كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وكان للأمير حسين المذكور أسمطة عظيمة محدودة فى سائر الأيام ، وكان أكولا بذولا للطعام ، سمحا للمؤاكلة والإنهام ، يستومى الخروف وحده مع عدة أرغفة! ونفاس له معدة ، وكان كرديا دخيلا فى طائفة الجراكسة لا يملأ أعينهم ، ولا يعتبرونه فيما بينهم ، فأمر السلطان الغورى إبعاده عنهم حماية له منهم ، وكان محتبسا به فأعطاه بندر جدة على وجه الائتماز له ، وجهز معه عمارة ليقاتل الفرنج الذين ظهروا فى بنادر أرض الهند ، واستطرقوا إليها من بحر الظلمات من وراء حبل القمر التى هى منبع ماء النيل ، وعانوا فى أرض الهند ، ووصل أذاهم وإفسادهم إلى جزيرة العرب وبنادر اليمن ، وقصد السلطان الغورى رفع أذاهم عن المسلمين بإرسال حسين الكردى إلى جدة ، فلما أتى إلى جدة بنى سورها ، وبنى أبراجها ، وأحكمها ، وهدم كثيرا من بيوت الناس مما يقارب موضع السور لوضع الأساس ، وأخذ مجارتها ، وبنى بها السور فى شدة بأس ، واستخدم عامة الناس فى حمل الحجر والطين حتى التجار المعتبرين وسائر المتسببين ، وضيق على البنائين بحيث يحكى : أن أحدهم تأخر قليلا عن المجئ ، فلما جاء أمر أن يبنى عليه ، وبنى عليه ، واستمر قبره البناء إلى يوم الجزاء إلى غير ذلك من الظلم الشديد والجور العنيد ، وبنى السور جميعه فى دون عام من شدته ، وعشمه ، وإقدامه ، وظلمه ، واستمر حاكما بجدة إلى أن تقوى بالمال ، وقاتل وجمع خزائن من كل صنف.

فتوجه فى حدود إحدى وعشرين وتسعمائة إلى الهند فى حدود سنة ٩٢١ ه‍ ودخل واجتمع بسلطان كجرات يومئذ وهو المرحوم المغفور السلطان خليل شاه ابن مظفر بن السلطان خليل محمود شاه الكجرانى فأكرمه وعظمه ، وأنعم عليه نعمة طائلة جزيلة ، ولما سمع الإفرنج به ارتفعوا من بنادر كجرات إلى بنادر الزكند ، وتحصنوا بقلعة متقنة محكمة لهم هناك حتى ملكهم الآن كوّة ـ بالكاف العجمية المضمومة ، والواو المشددة المفتوحة بعدها هاء ساكنة ـ يسر الله فتحها لسلطان الإسلام ، وقطع بسيفه دابر الإفرنج اللئام وكافة عباد الصليب والأصنام.

ولقد أحسن من قال :

أعباد المسيح تخاف صحبى

ونحن عبيد من خلق المسيحا

٢٦١

ولم يستقر الأمير حسين فى كجرات بل عاد إلى اليمن ، وافتتح فى طريقه على عوده مملكة اليمن من بنى طاهر ملوك اليمن ظلما وعدوانا فى سنة ٩٣١ ه‍ بعد أمور يطول شرحها ، وتزل بها نائبا فى زبيد اسمه برسباى ـ جركسى من مماليكه ـ وقتل السلطان عامر بن عبد الوهاب مع أخيه عبد الملك ابن عبد الوهاب وكانوا ملوكا من السنة والجماعة طاهرين من الاعتقاد الفاسد ظافرين على أهل البدع والإلحاد (رحمهم‌الله).

وانقرضت به دولة بنى طاهر من اليمن ، وعاد الأمير حسين لمنيته ، وحتفه كالباحث عنها بطلقه ، وقدم إلى مكة ، وكانت دولة الجراكسة قد انقرضت بمصر ، وملكها السلطان الأعظم السلطان سليم خان بن بايز بدخان بن محمد خان (رحمه‌الله تعالى ، وأسكنه فسيح الجنات وسقى عهده صوب الرحمة والرضوان).

وتوجه سيدنا ومولانا المقام الشريف العالى سيد السادات الأشراف وتاج الشرفاء من بنى عبد مناف مولانا السيد الشريف جمال الدنيا والدين محمد أبو نمى بركات خلد الله تعالى سعادته ، وأيد عزه وسادته أرسله والده الشريف بن بركات ليدوس البساط السلطانى بمصر ، وعمره يومئذ اثنى عشر عاما فحصل له غاية التعظيم والإكرام وبلغ بذلك جميع ما طلبه ورام ، وعاد إلى والد الشريف معزوزا مكروما ، ومعه أحكام شريفة بكل ما طلبه وزاده ، وأرسل حكم مع السيد عزاز بن عجلان إلى السيد الشريف بركات (رحمه‌الله تعالى) بقتل الأمير حسين الكردى المذكور ، وهو الذى استخرج هذا الحكم بعداوة سابقة بينه وبين الأمير حسين ، وأخذ مقيد إلى جدة ، وربط فى رجله حجرا كبيرا ، وغرق فى بحر جدة فى محل يقال له : أم السمك ، فأكله الأسماك بعد أن كان بعد من الأملاك ، وكان طعاما للحيتان بعد إطعامه الهنيفان ، وغرق مقيدا بالأصفاد بعد أن قتل ما شاء الله من العباد ، وتفرق فى البلاد جنوده وأعوانه بددا : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.)

* * *

٢٦٢

الباب السابع

فى ظهور ملوك آل عثمان (خلد الله تعالى سلطنتهم القائمة

إلى آخر الزمان) ، وذكر نبذة من مناقب أسلافه العظام

وذكر ما عمروه فى بلد الله الحرام وفعلوا فيه

من الخيرات الجسام العظام وذكر بناء المسجد

الحرام على الوضع الذى هو عليه الآن

الفصل الأول فى ذكر الفتح الخاقانى ، ودخول ممالك العرب

والعجم فى سلك الملك العثمانى

ونبذة من ذكر أسلافهم الكبار بطريق اللاختصار (خلد الله تعالى ملكهم مدّ الزمان وأبقى ملك الأرض فيهم وفى عنقهم إلى انتهاء الدّوران).

