كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

ثم انقضى ذلك المجلس العظيم ، وانقضى ذلك الموكب الشريف الوسيم ، وكان يوما شريفا مشهودا ووقتا مباركا متيمنا مسعودا ، رقمته الليالى يو الأيام فى صفحات أوراقها ، وأثبتته فى جدار دفاترها ، وأطباقها.

قال (١) :

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن روى

ثم توجه محمد جاويش المذكور بالقنديل الذى بقى معه إلى المدينة المنورة ، ووصل إلى تلك الروضة الشريفة المطهرة ، واجتمعت له أكابر المدينة الشريفة وأعيانها وعلماؤها وصلحاؤها وأركانها ، وشيخ حرمها ، ونوابها ، ومن له شأن وقدر من مجاوريها وسكانها ؛ فحصل موكب عظيم فى الحرم الشريف النبوى ، وفتحت الحجرة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وعلق ذلك القندل تجاه الوجه الشريف النبوى عليه الصلاة والسلام.

وقرأت الفواتح وحصل الدعاء من سائر جيران سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام ، بدوام دولة هذا السلطان الأعظم سلطان سلاطين العالم ؛ خلد الله تعالى ملكه السعيد ، وأيد معدلته وفضله وإحسانه المزيد ، فالله تعالى يطيل عمره ويسعده ، ويوفقه للخيرات ، ويرشده ويوفقه إلى الأعمال الصالحات من أعمال الخير ، ويسدده ، وهو أول من علق القناديل الذهب فى الحرمين الشريفين من سلاطين آل عثمان ، خلد الله تعالى سلطانته ، وأيد دولته إلى انتهاء الزمان.

وقد سبق لهذه الخدمة الشريفة آباؤه السلاطين العظام ، وفاق بهذه المزية الكريمة أجداده وأسلافه الكرام ، لا زال فائقا كبار سلاطين العالم وخلفائها وراق بأقدام أقدام عزمه هام ملوك الدنيا وعظمائها ، وفى ذلك قال :

هو العادل الظلام للمال والعدا

خائنه قد أكفرت وديارها

عليم بنور الله ينظر قلبه

فلم يغن أسرار القلوب استتارها

__________________

(١) فى (س) : قال قال قال.

١٠١

به دمر الله الصليب وأهله

به ملة الإسلام عال منارها

فلا زالت الأفلاك تجرى بأمره

ولا زال عنه قطبها ومدارها

* * *

(فصل فى ذكر كسوة الكعبة الشريفة قديما وحديثا

وحكم بيعها وشرائها أو التزكى بها)

ذكر الأزرقى ، وابن جريج (رحمهم‌الله تعالى) : أن أول من كسى الكعبة تبع الحميرى ؛ من ملوك اليمن فى الجاهلية ، تعظيما لها ، واسم هذا التبع : أسعد ، وأنه رأى فى منامه أنه يكسو الكعبة ؛ فكساها الأنطاع ، ثم رأى أنه يكسوها ؛ فكساها من خز اليمن ، وجعل لها بابا يغلق ، وقال سعد فى ذلك :

فكسونا البيت الذى حرم الله

ملاء مقصّبا وبرودا

وأقمنا من الشهر عشرا

وجعلنا لبابه إقليدا

وخرجنا منه إلى حيث كنا

ورفعنا لواءنا المعقودا

وقال الأزرقى أيضا : حدثنى جدى ، حدثنا سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن ابن أبى مليكة ، قال : كان يهدى للكعبة هدايا شتى من أكسية وحبرة وأنماط ، ويكسو ـ بها الكعبة ، فإذا بلى شىء منها جعل فوقه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شىء.

وكانت قريش فى الجاهلية ترفد فى كسوة البيت ؛ فيضربون على القبائل بقدر احتمالهم من عهد قصى بن كلاب ، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم ، وكان سويا يتجر فى المال ، فقال لقريش : أنا أكسو الكعبة وحدى سنة ، وجميع قريش سنة ، وكان يفعل ذلك إلى أن مات ؛ فسمته قريش العدل ؛ لأنه عدل قريشا وحده فى كسوة البيت الشريف.

ويقال لبنيه بنو العدل ، وقال أيضا : أخبرنى محمد بن يحيى عن الفضل ، عن الواقدى ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبى حبشية ، عن أبيه قال : كسى

١٠٢

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت الثياب اليمنية ، ثم كساه عمر وعثمان رضي‌الله‌عنهما القباطى ، وكان يكسى الديباج بعد ذلك أيضا.

وقال أيضا : حدثنى جدى قال : كانت الكعبة كل سنة تكسى كسوتين ، فتكسى أولا ـ الديباج قميصا تدلى عليها يوم التروية ، ولا يحاط ، ويترك الإزار حتى (١) لا يذهب الحجاج ليلا يخرقونه ، فإذا كان العاشوراء علقوا عليها الإزار ، وأوصلوا بالقميص الديباج ، فلا يزال عليها إلى يوم السابع والعشرين من شهر رمضان ؛ فيكسوها الكسوة الثانية ، وهى من القباطى.

فلما كان أيام خلافة المأمون أمر أن تكسى الكعبة ثلاث مرات كل سنة ، فتكسى الديباج الأحمر يوم التروية ، وتكسى القباطى أول رجب ، وتكسى الديباج الأبيض فى عشر رمضان.

واستمر على ذلك ثم انتهى إليه : أن الإزار التى تكسى بها الكعبة العاشوراء ، ويلصق بالقميص الديباج الأحمر التى هو تكسى به يوم التروية ، لا يصير إلى تمام السنة ، وأنه يحتاج إلى أن يجدد لها إزار على عشر رمضان مع قميص الديباج الأبيض التى تكسى به على العيد.

