كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

زال ملكه ، وتوفى رحمة الله تعالى ، يوم الخميس لإحدى عشر ليلة من ربيع الأول سنة ٣٣٧ ه‍.

* * *

فصل

ولى الخلافة بعد المعتصم أبو جعفر هارون ، ولقب الواثق بالله (١) فى تاسع ربيع الأول سنة ٣٣٨ ه‍ ، ومولده لعشر بقين من شعبان سنة ٢٩٩ ه‍ ، وأمه أم ولد رومية اسمها قراخيس.

واستخلف تركيا اسمه أنساس ، ولقبه السلطان ، وهو أول خليفة استخلف سلطانا ، وألبسه وشاحين مجوهرين ، وتاجا مجوهرا ، وتبع أباه فى الأمر بالقول بخلق القرآن ، ثم رجع عن ذلك فى آخر أمره.

قال الخطيب (٢) : كان أحمد بن أبى داود قد استولى على الواثق ، حمله على التشديد بالقول بخلق القرآن ، فحمل إليه رجل ممن خالفه فى هذه المحنة وابن أبى داود حاضر ، فقال الرجل ، وهو مكبل فى الحديد : أخبرونى عن هذا الراوى الذى دعوتم الناس إليه ، هل هو شىء علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يدع الناس إليه ، أو هو شىء لم يعلمه؟

فقال ابن داود : بل علمه ، فقال الرجل : وسع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسكت عنه ، وأنتم لا يسعكم ، فبهتوا ، وضحك الواثق ، وقام قابضا على فمه ، ودخل بيته ، ومد رجله ، وهو يقول : وسع النبى أن يسكت عنه ، ونحن لا

__________________

(١) الواثق بالله ؛ هو : هارون بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون الهاشمى العباسى البغدادى ؛ أبو جعفر ، أمه : أم ولد رومية تسمى : قراطيس ، ولد لعشر بقين من شعبان سنة ١٩٦ ه‍ ، كان من القائلين بخلق القرآن ، توفى بسامرا فى يوم الأربعاء لست بقين من ذى الحجة من سنة ٢٣٢ ه‍. تاريخي الخميس : ٢ / ٣٣٧.

(٢) الخطيب ؛ هو : الحافظ أبو بكر أحمد بن على المعروف بالخطيب البغدادى ، توفى سنة ٤٦٣ ه‍ ، هو ثانى من كتب فى تاريخ بغداد بعد أحمد بن أبى طاهر البغدادى ، وقد كتب الخطيب البغدادى تاريخه على طريقة المحدثين جمع فيه رجالها ومن ورد بها وضم إليه فوائد جمة ، فصار كتابا عظيم الحجم والنفع. كشف الظنون : ١ / ٢٨٨.

١٦١

يسعنا ، وأمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار ، وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحد بعد ، ومقت ابن أبى داود من يومئذ ، ولم يرتفع له شأن.

والرجل هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأزدى ، شيخ النسائى ، كان الواثق عالما شاعرا ، حاذقا كبيرا ، لا كل أكثر بنى العباس رواية للشعر ، ومن شعره فى واقعة حال هذه الأبيات :

حياك بالنرجس والورد

معتدل القامة والقد

فألهبت عينيه نار الجوى

وزاد فى اللوعة والوجد

آملت بالملك وصالا به

فصار ملكى سبب البعد

مولى يشكو الظلم من عبده

فانصفوا المولى من العبد

قال الصولى : أجمعوا على أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات ، فى الرقة واللطافة.

مات من رأى : يوم الأربعاء لست بقين من ذى الحجة فى سنة ٣٣٣ ، وحكى : أنه لما مات ترك وحده ، وانشغل الناس بالبيعة للمتوكل ، فجاء حردون واستل عينه ، وأكلها ؛ فسبحان العزيز المتعال ، وتبارك القوى القادر ذو الجلال بيده الملك ، لا يزول ولا يزال ، ثم ولى بعده أخوه المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد العباسى ، مولده سنة ٣٣٥ ه‍ ، وبويع له بالخلافة فى اليوم الذى مات فيه أخوه.

وأمه أم ولد تركيه اسمها سجاع ، وكان كريما ، ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطاه المتوكل ، وكان سنيا ، أظهر السنة وأكرم علم الحديث ، وأمات البدع ومنع القول بخلق القرآن ، وألزم النصارى بلبس الزرقى وشيع على الجهمية والمعتزلة ، وأمر نائبه بمصر أن يحلق لحيه قاضى مصر محمد بن أبى الليث ، ويطوف به على الأسواق على حمار لأنه كان جهميا معتزلا ، يقول بالجهمية وخلق القرآن ، ففعل به ذلك.

