كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

لأنه ليس معنى عبادة يمكن أن ينفرد بها رجل واحد فى جميع الدنيا ، ولا يشاركه غيره فى تلك العبادة بعينها إلا الطواف ، فإنه يمكن أن ينفرد بها شخص واحد بحسب الظاهر والله أعلم بالسرائر.

حتى حكى إلىّ والدى (رحمه‌الله تعالى) : «أن وليا من أولياء الله تعالى أرصد الطواف الشريف أربعين عاما ليلا ونهارا ؛ ليفوز بالطواف وحده فرأى بعد هذه المدة خلو المطاف الشريف ، فتقدم ليشرع ، فإذا بحية تشاركه فى ذلك الطواف ، فقال لها : ما أنت ممن خلق الله تعالى؟ فقالت : إنى أرصد ما رصدته قبلك بمائة عام ، فقال لها : حيث كنت أنت ممن غير البشر فإنى فزت بالانفراد بهذه العبادة من بين البشر ، وأتم طوافه.

وحكى شيخ معمر من أهل مكة : «أنه شاهد الظباء تنزل من جبل أبى قبيس إلى الصفا وتدخل من باب الصفا إلى المسجد ثم تعود لخلو المسجد من الناس ـ وهو صدوق عندى ـ وكنا نرى سوق المسعى وقت الضحى خاليا من الباعة ، وكنا نرى القوافل تأتى بالحنطة من بجيلة ، فلا يجد أهلها من يشترى منهم جميع ما جلبوه ؛ فكانوا يبيعون ما جاؤوا به بالأجل ، اضطرارا ليعودوا بعد ذلك ، ويأخذوا أثمان ما باعوه ، وكانت الأسعار رخية جدا لقلة الناس ، وعزة الدراهم.

وأما الآن فالناس كثيرون ، والرزق واسع ، والخير كثير ، والخلق مطمئنون آمنون ؛ فى ظلال السلطة الشريفة ، خائضون فى بحر إنعامها ، وإحسانها ، ونعمتها الوفيرة ، أدام الله تعالى سلطنة الزاهرة ، وأطال عمره الشريف ، وخلد دولته القاهرة ، وخلافته الباهرة.

ومكة شرفها الله تعالى يحيط بها جبال لا يسلك إليها الخيل ، والإبل ، والأحمال ؛ إلا من ثلاث مواضع :

أحدها : من جهة المعلا.

والثانية : من جهة الشبيكة.

والثالثة : من جهة المسفلة.

٤١

وأما الجبال المحيطة بها : فيسلك من بعض شعابها الرجال على أقدامهم ؛ لا الخيل ، والجمال ، والأحمال.

وكانت مكة فى قديم الزمان مسورة ، فجهة المعلا : كان بها جدر عريض من طرف جبل عبد الله بن عمر ؛ إلى الجبل المقابل له ، وكان فيه باب من خشب ؛ مصفح بالحديد ؛ هداه ملك الهند إلى صاحب مكة.

وقد أدركنا منها قطعة جدار كان فيه نقوب السيل ؛ قصير دون القامة ؛ وهو على سمة قطعة جدارين ؛ إلى جانبه سبيل على مجرى ذيل عين حنين ، بناه المرحوم المصطفى ؛ ناظر العين ، باسم المرحوم المقدس ؛ السلطان سليمان خان ، سقاه الله تعالى ماء الكوثر ، والسلسبيل فى يوم العطش الأكبر ؛ يوم الميزان ، وجعل فوق السبيل منظرة (١) ، فيها شبابيك من الجهات الأربع ؛ يتنزه الناس فيها ، وذلك باق إلى هذاي اليوم ، وتهدم ما عداه.

وكان فى جهة الشبابيك أيضا سور ؛ ما بين جبلين متقاربين بينهما الطريق السالك إلى خارج مكة ؛ وكان ذلك السور فيه بابان بعقدين ، أدركنا أحد العقدين تدخل منه الجمال والأحمال ، ثم تهدم شيئا فشيئا إلى أن لم يبق منه شىء الآن ، ولم يبق منه إلا فج بين جبلين متقاربين فيه المدخل والمخرج ، وكان سور فى جهة المسفلة فى درب اليمن لم ندركه ولم ندرك آثاره.

ذكر التقى الفاسى ؛ نقلا عمن تقدم : «أنه كان لمكة سور من أعلاها دون السور الذى قد تقدم ذكره قريبا من المسجد المعروف ب : مسجد الراية ، وأنه كان من الجبل الذى إلى جهة الزارق ؛ ويقال له : لعلع ، إلى الجبل المقابل له الذى إلى جهة سوق الليل. قال : وفى الجبلين آثار تدل على اتصال السور». انتهى.

ولم يبق الآن (٢) شىء من آثار هذا السور الثانى مطلقا ، ولعل دور مكة كانت تنتهى إلى هذا الموضع حيث وضع عليه السور ، ثم اتصل العمران ، إلى أن احتيج إلى سور المعلاة.

__________________

(١) المنظرة : مكان من البيت يعد لاستقبال الزائرين ، والمنظرة : القوم الذين ينظرون إلى الشىء. المعجم الوسيط : ٩٦٩.

(٢) فى (س) : إلا.

٤٢

وقال الفاكهى رحمه‌الله : «ومن آثار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد بأعلا مكة يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بناه](١) عند بئر جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل ، وكان الناس لا يتجاوزون فى السكنى فى قديم الدهر هذه البئر ، وما فوق ذلك خال من الناس».

