كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

أيامه إلى أن خلع نفسه ، وبويع لولده أبى بكر عبد الكريم فى سنة ٣٧٢ ه‍ ، ولقب «الطائع لله» ، وكان مغلوبا عليه من قبل أمرائه ، وما كان له إلا العظمة الظاهرة ـ لا غير ـ.

بحيث لما وررد فى سنة ٣٩٩ ه‍ رسول العزيز بالله من المعز العبيدى صاحب مصر إلى بغداد يسأل عهد الدولة بن بويه وهو ـ يومئذ ـ ملقب بالسلطنة من الطابع وبيده أمر المملكة أن يزيد فى ألقابه ، ويقال له : تاج الملة ويحدد عليه خلع ويلبسه التاج ، فأجابه إلى ذلك فجلس الطائع على سرير عال وأوقف حوله مائة سيف مسلولة ، وبين يديه مصحف عثمان (رضى الله تعالى عنه) ، وعلى كتفه بردة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان ذلك مما يتوارثه الخلفاء ويجعلونه لمواكبهم العامة ـ واحتجب بستارة عالية حتى لا يقع عليه نظر الجند قبل رفع الستارة ، وحضر الجند من الأتراك والديلم ، ووقف أرباب الستارة صفين ثم أذن لعضد الدولة ، فدخل ثم رفعت الستارة ، وقبل الأرض وأدخل رسول العزيز صاحب مصر فارتاع وأهاله ما رأى وقال لعضد الدولة : هذا هو الله تعالى؟ فقال له : هذاي خليفة الله فى أرضه ، ثم استمر يمشى ويقبل الأرض سبع مرات فالتفت الطابع إلى خادمه المقرب عنده واسمه «خالص» ، وقال له : «استدنه» ، فقربه إلى رجل السرير وقبل رجله فثنى الطابع يمينه على رأس عضد الدولة ، وأمر أن يجلس على كرسى مرصع وضع له قريبا من السرير ، فاستعنى عضد الدولة من ذلك ، فأقسم عليه ليجلس! فقبل الكرسى ثم جلس عليه ، فلما استقر جالسا قال له الطايع : «قد فوضت إليك ما وكل الله تعالى إلىّ من أمور العية فى شرق الأرض وغربها» ، فقال : ليعيننى الله تعالى على طاعة أمير المؤمنين ، وقبل الأرض فأمر أن يفاض عليه سبع خلع ، فأفيضت عليه وهو يقبل الأرض فى كل واحدة ، وانصرف الناس من خلفه ، وقد أهالهم ما رأوه واستعظموا ما شاهدوه.

٢٠١

وما كانت هذه العظمة إلا صورة صناعية وكلفة اصطناعية حقيقتها واهية وقوتها واهنة ، فإن السلطنة لما آلت إلى نصر بن بويه ركب الطايع إليه ، وخلع عليه سبع خلع فطوقه بطوق مجوهر سوره بسوارين ولقبه «بهاء الدولة وضياء الملة فى سنة ٣٧٩ ه‍ ثم فى سنة ٣٨١ ه‍ جاء بهاء الدولة إلى الطائع وقبل الأرض بين يديه وجلس على الكرسى ، وأمر خدامه من الديلم فجذبوا الطائع من سريره ولفوه فى كساء وأمره بهاء الدولة أن يخلع نفسه ففعل.

وأتى بأبى العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله ولقبه «القادر بالله» (١) وبويع له بالخلافة لعشر مضين من رمضان فى ذلك العام ، وكان على غاية من العبادة والديانة والفضل ، وصنف كتابا فى الرد على القائلين بخلق القرآن ، وأمر أن يقرأ فى كل جمعة فى خلق أصحاب الحديث بحضرة الناس ، وعده ابن الصلاح فى علماء الشافعية ، وذكره فى طبقاته فطالت مدة خلافته حتى أنافت على إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر.

وتوفى إلى رحمة الله تعالى فى سنة ٤٢٧ ه‍ ، وولى بعده بعهد منه أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله ولقبه «القائم بأمر الله» (٢) ، وكان خيرا دينا باهرا ، إلا أنه مغلوب بيد أمرائه ، وطالت مع ذلك مدة خلافته وكانت خلافته ٤٠ سنة ، وكانت وفاته فى شعبان سنة ٤٦٧ ، وولى الخلافة بعده حفيده أبو القاسم عبد الله بن القائم بأمر الله ، ولقب «المقتدى بالله» وبويع له بالخلافة بعد وفاة جده بحضرة الإمام الكبير المولى الشهير مولانا أبى

__________________

(١) القادر بالله ؛ هو : أبو العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة ، أمه أم ولد تسمى «يمن». ولد سنة ٣٣٦ ه‍ ، بويع بالخلافة سنة ٣٨١ ه‍ ، وتوفى سنة ٤٢٢ ه‍ ، وقيل : ٤٢٣ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٧.

(٢) القائم بأمر الله ؛ هو : أبو جعفر عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة بن المتوكل. أمه أم ولد تسمى «قطن». بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه القادر سنة ٤٢٢ ه‍ ، ومات سنة ٤٦٧ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

٢٠٢

إسحاق الشيرازى ، أحد أركان أئمة الشافعى رضي‌الله‌عنه ، وكان خيرا دينا من نجباء بنى العباس وصالحيهم.

* * *

فصل

ومن جملة صلاحه وبركته :

أن السلطان «ملكشاه» من آل «سبكتكين» قصد أن يتحكم عليه ، ويظهر الحيف على الخليفة المذكور فأرسل إليه وهو يقول : «لا بد أن تترك لى بغداد وتذهب إلى أى بلد شئت» ، فأرسل الخليفة إليه يتلطف به فى ذلك فأبى إلا شدة وغلظة ، فقال لرسوله : اسأله المهلة لى ولو شهر» ، فأبى ، وقال : ولا ساعة! ، فأرسل إليه وزيره فاستمهله عشرة أيام فأمهله ، فصار الخليفة يصومك النهار ، ويقوم الليل ، ويتضرع إلى الله تعالى ، ويضع خده على التراب ، ويناجى رب الأرباب ، ويدعو (١) على ملكشاه ، فنفذ دعاءه وهو مظلوم نفوذ السهم المسموم فى كبد المظلوم ، واستجاب الله دعاءه ، وتقبل ضراعته ، فهلك السلطان ملكشاه قبل مضى عشرة أيام ، وكفاه الله تعالى شره.