ومن أفعاله بالشيعة ؛ أنه هدم قبر الحسين بن على بن أبى طالب (رضى

١٦٢

الله عنه) فى سنة ٣٣٧ ه‍ ، وهدم ما حوله من الدور ، وجعله مزرعة ، ومنع من زيارته ، فتألم الناس من ذلك ، وكتبوا اسمه على الحيطان ، وقيل فيه شعر :

تا الله إن كانت أمية قد أتت

قبل بيت بنيها مظلوما

فلقد أتى بنو أبيه بمثله

هذا لعمرى قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

فى قتله ، فتتبعوه رميما

وهذا الفعل السيئ ، محى جميع محاسنه ، وصار ما عذب من زلال إحسانه ، مغلوبا بأجاجه وأسنه ، وعدت عليه هذه الزلة أفضح فضيحة وهذه الخلة الشنيعة أقبح قبيحة ، ووقعت فى أيامه عجائب منها :

أن النجوم ماجت فى السماء ، وتناثرت الكواك بالجراد ، ولم يعهد قط مثل ذلك ، ورجمت قرية السويدا بناحية مصر ، بجبل باليمن عليه مزارع إلى آخر ، ووقع فى جبل طائر أبيض ، دون الرحمة ، فصاح : يا معشر الناس اتقوا الله أربعين مرة ، وجاء من الغد ، ففعل كذلك ؛ فكتبوا خبر ذلك على البريد إلى بغداد ، وكتبوا فيه شهادة خمسمائة إنسان سمعوا ذلك بآذانهم ، وذلك فى رمضان سنة ٣٣١ ه‍.

وحصلت الزلازل ، وغارت عيون مكة ، فأرسل المتوكل إلى مكة مائة ألف دينارا ذهبا ؛ لإجراء عين عرفات إليها ، فصرفت فيها إلى أن جرت ؛ كذا ذكره السيوطى (رحمه‌الله تعالى).

وذكر الحافظ نجم الدين عمر بن فهد فى كتابه «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» : «فى حوادث سنة ٣٥٢ ه‍ ، فيها غارت «عين مشاش» ، وهى عين مكة ، فبلغ ثمن القربة درهما ، فبعث المتوكل إلى الله ، جعفر بن المعتصم مالا ، فأنفق عليه حتى جرت ؛ كذا ذكره بن الأثير فى تاريخه.

وهذه العين من عمل زبيدة وهى عين باذان ظنا». انتهى.

قلت : عين مشاش : موجودة إلى الآن ، وهى من جملة العيون ، التى

١٦٣

تنضب فى ذيل عين حنين ، وهى تجرى ، وتضعف أحيانا لقلة المطر ، ومحلها معروف.

ولما كثر المماليك الأتاك فى بغداد ، وادّخّلوا فى أمر الملك استولوا على المملكة ، وصار بيدهم الحل والعقد والولاية ، والعزل إلى أن حملهم الطغيان على العدوان ، وسطوا على الخليفة المتوكل لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيف التركى ؛ لكثرة أمواله ، وخزائنه ؛ فتعص له باعز التركى ، وانحرف الأتراك عنه ؛ فدخل باعز عليه ومعه عشرة أتراك ، وهو فى مجلس أنسه ، وعند ـ وزيره ، الفتح بن خاقان ، بعد أن مضى من الليل ثلاث ساعات.

فصاح الفتح : ويلكم هذا سيدكم ، وابن سيدكم ، وهرب من كان حوله من الغلمان والندماء على وجوههم ، وبقى الفتح وحده ، والمتوكل غائب عن نفسه من السكر ؛ فضربه باعذ بالسيف على عاتقه ، فقده إلى خصره ، فطرح الفتح نفسه عليه ، فضربهما باعذ ضربة ثانية ، فماتا جميعا ، فلفهما معا فى بساط ، ومضى هو ومن معه ، ولم يتضح فى ذلك شاتان.

وكان قتله فى ليلة الأربعاء ، لليلتين مضتا من شوال سنة ٣٣٧ فى القصر الجعفرى ، وكان بناه المتوكل ـ ولما قتل دفن فيه رحمه‌الله هو ووزيره الفتح بن خاقان الذى قتل معه رحمه‌الله.

وكانت ولايته وخلافته عشرين عاما ، وعمره إحدى وأربعون سنة ، وولى بعده ولده محمد أبو جعفر المنتصر بالله (١) بن المتوكل على الله بن المعتصم ابن هارون الرشيد ، بويع له بالخلافة بعد قتل أبيه ، ولم يتهن بالملك لاستيلاء المماليك الأتراك على المملكة.