وفى ذلك يقول عمرو بن ربيعة :

نزلت بمكة من قبائل نوفل

ونزلت خلف البئر أبعد منزل

حذارا عليها من مقالة كاشح

ذرب اللسان يقول ما لم يفعل

قلت : المسجد هذا ، هو : مسجد الراية ، موجود يزار إلى الآن.

يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع رايته يوم فتح مكة فيه ، والبئر موجود الآن خلف المسجد ، وقد تجاوز العمران عن حد البئر كثير إلى صوب المعلا.

وأما حدوث هذه الأسوار ، فقد قال التقى الفاسى رحمه‌الله : «ما عرفت متى أنشأت هذه الأسوار بمكة ، ولا من أنشأها ، ولا من عمرها ، غير أنه بلغنى أن الشريف أبا عزيز ؛ قتادة بن إدريس الحسينى ؛ جد ساداتنا أشراف مكة (أدام الله تعالى عزهم وسعادتهم) هو الذى عمرها».

قال : «وأظن أن فى دولته عمر السور الذى بأعلا مكة ، وفى دولته سهلت العقبة التى بنى عليها سور باب الشبيكة ، وذلك من جهة المظفر ؛ صاحب أذبل فى سنة سبع وستمائة ، ولعله بنى السور الذى بأعلا مكة ؛ والله أعلم».

قال : «ورأيت فى بعض التواريخ ما يقتضى : أنه كان لمكة سور فى زمن المقتدر العباسى ، وما عرفت هل هو هذا السور الذى بأعلا مكة وأسفلها ، أو من أحد الجهتين».

قال : «وطول مكة من باب المعلاة إلى باب الماجن ؛ يعنى درب اليمن بالمسفلة ؛ موضع السور الذى كان موجودا فى زمانه طريق المدعى ، والمسعى ،

__________________

(١) سقط من (س).

٤٣

ومسيل وادى إبراهيم ، والسوق الذى يقال له الآن : السوق الصغير مع ما فيه من دورات ولفتات ليست على الاستقامة : أربعة آلاف ذراع ، واثنان وسبعون ذراعا ؛ بتقديم السين ، بذراع اليد ؛ وهو ينقص ثمن ذراع عن ذراع الحديد المستعمل الآن ؛ يعنى الذراع الشرعى.

وطول مكة من باب المعلاة إلى باب الشبيكة من طريق المدعى ، ثم يعدل عنه إلى سويقة ، ثم إلى الشبيكة من طريق المدعى : أربعة آلاف ذراع ومائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا ؛ بتقديم السين ؛ بذراع اليد أيضا».

وقال : «ذكر الزبير بن بكار (١) ، عن أبى سفيان بن وداعة السهمى : أن سعد بن عمر السهمى أول من بنى بيتا بمكة ، وأنشد فى ذلك شعرا منه قوله :

وأول من بوّأ بمكة بيته

وسور فيها ساكنا بأثافى»

__________________

(١) الزبير بن بكار ؛ هو : أبو عبد الله الزبير بن أبى بكر بكار بن عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، من أهل المدينة ، إخبارى ، أحد النسابين ، وكان شاعرا صدوقا ، ومن شعره :

عفى الصبى متجمل الصبر

يرجو عواقب دولة الدهر

جعل المنى سببا لراحته

فيما يسكن لوعة الصدر

حتى إذا ما الفكر راجعه

قطع المنى متبين الهجر

يشكى الضمير إلى جوانحه

بعض الذى يلقى من الفكر

والزبير بن بكار راوية ذو قدر ، ولى قضاء مكة ، ودخل بغداد عدة مرات ، آخرها سنة ٢٥٣ ه‍ ، وتوفى الزبير وهو قاض على مكة ، ودفن بها ليلة الأحد لتسع بقين من ذى القعدة سنة ٢٥٦ ه‍ ، وقد بلغ من السن ٨٤ سنة.

ومن كتبه : أخبار العرب ويامها ، نسب قريش وأخبارها ، نوادر أخبار النسب ، كتاب اللغة للموفق (وهو الموفقيات فى الأخبار) كتاب مزاح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نواذر المدنيين ، كتاب النحل ، العقيق وأخباره ، الأوس والخزرج ، أخبار ابن ميادة ، أخبار الأحوص ، أخبار عمر ابن أبى ربيعة ، أخبار جميل ، أخبار أبى دعبل ، أخبار نصيب ، أخبار العرجى ، أخبار أمية ، أخبار هدبة ، أخبار عبد الرحمن بن حسان ، أخبار هرمة ، أخبار القارئ ، أخبار المجنون ، أخبار ابن أبى السائب ، أخبار حاتم ، كتاب إغارة كثير على الشعراء ، كتاب وفود النعمان على كسرى. روى الزبير عن عمه مصعب بن عبد الله ، ومحمد بن الحسن المحزومى ومحمد بن الضحاك ، وغيرهم كثيرون. الفهرست : ١٦٠ ، ١٦١ ، هدية العارفين : ٥ / ٣٧٢.

٤٤

قال : «وينبغى لمن بنى بمكة بيتا أن لا يرفع بنائه على بنياء الكعبة الشريفة ، فإن بعض الصحابة رضي‌الله‌عنهم كان يأمر بهدمه».

قال الأزرقى : «وإنما سميت (١) الكعبة : كعبة ، لأنه لا يبنى بمكة بناء مرتفع عليها».

ثم قال : «حدثنى جدى ، عن أبى عيينة ، عن أبى شعبة الجمحى ، عن شيبة بن عثمان : أنه كان يشرف ، فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه».