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢).

وعدت هذه كرامة للخليفة المقتدى ، وهذه عقبى كل ظالم ومعتدى ، فرحم الله تعالى من قال :

وكم لله من لطف خفى

يدق خفاه عن فهم الذكى

وكم يسر أتى من بعد عسر

وفرج كربة القلب الشجى

وكم أمر تساء به صباحا

وتأتيك المسرة بالعشى

إذا ضاقت بك الأحوال يوما

فثق بالواحد الأحد العلى

تمسك بالنبى فكل هم

يزال إذا تمسك بالنبى

__________________

(١) فى (س) : ولا يدعو.

(٢) الآية رقم ٤٦ من سورة فصلت ، مكية.

٢٠٣

وكذا من قال :

لا تشتغل بهموم القلب مكتئبا

ولا تبيتن إلا خالى البال

ما بين غمضة عين وانتباهتها

يغير الله من حال إلى حال

ولكل شىء سبب من الأسباب ، وعلة يدور عليها التقلب والانقلاب.

وكان سبب ضعف خلفاء بنى العباس استيلاء مماليكهم وأمرائهم عليهم ، وتفويض جميع أمور المملكة إليهم وتلقبهم بألقاب السلطان وفرط إدلالهم على موالبهم وامتهانهم غاية الامتهان إلى أن صاروا سمايلا مسميات وصورا هيولانية يتصور فيها بالمحو والإثبات.

وصاروا أمراءهم يغثونهم ويغشونهم ويصل أرباب الفرض إلى أغراضهم الفاسدة لما يرشونهم.

فأول زال الملك المنتصر بالله ـ كان له ولدان أحدهما يسمى بالخفاجى وكان شديد الرأى شجاعا صعب المراس ، والثانبى المعتصم بالله وكان هينا ضعيف الرأى ، فاختاره الأمير إقبال الشرانى على أخيه الخفاجى ليستبد بالأمور ويستقبل بأحوال الملك ولا يناله مكروه من المعتصم ولا يخشاه كما يخشاه من أخيه الخفاجى.

فلما تولى المنتصر بالله أخفى الأمير إقبال موته نحو عشرين يوما حتى دبر لولاية المستعصم وبويع له بالخلافة وفرّ أخوه إلى العربان وتلاشى أمره.

ثم أعظم سبب للزوال أن مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الملك العلقمى صار وزير المستعصم ، وكان رافضيا سيئا مستوليا على المعتصم عدوا لأهل السّنّة ، يدار بهم فى الظاهر وينافقهم فى الباطن ، وكان يدبر على إزالة الخلافة عن بنى العباس وإعادتها إلى العلويين ، وطمس أنارت أهل السنة وأطفأ نورهم وتقوية أهل البدعة وأبقى ديارهم.

فصار يكاتب هولاكو خان ويطمعه فى ملك بغداد ويطالعه بأخبار بغداد ، يخبره عن صورة أخذها وضعف الخليفة وانحلال العسكر عنه.

٢٠٤

وصار يحسن للمستعصم توفير الخزانة وعدم الصرف على العسكر والإذن لهم فى التفرق والذهاب أين شاءوا ويقطع أرزاقهم ويشتت شملهم ، بحيث أذن مرة لعشرين ألف مقاتل أن يذهبوا أين أرادوا ووفر علوفاتهم فى الخزينة وأظهر للمستعصم أنه وفر من علوفاتهم خزائن أموالهم عظيمة فى بيت المال ، فأعجب المعتصم رأيه وتوفيره ، وكان يحب المال ويجمعه لعدوه.

وقد سئلت بنو أمية بعد ذهاب ملكهم : ما الذى كان سببا قويا فى ذهاب الملك عنكم؟ قالوا : أقواها أنا اعتمدنا على المال واستوهنا بالرجال ، فوفرنا المال وقتلنا الرجال ، فأخذنا العدو ومالنا وتقوى به علينا ، وأنا أبعدنا الصديق اعتمادا على صداقته وقربنا العدو استجلابا لمحبته وصار الصديق عدوا بالإبعاد ، ولم يبصر العدو صديقا بالاستجلاب.

احذر عدوك مرة

واحذر صديقك ألف مرة

فلربما انقلب الصديق

فكان أدرى بالمضرة

وكان من قضاء الله وقدره أن هولاكو سلطان المغول وجفناى من دست قبحاوان جفوا على بلاد الإسلام وجاءوا بعسكر جرار ـ لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ـ.

وكان أقوى سلاطين الإسلام ـ إذ ذاك ـ السلطان على الدين خوارزمشاه ، وكان يملك من العراق إلى أقصى بلاد المشرق ، وكان له قوة وشوكة وعسكر وافر وجند متكاثر ، فظهر هولاكو فقاتله خوارزمشاه وهو ينكسر إلى أن قتل هو وأولاده وجنوده ، واستباح كثيرا من بلاد الإسلام وقتل شرقها بالقتل العام وصار يحول هولاكو فى الديار وتارة فى غاية الاشتغال والاستعار.

والمستعصم ـ ومن معه ـ فى غفلة عنه لإخفاء ابن العلقمى عنه سائر الأخبار إلى أن وصل هولاكو إلى بلاد العراق واستأصل من بها قتلا وأسرا.

وأرسل إلى الخليفة يطلبه إليه فاستيقظ الخليفة من نومه الغرور وندم على غفلته حيث لا ينفعه الندم ، وجمع من قدر عليه وبرز إلى قتاله ، وجمع من أهل بغداد وخاصة عبيده وخدامه ما يقارب أربعين ألف مقاتل لكن مرفهون

٢٠٥

بلين المهاد ساكنون على سفط بغداد فى ظل تخين وماء معين وفاكهة وشراب واجتماع أحباب وصحاب ما كابدوا حربا ولا رفعوا طعنا ولا ضربا.

