كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وأمر أن يحمل من خزائنه مالا عظيما لهذا العمل ، وأمر قاضى بغداد ـ يومئذ ـ وهو القاضى يوسف بن يعقوب ـ أن يرتب ذلك ويجهر لعمله من يعتمد عليه ، وأمر أن يحمل المال إليه فجهز بعضه نقدا فى أيام الحج مع ولده وكان مقدما على حوائج الخلافة ومصالح الحج وعمرتها ، وأرسل بباقى المال سفايحا سلمها إلى ولده أبى بكر بن عبد الله بن يوسف المذكور ليستلمها ، فمن كتب اسمه من تلك السفايح بمكة ، وعين معه لهذه الخدمة رجلا يقال له أبو الهياج عميرة بن حسان الأسدى له أمانة ، وحسن رأى ونية جميلة وسيرة حسنة ، فوصلا إلى مكة المشرفة فى موسم حج سنة ٢٨١ ه‍ ، فحلى بالذهب الخالص باب الكعبة الشريفة ، وحج وتخلف بعد الحج بمكة أبو الهياج المذكور ومن معه من العمال والأعوان.

وعاد عبد الله بن القاضى يوسف مع الحجاج إلى بغداد يرسل إليه ما يحتاج إليه من بغداد ليكمل ما أمره به من العمارة المذكورة ، فشرع أبو الهياج فى حفر الوادى وما حول المسجد فحفر حفرا جيدا حتى ظهر من درج المسجد الحرام الشارعة على الوادى اثنا عشر درجة ، وإنما كان الظاهر منها خمس درجات ، فحفر الأرض ورمى بترابها خارج مكة ونظّفت دار الندوة من القمايم والأتربة ، وهدمت ، وحفر أساسها ، وجعلت مسجدا وأدخل فيها أبواب المسجد التى كانت شارعة قبل هذا البناء ثم فتح لها من جدار المسجة الكبير ستة أبواب كبار سعة كل باب خمسة أذرع وارتفاع كل باب من الأرض إلى جهة السماء إحدى عشر ذراعا ، وجعل من الأبواب الكبار ستة أبواب صغار ، وارتفاع كل باب ثمانية أذرع وسعة كل باب ذراعان ونصف وجعل فى هذه الزيادات بابين بطاقين شارعين إلى الخارج فى جانبها الشمالى وباب بطاق واحد فى جانبها الغربى ، وأقيمت أروقتها وسقوفها من جوانبها الأربعة ، وركبت سقوفها بحسب الساج ، وجعل لها منارة وفرغ من عمارتها فى ثلاث سنين ، ولعل إكمالها فى سنة إلا أنها ما استمرت على هذهي الهيئة بل غيرت بعد قليل إلى وضع آخر أحسن منه بعد المعتضد المذكور.

قال محمد بن إسحاق الفاكهى فى «تاريخ مكة» : «إن أبا الحسن محمد

١٨١

ابن نافع الخزاعى ذكر فى تعليق له : أن قاضى مكة محمد بن موسى القاضى لما كان إليه أمر البلد جدد بناء زيادة دار الندوة وغير الطاقات التى فتحت فى جدار المسجد الكبير وجعلها متساوية واسعة بحيث صار كل [مستفيد](١) من زيادة دار الندوة من مصل ومعتكف وجالس بمكة مشاهدة الشريف ، وجعل أساطينها حجرا مدورا منحوتا ، وركب عليها سقوفا من الخش الساج منقوشا مزخرفا وعقودا مبنية بالآجر والجص ووصل هذه الزيادة بالمسجد الكبير وصولا أحسن من الأول وجدد شرفاتها وبيضها.

وأنه عمل فى ذلك فى سنة ست وثلثمائة. انتهى.

وبعد : كان ابتداء هذه الزيادة مأثرة عظيمة ، ومنقبة كريمة أتى بها هذا المعتضد بالله وأثرا باقيا له على صفحات هذا الدهر ما قاربها سواه وفاعل الخير لا يزال يذكر وصاحبه يمدح بألسنة الخلق ، ويشكر ، وقد بلى عظامه تحت التراب الأعفر ، فما مات من يذكر بالجميل بعد أن يقبر وما عاش من عاش بالشر :

ما عاش من عاش مذموما خصائله

ولم يمت من يكن بالخير مذكورا

واستمرت تلك الأساطين المنحوتة من الأحجار السود عليها أسقف الساج المزخرف المنضود مشيدة باقية إلى أن أدركناها فى عصرنا ثم بدلت بالأساطين المنحوتة من الرخام الأبيض المرمر ما بينها لتوثيقها أساطين منحوتة من السميسى الأصغر بعقود محكمة أزين من عقود الجوهر ، وجعل عوض السقف الذى ملئ خشية كل حين قببا مرفوعة نزهة للناظرين فى غاية الإتقان والتزيين فى زمان سلطاننا الأعظم ودولة خاقاننا الأفخم الأكرم سلطان سلاطين الزمان السلطان مراد خان بن سليم خان بن سليمان خان بن عثمان خلد الله تعالى سلطانه وأفاض على العالمين بره وإحسانه.

نرجع إلى ما كنا فيه من أخبار المعتضد العباسى وما وقع من البأس الذى ليس له منه أسى.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من (س).

١٨٢

ولما أن عض المعتمد عضد الموت العاضد ، وتطع عرق حياته مباضع الزمان الحاسد ، ولا حمته عن الحمام قوته ولا منعته عن منعته ولا هيبته فأنزلته يد المنايا من سرير الخلافة والملك وأركبته سرير الآلة الجدباء إلى حفير شفير الفناء والهلك ، ودفنته فى تربة عمله الصالح ، وسقت ثراه بما طاب من ثنائه الفاتح.