وقيل : إنه واطأ الأتراك على قتل أبيه ، ليلى الخلافة بعده ، والله أعلم بذلك ، وكان على حذر من الأتراك ، ويسبهم ، ويقول : هؤلاء قتلة الخلفاء

__________________

(١) المنتصر بالله ؛ هو : محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارن بن المهدى محمد بن أبى جعفر ، أمه : أم ولد رومية اسمها : حبشة ، تسلم الخلافة صبيحة قتل والده المتوكل. مات بعد أن ولى الخلافة بستة أشهر فقد وليها فى شوال ، ومات فى شهر ربيع الآخر ، وكان مدة عمره ستا وعشرين سنة. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٣٩ ، ٣٤٠.

١٦٤

فلم يأمنوه ، وأرادوا قتله ؛ فما أمكنهم الإقدام على ذلك لشدة محازرته منهم ، فدسوا إلى طبيبه ابن طيفون ثلاثين ألف دينار عند توعيكه ؛ ليسمه ، فقصده بمبضع مسموم ، فأحسن بذلك ، وأراد قتل الطبيب ، قال : إنك تصبح طيب وتندم على قتلى ، فأمهلنى إلى الصبح ، فأمهله فأصبح ميتا.

ويحكى أنه بات ليلة فى وعكه ، وابنه فزعا ، وهو يبكى ، فسألته أمه : ما يبكيك؟ فقال : أفسدت فيها دينى ودنياى ، رأيت أبى الساعة ، وهو يقول : قتلتنى يا محمد لأجل الخلافة ، والله لا تتمتع بها إلا أيام قلائل ، ثم مصيرك إلى النار ، فاستمر موهوما من هذا المنام ، فما عاش بعد ذلك ، إلا أياما قليلة.

وذكر ابن يحيى المنجم : أن المنتصر جلس يوما للهو ، وأمر بفرش بساط من زخائر الخزينة ، تداولته الملوك ، ففرش ، فرأى فيه صورة رأس ، رأى عليه نساج وعليه كتابة فارسية فطلب من يستخرج تلك الكتابة ، أحضر لذلك رجل من الأعاجم ، فقرأه بلسانه ، وعبس عند قرأتها ، فسأله المنتصر عنها ، فقال : لا معنى لها ، فألح عليه ، فقال : أنا الملك شرويه بن كسرى بن هرمز ، قتلت أبى لم أتمتع بالملك بعده إلا ستة أشهر ، فتغير وجه المنتصر لذلك ، وقام من ذلك المجلس وترك اللهو الذى أراده ، صار مغتما لذلك ، مهتما به.

وكان على خلاف رأى أبيه فى آل أبى طالب ، وأعاد قبر الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه بعد ما كان هدمه أبوه وأمر بزيارته ، ورد على آل الحسين حايها فذك هى أرض بأرض الحجاز ، وقصته مشهورة ، وهى مما تنقمه الشيعة على يد سيدنا أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وإنما فعل ذلك بحديث سمعه من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضى الله به سيدنا علىّ بن أبى طالب ، ولم ينقض ذلك الحكم لما آلت الخلافة إليه ، لعلمه أن ذلك هو الحق ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال؟

وكانت خلافة المنتصر ستة أشهر ، كما توهمه.

قال أبو المنصور الثعالبى ، فى العجائب : «أن أعراق الأكاسرة فى الملك شيرويه قتل أبيه ، فلم يعيش بعده إلا ستة أشهر». انتهى.

١٦٥

قلت : وكل منهما مات مسموما ، وكانت وفاة المنتصر بمبضع سموم ـ كما قدمناه ـ بخمس مضين فى ربيع الآخر سنة ٣٤٨ ، وكان عمره ستا وعشرون سنة (رحمه‌الله تعالى).

ثم ولى بعده أبو العباس ؛ أحمد ، المستعين بالله (١) ابن المعتصم بالله عم المقتدر أخو المتكل على الله ، وإنما قدمته الأتراك ، واختاروه ، وعدوا عن أولاد المتوكل ، لأنهم قتلوه ، فخافوا أن يلى الخلافة أحد من أولاده ، فيأخذ بثأر أبيه ، واختاروا من أولاد المعتصم المستعين بالله ، ومولده سنة ٣٣١ ه‍ ، وأمه أم ولد محارف ، وما كان له من الخلافة إلا الاسم.

وكانت المماليك والأتراك المتولين على الملك ، وكان الأمر جميعه لوصيف التركى ، وبغى التركى.