ثم قال : «قال جدى : لما بنى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهم داره التى بمكة قبال المسجد الحرام أمر قومه أن لا يرفعوها على الكعبة ، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة ليكون دونها ؛ إعظاما للكعبة».

قال الأزرقى : «قال جدى : فلم يبنى بمكة دار كبيرة أو غيرها تشرف على الكعبة إلا هدمت ، أو خربت ، إلا هذه الدار ، فإنها باقية إلى اليوم».

انتهى.

* * *

وأما حكم بيع دور مكة وإجارتها :

فقد ذكر الإمام قاضى خان : أنه لا يجوز بيع دورها عند أبى حنيفة رضي‌الله‌عنه فى ظاهر الرواية ، وقيل : يجوز ، مع الكراهة ؛ وهو قول أبى يوسف ومحمد رضي‌الله‌عنهما.

قال صاحب الواقعات ؛ وعليه الفتوى : «وروى الحسن ، عن أبى حنيفة (رضى الله تعالى عنهما) : أن بيع دور مكة جائز ، وفيها الشفعة» ، وهو قول أبى يوسف ؛ وعليه الفتوى ، ذكره فى «عيون المسائل».

قال قوام الدين فى شرح الهداية : «بيع بناء مكة جائز اتفاقا ، لأن بناءها

__________________

(١) فى (س) : سميته.

٤٥

ملك الذى بناه ، ألا ترى أن من بنى فى أرض الوقف جاز أن يبيع بناءه ، فكذا هذا.

وأما بيع أرض مكة فلا يجوز عند أبى حنيفة رضي‌الله‌عنه ، وهو ظاهر الرواية ، وهو قول محمد ، وعند أبى يوسف تجوز ، ورجح الطحاوى قول أبى يوسف.

وقد رأينا المسجد الحرام الذى سواء (١) العاكف فيه والباد ، لا ملك لأحد فيه ، ورأينا مكة على غير ذلك ، فقد يضر البناء فيها.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم دخلها : «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن).

فلما كانت مما يغلق عليه الأبواب ، ويبنى فيها المنازل ، كان صفتها صفة المواضع التى تجرى فيها الأملاك ، ويقع فيها التوارث ، ولا يجوز احتجاج المخالف بقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(٢) ، لأن المراد بالمسجد الحرام ، لا جميع أرض مكة». انتهى ملخصا.

* * *

وأما إجارة دور مكة :

فقد ذكر صاحب التقريب ، وقد روى هشام ، عن أبى حنيفة : «أنه كره إجارة دور مكة ، وقال لهم : أن ينزلوا عليهم فى دورهم إن كان فيها فضل ، وإن لم يكن فلا ؛ وهو قول محمد (رحمه‌الله تعالى)». انتهى.

وروى محمد فى الآثار ، عن أبى حنيفة ، عن عبد الله بن زياد ، عن أبى نجيح ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فكأنما أكل نارا» ، أخرجه الدارقطنى بإسناد ضعيف ، وقال : أنه موقوف.

__________________

(١) فى (س) : هو.

(٢) الآية رقم ٢٥ من سورة الحج ، مدنية.

٤٦

وروى : أنه كره إجارتها لأهل الموسم ، ولم يكره للمقيم ، لأنى أهل الموسم لهم ضرورة إلى النزول ، والمقيم لا ضرورة له.

وعن عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) : أنه نهى أن يغلق بمكة باب دون الحاج ، فإنهم ينزلون كلما رأوه فارغا.

وعن عمر بن عبد العزيز فى خلافته إلى أمير مكة : أن لا يدع أهل مكة أن يأخذوا ذلك خفية ومساترة.

وهذا مبنى على أصل ، وهو : أن فتح مكة إن كان عنوة فتكون مقسومة ، ولم يقسمها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّرها على ذلك ، فتبقى على ذلك لا تباع ، ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع فهو أولى به ؛ وبهذا قال أبو حنيفة ، ومالك ، والأزرعى رضي‌الله‌عنهم ؛ إن كان فتحها صلحا ، فتبقى ديارهم بأيديهم ، ثم يتصبرفون فى أملاكهم كيف شاؤوا سكنا ، وإسكانا ، وبيعا ، وإجارة ، وغير ذلك ؛ وبه قال الإمام الشافعى ، وأحمد (رضى الله تعالى عنهما) ، وطائفة من المجتهدين ، وعلى ذلك عمل الناس قديما وحديثا.

* * *

وأما أسماء مكة المشرفة :

فإنها سميت بها لقلة مائها ، من قولهم : أمتك (١) الفصيل ما فى ضرع أمه ، إذا لم يبق فيها شيئا ، وكذلك تسمى المعطشة ، أو لأنها تنقص الذنوب أو تنقيها.

ومن أسمائها : بكة ، لأنها تبك أعناق الجبابرة ؛ أى تكسرها.

ومنها : العروض ؛ بفتح المهملة ، ولذلك سمى علم عروض الشعر : عروضا ، لأن الخليل بن أحمد (٢) اخترعه بمكة ، فسماه باسمها ، والبلد الأمين ، والقرية ، وأم القرى.

__________________

(١) امتك العظم : مكّة ، امتك الفصيل ما فى بطن أمه : استقصاه بالمعنى. المعجم الوسيط : ٩١٦.

(٢) الخليل بن أحمد ؛ هو : الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدى ، أبو عبد ـ

٤٧

قال المحطب : «سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء ؛ مكة ، وبكة ، والقرية ، والبلد ، وأم القرى».

قال ابن عباس : «سميت : أم القرى ، لأنها أعظم القرى شأنا».