ومن أغرب ما حكاه المسعدى عن المعتضد فى وفاته : «أنه اعتل من إفراطه فى كثرة الجماع وطالت علته وغشى عليه ، فشك من حوله فى بيته ، وكان لا يحسر عليه أحد لشدة هيبته فتقدم إليه الطبيب يختبره يجس نبضه ففتح عينيه ونظر لذلك فرفس الطبيب برجله رفسة فدجاه أذرعا ، فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته ، وكان وفاته يوم الاثنين لثمان بقين من ربيع الآخر سنة ٢٨٩ ه‍ ، وخلف من الأولاد أربعة ذكورا وإحدى عشر بنتا.

وكان مدة ملك المعتضد تسع ستين وتسعة أشهر ونصف رحمه‌الله تعالى.

* * *

فصل

لما اشتد المرض بالمعتضد جعل ولى عهده من بعده ولده أبا محمد على ، ولقبه المكتفى بالله ، وأخذ له البيعة قبل موته بثلاثة أيام.

فلما تولى المعتضد إلى رحمة الله تعالى كان المكتفى بالله غائبا بالرق ، فنهض بأعباء البيعة له الوزير أبو الحسين القائم بن عبيد الله ، وكتب إليه فوصل إلى بغداد من الق فى سابع جمادى الأول ، وكان يوم وصوله يوما مشهودا زينت له بغداد ونزل دار الضيافة ، وخلع على الوزير المذكور وسيع خلع عظيمه ومدحه الشعراء وأنعم عليهم بالجوائز السخية فى غرة ربيع الأول سنة ٢٩٣ ه‍ ، وأمه أم ولد تركية اسمها «جيحك» ، وكان مليح الصورة ، يضرب بحسنه المثل وفيه قال القائل يصف الدنيا :

ميزت بين جمالها وفعالها

فإذا الملاحة بالقباحة لا يفى

والله لا اختارها لوانها

كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفى

١٨٣

وكانت سيرته حسنة وأفعاله جميلة ، فأحبه الناس وفرحوا بخلافته ودعوا له ، وذكر عبد الغافر فى «تاريخ نيسابور» عن ابن أبى الدنيا : «وكان للمكتفى قبل أن يلى الخلافة معلم ، فلما أفضت إليه الخلافة المكتفى كتب إليه هذين البيتين :

إن حق التأديب حق الأبوة

عند أهل الحجاز وأهل المروة

وأحق الرجال أن يحفظوا الود

ويرعوه أهل بيت النبوة

ومن أعظم الحوادث فى أيامه :

ظهور القرامطة الملحدة بل الكفرة المفسدين أعداء الدين ، فأول من خرج منهم يحيى بن مرويه القرمطى ومحل خروجهم ودار ملكهم هجروه ، طائفة إباحية يستحلون دماء الحجاج والمسلمين ويدعون أن الإمام الحىّ بعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ محمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب ، وينسبون إليه بالباطل ، ويسندون إليه أقاويل باطلة لا أصل لها ويكفرون من عاداهم وهم الكفرة الفجرة قاتلهم الله تعالى.

ولما ظهر بالخروج يحيى المذكور جهز إليه المكتفى بالله جيوشا ، واستمر القتال بينه وبين عسكر الخليفة ، إلى أن قتل وسيق إلى جهنم وبئس المصير ، فقام بعده أخوه الحسين وأظهر شامة بوجهه الأسود وزعم أنها أية ، وظهر ابن عمه عيسى بن مهدويه ولقب ب «المدثر» ، وزعم أنه المراد بالسورة الشريفة القرآنية ، ولقب غلاما له مظلما المطوق بالنور يسمى أمير المؤمنين ، وزعم أنه المهدى ، ودعا لنفسه على المنابر ، وأفسد بالشام وعاث فيها فخوربوا ، وقتل الثلاثة وجزت رؤوسهم وطيف بها فى البلاد فى سنة ٢٩١ ه‍ ، وخلف من بعدهم خلف ظهر منهم مفاسد ، وسيأتى ذكرها استطرادا ، وتعب المسلمون كثيرا فى أمرهم إلى أن خذلهم الله تعالى ، وستذكر قريبا إن شاء الله تعالى.

[فى ولاية المقتدر بالله] ولم يطل زمان المكتفى بالله ، فكانت مدة هلكه ست أعوام ونصف ، ولما مرض مرض الموت وتيقن بالفناء والفوت سأل عن أخيه أبى الفضل جعفر بن المعتضد فقيل له : إنه احتلم واتضح ذلك عنده فجعله ولى عهده ولقب «المقتدر بالله» ، وبويع له على أن يكون الخليفة من بعده.

١٨٤

قال الصولى : سمعت المكتفى يقول فى علته التى مات فيه : «والله ما آسى إلا سبعمائة ألف دينار صرفتها من بيت مال المسلمين فى أنية وعمارة المحتاج».

وذكر أبو منصور الثعالبى قال : حكى إبراهيم بن نوح أن الذى خلفه المكتفى مما جمعه هو وأبوه لا غير مائة ألف دينار وأمتعة وأوانى وغفارات ، وكان من جملة الأمتعة ثلاثة وسبعون ألف ثوب ديباج ، فسبحان من بيده خزائن السموات والأرض وإليه ترجعون.

ولما جاء الأجل المحتوم المقدور وتلا لسان حاله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ)(١) ، انقصف غصن شبابه القشيب ويبس عود جماله الرطيب ، وصار يدر كماله مخسوفا وعاد نور محياه المشرق مكسفا ، فانتقل من دار الفناء إلى دار الخير والبقاء فى ليلة الأحد لثنتى عشر خلت من شهر ذى القعدة الحرام سنة ٢٩٥ ه‍ رحمه‌الله تعالى.