وقيل فى ذلك : خليفة فى قفص بين وصيف وبغا ، يقول كما قالا له ، كما تقول البيغا ، واستمر كذلك ، وهو يترصد لهما ؛ فظفر بوصيف التركى وقتله ، وبقى باعز التركى ، الذى كان سطى على المتوكل ، وفتك به ، فتذكر حالة الأتراك ، فخرج عليهم من سائر إلى بغداد ، فأرسلوا إليه يعتذروا ، ويسألونه عن العود إلى سامراء ، وهو محل الأتراك ، فامتنع فيهم.

وكان المستعين فاضلا أديبا ، إخباريا مطلعا على التواريخ ، متجملا فى ملبسه ، وهو أول من أحدث الأكمام العراض ؛ فجعل لكم ثلاث عرض أشبارا ، وهو الآن من شعار ساداتنا أشراف مكة بنى حسن (أعزهم الله تعالى).

ولما أبى المستعين عن العود إلى الأتراك فى سامراء ، قصدوا الأتراك خلعه ،

__________________

(١) أبو العباس أحمد المستعين بالله ؛ هو : أحمد بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور الهاشمى العباسى ، أمه : أم ولد رومية تسمى : مخارق ، ولد سنة ٢٢١ ه‍ ، وقتل فى الثالث من شوال يوم الأربعاء سنة ٢٥٢ ه‍ ، وله إحدى وثلاثون سنة ، وكان الذى قتله سعيد بن صالح الحاجب ، بعثه إليه المعتز. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٤٠.

١٦٦

فأتوا إلى الحبس ، واستخرجوا منه أبا محمد عبد الله بن المتوكل على الله ، ولقبوه المعتز بالله (١) ، وبايعوه ، وعمره تسعة عشر عاما ، ولم يلى الخلافة أصغر سنا منه ، وخلعوا المستعين بالله فى أول سنة ٣٣ ه‍.

وجيشوا إلى بغداد جيشا كثيرا إلى المستعين بالله ، وقاتلوه وقاتلهم ، ودام القتال شهرا ، وكثر القتل ، وغلت الأسعار وعظم البلاد ، وتلاشى أمر المستعين بالله إلى أن خلع نفسه ، وأشهد القضاة والعدول على نفسه بذلك ؛ فأخذوه ، وانحدروا به إلى وسط ، وحبسوه تسعة أشهر.

ثم ندب لما سعد الحاجب ، فذبحه فى الحبس ، فى ثالث شوال سنة ٣٥٣ ه‍ ، وله إحدى وثلاثون سنة.

واستمر المعتز بالله خليفة ، وكان بديع الحسن ، حسن الصورة ، وليس من الخلفاء أجمل منه حسنا ، وكان متضعفا مع الأتراك ، وكان صالح بن وصيف مستوليا على المعتز ، خائفا منه ؛ فاجتمع الجند عليه ، فطلبوا منه أرزاقهم ، ووعدوه إذا أنفق عليهم فقتلوه أشر قتلة.

ركبوا له على صالح بن وصيف ، فصفوا له الملك ، ولم يكن فى خزائنه مال يصرف عليهم ، فطلب من أمه ، وكانت تركية ، اسمها قبيحة ؛ لفرط جمالها بين النساء ، فأبت عليه وشحت بالمال ، وشحت بولدها وهو خليفة ، وكان معها مال عظيم ؛ فاتفق الأتراك على خلعه ، وركب عليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا ، أو أتوا إلى دار الخلافة وهجموا على المعتز ، وجروا برجله ، ووقفوه فى الشمس وعذبوه حتى خلع نفسه ، وأدخلوه الحمام ، ومنعوه من شرب الماء ، إلى أن مات عطشانا (رحمه‌الله تعالى).

__________________

(١) المعتز بالله ؛ هو : محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور ، أمه : أم ولد تسمى : قبيحة ؛ لجمال صورتها ، ولد سنة ٢٣٢ ه‍ ، وبويع بالخلافة عند خلع المستعين بالله ؛ عمه نفسه فى أول سنة ٢٥٢ ه‍ ، مات فى شعبان سنة ٢٥٥ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٤٠ ، ٣٤١.

١٦٧

وأحضروا أبا عبد الله محمد بن الواثق ، ولقبوه المهتدى بالله (١) ، ابن الواثق بن المعتصم بالله بن الرشيد ، وبايعوه الخلافة لليلة بقيت من رجب سنة ٣٥١ ، وله بضع وثلاثون سنة ، وصار صالح بن وصيف على قبيحة أم المعتز وعذبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهبا جديدا ونصف أردب لؤلؤ ، ومثله زمرد ، وسدس أردب ياقوت أحمر ، ثم خرجت إلى مكة ، وقامت بها إلى أن ماتت ، وأقل الناس الترحم عليها ، حيث ظهر هذا المال عندها ، وشحت به على ولدها.