فلما أراد الله تعالى بأهل الأرض إحسانا وأفضلا ، وقد ظهور العدل والفضل بهم إكراما لهم وإجلالا ، وقضى بإطفاء نور الظلم والفتن ، ورفع مواد الفساد والظلم والمحن ، وتأييد دين الإسلام ، وتقوية السّنّة السنية المتمسكين بسنن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الصلاة والسلام) ، وإقامة الشرع الشريف على رغم الملاحدة اللئام أطلق فى أفق الخلافة العظمى شموس الإيالة العثمانية ، وأجلس وأسطع من أوج سماء السلطنة الكبرى كمال المعدلة الخاقانى ، وأجلس على سرير الملك من ملكة الله الأعظم ممالك الإسلام ، وفتح على يديه أكبر البلاد والأمصار بالسيف الصارم الصمصام والحسام

٢٦٣

الحاسم مواد الظلم فى كل ظالم وظلام ، ونشره جناح الأمن والأمان على أهل الإيمان من الأنام ، فأخذ أحاسن محاسن الربع المسكون ، وكان مظهر القول من يقول للشىء كن فيكون ، (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١).

واستولى بتأييد الله ونصره على شام البلاد ومصره ، وملأ نطع الدنيا بدماء سيف قهره كما ملأها بإفاضة سيل عدله ، وسبب لطفه وبره ، وشرفت بذكره فى الحرمين الشريفين المنابر ورؤس المنابر وعمر مساجدها وتلا : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ)(٢).

وأقام الملة الحنفية ، وأحياها لها من مآثر مالك الملك الهمام ، والليث الباسل الضرغام ، والسلطان الأعظم ، والخاقان الأكرم الأفخم ، خير خلف خلف الرحمن أشرف سلف آل عثمان السلطان سليم خان بن بايزيد خان بن السلطان محمد خان بن السلطان بلدريم بايزيد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان عثمان الغمازى (رحمهم‌الله تعالى ، وحفهم بالرحمة والرضوان ، وأبدلهم عما انتقلوا عنه من الملك الفانى بالملك الباقى فى أعلى غرف الجنان ، وأبقى السلطانة فى عنقهم خالدة تالدة إلى يوم الحشر والميزان).

هم معشر كلهم غار وكلهم

خير الملوك صناديد الهناديد

أولئك الناس إن عدوا وإن ذكروا

ومن سواهم فلغو غير معدود

لو خلد الدهر ذو عز لعزته

كانوا أحق بتعمير وتخليد

وجده الأعلى السلطان عثمان القارى رحمه‌الله تعالى أصله من التركمان الرحالة الترالة من طائفة التتار ، وهو أول من ولى منهم السلطنة فى بلاد الروم فى سنة ٩٢٩ ه‍ ، وهو ابن أروطول بن سليمان شاه ، ويتصل نسبه إلى يافث بن نوح (عليه الصلاة والسلام) ، وهو الجد الأربعون لحضرة السلطان سليم خان بن با يزيد (رحمه‌الله تعالى).

__________________

(١) الآية رقم ١٠٥ من سورة الأنبياء ، مكية.

(٢) الآية سبقت الإشارة إليها.

٢٦٤

ولما كانت أسماؤهم بلغة التركب القديم لم نذكرها لعر انضباطها ، وهى مذكورة فى التواريخ التركية ، وكان سليمان شاه سلطانا فى الشرق فى بلاد ماهان قرب «بلخ» ، فلما ظهر جنكيز خان أحزب بلاد بلخ ، وأخرج منها السلطان علاء الدين بن خوارزم شاه ، وتفرقت أهل تلك مملكة الممالك ، وخرج سليمان شاه إلى بلاد ماهان بخمسين ألف بيت من التركمان إلى أرض الروم ، ومر بحلب ، وعبر فى بحر الفرات فغرق بفرسه ، وأخرج منه إلى بحر الرحمة فى عرفات الجنان ، ودفن أمام قلعة جعفر ، وتفرق من معه من التركمان فى أطراف تلك البلدان ، وذراريهم موجودون حالون نزالون إلى الآن ، وكان لسليمان شاة أربعة أولاد : عاد منهم اثنان إلى بلاد العجم وهم : سنقر ، ودينار ، وتوجه إلى بلاد الروم اثنان : طفرك ، وكون ، وغدى ، وقدما على السلطان السلجوقى على الدين ، وكان سلطان بلاد قرمان ، وتحت ملكه كونية فأكرمهما ، وأذن لهما فى الإقامة فى أرضه ، فاستأذناه فى جهاد الكفار ، واجتمع عليهما أمر الترك طائفة من الغزاه ، وصاروا بهم الجهاد فى سبيل الله تعالى ، وكان مفزهم ما بين قرة حصاد وبلجك فى محل يقال له : «سكوتجك» ، وصيروه قسلاقهم ببلاقهم ، وجعل أسافح فسكنوها مع مواصلة الغزو والجهاد ، ووقع الكفرة خل تلك البلاد إلى أن توفى أرطغرك فى سنة ٩٨٩ ه‍ ، وخلف أولاد أنجاد نجباء أمجاد أشدهم بأسا وأقواهم جأسا ، وأنماهم غراسا السلطان عثمان ، وكان مولده سنة ٩٥٦ ه‍ ذاب فى خدمة والده فى الجهاد ، وتفرس فى الغزاة فى سبيل الله تعالى منذ نشأ مع الأولاد ، واستمر بعد والده مع الكفار فى القتال والجلاد ، فرأى السلطان علاء الدين جده وجهده فى الجهاد ، وقلب قابليته ونجابته فى فتح أطراف تلك البلاد ، فأكرمه وأعزه ، وأحله بأنواع الإعانة والإمداد ، وأرسل إليه الراية السلطانية ، والطبل ، والزمر ، ووسمه باسم السلطنة تقوية لكيده وشدا لعضده ، فلما وصل الطبل والزمر إليه ، وعملوا نوبة بين يديه ، فعند سماعه صوت الطبل والزمر قام على قدميه تعظيما لذلك ، فصار ذلك قانونا لآل عثمان باقيا مستمدا إلى الآن ، فإنهم يقومون على أقدامهم عند ضرب النوبة على أبوابهم.

٢٦٥

وكان جلوس السلطان عثمان على تحت السلطنة فى سنة ٦٩٦ ، وافتتح فيها قرة حصاد من الكفار ، وأمر بصلاة الجمعة ، وخطب باسمه فقيه ، وكان من أهل العلم حوله اسمه طورسن فقيه.