وخلف ثمانية أولاد ذكور وثمان بنات ، وولى بعده استخلافه أخوه أبو محمد على المقتدر بالله (٢) بن المعتضد بن الموفق بالله بن المتوكل على الله بن المعتضد بن هارون الرشيد العباسى بايعه الناس وعمره ثلاثة عشر سنة ولم يلى الخلافة قبله أصغر منه ، ذكره الجلال السيوطى ، وأمه أم ولد تسمى «معتب» وولى الخلافة ثلاث مرات هذه الأولى منها ، ولم يتم له فيها أمر لصغر سنه ، فتغلب الجند عليه واتفقوا على خلعه فخلعوه وعقدوا البيعة لأبى العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولقبوه «الغالب بالله» ، وبايعوه لعشر بقين من ربيع الأول سنة ٢٩٦ ه‍ ، واستمر خليفة ساعة من ذلك النهار ، وعبد الله بن المعتز ـ لقصد زمن خلافته ـ لا ينبغى عده من الخلفاد ، ولكن تذكره لفضله وأدبه وهو أشعر بنى هاشم على الإطلاق وأكثرهم أدبا وفضلا ودخولا ومعرفة بعلم الموسبقا ، وأشهر الشعراء على الإطلاق فى التشبيهات المبتكرة المخترعة المرفضة المطربة التى لا شق غباره فيها أحد. مولده فى شعبان سنة ٢٤٩ ه‍.

__________________

(١) الآية رقم ٤ من سورة نوح ، مكية.

(٢) المقتدر بالله : سبقت الإشارة إليه.

١٨٥

قال بن المكافأ بن زكريا : «لما بويع لابن المغتر دخلت على شيخنا محمد ابن جرير الطبرى العالم الكبير المفسر المحدث المخرج رحمه‌الله تعالى ، فقا لى : ما الخبر؟ فقلت : بويع بالخلافة لعبد الله ن المعتز ، قال : فمن ترشح لوزاته؟ قلت : محمد بن داؤد ، قال : فمن قاضيه؟ قلت : أبو المثنى ، فأطرق قليلا! قال : هذا أمر لا يتم ، فقلت : ولم لا يتم؟ قال : كل واحد ممن ذكرت ذو شأن عظيم متقدم فى علمه وفضله وعقله ، وإن الدنيا مولية والزمان ، وما أرى هذا العقد إلا إلى إغلال واضمحلال ، فقدر الله تعالى أنهم خلعوه فى ذلك اليوم وتلاشى.

فإن عبد الله بن المعتز لما عقدت له الولاية والخلافة أرسل المقتدر بأمره بإخلاء دار الخلافة ، وأن يذهب إلى دار محمد بن طاهر لينظر فى أمره ، فلما جاء الرسول إلى المقتدر وبلغه الرسالة ، قال : «ليس عندى جواب إلا السيف» ، ولبس السلاح وركب معه جماعة قليلة من خدمه وهم مستسلمون للقتل فى غاية الخوف والرعب وهجموا على عبد الله ن المعتز فأهاله ذلك وألقى الله تعالى فى قلبه الرعب فانهزم هو ووزيره وقاضيه وكل من كان فى ديوانه ظنا أن خلف هؤلاء أعوانا وأنهارا ، وقبض المقتدر على عبد الله بن المغتر وعلى بعض الأمراء والفقهاء ، وسلمهم إلى يونس الحرث وقتل من أراد وحبس عبد الله بن المعتز ثم أخرج من الحبس ميتا.

واستقام الأمر للمقتدر ، وهذه ولايته الثانية فسار أحسن سيرة واستقام أمره بعد الاضمحلال ، وطلعت شمس سعادته بعد الزوال ، ولاح بدر فلاحه من أوج الكمال ، والعزة لله الكبير المتعال.

وحيث انجر الكلام إلى ذكر عبد الله بن المعتز فلا بأس بتنسيق هذه الرسالة وتزويق هذه العجالة بذكر بعض أشعاره المستطرفة ليعلم البلغاء مرتبته فى البلاغة واقتداره على الكلام ، ونورد قصيدته فى الحماسية التى فاخر بها آل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولا يخفى أن الإقدام على مثل ذلك يدل على قوة الطبع ، فإن الادعاء لمثل

١٨٦

هذا المطلب العالى من أمثاله ممجوج فى الأسماع ، منفور فى الطباع ، فإذا أبرزه مع ذلك فى قالب مطبوع دل ذلك على قوة طبع الشاعر.

كما قال شاعر عهده الأديب المفوه ابن الرومى :

فى زخرف القول تزيين لباطله

والحق قد يعتريه سوء تغيير

تقول هذا مجاج النحل تمدحه

وإن تعب قلت : ذانى الزنابير

مدحا وذما وما جاوزت حدهما

سحر البيان يرى الظلماء كالنور

وهذا منتخب تلك القصيدة الباسة ، وقد فاخر بها بين قومه بنى العباس وآل ابن أبى طالب رضي‌الله‌عنه فى الخلافة وما أنصف فيما ادعاه ، ولكنه أتى بشعر بليغ فى معناه.

ألا من لعين وتسكابها

تشكى القذا بكامابها

ترامت بنا حادثات الزمان

ترامى القسى بنشابها

ويا رب ألسنة كالسيو

ف تقطع رقاب أصحابها

وكم وهى المرء من نفسه؟

فمزق حدا بنأبها

وإن فرصة أمكنت فى العدو

فلا تبد فعلك إلا بها

فإن لم تلج بابها مسرعا

أتاك عدوك من بابها

وما نافع ندم بعدها

وتأميل أخرى وإثابها

وما ينفض من ثياب الرجا

ل يزد فى بها وألبابها

نهيت بنى رحمى ناصحا

نصيحة بر بأنسابها

وقد ركبوا بغيهم وارتقوا

معارج تهوى بركابها

وراموا فرائس أسد السّرى

وقد نشبت بنا أنيابها

دعوا الأسد تفرس ثم أسبغوا

بما تفضل الأسد فى غابها

قتلنا أمة فى دارها

ونحن أحق بأسلابها

١٨٧

ولما أبى الله أن تملكوا

نهضنا إليها وقمنا بها

ونحن ورثنا ثياب النبى

 ...