وعساكر الهولاكو ينوفون عن مائتين ألف مقاتل ما بين فارس وراجل ، وسالب وباسل ، وفاتك وقاتل يثبون وثوب القردة ويشكلون بأشكال المردة فيقطعون المسافات الطويلة فى ساعة قليلة يخوضون الأوحال ويتعلقون بالجبال ويصيرون على العطش والجوع ، ويهجرون الغض والهجوع ، ولا يبالون بألم الحر والبر والسهل والوعر والبر والبحر طعامهم كن شعير وشرابهم عن طرف البير يكاد أحدهم يتقوت بطرف أذن فرسه ، ويقطعها ويأكلها نيّا ويصبر على ذلك أياما عديدة ، ويكتفى هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة.

فوقع التصاق والتحم القتال ووقع الطوارق النزال وزحف الجيش إلى الجيش فى يوم الخميس عاشر محرم الحرام سنة ٦٥٦ ه‍ ، وثبت أهل بغداد مع شرافتهم على حر السيوف وصبروا مضطرين على طعم الحتوف ، وأعطوا الدار حقها ، واستمطروا غمايم السهام ونبلها ودرقها ، واستقبلوا بحر وجوههم حر صواعق الحرب وبرقها ، وزفوا فى تلك الكائدة الفوز بالشهادة وارتقوا فى دار الآخرة رتب السعادة وجادوا بأنفسهم فى سبيل الله وجادوا أحسن إجادة.

واستمروا كذلك من إقبال الفجر إلى إدبار النهار فعجزوا عن الاصطبار وانكسروا أشد انكسار وولوا إدبارا بالإدبار ، وانهزموا وما أغنى عنهم الفرار ، ولزمهم الطراد إلى قتال أخذ سلاسهم منه الفرار مضوا متسابقى الأعضاء فيه لا رؤوسهم بأرجلهم عباد يرون الموت قداما وخلفا فيختارون الموت اضطرارا.

وغرق كثير منهم فى دجلة وقتل أكثرهم أشد قتلة وأعقبهم التتار ووضعوا السيف فيهم والنار ، وقتلوا من المسلمين فى ثلاثة أيام ما ينوف على ثلثمائة ألف وسبعين ألف نفس وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الخزائن والأموال ، وأخذ هولاكو جميع النقود وأمر بإحراق الباقى ، ورموا كتب مدارس بغداد فى بحر الفرات وكانت لكثرتها جسرا يمرون عليها ركبانا ومشاه ، وتغير لون الماء بهذا والكتابة إلى السواد.

٢٠٦

وكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام (فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم) ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، واستؤسر المعتصم هو وأولاده وجماعته وأتوابه إلى هولاكو أسيرا ذليلا فقيرا حقيرا.

فسبحان المعز المذل السميع البصير القادر القاهر تعالى شأنه الباهر ، وعلا سلطانه على كل ذى سلطان قاهر.

فاستبقى هولاكو الخليفة أياما إلى أن استصفى أمواله وخزائنه وذخائره ودفائنه ، ثم رمى رقاب أولاده وذويه وأتباعه ومتعلقه ، وأمر أن يوضع الخليفة فى غرارة ويرفس بالأرجل إلى أن يموت ، ففعل به ذلك.

واستشهد (رحمه‌الله تعالى) فى يوم الأربعاء رابع عشر ليلة خلت من صفر سنة ٦٥٦ ه‍ ، وانقطعت خلافة بنى العباس وهم سبع وثلاثون خليفة أولهم السفاح وآخرهم المستعصم.

وبعده صار المسلمون بلا خليفة ولم ينل ابن العلقم ما أراده من نقل الخلافة إلى من أراد ولم يستفد غير سلامة أهل الحلة من النهب والقتل بمساعدتهم لهم.

فإن مجد الدين محمد بن الحسين بن طاوس الحلى ، وسدير الدين بن يوسف المطهر الحلى أرسلا كتابا إلى هولاكو على يد ابن العلقمى وفيه كلام يروونه عن أمير المؤمنين على بني أبى طالب رضي‌الله‌عنه تعالى هذه صورته : «إذا جاءت العصابة التى لا خلاف بها لتحزنن يا أم الظلمة ومسكن الجبابرة وأم البلاء ، يا ويل لك يا بغداد؟ ولدارك العامرة التى لها أجنحة كالهواوين تماتين كما يمات الملح فى الماء.

ويأتى بنو قنطورا ومقدمهم جهورى الصوت لهم وجه كالمحان المطوق وخراطيم كخراطيم الفيلة لم يصل إلى بلدة إلا فتحها ولا براية إلا نكسها».

فلما وصل الكتاب إلى هولاكو أمر أن يترجم له ، فلما قرأه أمر لهم بسهم الأمان ، وسلموا بسبب ذلك من القتل والنهب ، وباء العلقمى بإثمه وإثم من ظلم ، وكان من أهل النار ، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار؟

٢٠٧

قلت : وأما هذه الكلمات فليس طلاوة كلام سيدنا علىّ رضي‌الله‌عنه ولا حلاوته وآثار الوضع عليها ظاهرة ، وكأنهم اخترعوه بعد وقوع الطامة ، وعند حصول هذهي الفتنة العامة وإلا لاشتهر ذلك قبل الوقوع وتناقلته الرواة فى كل مجموع والله أعلم بالسرائر وما تخفيه الأحشاء والضمائر.