فأمر أن تكسى إزار آخر على عشر رمضان ، ثم بلغ المتوكل على الله تعالى أن الإزار يبلى قبل شهر رمضان من كثرة مس أيادى الناس ، فزادها إزارين ، وأمر بإزيال قميص الديباج الأحمر إلى الأرض ، ثم جعل فوقه فى كل شهرين إزارا ، وذلك فى سنة ٣١٢ ه‍ ، ثم بعد الخلفاء العباسيين وأيام وهنهم وضعفهم ، كانت كسوة الكعبة تارة من قبل سلاطين مصر ، وتارة من قبل سلاطين اليمن ، بحسب قوتهم وضعفهم إلى أن استمرت الكسوة الشريفة من سلاطين مصر ، إلى أن اشترى السلطان الملك الصالح بن الناصر قلاوون قريبتين بمصر ، وقفها على عمل كسوة الكعبة الشريفة ، اسمها يبسوس وسندبيس.

ثم استمرت سلاطين مصر من بعده ترسل كسوة الكعبة فى كل عام ،

__________________

(١) سقط من (س).

١٠٣

وكانوا يرسلون عند تجدد كل سلطان مع الكسوة السود التى تكسى من جانب البيت الشريف كسوة لداخل البيت الشريف ، وكسوة خضراء للحجرة الشريفة النبوية الشريفة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، مكتوب على كل من الكسوة السود والحمر والخضر ، (لا إله إلا الله محمد رسول الله) دالات فى قلب دالات ، وقد يزاد فى حواشى تلك الدالات آيات أخرى مناسبة ، أو أسماء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تترك سادجة بحسب ما يؤمر به النساج.

فلما آلت سلطنة مماليك العرب إلى سلاطين آل عثمان خلد الله أيام سلطنتهم القاهرة ، ما دام الدوران وراء (١) الزمان ، وأخذ المرحوم المقدس السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان (عليه الرحمة والرضوان) مملكة العرب من الجراكسة بالسيف والسنان ، جهزت كسوة الكعبة الشريفة داخلا وخارجا ، وكسوة المدينة الشريفة على ما جرت به العادة.

وأمر باستمرار الكسوة السود الكعبة الشريفة على الوجه المعتاد لما آلت السلطنة العظمى إلى المغفور له المرحوم السلطان سليمان خان ؛ أمر باستمرار الكسوة الشريفة على عوائدها السابقة ، ثم إن قريتى يبسوس وسندبيس الموقوفتين على كسوة الكعبة الشريفة خربتا ، وضعف ريعهما على الوفاء بمصروف الكسوة ، وأمر أن تكمل من الخزائن السلطانية بمصر.

ثم أضاف إلى تلك القريتين الموقوفتين قرى أخرى أوقفهما على كسوة الكعبة الشريفة ، فصار وقفا عامرا فائضا مستمرا ، وذلك من أعظم مزايا السلاطين العظام الذى يفتخرون بها على ملوك الأنام ، ولا يصل إلى ذلك إلا أعظم السلاطين الفخام ، وهى الآن من خصوصيات آل عثمان زيد الله تعالى بمزاياهم أجياد الليالى والأيام ، وخلد ذكر محاسنهم فى صفحات دفاتر الدهر إلى يوم القيامة إن شاء الله الملك العلام.

وأما نزع الكسوة الشريفة المعظمة وتقسيمها بين الناس ، فقد ذكر الأزرقى

__________________

(١) فى (س) : ور.

١٠٤

(رحمه‌الله تعالى) ، قال : «حدثنى جدى عن سالم بن خالد : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كان ينزع كسوة البيت فى كل سنة ، فيقسمها على الحاج» ، وقال أيضا : «حدثنى جدى ، حدثنا عبد الجبار بن الوردى المكى ، قال : سمعت ابن أبى مليكة يقول : كان على الكعبة الشريفة من كسوة الجاهلية بعضها فوق بعض ، فلما كسيت فى الإسلام من بيت المال خففت عنها تلك الكساوى شيئا فشيئا ، وكان أول من ظاهر لها بكسوتين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فلما كان أيام معاوية بن أبى سفيان كساها الديباج مع القباطى ، ثم إنه بعث إليها بكسوة ديباج وقباطى وحبرة ، وأمر شيبة بن عثمان أن يجرد الكعبة عن الكساوى ، وتحلقها بالطيب ، ويلبسها ما جهزه إليها ، فجردها وطيب جدرانها بالخلوق ، وكساها تلك الكسوة التى بعث بها معاوية ، وقسم الثياب التى كانت عليها من أهل مكة.

وكان سيدنا عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه حاضر فى المسجد الحرام فما أنكر ذلك ولا كرهه ، وجاب شيبة بكسوتها حتى رأى على امرأة حائض من كسوتها ، فما أنكر ذلك عليها».

وقال أيضا : «حدثنى محمد بن يحيى ، عن الواقدى ، عن عبد الحكم ، عن عبد الله بن فروة ، عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، قال : قدمت مكة معتمرا ، فجلست إلى عبد الله بن عباس فى صفة زمزم وشيبة بن عثمان يجرد الكعبة ، ورأيته يحلق جدورها ويطيبها ، ورأيت ثيابها التى جردها عنها قد وضعت ، ورأيت شيبة بن عثمان يومئذ ، فلم أر ابن عباس أنكر شيئا من ذلك فيما صنع شيبة بن عثمان».