لكم رحم يا بنى بنته

 ...

فمهلا بنى عمنا إنها :

 ...

وكانت تزلزل فى العالمين

 ...

وأقسم أنكم تعلمون

 ...

فرد عليه شاعر زمانه ، ونصيح أوانه الصفى الحلى بقوله :

ألا قل لشر عبيد الإله

وطاغى قريش وكذابها

أأنت تفاخر آل النبى

وتجحدها فضل أنسابها

بكم ، بأهل المصطفى أم بهم

فرد العداوة بأوصابها

أعنكم نفى الرجس أم عنهم؟

لطهر النفوس وألبابها

أما الشرب واللهو من دأبكم

وفرط العبادات من دأبها

هم الصائمون ، هم القائمون

هم العاملون بأرابها

هم الزاهدون هم العابدون

هم الساجدون بمحرابها

هم قطب ملة دين الإله

ودور الرحى بأقطابها

تقول : ورثنا ثياب النبى

فكم تجذبون بأهدابها؟

وعندك لا تورث الأنبياء

فكيف حفيتم بأثوابها؟

أبوهم وصى نبى الإله

وأهل الوصية أولى بها

أجدك يرضى بما قلته؟!

وما كان يوما بمرتابها

ولكن : بصفين من حربهم

لحرب البغاة وأحزابها

وصلى مع الناس طول الحياة

وحيدر فى صدر محرابها

فهل لا تقمصها جدكم

وهل كان من بعض خطابها؟!

١٨٨

وإذ جعل الأمر شورى لهم

فهل كان من بعض أربابها؟!

وقولك : أنتم بنو بنته

ولكن بنو العم أولى بها

بنو البنت أيضا بنو عمه

وذلك أدنى لأنسابها

وقلت : بأنكم القاتلون

أسود أمية فى غابها

كذبت ، ولو لا أبو مسلم

لعزت على جهد طلابها

وقد كان عبدا لسهم لا لكم

رأى عندكم قرب أنسابها

وكنتم أسارى بطون الحبوس

وقد سفكم ثم أعتابها

فأخرجكم وحباكم بها

وقميصكم فضل جلبابها

فجازيتموه أشر الجزاء

لطغوى النفوس وإعجابها

فدع فى الخلافة دعوى الخلاف

فلست ذلولا لركابها

وما أنت والفحض عن شأنها

وما قمصوك بأثوابها

وما شاورتك سوى ساعة

فما كنت أهلا لأسبابها

ودع ذكر قوم رضوا بالكفاف

وجاءوا القناعة من بابها

عليك بلهوك بالغانيات

وخلى المعالى لأربابها!

ووصف العذارى وذات الخمار

ونعت العقار بألقابها

فذلك شأنك لا شأنهم

وجرى الجياد بأحسابها

ومن الشعر الحلال الذى عقده فى سلك الأول ورقمه بقلم البلاغة على صحائف الأيام والليالى هذا الموشح الذى يصلح وشاحا لكواكب الجوزاء وإكليلا على التاج المحلى بنجوم الثريا صارت به الركبان وتناقلته الرواه بالنسبة للزمان ، قوله :

أيها الساقى إليك المشتكى

قد دعوناك وإن لم تسمع

ونديم همت فى غرته

١٨٩

ويشرب الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرته

جذب الرق إليه واتكى

وسقانى أربعا فى أربع

ما لعينى عيشة بالنظر

أنكرت بعدك ضوء القمر

وإذا ما شئت فاسمع خبر

عشيت عيناى من طول البكا

وبكى بعضى على بعض معى

غصن بان مال من حيث الهوى

مات من يهواه من فرط الحوى

خفق الأحشاء موهن القوى

كلما فكرت فى البين بكا

ويحه يبكى لما لسم يقسع

ليس له صدر ولا جلد

يا لقومى عذلوا واجتهدوا

أنكروا شكواى مما أجد

مثل حالى حقها أن يشتكى

كمد البأس وذل الطمع

كبد حرّا ودمع يكف

يذرف الدمع ولا يعترف

أيها المعرض عما أصف

قد نما حبى بقلبى وزكا

لا ثقل فى الحب أنى مدعى

ومن تشبيهاته الرايقة وأشعاره الفايقة قوله :

ومفرطق يسعى إلى الند ما

بعقيقة فى درة بيضاء

١٩٠

والبدر فى أفق السماء كدرهم

ملقى على ياقوتة زرقاء

وله المثلث وهو معنى بديع :

خليلى طاب الراح من بعد طبخها

وقد عدت بعد السكر والعود أحمد

فهاتا عقارا من قميص زجاجة

كياقوتة فى درة تتوقد

يصوغ عليها الماء شباك فضة

لها خلق بيض تحل وتعقد

وقتنى من نار الجحيم بنفسها

وذلك من إحسانها ليس يجحد

وله من التصانيف :

كتاب «الزهرة والرياض» ، كتاب «مفاكهات الإخوان» ، كتاب «الصيد والجوارح» ، كتاب «السرادقات الشعرية» ، كتاب «أشعار الملوك» ، كتاب «طبقات الشعراء» ، و «ديوان شعره» ، وغير ذلك.

ومن كلامه البلاغة البلوغ إلى المعنى ، ولم يطل سفر الكلام ، وأشعاره البليغة ، وتشبيهاته الغريبة كثيرة شهيرة لا يطول بها هذه العجالة.