ثم افتتح قلعة «قرة حصاد» ثم «كثرى حصاد» ثم قلعة «بلحك» ثم قلعة «إين أوكى» ، ثم قلعه «إينه كول» ، ثم قلعة «يكى سهر» ، ثم زوج ولده «أورخان» على «نوفر خاتوك» بنت «مكور» صاحب بار صحاد ، فعمل أبوها سماطا عظيما ، فلما حضر الغزاة انتهزوا الفرصة وقتلوا مكور وافتتحوا قلعة «بار حصاد» ، ثم قلعة «بلجك» ، فدخلها السلطان عثمان ، وصارت من جملة ممالكه.

واستمر فى الغزاة والجهاد ، وافتتاح البلاد ، وقتل الكفار من أهل العناد إلى أن دعاه الله إلى جنته ، وأبلد له سلطنة خيرا من سلطنته ، فأجاب داعى الحق لما دعاه ، وبادر إلى إجابته ، ولبى نداءه ، فعاش سعيدا حميدا إلى رحمة الله تعالى عبر ست وستين عاما فى سنة ٧٢٢ ه‍ ، وكانت مدة سلطنته ستا وعشرين سنة.

ثم ولى بعده السلطان أورخان الغازى مولده سنة ٦٧٨ ه‍ وجلوسه على تحت السلطنة بعد والده المرحوم فى سنة ٧٢٢ ه‍ ، ومدة سلطنته خمسة وثلاثون سنة ، وعمره ثلاثا وثمانين سنة ، هو الذى افتتح «بروسا» ، وجعلها مقر سلطنته ، وفتح قلاعا كثيرة ، وله حروب مع الكفار مشهورة تسمى «نيلوم صوى» ، وكان السلطان أورخان فاق والده فى الجهاد وفتح البلاد وبذل الاجتهاد.

فتح «بروسا» فى أيام والده ، ثم «قرن حصار» ، وقلعة «أيتو» فى سنة ٧٣١ ه‍ ، ثم افتتح قلعة «كوشك» ، وقلعة «بالى كسرى» ، وولاية «قرة سى» ، وقلعة «قرماستى» ، وقلعة «أولباد» فى سنة ٧٣ ه‍ ، وقلعة «فريحة طوله» فى سنة ٧٣ ه‍ ، وفتح عدة قلاع وحصون ، واتسعت مملكته ونفذت كلمته ، فاجتمعت ملوك النصارى ، وجميع الكفرة على قتال العساكر الإسلامية ، ورفع ضرر المسلمين من بلادهم.

٢٦٦

فاتفق «أنكدوس» يعنى سلطانهم وسلطان «لان» ، والشرف ، وأجمعوا أن يتعدوا إلى بلاد «أرملى» إلى جهة «أناطولى» ويقاتلون السلطان أورخان فى محله ، وكان له ولد نجيب اسمه سليمان بيك استأذن من والده أن يعدى إلى «رملى» ، ويقاتل الكفار الذين اجتمعوا حوله لقتاله قبل أن يصلوا إلى أنا طولى ، فأجازه والده لما رأى نجابته ، وشجاعته ، وتوجه مع خدامه فسمع به الغزاة من المسجد الشجعان فوارس محبورون ، وأبطال مشهورون ، فعدم إلى «روم إيلى» فصادفوا الكفار فى غفلة وهم يزيد والعبور إلى ناحية أنا طولى ، فوقع حرب عظيم قتل فيه من الكفار ما لا يعد ولا يحصى ، وانهزم الباقون إلى القلاع والحصون ويتبعهم المسلمون يأسرون منهم ويقتلون ، فنصر الله الإسلام ، وخذلت النصارى اللئام ، وافتتح المسلمون عدة قلاع وحصون ، وآل الكفار إلى الدمار والبوار ثم إلى عذاب النار ، ورجع سليمان بك إلى والده مظفرا منصورا ، مؤيدا مسرورا ، وكان السلطان أورخان كوالده كثير الجهاد ، طاهر الاعتقاد ، سليم الفؤاد ، عدوا لأهل الكفر والإلحاد ، عاش سعيدا ، ومات حميدا فى سنة ٧٥٧ ه‍ (رحمه‌الله تعالى).

ثم ولى بعده السلطان المراد الغازى مولده سنة ٧٢٣ ه‍ ، وجلوسه على التخت فى بروسا سنة ٧٥٧ ه‍ ، ومدة سلطنته إحدى وثلاثون سنة ، وعمره خمس وستون سنة ، وولى السلطنة وعمره أربعة وثلاثون ، وافتتح مدينة أردسة فى سنة ٧٣١ ه‍ ، وهو أول من اتخذ المماليك ، وسماهم «بكنجرى» ـ يعنى العسكر الجديد ، وألبسهم اللباد الأبيض المثنى إلى خلف ، وسماه «بركا» ـ بضم الباء الموحدة وسكون الراء آخره كاف ـ ، وكانت صولة عظيمة على الكفار ، واجتمعت النصارى على سلطانهم «أسوت» فقاتلهم السلطان مراد قتلا عظيما ، فقتل سلطان الكفرة ، وانهزم الكفار ، فأظهر واحد من ملوكهم الطاعة اسمه «بلواش» ، وتقدم ليقبل يد السلطان ، فلما قرب أخرج خنجرا كان أعده فى كمه فضرب به السلطان مراد ، واستشهد إلى رحمة الله تعالى فى سنة ٧٨٨ ه‍ ، فصار القانون العثمانى من يومئذ أن

٢٦٧

يدخل على السلطان إيلجى وغيره بسلاح ، وأن تفتش ثيابه ، وأن يدخل على السلطان الأبين رجلين يكتنفانه ، فولى السلطنة بعده ولده السعيد السلطان بلدريم بايزيد خان مولده سنة ٧٤٦ ه‍ ، وولى السلطنة وعمره اثنان وأربعون عاما ، ومدة سلطنته ستة عشر عاما.

ولما استولى على كثير من قلاع النصارى تمشى إلى بلاد الطوائف فى بلاد الروم ، فلزم أن يستولى السلطان بلدريم بايزيد خان على ملوك الطوائف ، وضيق على جماعتهم مثل «ابن كومبان» أخذه وحبسه مع وزرائه ، فهرب مع وزيره مني الحبس ، ومضى إلى تيمور لنك ، وهرب أيضا «ابن منشأ» منه وحلف لحيته وحاجبه وصار فى صورة سقطى يبيع الخرازات ، وكذلك «ابن أصفند ياور» وغيرهم من أمراء تلك الديار وملوكها ، ووصلوا إلى تيمور لنك ، وشكوا من السلطان بايزيد خان ، وحسنوا له أن يصل إلى بلد الوم ، فوصل إلى البلاد الشامية والحلبية ، وقتل فيها ، وفتك ، وسفك الدماء ، وعاث فيها وأخذ تلك البلاد ، وأخذ أهلها ، ونهب المسلمين وسفك الدماء إلى أن وصل إلى أذربيجان ، وخرج السلطان بايزيد إلى قتاله ، وجمع عسكر الروم.

