الخضراء على ساحل النيل ، وهرب طومان باى إلى البر الشرقية ، ومسكه شيخ العرب وجاء به أوطاف السلطان سليم فأمر يصلبه فى باب «زويلة» ليروه الناس ويصدقون بقتله ، لأن الناس لا يصدقون بأنه مسك ، وصاروا يزعمون بأنه اختفى ليحصل له فرصة فيخرج.

__________________

(١) الآية رقم ١٣٦ من سورة الأعراف ، مكية.

٢٥٨

وكثر كلام الناس ، وصار مظنة الفساد وكثرة القيل والقال ، فأمر السلطان سليم بصلبه على باب زويلة تسكينا للفتنة ، وكان صلبه فى حادى عشر ربيع الأول سنة ٩١٣ ه‍ ، وبصلبه : انطفت الجراكسة كما انطفت دولة من قبلهم من أرباب الدولة من الأتراك والأكراد ، والعبيديين من الدول.

وهكذا شأن الدنيا الدنيا فى أبنائها تتقلب بهم وتتحول عليهم أى تقلب وأى تحول كما قيل :

ما اختلف الليل والنهار ولا

دارت نجوم السّما فى الفلك

إلا لنقل السلطان عن ملك

قد نال سلطانه إلى ملك

وملك ذو العرش دائم أبدا

ليس بفان ولا مشترك

وملوك الجراكسة اثنان وعشرون ملكا أولهم الظاهر برقوق ، وأخرهم طومان باى.

ومدة ملكهم : مائة وثمانية وأربعون عاما ، وليس لطومان باى أثر لقصر أيام سلطنته ، والأشرف قانصوه مآثر جميلة وعمارة حسنة جليلة (رحمه‌الله تعالى).

ومما عمره السلطان قانصوه الغورى بمكة المشرفة :

باب إبراهيم : بعقد كبير جعل علوه قصربا ، وفى جانبه مسكنين لطيفين ، وبيوتا معدة للكرى ، حول باب إبراهيم وقف الجميع على جهات الخير ، ولا يصح وقف ذلك القصر لأنه فى المسجد ، وما أمكن العلماء أن ينكروا ذلك عليه فى أيام سلطنته ودولته لعدم إصغائه إلى كلام أهل الشرع والدين ، وعدم إقدام العلماء على الملوك والسلاطين للطمع فى الدنيا الدنية وللخوف على مناصبهم الاعتيادية.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وبنى أيضا ميضة خارج باب إبراهيم على يمين الخارج من المسجد هى بطالة الآن ، روايح عفوفاتها قد تصل إلى المسجد فيتأذى به المصلون ، فأبطلت

٢٥٩

وعلقت قريبا فى سنة ٩٠٢ ه‍ بالأمر السيد السلطانى ، ومن أثر الأشراف الغرورى الترخيم الواقع فى حجر البيت الشريف عمل بأمره فى أيامه واسمه مكتوب فيه ، وفرغ من عمله عام سنة ٩١٧ ه‍.

ومن إنشائه : بناء سورة جدة ، فإنها كانت غير مسورة ، وكانت العربان فى أيام الفتنة تهجم على جدة وتنهبها ، وأسرت عربان ربيد ـ فى أيام الفتن ـ الخواجا محمد القارى ، وكان من أعيان التجار من أهل الاعتبار فهجموا على بيته ، وأنزلوه من السطح وأركبوه معهم على ظهر فرس ارتدفه واحد من ريند ، وأخذوه إلى أماكنهم وهو قريب عقبة السويس فى درب المدينة الشريفة ومكث عندهم أياما إلى أن اشترى نفسه منهم بثلاثين ألف دينار ذهبا فردوه إلي مكة بعد أن استوقفوا هذا القدر منه.

ونهبت جدة مرارا فى أيام الفتن التى وقعت بأرض مصر والحجاز بعد وفاة المرحوم المقدس الشريف محمد بن بركات بين أولاده ، وجرت أحوال يطول تفصيلها ، فأرسل الغورى أحد أمرائه المقدمين ، وهو الأمير حسين الكردى ، وجهز معه عسكرا من الترك والمغاربة والقلاونة فى خمسين غرابا لدفع ضرر البرتغال فى بحر الهند ، وكان مبادئ ظهورهم ، وأمره بدفع الفتن الواقعة ـ إذ ذاك ـ فى جدة ، وجعلها له إقطاعا ، فلما وصل الأمير حسين الكردى إلى جدة بنى عليها سورا فى سنة ٩١٧ ه‍ ، وهو الباقى إلى الآن ، وكان ظلوما غشوما يسفك الدماء ، ولا يرحم من فى الأرض ليرحمه من فى السماء.

فإذا ضرب أوطاقه فى مكان أو سفر ، وحضرت أعوانه وجنوده ترتيبا خاصا لإرهاب من حضر ، ونصبوا أعوادا للشنق والصلب ، والشفكلة ، وأقام الجلادين للقتل ، والتوسبط ، والضرب والبهذلة ، فأى مسكين وقع فى يده قتله بأدنى سبب أو عذبه بالمقارع إظهارا للناموس الفرعونى المهيب ، وإخافة للخلق بالسياسة والترهيب.

كما يحكى أن الحجاج دخل بلدة فصادف إنسانا عند دخوله فمسكه ، فأمر بضربه ، فقال له : أى ذنب لى تضربنى بسببه؟ فقال : لا ذنب لك ، ولكنى أريد إرهاب أهل البلد ، فجملنى بنفسك ساعة ، فضربه خمسمائة سوط ثم أطلقه.

٢٦٠