ولما تقرر المقتدر فى التمكن والاقتدار ، واستقرت خلافته أتم استقراره ، استوزر الحسن على بن محمد بن الفرات فسار أحسن ، واستقر فى الخلافة إلى سنة ٣١٧ ، فخرج مؤنس الخارج على المقتدر فركب ، وركب معه الجيش والأمن.

وجاءوا إلى دار الخلافة فهرب خواص المقتدر من داره ، ونهبوا دار الخلافة وكان مما نهب ستمائة ألف دينار لأم المقتدر ، فأشهد المقتدر على نفسه بالخلع لأربعة عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ٣١٧ ه‍.

وأحضروا أبا منصور بن المعتضد بن الموفق بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ، وبايعه «مؤنس» ولقبوه «القاهر بالله» (١) ، وفوضت الوزارة

__________________

(١) القاهر بالله ؛ هو : أبو منصور محمد القاهر بالله بن المعتضد ، زمه : أم ولد مغربية تسمى «فنون» ، بويع بالخلافة أولا سنة ٣١٧ ه‍ ، وثانيا سنة ٣٢٠ ه‍ ، ومات سنة ٣٣٩ ه‍ فى السجن. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥١.

١٩١

إلى الوزير أبى بن مقلة الكاتب المشهور ، وجلس القاهرة بالله يوم السبت ، وكتب الوزير «ابن مقلة» إلى سائر البلاد ، وعمل يوم الاثنين الديوان ، فجاء العسكر يطلبون منه إنعام الجلوس فارتفعت الأصوات ، فمنعهم الحاجب من الدخول إلى الخليفة فقتلوا الحاجب ، ومالوا إلى دار مؤنس وأخرجوا المقتدر من الحبس وحملوه على أعناقهم إلى دار الخلافة ، فجلس على السرير وأتوا بأخيه محمد القاهر إليه ـ وهو مقهور يبكى ـ ويقول : «الله الله يا أخى فى روحى» ، فاستدناه المقتدر ، وقبل بين عينى أخيه ، وقال له : «لا ذنب لك ، وأنت مغلوب على أمرك ، والله ما ينالك منى ما يكره فطب نسا ، وقوعينا».

ولما زال روعه أوى إليه أخاه وقال : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١) ، وبذل المقتدر الأموال للجند واسترضاهم ، وثبتت له الخلافة وهذه ثالث مرة والثالثة ثابتة.

* * *

فصل

ومن جملة محاسن المقتدر :

أنه زاد فى المسجد الحرام زيادة «باب إبراهيم» ، وهى الزيادة فى الجانب الغربى من المسجد الحرام ، ويقال لها زيادة «باب إبراهيم» ، وليس المراد به الخليل (عليه وعلى نبينا ، وسائر المرسلين صلاة الله وسلامه» ، بل كان إبراهيم هذا خياطا يجلس عند هذا الباب ، وعمر دهرا فعرف به.

وكان قبل هذه الزيادة باب متصل بباب المسجد الحرام بقرب باب «الحزوة» ويقر به باب ثانى يقال له : باب «بنى جمح» ـ بضم الجيم وفتح الميم بعدها حاء مهملة ـ نسبة لأبى بطن من قريش السمه جمح بن عمرو بن لؤى بن غالب.

__________________

(١) الآية رقم ٦٩ من سورة يوسف ، مكية.

١٩٢

وخارج هذين البابين : ساحة بين دارين لزبيدة «أم الأمين» بنيت فى سنة ثمان ومائتين ، وما بقى تلك الدارين أثر الآن.

والذى يظهر : أن دارى زبيدة كانت إحداهما : فى الجانب الشامى فى مكان رباط الحوزى الآن ، وكانت الأخرى تقابلها من الجانب اليمانى من تلك الزيادة ، وهو رباط «رامشت» الذى يعرف الآن برباط «ناظر الخاص» فأدخلت هذه الساحة التى بيني الدارين فى المسجد الحرام ، وأبطل البابين ، يعنى باب الخياطين وباب بنى جمح ، حيث دخلا فى المسجد الحرام ، وجعل عوض البابين ، وباب كبير وهو المسمى بباب «إبراهيم» فى غربى هذه الزيادة.

قال الحافظ نجم الدين عمر بن فهد (رحمه‌الله تعالى) فى حوادث سنة ٣٠٩ ه‍ فى كتابه «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» : «وفيها زاد قاضى مكة يومئذ محمد بن موسى من الجانب الغربى قطعة عند «باب الخياطيبن» وباب «بنى جمح» وهى «السوح» الذى كان بين دار زبيدة أم الأمين ، وعمل ذلك مسجدا أوصله بالمسجد الحرام إلى العتبة التى عليها باب «إبراهيم» سبعة وخمسون ذراعا إلا سدس ذراع عرض هذه الزيادة من جانبها الشامى إلى جانبها اليمانى ، وذلك من جدر رباط «الجوزى» إلى جذر رباط «رامشت» اثنان وخمسون ذراعا وربع ذراع ، وفى هذه الزيادة فى جانبها الشرقى المتصل بالمسجد الكبير صفان من الرواق على أساطين منحوتة من الحجارة ، وكذلك فى جانبها الشمالى ، ولم يكن فى جانبها الغربى رواق وفى جانبها اليمانى سبيل ما وسط رواقه ، وكانت بهذه الزيادة منارة ذكرها التقى الفاسى فى الشفاء.

قلت : أما المنارة فلا أدرى من نباها ولا متى بنيت ولا متى هدمت ، وأما السيل فكان موجود إلى سنة ٩٨٣ ه‍ ، وهدم عند وصول الغمارة السلطانية إليه ، وأعيد بناؤه سبيلا كما كان ، وهذه الزيادة الثانية وقعت فى أيام المقتدر العباسى (رحمه‌الله تعالى وعفى عنه).