وقال أيضا : «حدثنى جدى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدثنا علقمة عن أمه ، عن أم المؤمنين عائشة رضي‌الله‌عنها : أن شيبة بن عثمان دخل عليها وقال لها : أيا أم المؤمنين تكرر ثياب الكعبة عليها ، فنجردها من خلقائها ، ونحفر لها حفرة يدفن فيها ما يلى منها ، ولا يلبسها

١٠٥

الحائض والجنب ، فقالت له عائشة رضي‌الله‌عنها : ما أصبت فيما فعلت ، فلا تعد إلى ذلك ، فإن ثياب الكعبة إذا نزعت من عليها لا يضرها من لبسها».

ومذهب علمائنا رضي‌الله‌عنهم فى ذلك رجوع أمره إلى السلطان.

قال الإمام فخر الدين قاضى خان (رحمه‌الله تعالى) فى كتاب «الوقف» من فتواه : ديباج الكعبة إذا صارت خلقا يبيعه السلطان ، ويستعين به فى أمر الكعبة ؛ لأن الولاية فيه للسلطان لا لغيره.

وفى تتمة الفتوى عن الإمام محمد (رحمه‌الله تعالى) فى ستر الكعبة يعطى منه إنسان ، فإن كان شيئا له ثمن لا يأخذه ، وإن لم يكن له ثمن فلا بأس به.

قال الإمام نجم الدين الطرسوسى (رحمه‌الله تعالى) فى منظومته ، قال :

وما على الكعبة من لباس

إن رث جاز بيعه للناس

ولا يجوز أخذه بلا شراء

للأغنياء وللفقراء

قال الإمام الفقيه أبو بكر الحدادى فى السراج الوهاج (١) : لا يجوز قطع شىء من الكعبة ، ولا بيعه ، ولا شراؤه ، ولا وضعه بين أوراق المصحف ، ومن حمل شيئا من ذلك فعليه رده ، ولا عبرة بما يتوهمه الناس ، أنهم يشترون ذلك من بنى شيبة (٢) فإنهم لا يملكونه ، فقد روى عن ان عباس وعائشة أنهما قالا : لا يبيع ذلك ، ويجعل ثمنه فى سبيل الله تعالى.

__________________

(١) السراج الوهاج ؛ هو كتاب : السراج الوهاج الموضح لكل طالب محتاج للإمام أبى بكر بن على المعروف بالحدادى العبادى المتوفى فى حدود سنة ٨٠٠ ، والكتاب باختصار لكتاب القدورى فى فروع الحنفية للإمام أبى الحسين أحمد بن محمد القدورى البغدادى الحنفى المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍. وقد عد المولى بركلى كتاب السراج الوهاج للحدادى من الكتب المتداولة المعروفة الضعيفة غير المعتبرة ، ثم اختصر هذا الشرح وسماه : الجوهرة النيرة. كشف الظنون : ٢ / ١٦٣١.

(٢) بنو شيبة : بطن من عبد الدار ، من قريش ، من العدنانية ، وهم : بنو شيبة بن عثمان بن طلحة بن عبد الدار ، وهم : حجبة الكعبة المعروفون ، وانتهت إليهم من قبل جدهم عبد الدار. نهاية الأرب.

١٠٦

وروى فى الحديث الصحيح : «لو لا حداثة قومك بكفر لأنفقت كنز الكعبة فى سبيل الله تعالى».

قال القرطبى (١) من علماء المالكية (رحمه‌الله تعالى) : «كنز الكعبة المال المجتمع مما يهدى إليها بعد نفقة ما يحتاج الكعبة إليه ، وليس من كنز الكعبة ما تحلى به من الذهب والفضة ؛ لأن حليها حبس عليه لحصرها وقناديلها لا يجوز صرفها فى غيرها». انتهى.

فعلى قول القرطبى يكون كسوتها أيضا حبس عليها لحصرها وقناديلها ، فلا يملكها أحد. انتهى.

وقال الزركشى من علماء الشافعية (رحمه‌الله تعالى) فى قواعده : «قال ابن عبد الحكم : إن امتنع من بيع كسوة الكعبة ، وأوجب رد من حمل منها شيئا».

وقال ابن الصلاح (٢) : «هى رأى الإمام ، والذى يقتضيه القياس : أن العادة استمرت قديما بابتدال كل سنة ، ويأخذ بنو شيبة تلك العتيقة ، فيتصرفون فيها بالبيع وغيره ، ويقرهم الأئمة على ذلك فى كل ، ولا تردد فى جوازه».

والذى يظهر لى : أن كسوة الكعبة الشريفة إن كانت من قبل السلطان من

__________________

(١) القرطبى : سبقت الإشارة إليه.

(٢) ابن الصلاح ؛ هو : تقى الدين أبو عمرو الشهرزورى ؛ عثمان بن الصلاح عبد الرحمن بن موسى بن أبى النصر الشافعى ، ولد سنة ٥٧٧ ه‍ فى بلد شرخان قرب شهرزور من أعمال إربل ، وغلب عليه لقب أبيه الصلاح عبد الرحمن ، وينسب إلى جده الثالث أبى النصر ، فيقال : النصرى ، وإلى بلده : الشهرزورى الشر خان. له مصنفات عدة منها : كتابه «المقدمة فى علم الحديث» ، شرح صحيح مسلم ، الأحاديث الكلية التى عليها مدار الدين ، الأمالى وغيرها كثير. انظر مقدمة الدكتورة عائشة عد الرحمن فى تحقيقها كتاب مقدمة ابن الصلاح.

١٠٧

بيت مال المسلمين فأمرها راجع لمن يعطها من قبله ، لمن يشاء من الشيبيين أو غيرهم ، وإن كانت من أوقاف السلطان وغيره فأمرها راجع إلى شرط الواقف فيها ، فهى لمن عينها لهم ، وإن جهل شرط الواقف فيها عمل بما جرت به العوائد السابقة ، كما هو الحكم فى سائر الأوقاف.