ولما التقى الفئتان قريب «أنكوديه» هرب من عساكره طائفة التتار بكتابة تيمور لنك لهم وتفخيذهم عنه ، وكذلك عسكر منشأ ، وعسكر كرميان ، وتركوا السلطان بايزيد خان وذهبوا إلى تيمور لنك ، ووقع الحرب الشديد وقتل من أولاد السلطان بايزيد مصطفى ، فشرع عسكره فى الانهزام وثبت هو وقليل ممن معه ، واستمر يقاتل إلى أن وصل تيمور بسيفه المشهور يقاتل بنفسه ، وقد عجزوا عنه فرموا عليه بساطا وأمسكوه ، وجعلوه فى الحبس فحصل له حمى عصبية ، وتوفى إلى رحمة الله تعالى فى سنة ٨١٥ ه‍.

وتسلطن بعده أولاده ، وهم : عيسى ، وموسى ، وسليمان ، وقاسم ، ومحمد ، وصار بينهم النزاع ، والقتال نحو اثنى عشر سنة إلى أن استقل بالسلطنة السلطان محمد خان بن سلطان بلدريم بايزيد خان فى سنة ٨١٦ ه‍ ومولده فى سنة ٧٧٧ ، ومدة سلطنته تسع سنين ، وعاش ثمانية وخمسين

٢٦٨

عاما ، وكان شجاعا مقداما ، مجاهدا فى سبيل الله تعالى ، افتتح عدة قلاع وبلاد ، وبذل نفسه فى الغزاة والجهاد ، ومهدها.

ومما فتحه : قلعة «قطمونية» ، وقلعة «إسكب» ، وقلعة «صامسون» ، وقلعة «أقسمة» وغيرها ، ثم خرج عليه محمد بن قرمان وأحرق بدويا ، فجاء السلطان محمد خان من بلاد «روم إيلى» ، ووصل إلى قوسية ، ووقع بينه وبين محمد بيك بن قرمان حرب عظيم مشهور ، انهزم منه عسكر بن قرمان وسنك محمد بن قرمان وولده مصطفى ، وأتى بهما أسيرين إلى السلطان محمد فعاتبهما ، وعفى عنهما ، وتصدق عليهما بمملكتهما.

وللسلطان محمد مدارس ، وعماير ، وأفعال خير ؛ وهو أول من الصر (١) لأهل الحرمين الشريفين من آل عثمان (رحمهم‌الله تعالى).

فلما تم أجله المحتوم فى أم الكتاب أراد الله تعالى نقله إلى جنات المآب ، وعاده من ملك الفناء إلى ملك البقاء المستطاب ، فعاش حميدا ، ومضى حميدا ، وتحول من دار الفناء إلى دار البقاء ، و (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)(٢).

وكانت وفاته بمرض الإسهال ـ فسيكون له مرتبة الشهادة ، وذلك فى سنة ٨٣٥ ه‍ ، ثم ولى بعده السلطان مراد خان الثانى بن محمد خان بن بلدريم بايزيد خان. مولده : فى سنة ست وثمانمائة.

وجلس على تخت السلطنة وعمره ثمانية عشر عاما. مدة سلطنته : إحدى وثلاثون سنة ، وعمره : تسع وخمسون سنة ، وكان ملكا مطاعا ، مقداما ، فاتكا ، شجاعا ، بذولا ، واسع العطاء.

عين للحرمين الشريفين من خاصة صدقاته فى كل عام ثلاثة آلاف وخمسمائة ذهبا ، وللشرفاء السادات من خزينته فى كل عام مثل ذلك ، فتح الفتوحات ، ولين حمومات الجموعات ، ومهد الممالك ، وأمن المسالك.

وأقام الشرع والدين ، وأذل الكفار والملحدين ، وأغر الإسلام والمسلمين.

__________________

(١) هكذا فى (أ) ، (س) ، ولعلها : انتصر.

(٢) الآية رقم ٨ من سورة العلق ، مكية.

٢٦٩

ومن جملة ما افتتحه : بلاد «سمدوة» ، وقلعة «مورة» وغيرهما ، وقاتل «قزال أنكروس» وهزمه ، وأسر منهم خلقا كثيرا ، واستمر يجاهد الكفار ، ويفتح الديار إلى أن أنشأ ولده السلطان محمد ، فرأى نجابته ، ولمح فى عزته سعادته ، وعرف إقباله ، وشهامته ، وأجلسه على سرير السلطنة ، واختار لنفسه التعاقد والفراغ فى مغيسا بحسن رضاه.

فولى السلطنة محمد بن مراد خان فى سنة ٨٥٦ ه‍ ، وجلس على التخت وقد استكمل عشرين سنة ، وكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثون سنة ، وكان من أعظم سلاطين آل عثمان وهو الملك النيّل العظيم الجليل ، أعظم الملوك جهادا ، فأقواهم فؤادا ، وأكثرهم توكلا على الله ، واعتمادا ، وهو الذى أسس ملك بنى عثمان ، وقنن لهم قوانين صارت كالأطواق فى أجياد الزمان.

وله مناقب جميلة ، ومزايا فاضلة جليلة ، وآثار باقية فى صفحات الليالى والأيام ، ومآثر لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام ، وغزوات كسرتها أصلاب الصلبان والأصنام.

ومن أعظمها : أنه فتح «القسنطينية» الكبرى ، وساق إليها السنن تجرى ، وجاء برا وبحرا ، وهجم عليها بجنوده وأبطاله ، وأقدم عليها بجنوده ورجاله وحاصرها خمسين يوما أشد الحصار ، وضيق على من فيها من الكفار والفجار ، وسل على أهلها سيف الله المسلول ، وتدرع بدرع الله الحصين المسيول ، ودق باب النصر والتأييد ، ولج الله تعالى بالفرج ، «ومن قرع بابا ولج ونج».