وقيل : لأن الأرض دحيت من تحتها.

ومن أسمائها : كوثى ، وأم كوثى ، لأن كوثى اسم لمحل من قعيقعان ،

وقاران ، والمقدمية ، وقرية النمل ؛ لكثرة نملها ، والحاطمة ؛ لحطمها للجبابرة (١) ، والوادى ، والحرم ، والعريش ، وبرة ، وصلاح ؛ مبنى على الكسر كخدام وقطام.

ومن أسمائها : طيبة أيضا.

ومنها : معاد ؛ بفتح الميم ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٢) ، لما فى الصحيحين ، عن ابن عباس (رضي‌الله‌عنهما : لرادك إلى معاد ، قال : إلى مكة.

ومن أسمائها : الباسّة ؛ بالباء الموحدة ، والسين المهملة المشددة ، قاله مجاهد ، لأنها تبسّ من ألحد فيها ؛ أى : تهلكه ؛ لقوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا)(٣).

وتسمى : الناشة أيضا ؛ بالنون والشين المعجمة ، أى : تنش ؛ بتشديد آخرها ، أى تطرد من ألحد فيها ، وتنفيه ، ولها أسام غير ما ذكرناه.

وللمجد الفيروزبادى رسالة فى أسمائها.

قال الإمام النووى (٤) (رضى الله تعالى عنه) : ولا يعرف فى البلاد بلد

__________________

ـ الرحمن البصرى ، العروضى النحوى اللغووى ، ولد سنة ١٠٠ ه‍ ، وتوفى سنة ١٧٠ ه‍. من تصانيفه : فائت العين فى اللغة ، كتاب الإيقاع ، كتاب الشواهد ، كتاب العروض ، كتاب العين فى النحو واللغة ، كتاب النغم ، كتاب النقط والشكل. هدية العارفين : ٥ / ٣٥٠.

(١) فى (س) : للجبارة.

(٢) الآية رقم ٨٥ من سورة القصص ، مدنية.

(٣) الآية رقم ٥ من سورة الواقعة ، مكية.

(٤) النووى ؛ هو : يحيى بن شرف بن مرى بن حسن الخزامى الحورانى ؛ النووى ـ

٤٨

أكثر أسماء من (١) مكة والمدينة ؛ لكونهما أشرف الأرض ، وقال عبد الله المرجانى (رحمه‌الله تعالى) فى تاريخه للمدينة ، بعد ذكره لأسماء مكة : ومن الخواص لقطع الرعاف إذا (٢) كتب بدم الرعاف على جبين المرعوف : «مكة وسط الدنيا والله رؤوف بالعباد» انقطع الدم.

* * *

وأما فضل مكة (شرفها الله تعالى):

فاعلم : أن مكة والمدينة زادهما الله شرفا وتعظيما أفضل بقاع الأرض بالإجماع.

وذكر القاضى عياض : أن موضع قبر نبينا (عليه أفضل الصلاة والسلام) أى ما ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض بالإجماع ؛ لحلول سيد الأنبياء والمرسلين (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام).

وفيه قال السكرى (رحمه‌الله تعالى) :

جزم الجميع بأن خير الأرض ما

قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا مكانتها علت

كالنفس حين زكت زكى مأواها

ثم اختلف العلماء (رحمهم‌الله تعالى) فى أن مكة شرفها الله تعالى أفضل أم المدينة الشريفة عظمها الله تعالى.

فذهب الإمام الأعظم ؛ أبو حنيفة ، وأصحابه ، والإمام الشافعى ، وأصحابه ، والإمام أحمد بن حنبل ، وأصحابه (رضى الله تعالى عنهم) :

__________________

ـ الشافعى ؛ أبو زكريا ؛ محيى الدين ، علامة بالفقه والحديث ، ومولده ووفاته فى نوا (من قرى حوران بسورية) ، وإليها نسبته ، تعلم النووى فى دمشق ، وأقام بها زمنا طويلا. من كتبه : منهاج الطالبين ، الدقائق ، تصحيح التنبيه ، المنهاج فى شرح صحيح مسلم ، التقريب والتيسير ، حلبة الأبرار (يعرف بالأذكار) رياض الصالحين ، بستان العارفين ، خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام ، وغيرها كثير. ولد النووى سنة ٦٣١ ه‍ ، وتوفى سنة ٦٧٦ ه‍. انظر كتاب : الأعلام : ٨ / ١٤٩.

(١) فى (س) : من أسماء.

(٢) فى (س) : إذ.

٤٩

أن مكة أفضل من المدينة زادها الله تعالى شرفا وتعظيما ؛ لحديث عبد الله بن الزبير (رضى الله تعالى عنه) : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فى مسجدى» رواه أحمد بن حنبل ، وابن حبان فى صحيحه.