وكسوة الكعبة الشريفة الآن من أوقاف السلاطين ، ولم يعلم شروط الواقف فيها ، وقد جرت عادة بنى شيبة أنهم يأخذون لنفسهم الكسوة العتيقة بعد وصول الكسوة الجديدة ؛ فيبقون على عاداتهم فيها.

وللعلماء المتأخرين رسائل فى حكم كسوة الكعبة لم يتيسر لى الآن الوقوف على شىء منها.

* * *

١٠٨

الباب الثالث

* فى بيان ما كان عليه وضع المسجد الحرام فى الجاهلية ، وصدر الإسلام.

* وما أحدث فيه من التوسع والزيادة فى زمن سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وزمن خلافة سيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وزمن سيدنا عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه.

* وهدم عبد الله بن الزبير بناء قريش للكعبة ، وإعادتها على قواعد إبراهيم عليه‌السلام.

* ثم هدم الحجاج جانب الحجر والميزاب من الكعبة ، وإعادتها على ما بنته قريش فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه الشريف.

اعلم أن الكعبة الشريفة لما بناها سيدنا إبراهيم عليه‌السلام لم يكن حولها دارا ، ولا جدارا ، استمرت كذلك فى أيام العمالقة وجرهم وخزاعة ، لا يستجرئ أحد أن يبنى عليه دارا ولا جدارا احتراما للكعبة الشريفة ، فلما آل أمر البيت إلى قصى بن كلاب واستولى على مفتاح الكعبة ـ كما تقدم بيانه ـ جمع قصى قومه وأذن لهم أن يبنوا بمكة حول البيت الشريف بيوتا من جهاتها الأربع ، وكانوا يعظمون الكعبة أن يبنوا حولها بيوتا ، أو يدخل إلى الكعة على جنابة ، وكانوا يقيمون بها نهارا ، فإذا أمسوا خرجا إلى الحل ، فقال لهم قصى بن كلاب : إن سكنتم حول البيت هابتكم الناس ، ولم يستحل أحد قتالكم والهجوم عليكم.

١٠٩

وبنى هو دار الندوة من الجانب الشامى ـ كما تقدم بيانه ـ ويقال : إنها محل مقام الحنفية ، الذى يصلى فيه الآن الإمام الحنفى الصلوات الخمس.

وقسم قصى باقى الجهات بين قبائل قريش ؛ فبنوا دورهم وشرعوا أبوابها إلى نحو الكعبة الشريفة ، وتركا للطائفين مقدار الطواف الشريف ، بحيث يقال : ان القدر المفروش الآن بالحجر المنحوت إلى حاشيته المطاف الشريف الآن ، وجعلوا بين كل دارين من دورهم مسلكا شارعا فيه باب يسلك منه إلى بيت الله الحرام ، ثم كثرت البيوت ، واتصلت إلى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فولد (عليه أفضل الصلاة والسلام) على أشهر الأقوال بشعب بنى هاشم بقرب من المحل المسمى الآن بشعب على.

وكان (عليه الصلاة والسلام) يسكن دار سيدة النساء ، خديجة الكبرى (رضوان الله عليها).

ثم لما ظهر الإسلام ، وكثر المسلمون ، استمر الحال على ذلك الوضع فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزمان خلافة سيدنا أبى بكر الصديق.

ثم زاد ظهور الإسلام وتكاثر المسلمون فى زمن أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي‌الله‌عنه ؛ فرأى أن يزيد فى المسجد الحرام ، فأول زيادة زيدت فى المسجد الحرام زيادته ، فنبدأ بذكرها ، فنقول : روينا بالسند المذكور سابقا فى المقدمة عن الإمام أبى الوليد الأزرقى قال : «أخبرنى جدى ، قال : أخبرنا مسلم عن خالد بن جريج ، قال : كان المسجد الحرام ، ليس عليه جدران يحيط به ، وإنما كانت دور قريش محدقة به من كل جانب ، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها إلى المسجد الحرام ، فلما كان زمان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب ، وضاق المسجد الحرام بالناس لزم توسيعه ، اشترى دورا حول المسجد وهدمها وأدخلها فى المسجد ، وبقيت دورا احتيج إلى إدخالها فى المسجد ، وأبى أصحابها من بيعها ، فقال لهم عمر رضي‌الله‌عنه : أنتم نزلتم فى فناء الكعبة وبنيتم به دورا ، فلا تملكون فناء الكعبة ، وما نزلت الكعبة فى سوحكم وفنائكم ؛ فقومت الدور ووضع ثمنها فى جوف الكعبة ، ثم هدمت وأدخلت فى المسجد ثم طلب أصحابها الثمن.

١١٠

فسلم إليهم ذلك ، وأمر ببناء جدار قصير أحاط بالمسجد ، وجعل فيه أبوابا كما كانمت بين الدور قبل أن تهدم ، وجعلها فى محاذاة الأبواب السابقة.

ثم كثر الناس فى زمان أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان (رضي‌الله‌عنه ، فأمر بتوسيع المسجد ، واشترى دورا حول المسجد ، هدمها وأدخلها فى المسجد ، رأبى جماعة عن بيع دورهم ، ففعل كما فعل عمر رضي‌الله‌عنه.

وهدم دورهم ، وأدخلها فى المسجد ، فضجوا أصحاب الدور ، وصاحوا ؛ فدعا بهم ، وقال لهم : إنّما جدأكم على حلمى عليكم ، ألم يفعل بكم ذلك رضي‌الله‌عنه؟ فلاضح به أحد ولا صاح عليه ، وقد احتذيت حذوه ؛ فضجرتم منى ، وصحتم علىّ وثم أمر بهم إلى الحبس ، فشفع فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ؛ فتركهم».