* * *

١٩٣

ومن جملة محاسن المقتدر أيضا :

أنه أبطل من ديوانه استخدام أهل الذمة من اليهود والنصارى ، وأبطل تصرفهم فى الأموال السلطانية ، وأعاد الأمر بتوريث ذوى الأرحام فى سائر ممالك الإسلام ، وأتلف كثيرا من الأموال ، وأفرغ خزائن بيت المال ، وباع كثيرا من الضياع حتى أرض الجند بإكمال عطيتهم.

وكان يصرف يوم عرفة كل عام من الإبل والبقر أربعين ألف رأس ، ومن الغنم خميسين ألف ، كذا ذكره الجمّال يوسف بن تفرى بردى فى تاريخه «مورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة».

وقال أبو المحاسن سبط ابن الجوزى (رحمه‌الله تعالى) : «كان المقتدر يصرف فى كل سنة فى طريق مكة والحرمين ثلثمائة ألف دينار وخمة عشر ألف دينار.

وقال الحافظ السيوطى : «كان النساء غلبن على المقتدر ، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها وأعطى بعض حظاياه «الدرة التميمية» ، وكان وزنها ثلاث مثاقيل وأعطى زيدان القهرمانية سبحة جواهر لم ير مثلها ، وأعطى بعض حظاياه سبحة جوهر لم ير مثلها.

وكان فى داره إحدى عشر ألف غلام خصى غير الصقالبة والروم والسود ، وكان مبلغ النفقة على «بيمارستان» أم المقتدر فى كل عام سبعة آلاف دينار ، وأنه ختن خمسة من أولاده فصرف فى ختانهم ستمائة ألف دينار ، وقدمت رسل ملك الروم بهدايا تطلب الهدنة فعمل المقتدر مكبا عظيما لإرهاب العدو فأقام مائة وستين ألف مقاتل بالسلاح الكامل سماطين من باب الشامية إلى دار الخلافة ببغداد ، وتم الرسل بينهما فى هذه المسافة وأقام بعدهم الخدم وهم سبعة آلاف خادم ثم الحجاب وهم سبعمائة حاجب ، وكانت السور التى نصبت عليها حيطان دار الخلافة ثمانية وثلاثون ألف ستر من الديباج ، وكانت البسط الفاخرة التى فرشت فى الأرض اثنين وعشريني ألف بساط ، وفى الحضرة ماذة سبع فى سلاسل الذهب والفضة وغير ذلك ، وزاد الجمالى

١٩٤

يوسف بن ثغرى بردى من جملة الزينة شجرة صيغت وصنعت من الذهب والفضة والجواهر تشتمل على ثمانية عشر غصنا أوراقها من الذهب والفضة وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة ، وعلى الأغصان طيور ذهب وفضة تنفخ الريح فيها فتسمع لكل طير تغريد وصفير خاص.

وهذا بعد وهن دولة العباسية وضعفها ، فكيف كان زينتها فى أيام قوة دولتهم فى كمال وصفها فسبحان من لا يزول ولا يزال ولا يفنى ملكه ولا يعتريه الزوال ولا تحوله الأحوال وهو الله الكبير المتعال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ضد ولا ندر ولا مثال ، وقدرها تقديرا.

ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا وزيرا.

تعالى شأنه وعلا سلطانه علوا كبيرا.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١).

* * *

فصل

وأول ما ظهر وهن الخلافة فى أيام المقتدر بالله : ظهور الطائفة الملحدة التى تسمى «القرامطة».

لهم اعتقاد فاسد ، يؤدى إلى الكفر ، يستبيحون دماء المسلمين ، وينتسبون إلى مولاه محمد بن الحنفية من أولاد سيدنا علىّ بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، ويرون كافة ضلال المسلمين.

فأول نجس خبيث ظهر منهم أبو طاهر القرمطى ، وبنى دارا فى هجر سماها «دار الهجرة» ، أراد نقل الحج إليها (لعنه الله تعالى وأخزاه) ، وكثر فتكه فى المسلمين ، وسفك دماء المؤمنين إلى أن اشتد به الخطب ، وانقطع الحج فى أيامه خوفا منه ، ومن طائفته الفاجرة ، واشتدت شوكتهم.

__________________

(١) الآية رقم ١١١ من سورة الإسراء ، مكية.

١٩٥

ففى عام ٣١٧ ه‍ لم يشعروا الحجاج يوم «التروية» بمكة إلا وقد وافاهم ـ عدو الله ـ أبو طاهر القرمطى فى عسكر جرار ، فدخلوا بخيلهم وسلاحهم إلى المسجد الحرام ، ووضعوا السيف فى الطائفين ، والمصلين ، والمحرمين ، مجردين فى إحرامهم إلى أن قتلوا فى المسجد الحرام ، وفى مكة ، وفى شعابها زهاء ثلاثين ألف إنسان.

وتلك مصيبة ما أصيب الإسلام بمثلها.

وركض أبو طاهر بسيفه مشهورا فى يده ـ وهو سكران ـ يسفر بفرسه عند البيت الشريف فبال ، وراث! ، والحجاج يطوفون ببيت الله الحرام ، والسيوف تنوشهم إلى أن قتل ـ فى المطاف الشريف ـ ألف وسبعمائة طائف محرم ، ولم يقطع طوافه على بن بويه ، وجعل يقول ، وهو ينشد :

ترى المحبين صرعى فى ديارهم

كفتية الكهف لا يدرون ما لبثوا

والسيوف تقفوه إلى أن سقط ميتا (رحمه‌الله تعالى) وطمت بامتلاء الشهداء بئر زمزم وما بمكة من آبار وحفر ، وقد ملئت بهم ، وطلع أبو الطاهر إلى باب الكعبة وقلع بابها وصار يقول : «أنا بالله وبالله أنا ، يخلق الخلق وأفنيهم أنا ، وصاح فى الحجاج : يا حمير! أنتم ، تقولون : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) فأين الأمان؟! ، وقد فعلنا فأخذ شخص بلجام فرسه ، وقال ـ وقد استسلم للقتل ـ : «ليس معنى الآية الشريفة ما ذكرت ، وإنما معناها : «ومن دخل فأمنوه» ، فولاه أبو طاهر عنان فرسه عنه ولم يلنفت إليه وصانه الله تعالى ببركته بذل نفسه فى سبيل الله تعالى والرد على هذا الكافر ـ أخزاه الله تعالى ـ.