وكان المهتدى كثير العبادة ، ليس له من الأمر شىء ، وكان قد أطرح الملاهى ، ومنع الظلمة من المظالم ، فاتفقوا الأتراك على خلعه ، وركبوا عليه فخرج إليهم ، وقاتلهم بنفسه ، إلى أن أمسكوه باليد ، وعصروا على بطنه إلى أن مات (رحمه‌الله تعالى) فى رجب سنة ٣٥٧ ه‍.

وكانت خلافته ستة أشهر إلا خمسة عشر يوما ، ثم ولى الخلافة بعده ابن عمه أبو جعفر أحمد ، ويلقب المعتمد على الله (٢) ، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) المهتدى بالله ؛ هو : محمد بن الواثق هارون بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور ، أمه : أم ولد رومية تسمى : قرب ولد فى خلافة جده سنة بضع عشرة ومائتين ، بويع بالخلافة بعد ابن عمه المعتز بالله فى التاسع والعشرين من رجب سنة ٢٥٥ ه‍ ، وله بضع وثلاثون سنة ، وقتل فى شهر رجب سنة ٢٥٦ ه‍ ، فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوما. تاريخ الخميس : ٢ / ٢٤١ ، ٢٤٢.

(٢) المعتمد على الله ؛ هو : أحمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى بن المنصور ، وقد سبقت الإشارة إليه.

١٦٨

الباب الخامس

فى ذكر الزيادتين اللتين زيدتا فى المسجد الحرام بعد تربيعه

الذى أمر به المهدى المنصور العباسى وشرع فيه. فأدركته

الوفاة قبل إتمامه ، وأتم فى ولاية الهادى بن المهدى المذكور

كما سبق شرحه مما تقدم

ووقع ترميم فى الجانب الغربى من المسجد الحرام ، قبل الزيادتين فى أيام المعتمد على الله العباسى ، ثم بنيت الزيادة الكبرى من المسجد الحرام من الجانب الشمالى أيام المقتدر بالله.

فلنذكر تراجم هذه الخلفاء ، ونذكر ما أحدثوه فى المسجد الحرام من تجديد وزيادة وترميم ، على الترتيب إن شاء الله تعالى ، مع ما نذكره من ضمن ذلك من الفوائد الاستطرادية ، ترويحا للنفس وتسبيبا لحصول الفوائد ، وتوفيقا على أحوال الدهر وتعريفا بما يحدث من الحوادث فى كل عصر ، لئلا يعتمد العاقل على هذه الدنيا ، ويعتبر بمن قبله فى غدر هذه العجوز العمياء ، وهذه الفائدة فى الحقيقة نتائج الأخبار ليعتبر المعتبر حال نفسه بحال غيره من هذه الدار.

وأن من قواعد الحكمة : أن أفعال الفاعل الواحد متشابهة الآثار ، والله تعالى هو الفاعل المختار ، والعبد العاجز غير مختار ، وربك يفعل ما يشاء ويختار.

وقد وجدت محل القول ذا سعة ، فإن وجدت لسانا قائلا ؛ فقل لما قتل متغلبة العبيد الأتراك الخليفة المهتدى بالله صبرا ، عمدوا إلى الحبس ،

١٦٩

فأخرجوا منه ابن عمه أبا جعفر أحمد بن المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد العباسى.

ولقبوه المعتمد على الله ، بايعوه على الخلافة فى رجب سنة ٣٥٩ ه‍ ، مولده سنة ٣٣٧ ه‍ ، وأمه أم ولد رومية اسمها فتيان ، وكان له انهماك على اللهو واللذات ، فقدم أخاه طلحة بن المتوكل على الله ، ولقبه الموفق بالله ، وجعله ولى عهده ، وولاه المشرق والحجاز واليمن وفارس وطبرستان وسجستان والسند.

وكان له ولد صغير اسمه جعفر ، لقبه المفوض إلى الله ، وولاه المغرب والشام ، والجزيرة ، وعقد لهما لوائين ، أبيض وأسود ، وعقد لهما البيعة ، وشرط على أخيه الموفق ، أنه إذا حدث به الموت وولده صغير ، كان المفق ولى عهده ، وإن كان حينئذ ولده كبيرا كان ولده ولى عهده ، وكت بذلك معاقدا ، كتب كل منهما خطه عليها ، وكتب عليها القضاة والعدول خطوطهم ، وأرسلها إلى مكة لتعلق فى الكعبة ، فعلقت فيها.

وما أفاد مع هذه التدابير حذر من قدر ، وما وقع إلا ما قدره الله تعالى.