ولم يذكر الأزرقى رحمه‌الله متى كانت يادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ولا عمارة ، أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

وذكر ابن جرير الطبرى ، وابن الأثير ، والجوزى فى تأريخهم : «أن زيادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، كانت فى سنة ١٦ من الهجرة ؛ بتقديم السين ، وأن زيادة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه كانت فى سنة ٣١ من الهجرة».

أقول : زيادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وعمارته للمسجد كانت عقب السيل العظيم فى سنة ١٧ من الهجرة ؛ وتخريبه معالم الحرم الشريف ، ويقال لذلك السيل «سيل أم نهشل».

قال شيخ شيوخنا ، حافظ وقته ، الشيخ عمر بن الحافظ التقى محمد بن فهد الهاشمى العلوى (رحمه‌الله تعالى) ، فى كتابه «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» (١) : «من حوادث سنة ١٧ ه‍ : فيها جاء سيل عظيم ، يعرف

__________________

(١) إتحاف الورى بأخبار أم القرى : للشيخ نجم الدين عمر بن فهد المكى المتوفى سنة ٨٨٥ ، كشف الظنون : ١ / ٧.

١١١

بسيل أم نهشل ، من أعلى من طريق الرّدم ؛ فذهل المسجد الحرام ، واقتلع مقام إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة ، وغير مكانه الذى كان فيه لما عفاه السيل ؛ فأتى به ، وربط بلصق الكعبة فى وجهها ، وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصى بن كلاب ؛ فماتت فيه ، واستخرجت بأسفل مكة.

وكان سيلا هائلا ؛ فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وهو بالمدينة الشريفة ، فأهاله ذلك وركب فزعا مرعوبا إلى مكة ؛ فدخلها بعمرة فى شهر رمضان ، فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام ، وهو ملصوق بالبيت الشريف ، فتهول من ذلك ثم قال : أنشد الله عبدا عنده علم من هذا المقام.

فقال المطلب بن وداعة السهمى (رحمه‌الله تعالى) : أنا يا أمير المؤمنين عندى علم بذلك ، قد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجرة ، ومن موضعه إلى زمزم لحفظه ، وهى عندى فى البيت ، فقال له عمر رضي‌الله‌عنه : اجلس عندى وأرسل إليها ، وأت بها ، فقيس بها.

ووضع حجر المقام فى ذلك المحل ـ يعنى الذى هو فيه الآن ـ واحكم ذلك واستمر فيه إلى الآن».

قال : «وفيها وسع أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه المسجد الحرام بدور اشتراها ، وهدمها وأدخلها المسجد ....» ، وذكر ما قدمناه آنفا.

قال : «وفيها عمل أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه الردم الذى بأعلى مكة ؛ صونا للمسجد ، بناه بالصغائر والصخر العظام ، وكبسه بالتراب ، فلم يعله سيل بعد ذلك ، غير أنه جاء سيل عظيم فى سنة ٣٠٣ ه‍ ؛ فكشف عن بعض أحجاره ، وشوهدت فيه صغار عظيمة ، لم ير مثلها.

والأقدمون يسمون هذا الردّم ردم بنى جمح ـ بضم الجيم ، وفتح ، وبعد حاء مهملة ـ وهم بطن من قريش ، ينسبون إلى جمح بن عمرو بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك».

١١٢

أقول : المراد بهذا الردم الموضع الذى يقال له ـ الآن ـ المدعى ، وهو مكان كان يرى منه البيت الشريف أول ما يرى ، وكان الناس خصوصا حين يرد الحج من ثنية كذا.

وهى الحجون إذا وصلوا ذلك المحل ، شاهدوا منه البيت الشريف ، والدعاء مستجاب عند رؤية بيت الله الشريف ، ومع ذلك يقف الناس للدعاء لله تعالى ، وكانوا يقفون هنالك للدعاء ، وأما الآن بعدما حالت الأبنية عن رؤية البيت الشريف يقف الناس للدعاء فيه على العادة القديمة ، وعن يمينه ويساره ميلان للإشارة إلى أنه المدعى.

قال مولانا القاضى جمال الدين محمد أبو البقاء بن الضياء (١) الحنيفى فى كتابه «البحر العميق فى مناسك الحج إلى بيت الله العتيق» (٢) : «إنه كان يرى فى زمنه رأس الكعبة ، لا كلها من رأس الردم ـ يعنى المدعى ـ فإذا ظهر له ، يقف ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته ، فإن الدعاء مستجاب عند رؤية الكعبة».

وسئل حافظ الدين النسفى (رحمه‌الله تعالى) فى المنافع عن صاحب الهداية (رحمه‌الله تعالى) : أنه استوصى عن شيخ له شكاه ، فقال له : إذا وصلت سوق كذا ، ورأيت الكعبة ، فادع الله تعالى أن يجعلك مجاب الدعاء ، فإن من رآها أولا ، ودعا كانت دعوته مستجابة. انتهى.

__________________

(١) القاضى جمال الدين محمد أبو البقاء بن الضياء ، هو : محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد ؛ أبو البقاء ، ابن الضياء المكى ، المتوفى سنة ٨٨٥ ه‍ ، له كتاب : تاريخ مكة المشرفة المسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف ، والباحث عادل عبد الحميد العدوى بصدد تحقيقه الآن فى سلسلة موسوعة مكة والمدينة. انظر : معجم المؤلفين : ١١ / ١٨٩ ، هدية العارفين : ٦ / ٢١١ ، الضوء اللامع : ٩ / ٤١ ، ٤٢.