ولا يرتاب فى الفضائل التى أثبتها الله تعالى لبلده الحرام ، فجعل فيها بيته المعظم الذى إذا قصده عباده حط عنهم أوزارهم ، ورفع درجاتهم ، وجعلها قبلة للمسلمين أحياء وأمواتا ، وفرض الحج إلى من استطاع إليه سبيلا مرة فى عمره وفى كل عام على الناس أجمعين ؛ فرض كفاية ، وحرمها يومي خلق السماوات والأرض ، ولا يدخلها إلا بالإحرام ، وهو مثوى إبراهيم وإسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) ، ومسقط رأس خير الأنام عليه‌السلام ، ومحل إقامته قبل النبوة وبعدها ثلاثة عشر عاما ، ومحل نزول أكثر القرآن ، ومهبط الوحى ، ومظهر الإيمان والسلام ، ومنشأ الخلفاء الراشدين (رضى الله تعالى عنهم أجمعين) ، وبها الحجر الأسود والزمزم والمقام ، وغير ذلك من المزايا العظام ، ولقد قال القائل :

أرض بها البيت المحرم قبلة

للعالمين له المساجد تعدل

حرم حرام أرضها وصيودها

والصيد فى كل البلاد محلل

وبها المشاعر والمناسك كلها

وإلى فضلها البرية ترحل

وبها المقام وحوض زمزم شربها

والحجر والركن الذى لا يرحل

والمسجد العالى المحرم والصفا

والمشعران لمن يطوف ويرمل

وبمكة الحسنات ضوعف أجرها

وبها المسئ عن الخطايا يغسل

وقال الإمام مالك (رضى الله تعالى عنه) : المدينة أفضل من مكة ؛ لما روى أن النبى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم :) قال حين خروجه من مكة إلى المدينة : «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجونى من أحب البلاد إلىّ فأسكنى أحب البلاد إليك» رواه

٥٠

الحاكم فى المستدرك. وما هو أحب البقاع إلى الله يكون أفضل. والظاهر : استجابة دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أسكنه الله المدينة الشريفة ؛ فتكون أفضل البقاع ، وله أدلة أخرى من الأحاديث الشهيرة ، وبين الطائفتين نزاع ومشاحنات ؛ والله أعلم.

* * *

وأما حكم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى :

فذهب إمامنا الأعظم ؛ أبو حنيفة (رضى الله تعالى عنه) ، وبعض أصحاب الشافعى ، وجملة من المحتاطين فى دين الله (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) كراهة المقام بمكة وذلك لخوف سقوط حرمة البيت الشريف فى نظره ، وقلة الاحترام بالأنس والبسط إلى أن يذهب من قلبه الاحترام والهيبة بالكلية ، فيصير بيت الله الحرام فى نظره القاصر كسائر البيوت والعياذ بالله تعالى ، أو ينقص الهيبة والحرمة الأولى فى نظره كما هو شأن سائر الناس فى الأكثر إلا من عصمه الله تعالى ، وحيث كان هو الأكثر من حكم الناس أنيط به حكم الكراهة ، فإقامة المسلم فى وطنه وهو مشتاق إلى مكة باق حرمتها فى نظره خير له ، وأسلم من مقامه بمكة من غير الاحترام لها ، أو مع نقصان احترامه ؛ وهذا ملحظ إمامنا الشافعى رضي‌الله‌عنه ولهذا كان عمر رضي‌الله‌عنه يدور على الحاج بعد قضاء النسك بالدرة ، ويقول : يا أهل اليمن يمنكم ، ويا أهل الشام شامكم ، ويا أهل العراق عراقكم ؛ فإنه أبقى لحرمة ربكم فى قلوبكم.

وقال أبو عمرو الزجاجى : من جاور بالحرم وقلبه متعلق بما سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه.

وقال بعض السلف : كم من رجل بخراسان وهو أقرب إلى هذا البيت ممن يطوف به ، وقال : وقيل :

وكم من بعيد الدار نال مراده

وكم من قريب الدار مات كئيبا

وقال ابن مسعود : ما من بلد يؤاخذ فيه بالهم قبل العمل إلا مكة.

٥١

وتلا قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(١).

ولقد اختار حبر الأمة ؛ سيدنا عبد الله بن عباس (رضى الله تعالى عنهما) المقام بالطائف وما حوله على مكة ، وقال : لأن أذنب سبعين ذنبا بغير مكة أحب إلىّ من أن أذنب ذنبا واحدا بمكة.

وذهب بعض العلماء إلى القول بتضاعف السيئات بأرض الحرم كما تضاعف الحسنات.

وجاور أبو محمد الجوهرى سنة بمكة فلم يستند إلى حائط ، ولم ينم ، فقيل له : بم قدرت على هذا؟ فقال : علم الله صدق باطنى ، وأعاننى على ظاهرى.

وبقى أبو عمرو الزجاجى الصوفى أربعين سنة مجاورا بمكة لم يقض حاجته البشرية فى الحرم ، بل كان يخرج إلى الحل عند قضاء الحاجة.

وهكذا يروى عن الإمام أبى حنيفة رضي‌الله‌عنه فى مدة إقامته بمكة ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحجون ثم يرجعون ، ويعتمرون ثم يرجعون ، ولا يجاورون ؛ ذكره عبد الرزاق فى مصنفه.

وروى عن وهب بن الوردى المكى (رحمه‌الله تعالى) قال : كنت ذات ليلة أصلى فى الحجر ، فسمعت كلاما بين الكعبة والأستار خفيا ، فاستمعت ، فإذا هى تناجى وتقول : إلى الله أشكو ثم إليك يا جبريل ممن حولى ؛ من سمرهم وتفكههم باللغو وذكر أحوال الدنيا والاغتياب والخوض فيما لا ينبغى لهم ، واللهو ، والغيبة ، لئن لم ينتهوا عن ذلك لأنتقض انتقاضة يرجع كل حجر منى إلى الجبل الذى قطع منه.

وسئل الإمام مالك (رضى الله تعالى عنه) عن الحج والجوار أحب إليه (٢) أو الرجوع.

فقال : ما كان الناس إلا على الحج والركوع ، وفيهم ابن زيد ، من هذا اقتضى كراهية المجاورة عنده.

__________________

(١) الآية رقم ٢٥ من سورة الحج ، مدنية.