وصبر على مر الصبر إلى أن أتاه الله تعالى بالفرج ، ونزلت عليه ملائكة القريب القريب بالنصر العزيز من عند الله تعالى والفتح القريب ، ففتح أسطنبول فى اليوم الحادى والخمسين من أيام محاصرته ، وهو يوم الأربعة العشرون من جمادى الآخرة سنة ٨٥٧ ه‍ ، وصلى فى أكبر كنائس النصارى صلاة الجمعة ، وهى «إياصوفيا» ، وهى قبة تسامى قبة السماء وتحاكى فى الاستحكام قبة الأحرام ، ولا وهنت كبرا ولا هر هرسا ، كأن أبراجها أبراج

٢٧٠

أفلاك ، ومسامير أبوابها كنجوم السّماك مزق منها جلابيب الهلبان والأصنام ، وخلع عليها حلل مساجد الإسلام وأبدلها الله تعالى عن الظلمات نورا ، وكساها بنور الإسلام شرفا وعزا ، وحبورا ، لا زالت محلا للصلاة والعبادة والاعتكاف ، مقر الاستقرار قلوب العلماء ، والأصفياء ، والزهاد فيها ، والعراف مستقر السلاطين آل عثمان أهل المعدلة والإنصاف أبد الأبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين.

وقد أسس المرحوم المقدس فى اسطنبول للعلم أساسا راسخا لا يخشى على شمسه الأفول ، وبنى بها مدارس كالجنان لها ثمانية أبواب سهلة الدخول وفتن القوانين تطابق العقول والنقول ، ورغب فى طلب العلم الشريف ، ويكسى الطالبين حلل القبول بعد الخمول ، فجزاه الله خيرا عن الطلاب ، ومنحه بها أجرا وأكثر ثواب ، فإنه جعل لهم أيام الطلب مما يسدّ به فاقتهم ويكون به من خمار الفقراء فاقتهم ، وجعل لهم بعد ذلك مراتب يرتقون إليها ويصعدون بالتمكين والاعتبار عليها إلى أن يصلوا إلى سعادة الدنيا ، ويتوصلون بها أيضا إلى سعادة العقبى.

وإنه رحمه‌الله استجلب العلماء الكبار من أقاصى الديار ، وأنعم عليهم ، وعطف بإحسانه العام عليهم ، كمولانا على القوسمى ، والفاضل الطوسى ، والعالم الكورانى ، وغيرهم من علماء الإسلام ، وفضلاء الأنام ، فصارت اسطنبول بهم «أم الدنيا» ومعدن الفخار والعليا ، واجتمع فيهاي أهل الكمال من كل فضل.

فعلماؤها إلى الآن أعظم علماء الإسلام ، وأهل حرفها أدق الفطناء فى الأنام ، وأرباب دولاتها أهل السعادة العظام.

وللمرحوم المقدس قلادة منن لا تحصى فى أعناق المسلمين ، لا سيما العلماء الأكرمين قلدها فى أجيادهم فهى باقية إلى يوم الدين ، ولو ذكرت مناقبه ، وعددت لسخنت بها مجلد (أسكنه الله تعالى فسيح الجنان ، دائرا على قبره سحائب الرحمة والبركات) ، وقد كانت وفاته فى سنة ٨٨٧.

٢٧١

ثم ولى بعده السلطان بايزيد خان بن السلطان محمد خان الغازى ، مولده : سنة ٨٣٦ ه‍ ، وجلس على تخت السلطنة فى ثانى عشر بريع الأول سنة ٨٨٧ ، وعمره ـ إذ ذاك ـ ثلاثون عاما ، وعمر اثنين وستين عاما ، وهو من أعيان السلاطين العظماء تفرع من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها السماء ، وتحدر من سلالة فلوك الأكابر ، وورث سرير السلطنة كابرا عن كابر ، وتزينت باسمه رؤوس المنابر ، وتوشحت بذكره صدور المنابر ، وامتلأت بمدائح أولاده بطون الصحف والدفاتر ، وافتتح الفتوحات ، وغزا فى سبيل الله أعظم الغزوات.

فمما افتتحه : قلعة «مروان» ، وقلعة «كوكلك» ، وقلعة «آل كرميان» فى سنة ٨٨٨ ه‍ ، وقاتله السلطان أخوه «جم» فبرز السلطان بايزيد لقتاله ، وتهازما فانهزم السلطان جم ، وفر إلى مصر ، وحج فى زمن السلطان قايتباى وعاد وأكرمه السلطان قايتباى إكراما عظيما.

فذهب إلى «درسق» ، وجمع طائفة من الغزاة ، ونازع أخاه على الملك فقابله السلطان بايا يزيد فانكسر السلطان «جم» ثانيا ، وفر إلى بلاد النصارى سنة ٨٨٧ ه‍ ، وأرسل إليه السلطان بايزيد أحد عبيده فى صورة حلاق مجهول ، فلما رآه السلطان «جم» تأنس به ، وسأل عن صنعته : فقال : حلاق ، فاستخدمه ، وأمره أن يحلق له ، فحلق له رأسه بموس مسموم فهرب فى الحال ، وأثر السم فى رأسه ، وسرى إلى بدنه فمات إلى رحمة الله تعالى ، وله أشعار لطيفة بلسان التركى.

ومما افتتحه بايزيد من القلاع العظيمة والحصون المحكمة القديمة :

قلعة «متون» ، وقلعة «وقرون» وغير ذلك من القلاع والحصون ، وظهر فى بلاد العجم فى أيامه : شاه إسماعيل بن السيد حيدر بن الشيخ حفيد الصوفى سنة ٩٠٠ ه‍ ، وكان له ظهور عجيب ، واستيلاء على ملوك العجم بعد من الأعاجيب ، وفتك فى البلاد ، وسفك دماء العباد ، وأظهر مذهب الرفض والإلحاد ، وغير اعتقاد أهل العجم إلى انحلال الفساد بعد الصلاح

٢٧٢

والسداد ، وأخرب ممالك العجم ، وأزال من أهلها حسن الاعتقاد ، والله تعالى أعلم يفعل فى ملكه ما أراد ، وتلك الفتنة باقية إلى الآن فى جميع البلاد ، وشرع ذلك يحتاج إلى تاريخ مستقل ، ولا أعلم أحدا تعرض له من العلماء الأمجاد.