* * *

فصل

كان ممن نجا من سيوف هولاكو من بنى العباس :

أبو العباس أحمد ويلقب «المنتصر بن الظاهر الناصر بن المستضئ» بن المستنجد بن المقتفى بالله العباس ، فوصل إلى مصر وافدا على سلطانها ـ إذ ذاك ـ وهو الملك الظاهر سيف الدين بيبرس البندقدارى فى سنة ٦٥٦ ه‍ ، فخرج السلطان بيبرس إلى ملاقاته وأكرمه ، وأثبت نسبه فى موكب عظيم فيه قضاة الشرع الشريف ، وأعانه الظاهر بجيش ، وتوجه إلى بغداد فقتل المستنصر ، ولم ينج منهم إلا القليل ، ولم يتم لهم أمره.

ثم وصل بعد ذلك إلى مصر من بنى العباس : أبو العباس أحمد ، وتلقب ب «الحاكم بأمر الله» بن الرشيد بن المسترشد بن المستظهر بن المقتدر العباسى فأكرمه الملك الظاهر أيضا ، وأثبت نسبه من قضاة الشرع بحضرته وبايعه بالخلافة ، وأجرى عليه نفقة وسكن بمصر وليس له من الأمر شىء ، وإنما اسم الخلافة وأولاده من بعده على هذا المنوال ليس له إلا اسم الخلافة ، ويأتون به إلى السلطان الذين يريدون توليته فيبايعونه ويقولون له : وملك السلطنة ، هكذا كانوا بألقاب الخلفاء واحدا بعد واحد ، فكاتب سلاطين الأقاليم يتبركون به ، ويرسلون إليهم أحيانا يطلبون منهم تفويض السلطنة باللسان ، فيكتبون لهم تقليدا ويعهدون إليه بالسلطنة عهدا ، ويولونه سلطنة الجهة التى يطلبها فيتبرك بهذا التقليد ويقمن.

ولا ينبغى : أن هؤلاء ليس لهم الخلافة ، ولا الصورة! كما كان الخلفاء العباسيين ببغداد المحجور عليهم من جانب أمرائهم صورة الخلافة فقط ،

٢٠٨

وهؤلاء ليس لهم ولا تلك ـ أيضا ـ! ، وإنما لهم الاسم المجرد عن المعنى من كل وجه.

ولكن شيخ شيوخنا الحافظ السيوطى رحمه‌الله عدهم من جملة الخلفاء العباسيين وكتب تاريخ للخلفاء ، ذكر هؤلاء من جملتهم وقام بشأنهم واعتبارهم.

وآخر من ذكر منهم فى تاريخ الخلفاء المتوكل على الله أبو العزيز عبد العزيز ابن يعقوب وأنه بويع له فى يوم الاثنين السادس والعشرين من المحرم سنة ٨٨٤ بحضرة السلطان الأشرف قايتباى والقضاة والأعيان بالقلعة من مصر ، وكان يوما مشهودا ، وبه ختم كتابه تاريخ الخلفاء.

ورأيت فى تاريخ لطيف للحافظ السبيوطى ـ أيضا ـ سمّاه «الورقات فى الوفيات فى سنة ٩٣ ه‍» ، مات فى المحرم منها الخليفة المتوكل على الله أبو العز العباسى المصرى (رحمه‌الله تعالى).

قلت : واستمر يعقوب المستمسك بالله خليفة إلى أن كبر سنة وضعف نظره ، ودخلت أيام الدولة الشريفة العثمانية وافتتح السلطان بايزيد خان مصر القاهرة وقهرها وأزال عنها مظالم الجراكسة وعمرها ، وعاد مع الفتح والبشرى إلى دار السلطنة الكبرى قسطنطينية العظمى.

توفى الخليفة المذكور بمصر لعشرين بقين من ربيع الثانى سنة ٩٢٧ ه‍ ، وولى بعده أبو عبد الله بن يعقوب ولقب «المتوكل على الله».

وكان السلطان سليم خان (رحمه‌الله تعالى) لما فتح مصر أخذ شركسيا إلى اسطنبول عوضا عن يعقب المستمسك بالله لكبر سنه وذهاب نظره.

فلما توفى السلطان سليم (رحمه‌الله تعالى) عاد المتوكل على الله هذا إلى مصر وصار خليفة بها ، واستمر إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى لاثنى عشر ليلة خلت من شعبان سنة ٩٩٥ ه‍ فى أيام المرحوم داوود باشا الخادم صاحب مصر.

٢٠٩

وبموته انقطعت الخلافة العباسية الصورية أيضا بمصر ، وكان المتوكل هذا فاضلا أديبا له شعر حسن منه قوله :

لم يبق محسن يرجى ولا حسن

ولا كريم إليه يشتكى الحزن

وإنما صار قوم غير ذى حسب

ما كنت أوثر أن يمتد بى زمن

ضمن قول الطفرائى من لامية العجم :

ما كنت أوثر أن يمتد بى زمنى

حتى أرى دولة الأوغاد والسفل

وقد اجتمعت به وأخذت عنه فى رحلتى إلى مصر فى طلب العلم الشريف فى سنة ٩٤٤ ه‍ ، وكانت مصر ـ إذ ذاك ـ مشحونة بالعلماء العظام مملوءة بالفضلاء القحام ميمونة بين بركات المشايخ الكرام كأنها رؤوس تتهادى بين أقمار وشموس :

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

* * *

٢١٠

الباب السادس

فى ذكر ما عمرته ملوك الجراكسة فى المسجد الحرام

لأن بعضهم وأكثرهم عمر فى المسجد الحرام وسبق له من الترميم والنظام لما صاروا من سلاطين الإسيلام.

واعلم أن الجراكسة جنس من الترك فى جنوب الأرض لهم مدائن عامرة ولهم جمال ومزارع يرعون الغنم ويزرعون ، وهم تابعون السلطان سراى قاعدة ملك خوارزم.