(٢) فى (س) : إليك.

٥٢

والظاهر (١) : أنه لا يقتضيه ؛ والله تعالى أعلم.

وذهب الإمام أبو يوسف ، ومحمد ، والإمام الشافعى ، والإمام أحمد بن حنبل (رضى الله تعالى عنهما) إلى استحباب المجاورة بها فى قولهم : وإنه الأفضل ، قال : وعليه عمل الناس.

وحكى الفارسى فى منسكه عن المبسوطات : الفتوى على قولهما.

وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من صبر على حر مكة ساعة تباعدت النار عنه مسيرة مائة عام».

وعن سعيد بن جبير : «من مرض بمكة يوما كتب له من العمل الصالح الذى يعمله فى سبع سنين ، فإن كان غريبا ضوعف ذلك» رواهما الإمام الفاكهى (رحمه‌الله تعالى).

ومحصل ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه من كراهة المجاورة مبنى على ضعف الخلق عن مراعاة حرمة الحرم الشريف ، وقصورهم عن الوفاء بقيام حق البيت العتيق ، فمن أمكنه الاحتراز عن ذلك ، وعرف من نفسه القدرة على الوفاء بحرمة بيت الله تعالى ، وتعظيمه وتوقيره على وجه تبقى معه حرمة البيت الريف وجلالته وهيبته وعظمته فى عينه وقلبه كما كان عند دخوله فى الحرم الشريف ، ومشاهدة بيت الله تعالى ، فالإقامة بها هى الفضل العظيم والفوز الكبير.

ولا شك فى تضاعف الحسنات ، وأما تضاعف السيئات : فأكثر العلماء على عدم تضاعفها.

ولا شك فى تردد سائر الأولياء إليها فى الأوقات الفاضلة ، فمن لمح أحدهم ، أو لمحه نال السعادة العظمى ، ووردانهم يحضرون الجمعة ، والأوقات الشريفة ، ويحجون كل عام ؛ فكان دأب والدى رحمه‌الله قبل أن يكف نظره أن يبادر يوم النحر بعد رمى جمرة العقبة إلى مكة ، ويجلس

__________________

(١) فى (س) : والظاهرة.

٥٣

فى الحطيم تجاه بيت الله تعالى ، ويخلط الطائفين بنظره ، ويستمر جالسا هناك إلى صلاة المغرب ، فيطوف بعد صلاة المغرب ويسعى ، ويعود إلى منى ، وكان يقول : إن أولياء الله لا بد أن يحجوا كل سنة ويفعل الأفضل ، وهو : ألا يتأن بطواف الزيارة فى أول يوم النحر ، فأبادر إلى النزول من منى فى ذلك اليوم ، وأجلس فى الحطيم أشاهد الطائفين ؛ لعل أن يقع نظرى على أحدهم ، أو يقع نظره علىّ ، فيحصل لى بذلك بركتهم.

ويستمر على ذلك إلى أن كف بصره (رحمه‌الله تعالى) ، فكنا نذهب به ، ونجلسه فى الحطيم ، ويقول : إن كنت لا أنظرهم ، فلعل أن يقع نظرهم علىّ ، فيحصل لى بركتم ، واستمر على ذلك إلى أن توفى (رحمه‌الله تعالى).

يخفون أنفسهم عن أعيني الناس فلا يراهم إلا من أسعده الله تعالى ؛ المسئول أن يجعلنا من سعداء الدنيا والآخرة ، بمنّه وكرمه ، إن شاء الله ، آمين.

* * *

٥٤

الباب الثانى

فى بناء الكعبة المشرفة

(زادها الله تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما)

قال قاضى القضاة ؛ السيد تقى الدين محمد بن أحمد بن على الحسنى المكى الفاسى فى كتابه «شفاء الغرام» (١) : لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات ، وقد اختلف فى عدد بنائها.

ويستحصل من مجموع ما قيل فى ذلك : أنها بنيت عشر مرات ، وهى : بناء الملائكة ، وبناء آدم عليه‌السلام ، وبناء أولاده ، وبناء الخليل إبراهيم عليه‌السلام ، وبناء العمالقة ، وبناء جرهم ، وبناء قصى بن كلاب ؛ جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبناء قريش قبل بعث النبى عليه‌السلام وعمره الشريف يومئذ خمس وعشرون سنة ، وبناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدى ، وآخرها : بناء الحجاج بن يوسف الثقفى.

وفى إطلاق العبارة أن بناء الكعبة يجوز ، فإن بعضها لم يستوعبها (٢) البناء كالبناء الآخر ، وهو : بناء الحجاج ، فإنه إنما انهدم جانب الميزاب (٣) فقط وأعاده ، وأبقى الجوانب الثلاث ، وهى جهة الباب ، وجهة المستجاز

__________________

(١) شفاء الغرام ؛ هو : شفاء الغرام تاريخ بلد الله الحرام ، لتقى الدين محمد بن أحمد بن على الحسنى الفاسى ، المتوفى سنة ٨٣٢ ه‍ ، ألفه على نمط تاريخ الأزرقى ، وحذف منه أسانيد الأحاديث ، والكتاب فى أربعين بابا زاد فيها الفاسى ما جد بعد الأزرقى ، واختصره الفاسى مرارا. وقد قمنا بتحقيق هذا الكتاب ، وهو تحت الطبع ، وقام بتحقيقه هشام عبد العزيز عطا ، وعادل عبد الحميد العدوى ، وشرف أحمد الجمال ، وكان التحقيق تحت إشراف سعيد عبد الفتاح.

(٢) فى (س) : يستوعيهما.