وكان السلطان بايزيد (رحمه‌الله تعالى ، وجعل الجنة شواه) من المجاهدين فى الله الذين لا يزالون يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوءهم منصورين على من شق منهم القضاة ، وعاداهم يجاهدون لتكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى ، فما زال غازيا فى سبيل الله مظفرا على أعداء الله إلى أن صار بيضة الإسلام بسيوفه محمية محفوظة ، وحركاته ، وسكناته بعين عناية الله وإعانته منظورة ملحوظة ، وكانت أيامه من أحسن الأيام ، وأكثرها أمنا وراحة ، وجمع قلب الأنام ، وكانت به كلمة الإسلام مجموعة ، وكلمة أهل الضلال خاسئة مقموعة ، وتولى الله على يديه إعزاز دينه ، وإذلال طواغيت الشرك وشياطينه.

وكان ـ مع ذلك ـ محبا لفعل الخيرات ، مثابرا على بذل الإنعام والصدقات ، محبا للعلماء ، والمشايخ ، والأولياء من أهل الكرامات بحيث دخل الخلوة ، وجلس الأربعين وارتاض مثل الصلحاء السالكين ، ودخل معه الخلوة والد مولانا أبو السعود أفندى المفتى المفسر ، وهو مولانا الشيخ باوصى مجيبى الدين أفندى ، وبنى الجوامع ، والمدارس ، والعمارات ، ودار الضيافات ، والنكايا ، والزوايات ، والخانقات ، ودار الشفاء للمرضى ، والحمامات ، والحبور.

ورتب للمفتى الأعظم ، ومن فى رتبته من العلماء العظام فى زمنه فى كل عام عشرة ألف عثمانى ، ولكل مدرس من مدرسى الثمانية من مدارس والده المرحوم السلطان محمد خان فى كل عام سبعة آلاف عثمانى ، ولمدرسى «شرح المفتاح» لكل واحد أربعة آلاف عثمانى ، ولكل واحد من مدرسى «شرح التجريد» ألفى عثمانى ، وكذلك رتب لمشايخ الطريق إلى الله تعالى ، ومريديهم ، وأهل الزوايات لكل واحد على قدر مرتبته واستحقاقه ، هذا غير

٢٧٣

كسوة الصيف من الأصواف ونحوها ، وغير كسوة الشتاء من الفراوى والجوخ لكل أحد على قدر مرتبته ، وصار ذلك قانونا جاريا بعده مستمرا ، وكا يحب أهل الحرمين الشريفين ، ويحسن إليهم إحسانا كثيرا ، ورتب لهم الصرّ فى كل عام ، وكان يجهز إلى قفر الحرمين الشريفين فى كل سنة أربعة ألف دينار ذهبا يصرف بعضها على فقهاء مكة ، وعلى فقراء المدينة ، وكانوا يتسعون بها ويرتفقون بها ويدعون له ، وإذا ورد عليه أحد من أهل الحرمين الشريفين ينعم عليه ، ويحسن إليه ، ويرجع من عنده بصلات عظيمة ، ومراتب جزيلة.

وممن ورد عليه فى شبابه : خطيب مكة المرحوم الشيخ محيى الدين بن عبد القادر بن عبد الرحمن العراقى ، والشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسين العليف الشاعر البطحاء ، وفاضلها ، ونالا منه خيرا كثيرا.

وصنف «العليف» باسمه تاريخا سماه : «الدر المنظوم فى مناقب السلطان بايزيد ملك الروم» ، ولا يخلو من فوائد لطيفة.

ومما نظمه الشهاب العليف (رحمه‌الله تعالى) فى مدحه من قصيدة رائية طنانة مطلعها :

خذوا من ثنايايا موجب الحمد والشكر

ومن در نظمى طيب النظم والنثر

ومنها أيضا :

فيا راكبا يمشى على بطن ضامر

إلى الروم يهدى نحوها طيب النشر

لك الخير إن وافيت بروسا فسر بها

رويدا الاسطنبول سامية الذكر

لذى ملك لا يبلغ الوصف كنهه

شريف المساعى نافذ النهى والأمر

إلى بايزيد الخير والملك الذى

حمى بيضة الإسلامة بالبيض والسّمر

وجرد للدين الحنيفى صارما

أباديه جمع الطواغيت والكفر

وجاهدهم فى الله حق جهاده

رجاما يبقى من الفوز والأجر

له هيبة ملء الصدور وصولة

مقسمة بين المخافة والذعر

٢٧٤

أطاع له ما بين روم وفارس

ودان له ما بين بصرى إلى مصر

هو البحر إلا أنه دائم العطا

وذلك لا يخلو من المد والجزر

هو البدر إلا أنه كامل الضيا

وذاك خليف النقص فى معظم الشهر

هو الغيث إلا أن للغيث مسكة

وذا لا يزال الدهر ينهل بالقطر

هو السيف إلا أن للسيف بنوة

وفل ، وذا ماضى العزيمة فى الأمر

سليل بنى عثمان والسادة الألى

علا مجدهم فوق السماكين والنسر

ملوك كرام الأصل طابت فروعهم

وهل ينسب الدنيا إلا إلى التبر؟!

محوا أثر الكفار بالسيف فاعتدت

بهم حوزه الإسلام سامية القدر

فيا ملكا فاق الملك مكارما

فكل إلى أدنى مكارمه يجرى

لئن فقتم فى رتبة الملك والعلا

فإن الليالى بعضها ليلة القدر

فدتك ملوك الأرض طرا لأنها

سراج وأنت البدر فى غرة الشهر

تعاليت عنهم رفعة ، ومكانة

وذاتا ، وأوصافا تجل عن الحصر

إلى العراة القعسا والرتبة التى

قواعدها تسمو على منكب النسر

سموت علوا إذ دنوت تواضعا

وقمت بحق الله فى السر والجهر

غدت بك أرض الروم تزهو ملاحة

وترفل فى ثوب الجلالة والفخر

ألست ابن عثمان الذى ساد ذكره

مسير ضياء الشمس فى البر والبحر

يمينك يروى عن عطاء ونائل

ووجهك يروى فى البشاشة عن بشر

وإنى لصوان لدر قلائدى

عن الدار إلا فيك يا ملك العصر

فقابل ـ رعاك الله ـ شكرى بمثله

فإنك للمعروف من أكرم الذخر

فلا زلت محروس الخباب مؤيدا

من الله بالتوفيق والعز والنصر

يحكى أن القصيدة لما وصلت إليه فرح فرحبا شديدا ، وأمر لها حبها أحمد العليف المذكور بألف دينار ذهبا جارية ، ورتب له فى دفتر الصبّر فى كل عام

٢٧٥

مائة دينار ذهبا كانت تصل إليه فى كل عام ، فصارت بعده إلى أولاده (رحمه‌الله تعالى) ، وكان للمرحوم السلطان بايزيد عده أولاد صاروا ملوكا وصار لأولادهم أولاد منهم : السلطان جهان شاه ، والسلطان أحمد ، والسلطان فورقد ، والسلطان سليم ، والسلطان محمود ، والسلطان عبد الله ، والسلطان غلام شاه ، وكلهم أعلام الهدى ومصابيح الدجا ، ونجوم لرجوم شياطين العدا.