وملوك هذه الطوائف للملك سراى كالرعية يقاتلونهم ويسبون منهم النساء والأولاد ويجلبون إلى أطراف البلاد والأقاليم ، كذا ذكره المقريزى فى «عقوده» قال : «واستكثر الملك المنصور قلاوون صاحب مصر من شر المماليك الجراكسة ، وكذلك ولده وبنوه وأدخلوهم فى الخدم الخاصة فصاروا سلحدارية وجمدارانة جاشكرية ، وأمّروا وكبّروا عمايمهم وسلكوا طريق أستاذهم من طريق ملوك الترك ودخلوا السلطنة وغلبوا عليها واستقلوا بها واستكثروا من جنسهم وعملوا لها قوانين وقواعد تنظيم بها دولتهم ، وولى منهم ومن أولادهم السلطنة بمصر اثنان وعشرون ملكا ، وكانت مدة ملكهم مائة وثمانية وعشرون سنة وأولهم السلطان الملك الملقب بالظافر سيف الدين ابن برقوق بن آنض (١) العثمانى الجركسى كما ذكره المقريزى فى عقوده وخططه.

قال الجال يوسف بن تغرى بردى وهو جركسى : «قام بدولة الجراكسة جليه عثمان بن مسافر ، ولذلك يقال له برقوق العثمانى ، فاشتراه الأتابك

__________________

(١) هكذا فى (أ) ، و (س).

٢١١

يلبغا العمرى ، وهو من جملة الأتراك الذين معهم الرق من مماليك بين أيوب المتغلبين عنهم بمصر ، ومات يلبغا وهو من صغار مماليكه.

وإنما سمى برقوق بجحوظ فى عينيه ، وتتقلب به الأحوال إلى أن صار أمير مائة مقدم ألف ، وكان أتابكا للملك الصالح حاجى بن الأشرف شعبان ابن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن قلاوون وهو الرابع والعشرون من ملوك الأتراك من ملوك الأيوبية الأكراد المتغلبين عليهم غير الجراكسة.

وكان سن الملك الصالح حاجى ولىّ السلطنة عشرة أعوام ليس له من السلطنة غير الاسم ، فألزم الأمر إلى أتابك برقوق أن يخلع الملك الصالح ويتولى السلطنة بعده ، فخلعه بعد سنة ونصف سنة ، وذلك فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة ٧٨١ ه‍.

ومن أثاره : مدرسة أنشأها بمصر بين القصرين كان مشيد عمارتها جركسى الخليلى ، فقيل فى ذلك العمل :

قد أنشأ الظاهر السلطان مدرسة

فاقت على أرم مع سرعة العمل

يكنى الخليل بأن جاءت لخدمته

صم الجبال بها تمشى على عجل

وجهز إلى الحرم المكى مالا لعمارته ما تهدم من المسجد الحرام ، وسار الركب الرجبى من مصر إلى مكة بعد طول وانقطاعه ، واستكثروا من المماليك الجراكسة فاستمروا متغلبين على ملك مصر إلى أن كثر ظلمهم وزاد عسفهم ، فأزالهم الله بعد ذلك بالسيوف الصارمة العثمانية وتشرفت بدولتهم القاهرة مصر والنحوت اليوسفية الكنعانية ملكهم الله تعالى كافة البسيطة وجعل معدلتهم ورأفتهم عامة بسائر الأرض محيطة.

وكان الظاهر برقوق متمكنا من المملكة بجمع الأموال والخزائن وأكثر من شراء المماليك الجراكسة فتمكنوا من الملك فتلاعبت بعده المماليك الجراكسة بملك مصر وصاروا ملوكها وسلاطينها بالقوة والغلبة والاستيلاء.

وكادت تقع فتن وجدال وجلاد وقتل نفوس وحرب بسوس إلى أن استقر

٢١٢

الأمر على سلطنة واحد منهم تركب فى شعار السلطنة واصطلحوا على هيئة خاصة أخذوها من الملوك الأيوبية وزادوا فيها ونقصوا ، وكان ذلك الوضع مفتولا عندهم ، فإن العرف يحسن ويقبح ، وإن كانت صورة مضحكة عند من لا يألفها ، ولكل إقليم وضع خاص ، وسلاطين ذلك الإقليم لا تفهم تلك الهيئة لسلاطينهم.

وكان من شعار سلاطين الجراكسة عامة كبيرة ملفوفة بصنايع ملكفة يجعلون فى مقدمها ويمينها ويسارها شكل ستة قرون بارزة من نفس العمامة ملفوفة من نفس الناس يلبسها السلطان فى موكبه وديوانه قفطانا من فاخر الثياب يكون على كتفه اليمين قطعة طراز مزركش بالذهب ، وبكذلك على كتفه اليسار إلا أن ذلك ليس مخصوصا بالسلطان ، بل يلبس ذلك من الأمراء ومن دونهم ويخلع بهذا الثوب المطرز على من أراد ، ويحمل على رأس السلطان قبة صغيرة لطيفة.

وفى وسط ذلك صورة طير صغير يظلل السلطان بتلك القبة ، والذى يحملها على رأس السلطان هو أمير كبير وظيفته أن يصير سلطانا بعد ذلك ، وأكابر أمرائه أربعة وعشرون أميرا بطبلحناناه تضرب على بابهم صبحا وعهدا لكل واحد منهم أمير مائة مقدم ألف بمنزلة البكار بكية عندهم ، ويلبس كلا منهم عمامة بقرنين ودنهم «الخاصكية» يكون له فرس وخدام ، وعلى رأسه ربط وعليه عمامة بعذبة ، يديرها من تحت حنكه دون الجلبان ، وهم مشاة على رؤوسهم طواقى من جوخ أحمر ضيق موضع يدخل فى رأسه وسبع من أعلاه لا يلطا برأسه ، وملبوس أكثرم الملوطة البيضاء المصقولة يكون على كتفه طرازتين من محمل أو أطلس أو مزركش ، وفى أوساطهم ، ويدلون طرفها إلى أنصاف سوقهم.

وكانت التجار تجلب المماليك البيض من بلاد جركس ويتفاولون فى أيمانهم إلى أن كثروا بمصر وبلغوا من عشرين ألف فارس إلى ثلاثين ألف ، وكانت لهم اصطلاحات فى تربيتهم ، وكانت لهم الأطباق يوظفون فيها للمسلمين من حفاظ القرآن.