وكان الموفق عاقلا مدبرا شجاعا مستقلا بأمور المملكة ملتفتا لأمور الرعية ، وكان أخوه المعتمد مكبا على لهوه ولذاته ، مهملا لأحوال الرعية ، غير ملتفت لأمور المملكة ؛ فكرهه الناس ، وأحبوا أخوه طلحة الموفق بالله.

وظهرت فيه نجابات كثيرة ، وكان ميمون النفس ، مظفرا فى الحروب ، وكان ظهر فى أيام المعتمد على الله طائفة الزنج ، وتغلبوا على المسلمين ، وكان لهم رأس اسمه المهبول ، يدّعى أنه أرسله الله تعالى إلى الخلق ، وادعى علم الغيبيات ، وفتك فى المسلمين.

ذكر الصولى : أنه قتل ألف ألف وخمسمائة ألف (١) مسلم ، وكان يستأسر نساء المسلمين ، ويبيعهن بأبخس الأثمان ، وينادى على العلوية

__________________

(١) فى (س) : ألف ألف مسلم.

١٧٠

والشريفة بدرهمين ، وكان عند الزنجى عشر نساء شرائف ، يطأهن ويمتهنهن فى الخدمة الشاقة.

وكان ذلك من أعظم المصائب فى الإسلام ، وتملك هذا الكافر مدنا كثيرة ، أخذها من المسلمين ، واستأسر أهلها ، وجعلها دار مملكته كواسط ورمهرمز ومال وإلا هما ، فانتدب لقتاله الموفق بالله ، وجمع الجموع والعساكر من حنكته وقائع الحروب ، ووسمته قوارع الخطوب فاتخذه جنابا وبدا ، ورضى بهم ساعدا وعضدا ، وتعصب بعمود الإسلام ، وأعد السيوف والسهام والرماح ، فركض بجهله إلى الكفرة ، والأعداء اللئام ، إلى أن التقت الفئتان على صومة الحرب ، وتساقيا كؤوس الطعن والضرب ، فجفلت السودان من لمعان الصارم الأبيض ، وولوا أدبارهم للفرار كما يفر الليل الأسود من النهار الأبيض ، وانهزموا ما بين مقتول ومأمور ومجروح ومكسور ، إلى أن قتل كبيرهم الهبول ، ووجوه عسكره المخزول ، ويضر الله ملة الإسلام ، ومحى الله تعالى بنوره تلك الظلام ، واستمرت المدن التى أخذها بالكفر والعناد تواصد ، ويهرمز وغيرها من البلاد ، واطمأن المسلمون وكافة العباد ، ولقبوه الناصر لدين الله ، وصار له حينئذ لقبان.

ودخل إلى بغداد في نصرة وعلو شأن ، ورأس ذلك الكافر على رمح ، ورؤوس كبار عساكره على الأرماح ، وأحبه الناس ، ودعا له المسلمون ، وقصد الشعراء بالقصائد والأمداح ، وبعد صيته وكثر فى بابه المداح ، واستفحل أمره ، ولاحت له السعادة والفلاح ، واستمر أخوه المعتمد على حاله ، منهمكا على هواه ولذاته ، وله اسم الخلافة ، وجميع الأمور يتلقاها الموفق بصدر منشرح ، وسد غاية السداد ، وفى أيامه فى سنة ٣٧١ ه‍ وقع وهن فى بعض جدران المسجد الحرام من الجانب الغربى ، قبل زيادة دار إبراهيم ، وكان فى يمين الجدار الغربى من المسجد الحرام الشريف باب كان يقال له «باب الخياطين» ، وكان بقربه دار تسمى زبيدة بنت أبى جعفر المنصور ، فسقطت تلك الدار ، على سقف المسجد الحرام ، فانكسرت أخشابه وانهدم أسطوانتان من ساطين الحرم الشريف.

١٧١

ومات تحت ذلك عشرة أنفس من خيار الناس ، وكان عامله بمكة يومئذ هارون بن محمد بن إسحاق ، وقاضيها يعقوب بن يوسف القاضى.

فلما رفع أمر هذا الهدم إلى بغداد ، أمر أبو أحمد الموفق بالله ، عامله إلى مكة هارون المذكور ، بعمارة ما انهدم من المسجد الحرام الشريف ، وجهز إليه مالا بسبب ذلك ، وشرع فى عمارته ، وجدد له سقفا من خشب الساج ، ونقشه بالألوان المختلفة ، وأقام الأسطوانتين الساقطتين ، وبنى عقودهما وركب السقف ، وركب فى أيام عمارته سرادق بين العمال والبنائين وبين الناس ليسترهم عن أعين الناس بالمسجد الحرام ، إلى أن أكمل ذلك فى سنة ٣٧٣ ه‍ ، فركب من الحجر لوحين فى جدار المسجد الشريف ، فى ذلك الجانب ، نقش على أحدهما بالنقر فى لوح الحجر ، ما صورته :

بسم الله الرحمن الرحيم : «أمر أبو أحمد الموفق بالله ، الناصر لدين الله ، ولى عهد المسلمين ـ أطال الله تعالى بقاءه ـ بعمارة المسجد الحرام ؛ رجاء ثواب الله تعالى ، والزلفة إليه ، وتم ذلك على يد عامله على مكة ، هارون بن إسحاق بن موسى فى سنة ٣٧٣ ه».