وأراد قلع الميزاب ، وكان من ذهب ، فاطلع قرمطيا يقلعه فأصيب بسهم من جبل بى قبيس فأخطأ نحره وخر ميتا ، وأمر آخر مكانه فسقط من فوق إلى أسفل على رسه ، فهاب الثالث عن الإقدام على القلع فمضى أبو طاهر وتركه ـ على رغم أنفه ـ وقال : اتركوه حتى يأتى صاحبه ـ يعنى المهدى الذى يزعم أنه يخرج فيهم ـ.

١٩٦

وكان ممن قتل بمكة أميرها أبو المحارم ، والحافظ بن محارب ، والحافظ أبو الفضل محمد بن الحسين بن أحمد الحاروذى الهروى ، أخذته السيوف وهو متعلق بيده بحلقة باب الكعبة حتى سقط رأسه على عتبة بيت الله تعالى وأخوه إمام الفقهاء الحنيفة أبو سعيد أحمد بن الحسين البردعى ، والشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله الوهابى ، وشيخ الصوفية على بن مابويه الصوفى ، والشيخ محمد بن خالد بن زين البردعى نزيل مكة ، وجماعة كثيرون من العلماء والصلحاء والصوفية والحجاج من أهل خراسان والمغاربة ونهبت أموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم ونهبت دور الناس وقتل من وجد من أهلها إلا من اختفى فى الجبال وممن هرب من مكة ـ يومئذ ـ قاضيها يحيى بن عبد الرحمن بن هارون القرشى مع عياله إلى وادى ريحان ، ونهبت القرامطة من داره وأثاثه وأمواله قيمته مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار فافتقر بعد تلك الثروة ، وكذلك نهبت دور أهل مكة ، إلى أن صار الباقى ممن نجا من تلك الواقعة فقراء يستعطون ، ولم يحج فى هذا العام أحد ، ولا وقف بعرفة إلا قدر يسير فادوا بنفسهم ، وسمحوا بأرواحهم ، فوقفوا بدون إمام ، وأتموا حجهم مستسلمون للموت.

وأخذ أبو طاهر خزانة الكعبة ، وما فيها من الذهب والفضة وكسوة الكعبة وحليها ، وما نهبه من أموال الحجاج فقسمها بين أصحابه ، وأراد أخذ حجر المقام الذى فيه صورة قدم سيدنا إبراهيم (صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أنبياء الله ورسله الكرام) ، فلم يظفر به لأن سدنة الكعبة الشريفة غيبوه فى بعض شعاب مكة ، وتألم لذلك ، واستدعى بجعفر بن أبى علاج البناء ، وأمره بقلع الحجر الأسود من محله فقلعه بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشر ليلة خلت من ذى الحجة ذلك العام ، وصار بزندقته (قالته الله وأخزاه).

فلو كان هذا البيت لله ربّنا

لصب علينا النار من فوقنا صبا

لأنا حججنا حجة جاهلية

محللة لم تبق شرقا ولا غربا

وأنا تركنا بين زمزم والصفا

خبائز لا تبغى سوى ربها ربّا

١٩٧

وقلع ذلك الكافر قبة زمزم ، وباب زمزم والكعبة ، وأقام بمكة أحد عشر يوما ، وقيل : ستة أيام ، ثم انصرف إلى بلد هجر ، وحمل معه الحجر الأسود يريد أن يحول الحج إلى مسجد الضرار الذى سماه «دار الهجرة» ، وعلته فى الأسطوانة السابعة مما يلى صخر الجامع من الجانب الغربى من المسجد ، وبقى موضع الحجر الأسود من البيت الشريف خاليا يضع الناس أيديهم فيه ويلتمسون تبركا بمحله.

وأمر هذا الفاجر أن يخطب بعبيد الله المهدى أول الخلفاء العبيديين الفاطميين ، وكان أول ظهوره فبلغ عبيد الله المذكور ذلك فكتب إليه : «إن أعجب العجاب إرسالك ـ بكتبك ـ إلينا مهيبنا بما ارتكبت فى بلد الله الأمين من انتهاك حرمة بيت الله الحرام الذى لم يذل محترما فى الجاهلية والإسلام ، وسفكت فيه دماء المسلمين ، وفتكت بالحجاج والمعتمرين وتعديت وتجرأت على بيت الله تعالى وقلعت الحجر الأسود الذى هو يمين الله فى الأرض يصافح به عباده وحملته إلى منزلك ورجوت أن أشكرك على ذلك ، فلعنك الله ثم لعنك ثم لعنك والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وقدم فى يومه ما ينجو به فى غده.

فلما وصل كتاب عبيد الله المهدى إلى طاهر القرمطى وعلم ما فيه انحرف عن طاعته واستمر الحجر عندهم أكثر من عشرين سنة ، يستجلبون به الناس طمعا أن يتحول الحج إلى بلدتهم ـ وبأبى الله ذلك ـ والإسلام وشريعة محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) ، وهذه من أعظم مصائب الإسلام وأشدها وهنا فى الدين من أولئك الكفرة اللئام ذابت لها أكباد العباد ، وعمت فتنتها فى الحاضر والباد إلى أن دمر الله تعالى تلك الطائفة القاهرة وابتلى أبو طاهر النجس هذا بالأكلة ، فصار يتناثر لحمه بالدود ، ومات أشقى ميتة إلى دار الخلود وتعذب بأنواع البلاء فى الدنيا : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)(١).