٢١٣

وكانت الجلب يدخله سيده أولا إلى الطبقة للحفظ والاستخراج والصلاة والقرآن بحسب قابليته إلى أن يفوق فى الحظ ومعرفة القرآن والفقه وأمور دينم ثم يرتقى إلى معرفة التقاف والصراع ورمى السهام ، ثم يترنى إلى الفروسية إلى أن يتفرس فى أنواع الحرب والحبل والخداع واللعب بالسيف والعود والسهام ، ثم يترقى إلى الخاصكية ، ثم إلى الإمرة ، ثم إلى الدوادرية والمقدمية ، ثم إلى السلطنة.

وكانت خيال السلطنة فى دماغ كل واحد منهم من حين يجلب إلى السوق ليباع إلى أن يموت حتى إن واحدا من الجبان جلب وهو حقير فاحش القرعة ، فاحش العرج ، قال للدلال الذى يبيعه : «هل ولى الأقرع الأعرج سلطانا فى مصر».

وبالجملة فقد كانت طوائف سوادج لهم سماحة وحماسة وصداقة لمن صادقوه ، وكانت أرزق مصر بيدهم ، وكانت أهل مصر تتلاعب بهم فيما بيدم من الأرزاق ، وكانوا بيد فقهائهم ومباشريهم فيكون لهم مباشر من المصريين للمصارف فيكون للجندى فقيه يعلمه القرآن وإماما يصلى به ، ومكبرا مباشرا يكتب دخله وخرجه ، وخازن دار ، وركابدار ، وجامدار ، ومهتار ، وسراج ، وحلاف ، وسايس ، وغير ذلك ، فإذا ترقى الأمير للإمرة ترقى معه خدامه ويرتبون له سماطان حلاوى ومفاكهات وكانوا فى رهافة ، وكانوا أهل مصر يعيشون فى ظلمهم رغدا ، بحيث إن أسمطتهم كانت تكفى لسائر جيرانهم ، وكانت خدامهم تتبع ما يفضل من طعامهم للناس من الدجاج والوز وسائر النفائس ، وكان لهم سوق يباع فيه ما يفضل من أطعمتهم التى أخذتها خدامهم فى أسمطتهم ، يتفاخرون ببناء البيوت الفاخرة والمدارس والجوامع والترب والربط ، وكانت لهم خيرات رائدة وميزات عالية إلى أن فشا فيهم الظلم والعدوان وكثر منهم المضارات وغلب سيئاتهم على حسناتهم ، وزادت مظالمهم على إحسانهم ، ومالوا إلى الغوانية والمفسدين ، وأخلوا شرائع الشرع والدين ، فاستجاب الله تعالى فيهم دعاء المظلومين ومزقهم أى ممزق ، «ودار الظالم خراب ولو بعد حين» ، والملك

٢١٤

يوم بالكفر ولا يدوم بالظلم والله لا يجب الظالمين ، ون الملك لله يؤتهي من يشاء والعاقبة للمتقين.

وكانت مدة سلطنتهم بمصر من سنة ٨٩١ ه‍ ، وهذا كلام واقع فى البين.

ولنرجع إلى أحوال الملك الظاهر برقوق فنقول : أنه بعد سلطنته استمر على حاله سلطان إلى أن اختلف عليه الأمر ووقعت عليه حروب كثيرة ، ثم خلع وحبس فى «الكرك» ، ثم سحب من الحبس وجمع الجيوش وقاتل وغلب على المملكة ، وأعيد إلى السلطانة وصار يتتبع أعداءه ، وهل خرج عليه وخالفه ويقدم من وافقه إلى أن اصطفاهم ـ وما صفا له الزمان! ـ وظن أنه أمن ـ وأين الأمان فى يد الدهر الخوان؟! ـ.

ومالت شمس سلطنته إلى الزوال وانمحق بدر حياته ، ولا بد من المحق بعد الكمال ، وبرق برق وشاهد الانفصال ، فعهد بالسلطنة إلى ولده الناصر فرج بن برقوق وطلب الخليفة القضاة والأمراء وأشهد على نفسه أنه ترك السلطنة لولده فرج وسنه عشرة أعوام ، وعين الأتابك إيتمش النجاشى وزير التدبير للمملكة ، وتفى إلى رحمة الله تعالى فى ليلة الجمعة وقت التسبيح منتصف شوال سنة ٨٥١ ه‍.

وفى ذلك يقول أحمد المقرى :

مضى الظاهر السلطان أكرم مالك

إلى ربه ترقى الخلد فى الدرج

وقالوا ستأتى شدة بعد صوته

فأكرمهم ربى فما جاء سوى فرج

وخلف الظاهر برقوق من الذهب العين ألفى ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ، ومن القماش والفرو والأثاث ما قيمته ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ، ومن الخيول المسومة والبغال الفارهة ستة آلاف جمل ، وكان عليق دابته فى كل شهر إحدى عشر ألف أردب شعير وفول.

وفى أيام الناصر فرج بن برقوق وقع حريق فى المسجد الحرام فى ليلة السبت لليلتين بقيتا من شوال ٨٥٣ ه‍ ، وسبب ذلك : ظهور نار من رباط

٢١٥

رامشت الملاصق لباب الحزورة من أبواب المسجد الحرام فى الجانب الغربى منه.