(٢) البحر العميق فى مناسك الحج إلى بيت الله العتيق : فى كشف الظنون : البحر العميق فى مناسك المعتمر والحاج إلى البيت العتيق ، لأبى البقاء محمد بن أحمد بن محمد ابن الضياء المكى العمرى القرشى الحنفى ، المتوفى سنة ٨٥٤ ه‍ ، أوله : الحمد لله الذى جعل البيت الحرام قياما للناس ، رتبه على عشرين بابا. كشف الظنون : ١ / ٢٢٥.

١١٣

وكان القاضى أبو البقاء بن الضياء المذكور فى أوسط المائة الثامنة (١) ، ووفاته فى سنة ٧٥٣ ه‍ ، ولا شك أن من عهد الصحابة رضي‌الله‌عنهم إلى زمانه ، كان الناس يقفون ويدعون عند مشاهدتهم الكعبة.

ولا أعلم هل وقف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه؟ أم كان ذلك المحل غير مرتفع فى عهده عليه الصلاة والسلام؟

وما وقع إلى سيدنا عمر (رضى الله تعالى عنه) بالردّم الذى بناه ، وارتفع عن الأرض ، وصار البيت الشريف يشاهد حينئذ ؛ فوقف الناس عنده بعد ذلك لمشاهدة البيت الشريف منه.

وبالجملة ـ فالآن ـ لا يرى البيت الشريف منه ؛ ولكنى أنظر فى جميع عمرى فى المدعى ، يقف الناس فيه ، فاللائق استمرار وقوف الناس بهذاي المحل الشريف ، والدعاء تبركا بوقوف من سلف للدعاء فيه ، والله تعالى أعلم.

ولما ردم هذا المكان صار السيل إذا وصل من أعلى مكة لا يعلو هذاي المكان ، بل كان ينحرف عنه إلى جهة الشمال المستقبل البيت الشريف للبناء الذى بناه عمر (رضى الله تعالى عنه) ، فلا يصل هذا السيل إلى المسعى ، ولا إلى باب السلام إلى الآن.

فصارت هذه الجهة من يومئذ إلى أننا هذا مرتفعة عن ممر السيل ، وصار السيل كله ينحدر إلى جهة السوق ، ويمر بالجانب الجنوبى من المسجد إلى أن يخرج من أسفل مكة ، وهذا السيل سيل وادى إبراهيم ، فيقف ويتراكم ، ويدخل المسجد الحرام ويقع مثل هذا السيل من كل عشرة أعوام تقريبا مرة ؛ فيدخل المسجد الحرام ويحتاج إلى تنظيف ، وتبديل الحصا ، ونحو ذلك.

وقد عمل المتقدمون والمتأخرون لذلك طرقا ، واهتموا غاية الاهتمام ؛ فاندثرت أعمالهم بطول الزمان ، ولم تفطن الملوك بعدهم لذلك ، واستمرت السيول العظيمة كل مرة تدخل المسجد ، فلسنا الآن بصدد شرح ذلك.

__________________

(١) فى (س) : التاسعة.

١١٤

وأما زيادة أمير المؤمنين عثمان رضي‌الله‌عنه فى المسجد الحرام ، فقد ذكر الإمام أبو زكريا النووى ، نقلا عن أبى الوليد الأزرقى ، والإمام أقضى القضاة الماوردى ، فى كتاب أحكام السلطانية ، وغيرها من الأئمة المعتمدين (رحمه‌الله تعالى) ، وفى كلام بعضهم زيادة على بعض ، فقالوا : أما المسجد الحرام فكان فناء حول الكعبة وفضاء للطائفين ، ولم يكن على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى بكر جدار محيط به محدقة به ، وبين الدور أبواب ، يدخل الناس من كل ناحية.

فلما استخلف عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) ، وكثر الناس وسع المسجد ، واشترى دورا وهدمها ، وزاد فيها ، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة ، وكانت المصابيح توضع عليه ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام.

فلما استخلف عثمان رضي‌الله‌عنه ، ابتاع منازل ووسعه بها أيضا وبنى المسجد الحرام والأروقة ، وكان عثمان (رضى الله تعالى عنه) أول من اتخذ للمسجد الأروقة. انتهى.

قال الحافظ النجم عمر بن فهد فى تاريخه فى حادث سنة ٣٣ ه‍ : «فيها اعتمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه من المدينة ، فأتى ليلا فدخلها ، فطاف وسعى ، وأمر بتوسيع المسجد الحرام» فذكر ما قدمناه.

قال : «وجدد أيضا الحرم ، وكلّم أهل مكة عثمان (رضى الله تعالى عنه) أن يحول الساحلة من الشعبية ، وهى ساحل مكة قديما فى مساحلها اليوم ، وهى جدة لقربها من مكة ، فخرج عثمان رضي‌الله‌عنه إلى جدة ، ورأى موضعها ، وأمر بتحويل الساحل إليها ، ودخل البحر ، واغتسل فيه ، وقال : إنه مبارك ، وقال لمن معه : ادخلوا البحر للاغتسال ، ولا يدخله أحد إلا بمئزر ، ثم خرج عند جده على طريق عسفان إلى المدينة ، وترك ساحل الشعبية فى ذلك الزمان ، واستمرت جده بندر إلى الآن بمكة المشرفة ، وهى على مرحلتين طويلتين من مكة بسير الأثقال ، يستوعب إحداهما الليل كله فى

١١٥

أيام اعتدال الليل والنهار ، وتزيد المرحلة الثانية على جميع الليل بشىء قليل ، وأما الراكب المجد والساعى على قدميه فيقطعهما فى ليلة واحدة».

وما رأيت من علمائنا من صرح بجواز القصر فيها ، بل رأيت من أدركت من مشايخى المنفية ، كانوا يكملون الصلاة.