(٣) فى (س) : الميزان.

٥٥

الذى يقابل الباب ، وجهة الصفا المقابل لجهة الميزاب ؛ فإنها باقية على بناء عبد الله بن الزبير.

فأما بناء الكعبة الشريفة ؛ وهو أول بنائها :

فذكر الإمام أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد الأزرقى فى تاريخه ، قال : «حدثنا عبد الله بن مسلم العجلى ، عن أبيه ، حدثنا القاسم بن عبد الله الأنصارى ، [حدثنا](١) الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الحسين بن أمير المؤمنين ؛ علىّ بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، قال : كنت مع أبى ؛ علىّ بن الحسين عليه‌السلام بمكة ، فبينما هو يطوف وأنا وراءه إذ جاء رجل طويل ، فوضع يده على ظهر يأبى ، فالتفت أبى إليه ، فقال الرجل : السلام عليك يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنى أريد أن أسألك ، فرد عليه‌السلام ، وسكت أبى والرجل خلفه ، حتى فرغ من أسبوعه ، فدخل الحجر ، فقام تحت الميزاب ، وصلى ركعتى أسبوعه ، ثم استوى قاعدا ، فالتفت إلىّ ، فجلست إلى جانبه ، فقال : يا محمد ، أين السائل؟ فأومأت إلى الرجل ، فجاء فجلس بين يدى ، فقال أبى : عم تسأل؟ فقال : إنى أسألك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت ، فقال له أبى : من أين أنت؟ قال : من أهل الشام ، قال : أين مسكنك؟ قال : بيت المقدس ، قال : أقرأت الكتابين ـ يعنى التوراة والإنجيل ـ؟ قال : نعم ، قال له أبى : يا أخا الشام (٢) ، احفظ عنى ، ولا ترو عنى إلا حقا ، أما بدؤ هذا الطواف : فإن الله تعالى قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٣).

فقالت الملائكة : أى يا رب ، أتخلق غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون؟!

أجعل ذلك الخليفة منا ، فنحن لا نفسد فيها ولا نسفك الدماء ولا نتباغض

__________________

(١) سقط من (س).

(٢) فى (س) : الشامى.

(٣) الآية رقم ٣٠ من سورة البقرة ، مدنية.

٥٦

ولا نتحاسد ولا نتباغى ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعظمك ولا نعصيك (١).

فقال الله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

قال : فظنت الملائكة أن ما قالوا رد على ربهم ، وأنه قد غضب من قولهم ، فلاذوا بالعرش ، ورفعوا رؤوسهم يتضرعون ويبكون ؛ إشفاقا من غضبه ، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات ، فنظر الله تعالى إليهم ، ونزلت الرحمة عليهم ، ووضع الله سبحانه وتعالى تحت العرش بيتا ؛ وهو البيت المعمور على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء.

وقال للملائكة : طوفوا بهذا البيت ، وصار أهون عليهم من العرش.

ثم إن الله تبارك تعالى بعث ملائكة ، وقال لهم : ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وقدره ، وأمر الله تعالى من الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما طاف أهل السماوات بالبيت المعمور ، فقال الرجل : صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هكذا كان». انتهى.

قلت : هذا الحديث الشريف يدل على أن بناء الملائكة عليهم‌السلام للكعبة الشريفة كان قبل خلق الأرض ، ولنا أحاديث دالة على أن الكعبة خلقت قبل الأرض بأربعين سنة فى رواية ، وبألفى عام فى رواية.

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهى المكى فى أوائل «تاريخ مكة» : «حدثنى عبد الله بن سلمة الواقدى ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن بشر بن عاصم الثقفى ، عن سعيد بن المسيب ، قال : حدثنا على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه : خلق الله تعالى البيت قبل الأرض والسماوات بأربعين سنة ، وكان غثاء على الماء».

وقال الفاكهى : «وحدثنى عبد الله بن أبى سلمة ، قال : حدثنا النضر بن شميل ، قال : حدثنا بن معد ، عن سعيد ، ونافع مولى الزبير ، عن

__________________

(١) فى (س) : نعصك.

(٢) الآية رقم (٣٠) من سورة البقرة ، مدنية.

٥٧

أبى هريرة (رضى الله تعالى عنهم) أنه قال : الكعبة خلقت قبل الأرض بألفى ، قيل : وكيف خلقت قبل الأرض وهى من الأرض؟ فقال : لأنه كان عليها ملكان يسبحان بالليل والنهار ألف سنة ، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها من تحت الكعبة ، فجعلها فى وسط الأرضين.

قال : وحدثنى عبد الله بن أبى سلمة ، قال : حدثنا الواقدى ، قال : حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة ؛ أنه سمع مجاهدا يقول : إن قواعد البيت خلقت قبل الأرض بألفى سنة ، ثم بسطت الأرض من تحته.

أقول : وظهر مما رويناه : أن موضع البيت الشريف خلق قبل الأرض ، لا نفس بناء الكعبة ؛ فإنه أول ما بنته الملائكة بأمر الله تعالى ، كما سقناه ؛ والله تعالى أعلم.

الثانى : فى بناء آدم عليه‌السلام ، وقد ذكره الإمام أبو الوليد الأزرقى ، فقال : «حدثنى جدى ، عن سعيد بن سالم ، عن طلحة بن عمرو الحضرمى عن عطاء بن أبى رباح ؛ بفتح الراء ، والموحدة بعدها ألف ثم حاء مهملة ، عن ابن عباس (رضى الله تعالى عنهما) قال : لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض من الجنة ، قال : يا رب إنى لا أسمع أصوات الملائكة ، قال : بخطيئتك يا آدم ، ولكن اذهب فابن لى بيتا فطف به ، واذكرنى حوله كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى ، قال : فأقبل آدم عليه‌السلام يتخطى الأرض ، فطويت له ، ولم يضع قدمه فى شىء.