وراشت هو الشيخ أبو القاسم إبراهيم بن الحسين الفارسى وقف هذا الرباط على الرجال الصوفية أصحاب المرقعات سنة ٥٢٩ ه‍ ، فترك بعض أصحاب الخلاوى سراجا موقودا فى خلوته وبرز عنها فسحبت الفأرة الفويسقة فتيلة السراج منه إلى خارج فأحرقت ما فى الخلوة ، واشتعل اللهب فى سقف الخلوة وخرج من شباكه المشرف على المسجد الشريف ، واتصل بسقف المسجد والنهاية ، وعجز الناس عن طفيه لعلوه وعدم وصول اليد إليه فعم الحريق الجانب الغربى من المسجد الحرام ، واستمرت تأكل فى جانب السقف وتسير ولا يمكن للناس إطفائها لعدم الوصول إليها بوجه من الوجوه إلى أن وصل الحريق إلى الجانب الشمالى ، واستمر يأكل سقف الجانب الشمالى إلى أن انتهت إلى باب العجلة العجلة ، وكان هناك اسطوانتان هدمهما السيد العظيم الهول الذى دخل المسجد الحرام فى الثامن من جمادى الأولى فى ذلك العام ، يعنى عام حريق المسجد الحرام ، وأخرب عمودين من أساطين الحرم الشريف عند باب العجلة بما عليه من العقود والسقوف ، وكان ذلك سببا لوقوف الحريق وعدم تجاوزه عن ذلك المكان ، وإلا لكان يعم المسجد جميعه من الجوانب الأربعة فاقتصر الحريق على باب العجلة وسلم الله باقى المسجد الحرام ، وقيل :

فكم لله من لطف خفى

يدق خفاه عن فهم الزكى

فصار ما احترق من المسجد الحرام أكواما عظاما يمنع من رؤية الكعبة الشريفة ومن الصلاة فى ذلك الجانب من المسجد.

قال النجم بن فهد : «وتحدث أهل المعرفة بأن هذا يندب بحادث جليل يقع فى الناس وكان كذلك ، فقد وقعت المحنة العظيمة بقدوم تمر سنان إلى بلاد الشام وبلاد الروم وسفك دماء المسلمين وسبى ذراريهم ، ونهبت أموالهم وأحرق مساكنهم ودورهم كما هو مذكور فى التواريخ المفصلة.

٢١٦

قال الحافظ السخاوى (١) فى ذيله على دول الإسلام للذهبى (رحمهما‌الله تعالى) : «وفى آخر شوال سنة ٨٥٢ ه‍ وقع بالحرم المكى حريق أتى على نحو المسجد الحرام ولو لا المعمرات الذى وقعا من السيل ـ قبل ذلك ـ لاحترق المسجد جميعه ، واحترق من العمد الرخام مائة وثلاثون عمودا صارت كلها كلسا ولم يفنى فيما مضى مثله.

وأما وقوع السيل فى جمادى الأول من هذه السنة بعد مطر عظيم الانسكاب كأفواه القرب ثم عم السيل فامتلأ المسجد الحرام حتى بلغ القناديل ، ودخل الكعبة من شق الباب فهدم من الرواق الذى يلى دار العجلة عدة أساطين وخرب منازل كثيرة ومات فى السيل جماعة.

قال التقى الفاسى (رحمه‌الله تعالى) : «ثم قدر الله عمارة ذلك فى مدة يسيرة على الأمير يسبق الظاهرى ، وأما قدومه إلى مكة كذلك فى سنة ٨٠٥ ه‍ ، وكان هو أمير الحاج المصرى وتخلف بمكة بعد الحج لتعمير المسجد الحرام.

فلما دخل الحجاج إلى مكة شرع فى تنظيف الحرم الشريف من تلك الأكوام التراب وحفر الأرض وكشف عن أساس المسجد الشريف ، وغير أساس الأسطوانات فى الجانب الغربى من الحرم المحترم ، وبعض الجانب الشامى منه إلى باب العجلة فظهرت أساس الاسطوانات مثل تقاطيع الصلب تحت كل أسطوانة بناها وأحكم تلك الأساسات على هيئة بيوت الشطرنج تحت الأرض وبناها إلى أن رفعها إلى وجه الأرض على أشكال زوايا قائمة وقطع من جبل الشبيكة على يمين الداخل إلى مكة أحجارا صلبة منحوتة على شكل نصف دائرة قصير مع أخرى منحوت مثله دائرة تامة فى سمك ثلثا ذراع وضعت على قاعدة مربعة منحوتة على حد التقطيع الصليبى على وجه الأساس

__________________

(١) السخاوى ؛ هو : شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوى ، المتوفى سنة ٩٠٢ ه‍ من أهم مصنفاته : الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع ، وهو تاريخ كبير جمع فيه الوفيات من ٨٠١ ه‍ إلى سنة ٩٠٠ ه‍ مرتبا على حروف المعجم فى الأسماء والآباء والجدود. كشف الظنون : ٢ / ١٠٨٩.

٢١٧

المرتفع على الأرض ، ووضع عليها دائرة أخرى مثل الأولى ، ووضع بينهما بالطول عمود جديد منحوت له بين الحجرين المدورين وسيك على جميع ذلك بالرصاص إلى أن ينتهى طوله طول أساطين المسجد فيوضع عليه حجر منحوت من المرمر.

وقاعدة ذلك العمود من فوق وبنى له خشب مربع يوضع عليه ، وبنى من فوق طاقا بعقد إلى العمود الأخرى ، وبنى ما بين ذلك بالجص والأجر إلى أن يصل إلى السقف إلى أن تم الجانب الغربى من المسجد الحرام على هذا الحكم وبقيت القطعة التى من الجانب الشمالى إلى باب العجلة ، فأكملوها بالقطع من عمد الرخام الأبيض موصولة بالصفايح من الحديد إلى أن لاقوا به العمد التى بنوها بالعمد الصوان المنحوت لعدم القدرة على العمد الرخام.

وصارت الجوانب الثلاثة من المسجد الحرام بعمد الرخام ثلاثة أروقة ، والجانب الغربى وحده بالحجر الصوان المنحوت المدور على شكل عمود الرخام ، وكانت عمارة العمد فى أول شعبان سنة ٨٠٤ ه‍.

ولم يبق غير عمد السقف وأخر عمله لعدم وجود خشب يصلح لذلك بمكة ، إذ لا يوجد غير خشب الدوم وخشب العرعر ، وليس لذلك طول ولا قوة ويحتاج إلى خشب الساج ولا يجلب إلا من الهندى وخشب الصنوبر والسرو ، ونحو ذلك ، ولا يجلب إلا من الدوم فلزم تأخير إكماله إلى إحضار القدر الذى يحتاج إليه من ذلك الخشب.