وأما أنا فأرى لزوم يالقصر فيها ؛ لأن مدة القصر عندنا ثلاث مراحل ، تقطع كل مرحلة فى أكثر من نصف يوم بسير الأثقال ، وهاتان المرحلتان يكونان على هذاي الحال ثلاب برد فأزيد.

ثم رأيت فى موطأ الإمام مالك رضي‌الله‌عنه حديثا صحيحا ، يدل على صحة ما جنحت إليه صورته ، عن مالك ، أنه بلغه ، أن ابن عباس كان يقصر الصلاة فى مثل ما بين مكة والطائف وعسفان ، وفى مثل ما بين مكة وجده. انتهى ، والله تعالى أعلم.

ثم وقعت زيادة عبد الله بن الزبير (رضى الله تعالى عنه) ، وهو صحابى ابن صحابى ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأمه أسماء بنت أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنهما ذات النطاقين ، وخالته عائشة الصديقة رضي‌الله‌عنهما.

ولد بالمدينة بعد عشرين شهر من هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة ، وفرح المسلمون بولادته فرحا شديدا ، إلا أن اليهود زعموا أنهم سحروا المسلمين فلم يولد لهم ولد ، وحنكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتمرة لأكلها ، وسماه عبد الله ، وكناه أبا بكر ؛ باسم جده الصديق رضي‌الله‌عنهم.

وكان صواما قواما طويل الصلاة ، وصلا للرحم عظيم الشجاعة قويا ، قسم الليالى إلى ثلاث ، فليلة يصلى قائما إلى الصبح ، وليلة يصلى ويستمر راكعا إلى الصبح ، وليلة يصلى ويستمر ساجدا إلى الصبح.

وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثين حديثا ، وكان ممن أبى البيعة ليزيد ، وفر إلى مكة ، وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ، ولم يخرج

١١٦

عن طاعته إلا أهل مصر والشام ، فإنهم بايعوا ليزيد ، فلما هلك أطاع أهلها عبد الله بن الزبير ، ثم خرج مروان ابن الحكم فتغلب على مصر والشام ، إلى أن ولى عبد الملك ؛ فجهز جيشا كثيفا على ابن الزبير ، وأمر عليهم الحجاج بن يوسف الثقفى ، فخاصره ، ورمى بالمنزنيق ، وخذل ابن الزبير وأصحابه ، فخرج ابن الزبير ، وقاتل قتالا عظيما ، إلى أن استشهد رضي‌الله‌عنه فى سنة ٧٣ من الهجرة ، وأنشد فيه النابغة الجعدى :

حكيت لنا الصديق لما وليتنا

وعثمان والفاروق فاختار معدم

وسويت بين الناس فاعتدى

وعاد صباحا هالك اليوم أسجم

وكان لما حاصره الحصين بن نمير فى عسكر جهزه يزيد عليه التجأ بالمسجد الحرام ، فنصب عليه المناجيق ، وأصاب بعض حجارته الكعبة الشريفة ؛ فتهدم بعض جدارها ، واحترق بعض أخشابها وكسوتها.

وانهزم الحصين بعسكره ؛ لهلاك يزيد وبلوغ خبر نعيه ، فرأى عبد الله بن الزبير أن يهدم الكعبة ويحكم بناءها ، ويبنيها على قواعد إبراهيم عليه‌السلام ؛ لما سمع من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة ، لولا أن قومك حديثو عهد بشرك ، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة ، فإن بدا لقومك أن يبنوه من بعدى فهلمى ، لأريك ما تركوه فأراها قريبا من سبعة أذرع» أخرجهما الشيخان فى صحيحيهما.

وفى رواية عن مسلم ، ك عن عطاء ، قال : قال ابن الزبير : سمعت عائشة رضي‌الله‌عنها تقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندى من النفقة ما يقوى على بنائه ، لكنت أدخلت من الحجر خمسة أذرع». انتهى.

واستشار عبد الله بن الزبير من بقى من الصحابة رضي‌الله‌عنهم فى ذلك ، فكان منهم من أبى ، ومنهم من وافق على ذلك.

١١٧

فصمم أقدم على ذلك ، ولما أراد هدم البيت الشريف ، وبناه خرج أهل مكة خوفا ، وتلكأ العمال عن ذلك ، فأرقى عبد الله بن الزبير عبدا رقيق الساقين ، وعبيدا له من الجيوش بهدمونها رجاء أن يكون فيهم الحبشى الذى قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرب الكعبة ذو السوقتين من الحبشة».

قال الإمام عبد الله بن أسعد اليافعى (رحمه‌الله تعالى) فى تاريخه «مرآة الزمان» : أراد عبد الله بن الزبير أن يجعل الطين الذى تبنى به الكعبة من الورس ، فقيل له : إنه (١) لا يستمسك به البنيان كما يستمسك بالجص ، فأرسل إلى صنعاء اليمن ، طلب منها جصا نظيفا محكما ؛ فأتوه فبنى الكعبة ، فلما أكملوا هدمها ، كشف عن أساس إبراهيم عليه‌السلام فوجد الحجر داخلا فى البيت ؛ فبنى البيت على ذلك الأساس وكان أدار سترا على فناء البيت ، فكان البناة يبنونه من وراء ذلك الستر ، والناس يطوفون من خارج ، فأدخل الحجر فى البيت ، وألصق باب الكعبة بالحجر ؛ ليدخل الناس منه ، وفتح لها بابا غربيا فى مقابلة هذا الباب ، ليخرج الناس منه ، كما كان عليه لما جددت قريش الكعبة ، قبل مبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخصوا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمره الشريف يومئذ خمس وعشرون سنة.