وعلى اللوح الثانى نقر كتابة صورتها :

بسم الله الرحمن الرحيم : «أمر الناصر لدين الله ، ولى عهد المسلمين ، أبو أحمد الموفق بالله ، أخو أمير المؤمنين (أطال الله بقاءهما) القاضى يوسف بن يعقوب ، بعمارة المسجد الحرام ، لما فى ذلك من رجاء ثواب الله تعالى ، أجزل الله تعالى ثوابه وأجره ، وأتم ذلك على يد محمد بن العلاء ابن عبد الجبار فى سنة ٣٧٣ ه‍.

والحجرين المذكورين لا وجود لهما الآن ، محاهما الدهر والزمان ، وعفى أثرهما القديم الجديدان ، كما عفى أثر غيرهما من العمائر والبنيان ، ودار عليهما الدوران ، ولا يبقى الأثر بعد زمان :

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصور

وقد نقلت صورة تلك الكتابة من تاريخ مكة ، للإمام أبى عبد الله محمد ابن إسحاق الفاكهى رحمه‌الله.

١٧٢

وكان للموفق بالله ولد نجيب ، هو أحمد أبو العباس ، جعله الموفق ولى عهده ، واستعان به فى حروبه ، وأحواله وظهرت به نجابة وقوة ، فخشى الموفق منه على نفسه ، وعلى أخيه المعتمد ، لما رأى من شجاعته وإسالته ، فأودعه بطن الحبس ، ووكل به من يثق به فى أمره ، واستمر محبوسا إلى الزمان الذى قدره الله.

ثم وقعت الوحشة بين الخليفة والمعتمد على الله ، وعلى أخيه الموفق بالله المذكور ، وتباغضت قلوبهما ، وتشاحنت الصدور ، فإن الرئاسة الدنيوية ، لا تقبل الاشتراك والغيرة على الملك والسلطنة أسرع شىء توغر صدور الأملاك والانفراد والاستقلال ، مما يتفانى عليه أنباء الدنيا من أصحاب الأملاك.

ومما قيل :

وما هى إلا جيفة مستحيلة

عليها كلاب هممن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ولما كان المعتمد على الله مع كونه عاجزا عن أخيه الموفق كان يريد هضمه ، لاستيلائه على المملكة ، ورضاء الناس عنه ، واشتغاله بالفحص عن أحوال الرعية عن الملاهى والملاذ ، واستعان المعتمد على الله فى هضم جانب أخيه ، بصاحب مصر يومئذ أحمد بن طولون ، وكان ملكا شجاعا فاتكا ، صاحب جيوش وجنود ، كثير الأموال والخزائن ، مستقلا بمملكة مصر ، يأخذ خراجها ، وكانت يومئذ عامرة بأهلها كثيرة المحصول ، لرفقه برعيته وتقويته لهم ، وعدم ظلمه وجوره عليهم.

وكان يحصل منها أموالا كثيرة جدا ؛ بسبب عمرتها وكانت كالروض البهيج على زهرتها ونضارتها ، وكانت خرابا أكثرها مأوى والسعداء.

ولا يفرق أهلها ورعيتها ، من جور ولاتها بددا ، عمرها الله تعالى ، بمعدلة سلطاننا الأعظم ، وخليفة عصرنا الأكرم الأفخم ، الذى عمر بمعدلته البلاد سلطان السلاطين ، السلطان مراد ألهمه الله تعالى العدل والرفق بالعباد.

١٧٣

ومحى بسيفه الصارم أهل الظلم والفساد ، وأطال عمره ودولته ، حتى يلحق الأحفاد بالأجداد ، فكاتب المعتمد على الله أحمد بن طولون ، وأمره أن يقاتل أخاه الموفق ، ليخف أمره على ذلك ، ويهون.