وشكر الناس همة الأمير بستق على سرعة إتمام هذا القدر من العمل فى هذه المدة اليسيرة ومبادرته إلى تنظيف المسجد إلي أن صلح للصلاة فيه ، وكان ذا همة عالية وحسن توجه ، وكان كثير الصدقة والإحسان ، وحج الأمير «يسبق» فى ذلك العام وعاد إلى مصر لتجهيز ما يحتاج إليه من خشب الجانب الغربى للمسجد الحرام ، ووصل إلى مصر فى أوائل سنة ٨٥ ه‍ ، وكان صاحب مكة يومئذ ـ جد سادتنا أشراف مكة إلا أن السيد الشريف حسن بن جلان ـ سقى الله عهده صوب الرحمة والوضوان من يحب الخير ويرغب فيه ويسابق إلى فعل الجميل ويرغب إليه.

٢١٨

وهو الذى يقول فيه شرف الدين المغربى الشافعى «صاحب الإرشاد والروض وعنوان الشرف وغيرها من قصيدة له يمدحه وتعرض لصاحب اليمن ـ يومئذ ـ أحسنت فى تدبير ملكك :

أحسنت فى تدبير ملكك يا حسن

وأخذت فى تسكين أخلاط الفتن

إلى أن يقول :

موسى هزير لا يطاف نزاله

فى الحرب لكن أين موسى من حسن؟!

هذاك فى يمن وما سلمت له

يمن وذا فى السلم لم يدع اليمن

ومن جملة خبره وآثاره : أنه لما رأى برباط رامشت وما آل إليه بعد الحريق إلى أن صار بساطه بذلك المحل أمر بإعادته رباطا للفقراء كما كان فصرف من ماله عليه إلى أن عاد أحسن من الأول وزال السياطات من ذلك المكان وانصان الحرم الشريف وتضاعفت أدعية الناس له بسبب ذلك ، والله يجزى المتصدقين.

ويسمى الآن رباط ناظر الخاص لأنه رمّمه وعمّره بعد تهدمه فى أوائل القرن العاشر وهو فى طائفة المباشرين فى ديوان السلطنة بمصر فى خدمة السلطان جقمق العلاى ومن بعده وكان من أهل الخير رحمه‌الله.

وفى سنة ٨٠٧ ه‍ قدم إلى مكة الأمير بستق لعمارة سقف الجانب الغربى من المسجد الحرام وغيره مما كشف عن سقن المسجد الشريف من كل جانب فنهض إلى هذه الخدمة وأحضر الأخشاب المناسبة لذلك وجلبها من بلاد الروم وهيئها لعمل السقف ونقشها بالألوان وزوقها واستعان بكثير من خشب العرعر الذى يؤتى به من بلاد الحجاز من حمية الطائف لعدم وجود خشب الساج ـ يومئذ ـ فى مكة ، وبذل همته واجتهاده إلى أن سقف جميع الجانب الغربى من المسجد الحرام وأكمله بخشب العرعر المذكور ، وعصر معه بعض الجانب الشامى أيضا إلى باب العجلة ، فتم عمارة المسجد الحرام على تلكي الأسطوانات المنحوتة من الحجر الصّوان وعلق فى تلك الأسقف سلاسل من نحاس وحديد لتعلق القناديل من الرواق الوسطانى من الأروقة الثلاثة على حكم سائر المسجد الحرام ، غير أن جانب الشرق واليمانى وأكثر الشامى إلى

٢١٩

باب العجلة كان فى كل عقد مني العقود التى تلى صحن المسجد الشريف ثلاث سلاسل : أحدها فى وسط كل عقد ، والثانى عن يمينه ، والثالث عن شماله لتعليق القناديل.

وأما هذا الجانب الغربى كانت فيه السلاسل على هذاي الحكم ، فلما احترق هذا الجانب وأعيدت عقوده لم يتركب فيها هذه السلاسل ، ولا أدرى هل كانت هذه السلاسل التى كانت هى خارجة عن الأروقة تحت عقود الرابعة منها تعلق فيها القناديل أحيانا أم كانت لمجرد الزينة؟ ولم أطلع على ذكر قناديلها ، ولا كيف كانت؟ ومتى بطلت؟

وأكمل عدة سقف الجانب وما اخترق من الجانب الشرقى إلى باب العجلة فى سنة ٨٠٧ ه‍ ، وعمر مع ذلك فى الجوانب الثلاثة من المسجد الحرام مواضع كثيرة ممن كان سقفها قد انكسر أعوادها ومال بعضها ، وكان يسيل فيها الماء إلى المسجد الحرام فأصلح الأمير بستق جميع ذلك بالطبطاب والنورة فى سطح الأسقف ودلكها وسواها وأتقن عملها وعمر فى صحن المسجد من المقامات والقامات الأربعة التى وضعت للمذاهب الأربعة على الهيئة القديمة ، وبذل فى صرف ذلك الأموال العظيمة وشكره الناس على ذلك.

وكان ذلك فى أيام الناصر زين الدين أبى السعادات فرج بن برقوق بن أنص الجركسى ، وكانت سلطنته بعهده من أبيه عند وفاته ـ كما تقدم ـ صبيحة يوم الجمعة منتصف شوال سنة ٨٠١ ه‍ ، وصار الأمير الأتابك إيتمس خازن داره ، فوقع بينهما منافرة أدت إلى مشاجرة ثم مقاتلة فانكسر إيتمس فهرب إلى نائب الشام «تنم» الظاهرى ، فجيش جيوشا إلى مهر لقتال الناصر ويشبك ، فخرج الناصر لقتالهم فانهزموا منه واضطربت أحوال مصر لاختلاف الكلمة ، ثم وصل تمرلبك إلى بلاد الشام وأخذها من سودون الظاهر فأسره وقتله ، ونهب الشام وأخذها من سودون.

وخرج الناصر فرج بجيوشه إلى مصر لقتال «تمرليك» فوجده قد ترك البلاد وتوجه إلى بلاد الروم فأعطى الشام الثغرى بردى ، وعاد إلى مصر

٢٢٠