ولما أيست القرامطة من تحويل الحجاج حجهم إلى هجر ردوا الحجر الأسود إلى محله.

__________________

(١) الآية رقم ١٢٧ من سورة طه ، مكية.

١٩٨

وورد سنير بن الحسين القرمطى إلى مكة فى يوم النحر يوم الثلاثاء عاشر ذى الحجة سنة ٣٣٩ ه‍ ، ومعه الحجر الأسود ، فلما صار بفناء الكعبة حضر معه أمير مكة ـ يومئذ ـ وهو ـ ظنا ـ أبو جعفر محمد بن الحسن بن عبد الله ابن عبد العزيز ، فأظهر سفطا أخرج منه الحجر الأسود وعليه ضباب من فضة فى طوله وعرضه يضبط شقوقات حدثت فيه بعد قلعه.

وأحضر معه جصا يشده به فوضع حسن بن المروق البنّاء الحجر فى مكانه الذى قلع منه ، وقيل : بل وضعه «سنبر» بيده ، وقال : «أخذناه بقدرة الله تعالى وأعدناه بمشيئته ، وقد أخذناه بأمر ورددناه بأمره».

ونظر الناس إلى الحجر فقبلوه واستلموه ، وحمدوا الله تعالى ، وحضر ذلك محمد بن شافع الخزاعى ، ونظر إلى الحجر الأسود وتزمله ، فإذا السواد فى رسه دون سائره وسائره أبيض ، وحضر معهم ممن حج تلك السنة محمد بن عبد الملك بن صفوان الأندلسى ، وشهد ردّ الحجر إلى مكانه.

ولما أعيد الحجر الأسود إلى مكة حمله على قعود هزيل فسمن ، وكان لما مضوا به مات تحته أربعون جملا ، وكانت مدة استمراره عند القرامطة اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.

وكان المنصور بن القائم بني المهدى العبيدى أرسل أحمد بن أبى سعيد القرمطى ـ أخا طاهر ـ بخمسين ألف ذهب فى الحجر الأسود لرده فلم يفعل وبذل حكم التركى مدير الخلافة خمسين ألف دينار للقرامطة على رد الحجر وقالوا : «أخذناه بأمر ولا نرده إلا بأمر»! إلى أن أراد الله تعالى رده على الوجه الذى ذكرناه.

وفى التواريخ صور أخر لهذه القصة رأيناها متناقضة ، وهذا أصح ما روى فيها فاعتمدنا عليه فعض عليه بالنواجذ.

ثم إن الحجبة خافوا على الحجر الأسود من استطالة يد خائن إليه بعدم استحكام بنائه فقلعوه وجعلوه فى البيت الشريف حفظا له وصنا عمن أراده بسوء ، ثم أمروا صائغين فصنعوا له طوقا من فضة وزينة ثلاثة آلاف وسبع

١٩٩

وثلاثون درهما ، فطوفوا به الحجر وشدوا عليه وأحكموا بناءه فى محله ، كما كان ذلك قديما وكما هو الآن أيضا ـ كذلك ـ.

وكان قلع الحجر فى أيام المقتدر ، ثم وقع بينه وبين يونس حرب فتوغل فى المعركة فضربه واحد من البربر من خلفه فسقط إلى الأرض ، فقال لهناربه ويحك : أنا الخليفة ، فقال : أنت المطلوب! وذبحه بالسيوف ورفع رأسه على الرمح وسلب ما عليه ، وبقى مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش.

ثم حفر له مكانه وعفى أثره فسبحان المعز المذل السميع البصير له الملك وحده لا شريك له ، وهو على كل شىء قدير.

وكانت مدة خلافة المقتدر أولا وثانيا وثالثا خمسا وعشرين سنة إلا أياما.

وقيل : لثمان بقين من شوال سنة ٣٢٠ ه‍ ، وولى أخوه مكانه أبو منصور محمد بن المعتضد ولقب «القاهر بالله» ، وقهر القاهر بالله وسمل عينيه.

وجاءوا بأبى العباس محمد بن المقتدر بالله بن المعتضد ولقبوه ب «الراضى بالله» (١) وبايعوه فى سنة ٣٢٢ ، وصار خليفة إلى أن مات فى سنة ٣٢٩ ه‍.

وبويع لأخيه أبى إسحاق إبراهيم بن المقتدر وبعده المقتى بالله وقبض عليه «نوروز التركى» وسمل عينيه فى صفر سنة ٣٣٣ ه‍ ، وبويع بعده لابن عمه أبى القاسم الفضل بن المقتدر بالله ، ولقب «المطيع بالله» (٢) وبويع له بالخلافة فى سنة ٣٣٤ ه‍ ، وكان رد الحجر الأسود من بلاد هجر إلى مكانه من البيت الشريف فى أيام المطيع بالله هذا.

وتم أمره على ضعف الخلافة ووهنها واستيلاء بنى بويه على الملك وطالت

__________________

(١) الراضى بالله ؛ هو : أبو العباس محمد بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر الهاشمى العباس ، أمه أم ولد رومية تسمى «ظلوم».

ولد سنة ٢٩٧ ه‍ ، وتوفى سنة ٣٢٩ ه‍ ، وله اثنتان وثلاثون.

(٢) المطيع لله ، هو : أبو القاسم الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة. أمه : أم ولد تسمى «شعلة» ، ولد سنة ٣٠١ ه‍ ، بويع بالخلافة سنة ٣٣٤ ه‍ وتوفى سنة ٣٦٤ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٥٣ ، ٣٥٤.

٢٠٠