وأن جبريل عليه‌السلام ضرب بجناحه الأرض ، فكشف عن أساس ثابت على الأرض السابعة ، فقدمت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا ، وأنه بناه من خمسة أجبل ؛ من لبنان ، وطور زيتا ، وطور سينا ، والجودى ، وحراء ، حتى استوى على وجه الأرض ؛ وهذا يدل على أن آدم عليه‌السلام إنما بنى أساس الكعبة حتى ساوى وجه الأرض ، ولعل ذلك بعد دثور ما بنته الملائكة بأمر الله تعالى ولا ثم ، أنزل الله تعالى البيت المعمور لآدم عليه‌السلام يستأنس به ، فوضعه على أساس الكعبة ، ويدل على ذلك ما رواه الوليد الأزرقى (رحمه‌الله تعالى)

٥٨

فى تاريخه ، قال : حدثنى أبى ، عن جدى ، قال : حدثنا سعيد بن سالم ، عن عثمان بن ساج ، قال : بلغنى : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، قال لكعب : يا كعب ، أخبرنى عن البيت الحرام؟ قال كعب : أنزل الله تعالى ياقوتة من السماء مجوفة مع آدم ، فقال له : يا آدم ؛ إن هذا بيتى أنزلته معك يطاف حوله كما يطاف حول عرشى ، ويصلون حوله كما يصلى حول عرشى.

ونزلت معه الملائكة ، فرفعوا قواعده من حجارة ، ثم وضع البيت عليه ، فكان آدم عليه‌السلام يطوف حوله كما يطاف حول العرش ، ويصلى عنده (١) كما يصلى عند العرش(٢).

فلما أغرق الله قوم نوح رفعه إلى السماء ، وبقيت قواعده.

وقال الأزرقى أيضا : «حدثنى أبى ، قال : حدثنى محمد بن يحيى ، عن عبد العزيز بن عمر ، عن عمر بن معروف ، عن عبد الله بن أبى زياد ، أنه قال : لما أهبط الله تعالى آدم عليه‌السلام من الجنة ، قال : يا آدم ؛ ابن لى بيتا بحذاء بيتى الذى فى السماء ، تتعبد فيه يأنت وولدك ، كما تتعبد ملائكتى حول عرشى ، فهبطت عليه الملائكة ، فحفر حتى بلغ الأرض السابعة ، فقذفت فيه الملائكة الصخر (٣) حتى شرف على وجه الأرض ، وهبط آدم بياقوتة حمراء مجوفة ؛ لها أربعة أركان بيض ، فوضعها على الأساس ، فلم تزل الياقوتة كذلك حتى كان زمان الطوفان ، فرفعها الله تعالى».

وقال الأزرقى أيضا : «حدثنى محمد بن يحيى ، عن إبراهيم بن محمد ، عن يحيى ، عن أبى المليح ، أنه قال : كان أبو هريرة يقول : حج آدم فقضى المناسك ، فلما حج قال : يا رب ، إن لكل عامل أجرا ، قال الله تعالى : أما أنت يا آدم فقد غفرت لك ، وأما ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت ، فباء

__________________

(١) فى (س) : عنده حوله.

(٢) فى (س) : عند حول.

(٣) فى (س) : للصخر.

٥٩

بذنبه ، غفرت له ، فاستقبلته الملائكة بالردم ، قالوا : برّ الله حجك يا آدم ، قد حججنا هذا البيت قبلك بألقى عام ، قال : وما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. قال : فكان آدم عليه‌السلام إذا طاف يقول هذه الكلمات ، وكان طواف آدم سبعة أسابيع بالليل وخمسة بالنهار.

قال نافع : وكان ابن عمر رحمه‌الله يفعل ذلك.

قال الأزرقى أيضا : «حدثنى محمد بن يحيى ، عن ابن عمر ، قال : حدثنى هشام بن عبد الرحمن ، وسليمان المخزومى ، عن عبد الله بن أبى سليمان ؛ مولى بنى مخزوم ، أنه قال : طاف آدم عليه‌السلام سبعا بالبيت ، ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم ، وقال : اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى ، فأقبل معذرتى ، وتعلم ما فى نفسى وما عندى ، فاغفر لى ذنوبى ، وتعلم حاجتى فاعطنى سؤلى ، اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبنى إلا ما كتبت لى ، والرضا بما قضيت علىّ.

قال : فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم قد دعوتنى بدعوات فاستجبت لك ، ولم يدعنى بها أحد من ولدك إلا كشفت همومه وغمومه ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، واتجرت له من وراء كل متاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة ؛ وإن كان لا يريدها.

قال : فمنذ طاف آدم عليه‌السلام كانت سنة الطواف.

الثالث : بناء أولاد آدم عليه‌السلام الكعبة المعظمة :

روى الأزرقى بسنده إلى وهب بن منبه ، قال : «لما رفعت الخيمة التى عزى الله بها آدم عليه‌السلام من حلية الجنة حين وضعت له بمكة فى موضع البيت ، ومات آدم ، فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة ، فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم ، حتى كان زمن نوح عليه‌السلام فنسفه الغرق ، وغير مكانه حتى بوأ لإبراهيم». انتهى.

٦٠