نشأو فى مهد السلطنة وحجرها ، ونموا ما بين شجرها ونحرها من شجرة طاب عودها واعتدل عمودها.

ولا غرو أن يجود الجواد كأصله ، ويحول محائل الليث عن شبله ، والولد فى سرائبه وتبله وفضله ، وكل شىء فى الحقيقة يرجع إلى أصله.

وقيل :

ملوك بنى عثمان ـ مذكان أصلهم ـ

كرام لهم فى المكرمات مفاخر

إذا ولد المولود منهم تهللت

له الأرض واهتزت إليه المنابر

ولما ترعرعوا وتبرعوا أخرجهم والدهم المرحوم إلى الصناجق العالية فى بلاد الروم ، وأنعم عليهم بالولايات العظام ، وحفظ بهم ملك الإسلام ، وقلدهم الأمور الحسام ، فجعل لأكبر بأؤلاده السلطان أحمد مملكة «أماسيا» وما وراءها ، وأنعم على السلطان جهان شاه بمملكة قزمان وأعمالها ، وولى السلطان فورقد «منتشا» وتوابعها ، وجعل للسلطان سليم مملكة «طوابزون» وهو الذى جرى فى جلبة السعادة فسبق ما سبق فى علم الله تعالى سلطنته ، فكان أولى من الجميع وأحق ، وأعطى السلطان محمود مملكة «مغيا» وعين للسلطان عبد الله مملكة «الكفار وما يليه» من بلاد التتار ، وكلهم ملوكب أبرار ، وسلاطين كبار ، من تلق منهم فقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التى يهدى به السارى ، وأسعد الله جهان شاه ، ومحمود ، وحمد بالوفاة فى حياة والدهم ، وكفاهم الله تعالى القتل والقتال ، وصار حال ما عدا السلطان سليم إلى ما حال ، فرحم الله تعالى أولئك الجميع السادة الأبطال ،

٢٧٦

وعوضهم فى سلطنة هذه الدار جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار ، وكان والده السلطان بايزيد خان استولى عليه مرض النفوس ، وهو أشهر مرض آل عثمان (رحمه‌الله تعالى) ، وضعف عن الحركة ، وترك السفر سنين متعددة ، فصار العسكر لبطرهم ، وكثرة راحتهم ، وسكونهم يتطلبون سلطانا شابا بأقوى الحركة ، كثير الأسفار ليجاهد بهم فى سبيل الله ، ويغنمون من الكفار غنائم ، ويظفرون بأنواع المغانم ورأوا أن السلطان سليم خان أجله من سائر إخوانه ، وأقوى على ذلك القوة جنانه ، وعلو شأنه ، فمالوا إليه ، ومال إليهم ، فتوجه بالعطف والحنو عليهم ، وخرج عليه والده محاربا ، وركب عليه مقاتلا ومغاضبا ، فقاتله أبوه وهزمه ، فولى هاربا ، ثم عطف على والده ثانيا ، فلما رأى ميل العسكر إليه ، واختيارهم له ، واجتماعهم عليه.

ورأى السلطان بايزيد توجه أركان الدولة والعسكر إلى السلطان سليم ، وأشار إليه وزرائه أن يفرغ عن السلطنة للسلطان سليم بقلب سليم ، وأشار إليه ، ويختار التقاعد فى إدارته فى عز وتعظيم ، وأبرموا عليه فى ذلك ، فما رأى بدا من إجابتهم إلى ما سألوا ، وموافقتهم إلى ما طلبوا منه وأملوا ، فطلبه إلى حضوره ، وعهد إليه بالسلطنة ، وتوجه إليه التخت ، وتوجه مع خواص خدمه إلى إدارته ، فلما وصل إلى «قربة جورلو» انكسر زجاج مزاجه ، وعجز الأطباء فى علاجه ، وسقاه ساقى الحمام كأس أجله المحتوم ، فسلم إلى قابض الأرواح روح المرحوم ، وأقدم على الله تعالى الحى القيوم ، ورزق مرتبة الشهادة ، ونال بها أعلى درجات السعادة ، وانتقل من الملك الذليل الفانى إلى الملك الدائم الباقى ، وذلك فى سنة ٩١٨ ه‍.

وولى عوضه السلطان الأعظم السلطان سليم خان كاسر سلطان العجم ، وفاتح إقليم مصر ، وسائر ممالك العرب (طيب الله ثراه ، وجعل الفردوس أعلى محله وما وراه».

مولده : فى أماسية سنة ٨٧٣ ه‍ ، وجلس على تحت السلطنة وعمره جميعه ستة وأربعون سنة.

٢٧٧

وكانت مدة سلطنته تسع سنين وثمانية أشهر ، وكان عمره جميعه أربعا وخمسون سنة ولم يعمر أكثر من ذلك ، ولم تطل مدة سلطنته لأنه كان سفاكا يكثر (١) من القتل ، وهذه عادة الله تعالى فى السلاطين ، والأمراء والحكام إذا أكثروا من سفك الدماء.

وكان سلطانا قاهرا ، مالكا جبارا ، قوى البطش ، عظيم القتل ، كثير الفحص عن أخبار الناس ، شديد التوجه أهل النجدة والباس ، عظيم التجسس عن أخبار الممالك ، عارفا بمسالك الطرق والمسالك ، وكان يغير زيه ولباسه ، ويتجسس فى الليل والنهار ، ويطلع على الأخبار وتكشف الأسرار ، وله عدة مصاحبين يدورون فى الأسواق ، والجمعيات والمخافل ، ومهما سمعوا به ذكروه له فى مجلس المصاحبة ، فيعمل بمقتضى ما يسمعه بعد الوقوف فيهم ، وقد أدركت جماعة من مصاحبيه المذكورين ، وسمعت منهم حسن مصاحبة السلطان سليم معهم ، ولطف معاشرته لهم ، وتفرسه فى اللغة الفارسية ، وحسن ظنه بالفارسية والرومية ، وبحيث فاق فيه فصحاء الطائفتين.