وكانت النفقة قصرت بقريش لما بنوا الكعبة يومئذ ؛ فأخرجوا الحجر من البيت ، وجعلوا عليه حائطا قصيرا علامة على أنه من الكعبة ، فأزال عبد الله ابن الزبير ذلك الوضع ، وأعادها على ما كانت عليه فى الجاهلية ، وبنى على قواعد إبراهيم عليه‌السلام ، وكان طول الكعبة قبل قريش تسعة أذرع ، فلما أكمل عبد الله بن الزبير طولها ثمانية عشر ذراعا رآها عريضة لا طول لها ، زاد فى طولها تسعة أذرع ؛ فصار لها فى السماء سبعة وعشرون ذراعا.

فلما فرغ من بنائها طيبها بالمسك والعنبر ، داخلا وخارجا ، من أعلاها إلى أسفلها ، وكساها من الديباج ، وبقيت من الحجارة بقية فرشها حول البيت الشريف ، نحوا من عشرة أذرع.

__________________

(١) فى (س) : لأنه.

١١٨

وكان فراغه من عمارة البيت الشريف فى سابع عشر رجب سنة ٦٤ من الهجرة النبوية ، فخرج إلى التنعيم هو وأهل قلة معتمرين شكرا لله تعالى ، وذبح مائة بدنة ، وذبح كل واحد على قدر سعته ، وكان ذلك اليوم عيدا مشهورا ، وبقيت هذه العمرة سنة عند أهل مكة إلى اليوم يجتمعون للاعتمار فيه ، ولا يكادون يتخلفون عن العمرة فى هذا اليوم فى كل عام ، ويأتون من البر بقصد هذه العمرة.

وكان اعتناء الناس بهذه العمرة قبل الآن أكثر وأعظم من الآن ، بحيث يقال : إن صاحب الينبع يومئذ السيد قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسنى ، جد سادتنا الأشراف ، ولاة مكة الآن ، آدام الله تعالى عزهم وسعادتهم لما علم من أمر مكة يومئذ ، وهم طائفة أخرى من بنى حسن يقال لهم : الهواشم ، لانهماك على اللهو واللذات ، وكثرة الظلم من عبيدهم على الناس ، واستيلاء الغرور عليهم ، ونفرت القلوب عنهم وعدم توجههم إلى أحوال البلد.

ارتقب الشريف قتادة اليوم السابع والعشرين من رجب ، واغتنم الفرصة ، لاشتغال أهل مكة بهذه العمرة ، وخروجهم بتحملاتهم إلى التنعيم ، فهجم بعبيده وذويه ؛ ودخل عليه من أعلاها ، ومنع ولاتها السابقين من الدخول إليها ، وكانت مكة يومئذ مستورة وولاتها يومئذ من بنى حسن الهواشم (١) ، أخوهم الشريف مكثر بن عيسى بن قليبة ، فمر بمن معه إلى جهات اليمن ، وتمكن السيد قتادة من البلاد ، وذلك فى سنة ٥٩٩ ه‍ ، واستمرت الولاية فى ولده إلى الآن ، وإلى أن يرث الله الأرض ، ومن عليها ، وهو خير الوارثين.

وفى سنة ٧١ من الهجرة كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان ، يذكر له أن عبد الله بن الزبير زاد فى الكعبة ما ليس منها ، وأحدث فيه بابا آخر ، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيدها على ما كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) فى (س) : الهوامش.

١١٩

فهدم الحجاج من جانبها الشامى قدر ستة أذرع وشبرا ، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ، وكبس أرضها بالحجارة التى فضلت ، ورفع الباب الشرقى ، وسد الباب الغربى ، وترك سائرهم لم يغير شيئا منها.

فهى الآن جوانبها الثلاثة من بناء عبد الله بن الزبير ، والجانب الرابع الثانى بناء الحجاج ، وهو ظاهر أن يتصل على بناء عبد الله بن الزبير ، فلما فرغ الحجاج من ذلك ، وفد عبد الملك بن مروان وحج فى ذلك العام مع الحارث ابن عبد الله بن ربيعة المخزومى ، وهو من ثقاة الرواة ، فقال عبد الملك : ما أظن أن ابنيس الزبير سمع من عائشة ، ما كان يزعم أنه سمع منها فى أمر الكعبة ، فقال الحارث : إنما سمعت ذلك من عائشة رضي‌الله‌عنها ، تقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن قومك استقصروا فى بناء الكعبة ، ولو لا حدثان عهد قومك بالكفر ، أعدت فيه ما تركوا ، وأعدته على ما كان عليه فى زمن إبراهيم عليه‌السلام ، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع».

وقال (عليه الصلاة والسلام) : «وجعلت لها بابان موضوعان على الأرض ، بابا شرقيا يدخل الناس منه ، وبابا غربيا يخرج الناس منه».

فقال عبد الملك بن مروان : أنت سمعتها تقول ذلك ، قال : أنا سمعت هذا منها ، قال : فجعل ينكث الأرض بقضيب فى يده متكئا ساعة طويلة ، ثم قال : وودت والله أنى تركت ابن الزبير ، وما تحمل من ذلك كذا.

ذكر النجم عمر بن فهد ، وقد ذكرنا ذلك جميعه بالاستطراد ، لاشتماله له على الفوائد المهمة ، والحديثق شجون ـ رجعنا إلى ما نحن بصدده ـ وذكر زيادة سيدنا عبد الله بن الزبير فى المسجد الحرام ، وسندنا المتقدم ذكره ؛ متصلا مرفوعا إلى الإمام أبى الوليد محمد بن عبد الله بن محمد الأزرقى قال : «حدثنى جدى ، قال : كان المسجد الحرام محاطا بجدار قصير غير مسقف ، وكان الناس يجلسون حول الكعبة بالغداة والعشى يبيعون ، فإذا قلص الحر قامت المجالس.

١٢٠