ورأيت بيتين بالعربى بخطه الشريف كتبهما فى علو المقياس فى الكوشك الذى أمر بنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة المحا انمحى لطول الزمان مداده ، ومال إلى لون البياض سواده ، وكان هذا الكوشك محترما مقفلا لا يصل إليه أحد لعظم بانيه ، ولا ينتذل بالدخول إليه تعظيما لراعيه ، فدخلت إلى مصر سنة ٩٣٣ ه‍ ، وكان يوم كسر الفيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك «لبكريكى» صاحب مصر يومئذ «حسرف باشا» ، وكنت مصاحبا لمعلمه مولانا عبد الكريم العجمى ، فطلع وأطلعنى معه فى صحبة «حسرف باشا» المذكور ، فرأيت مكتوبا على الرخام الأبيض كتابة خفيفة لا تكاد تقرأ إلا بتأمل ، وهى هذين البيتين :

الملك لله من يظفر بنيل منى

يرده قسرا ويضمر منه نفسه الدركا

__________________

(١) فى (س) : كثيروا.

٢٧٨

لكان لى أو لغيرى قدر أنملة

فوق التراب لكان الأمر مشتركا

وتحتهما صورته ، وكتبه سليم بذلك الحظ وذلك القليم ، ولعمرى إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية فى البراعة ، ونهاية فى التمكن والصناعة ، فيدل على ملكته رحمه‌الله فى اللسان العربى أيضا ، لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربى الفصيح البليغ المنسجم ، وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره ، فهذه مرتبة عالية فى حسن التمثيل ولطف الاستحضار ، وفهم أشعار العربية ، وذوقه بها.

وهذا القدر يستعظم ويستكثر على عظماء العجم المكيين على علوم الغربية فضلا عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك وفتحها ، والموفقون فى ذوق الشعر العربى ، وحسن أدائه من العلماء ، فالموالى فى غاية القلة معدودون ، ولا يعد هذا انقضاء فيهم لأن فهمهم الشعر العربى على وجهه وذوقه كما ينبغى قليلا أيضا فى علماء الغرب إلا من توغل فيهم فى علم لاذب وتعب فى تحصيله وذاب ، وقيل :

فلا المعزّى بباق بعدميته

ولا المعزّا وإن عاشا إلى حين

ولما استقر السلطان سليم على سريري الملك ، وهيهات ، أين الاستقرار؟! وأين الملك؟! ، والملك لله الواحد القهار ، وجلس على الكرسى ، وأزال الدمار ، وثبت على تخت السلطنة ، وأنى له بالثبات؟! ، والقرار شرع فى قهر الملوك ، بوأخذ الممالك ، والاستيلاء على الأقاليم والبلدان والمسالك.

فبدأ بقتال شاه إسماعيل بن الشيخ حيدر الصوفى ، فأنا لم أظفر بكتاب فيه تفصيل ذلك ، وإنما تلقيته من أفواه الرجال.

وأخبرنى نفسة من أعيان كتبة الديوان : على أن السلطان بايزيد (رحمه‌الله تعالى) رحمة واسعة حذره منجم صادق فى أهل عصره : أن هلاله يكون على يد ولد يولد بعد ما ولد له عدة أولاد ، وكان تحذيره له قبل أن يولد السلطان سليم ، فطلب امرأة معتمدة عنده بيد «هاجوان الموطوف» ، وهى قابلة لمن يضع حمله منهن ، وكانت من الصالحات الخيرات ، الدّينات ، فقال

٢٧٩

لها : إذا وضعت إحدى الجوارى بعد الآن صبيا فاقتليه ولا تبقيه حيا ، وإذا ولدت أنثى أتركيها لتعيش مع بناتى ، وأكد عليها فى ذلك غاية التأكيد ، واستمرت على ذلك إلى أن ولدت السلطان سليم والدته فرأت صبيا فحزنت عليه ، وتناولته القابلة لتحققه فرأت صورة جميلة فرقت ، وقالت فى نفسها : بأى وجه ألقى الله تبارك وتعالى فى قتل هذاي الطفل المعصوم؟ والله لا أقدم على قتله» ، وقالت لبايزيد بأن حصل له بنت جميلة حسنة الصورة ، فلما أخبره بذلك سماها «سليمة».

واستمر على ذلك والحال مكتوم لا يعلمه غير القابلة والأم والله سبحانه وتعالى ، وصار كلما كبر وانتشأ ظهر عليه سيما الغلبة والقهر ، وإذا اجتمعن البنات وجلس بينهن لطم من إلى جانبه ، وضرب ونهب ما وجد بأيديهن من ملعوبات الأطفال ، وكانوا يحدرون منه ، فدخل السلطان بايزيد فى يوم عيد إلى داخل السراى ، وأمر بالمكان قرين ، واستدعى ببناته ، وأجلسهن بين يديه ، وأمر أن يوضع بين يدى كل واحدة منهن أنواع الحلاوين ، والفواكه ، وأحضر بينهن السلطان سليم ـ واسمه سليمة ـ فشرع فى غرامته على عادته وخطف ما بين أيديهن من الحلاوى والفواكه ، ووضع الكل بين يدى نفسه ، والكل خائفات منه هائبات له ، فتعجب السلطان بايزيد بذلك ، وصار يتأمله جديدا ، وفى أثناء ذلك دار بينهم يعسوبا كبيرا أرادوا مسكه فعجزوا عنه ، وهو يلسع من يريد مسكه فيهابون منه ، فمد السلطان سليم يده ، وهو حوله فصاده بكفه ، ومرسه ، وخنقه ، ورماه من يده ، فازداد تعجب السلطان بايزيد منه ، وقال للنساء الواقفات : هذا لا يكون بنتا! اكشفوا لى عنه ، فبادرت القابلة وقالت : هذا صبى ، وليست ببنت ، فقال لها : وكيف خالفت أمرى وما قتلتيه؟ فقالت : خفت من الله سبحانه وتعالى رب العالمين وخلصت ذمتى وذمتك من قتل معصوم ولا ذنب له ، فتفكر طويلا ثم قال : ما قدر الله تعالى فهو كائن لا مفر عنه ، وأمر بالكف عنه ، وتربيته ، إلى أن كان ما كان بتقدير الله تعالى.

* * *

٢٨٠