وجرت بينهما من ذلك شئون ، واشتغل الموفق بذلك عن أخيه ، وصار يواليه تارة ، ويداريه ، ويباعده تارة ويدانيه ، ومضى على ذلك أيام ، وانقضى عليه أعوام ، إلى أن مالت قناة حياة الموفق كل الميل ، ولزم بطون الفراش بعد شئون سوابق الخيل ، ووهى حده ، ووهنت قواه وصانه حصانه ووقاه ، وخانه يده عن حمله ، قلما من بعد حطم القنا فى لبه الأسد ، فلما اشتد حاله وتحقق عنه علمانه وماله ، وبادروه إلى الحبس ، وكسروه وأخرجوا منه ولده المعتضد وأووه ونصروه ، وجاءوه إلى والده الموفق.

فلما أيقن بالموت وتحقق ، وقال له : يا ولدى لهذا اليوم خبأتك ، وفوض إليه ، وأوصاه بعمه المعتمد ، وكان ذلك قبل موت الموفق بثلاثة أيام (فعطف الموت على الموفق عطف النسق) ، فركب طبقا على طبق إلى أطباق الثرى والعبق ، ومضى عن الدار الفانية ، إلى دار البقاء والتحقق ، وكانت وفاته رحمه‌الله تعالى فى سنة ٣٧٨ ه‍.

فشمت فى بوته أخيه المعتمد ، وظن أنه استراح من الموفق وما علم ، أنه عن قليل بأخيه يلحق ، وحسب أنه صفى له الدهر ، وما علم أن الصفاء يعقبه الكدر ، وأن الدهر ما يبقى لأحد من البشر ، وأن صروف الدهر تأتى بالغير والعبر ، وأنها لا تبقى ، ولا تذر ، فما حال عليه الحول حتى استلب ذلك الطول والخول ولم يكن له بعد خزلان الناصر قوة ولا ناصر ، ولا طال عمره القصية ، ولا استطال حوله القاصر.

ولم يبقى للمعتمد عماد ولا اعتماد على الدهر الخون الغادر ، فانتقل من سرير الملك إلى حظير الهلك ، ومضى كأن لم يكن شيئا مذكورا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وكانت وفاته ليلة الاثنين لإحدى عشر ليلة بقيت من رجب سنة ٣٧٩ ه‍ (رحمه‌الله تعالى).

١٧٤

وولى الخلافة فى تاريخه ، ابن أخيه أبى العباس بن أحمد المعتضد بالله ، ابن طلحة الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباس ، مولده سنة ٣٣ ه‍ ، وبويع له بالخلافة بعد عمه المعتمد فى تاريخ وفاته المذكور آنفا ، وأمه أم ولد اسمها صواب ، وكان ملكا مهيبا ، ظاهر الجبروت ، وافر العقل شجاعا ، يقدم على الأسد وحده شديد السياسة ، قليل الرحمة إذا غضب على أحد ، ألقاه فى حفرة وطم عليه التراب.

وكان أسقط المكوس فى أيامه ، ورفع الظلم عن الرعية ، جدد ملك بنى العباس ، بعد ما تضعضع ووهن ، وأظهر عزم الملك بعد ما تذلل وامتهن.

وكان يسمى السفاح الثانى ، حيث جدد كلا منهما ملك بنى العباس.

وفى ذلك يقول ابن الرومى :

هنيئا بنى العباس إن إمامكم

إمام الهدى والبأس والجود أحمد

كما بأبى العباس إن شاء ملككم

كذا بأبى العباس أيضا يجدد

إمام تظل الأسد تشكو فراقه

تأسف ملهوف ومشتاقة غد

وقال عبد الله بن المعتز :

أما نرى ملك بنى هاشم

عاد عزيزا بعد ما ذلل

يا طالب الملك كن مثله

نستوجب الملك وإلا فلا

وكان مع سطوته وبأسه يتوخى المعدلة ، ويبرز أمورا فى صورة الجبروت والعنف ، وهو فى الباطن بحق فيما يفعله ، وهذا هو الرأى السديد للحاكم الرشيد بجمعه ما بين سياسته الدنيا ، وملاحظة ما هو الحق عند الله تعالى.

وقد نقل الحافظ السيوطى رحمه‌الله فى تاريخ الخلفاء عن عبد الله بن حمدون قال : خرج المعتضد يوما للصيد ، وأنا معه ، فمر بمقتاة فعاث بعض جنوده فيها ، فصاح صاحبها ؛ فاستغاث بالمعتضد فأحضره وسأله عن سبب بصياحه ، فقال : ثلاثة من غلمانك نزلوا المقتاه ، فأضربوها ، فأمر عبيده بإحضارهم ، فحضروا ، فضرب أعناقهم ، ومضى وهو يحادثنى ، فقال :

١٧٥

أدقنى يا عبد الله ، ما الذى تنكره من أحوالى؟ فقلت له : تسفك الدماء كثيرا ، فقال : ما سفكت دما حراما قط ، فقلت له : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أحمد ابن الطيب؟ فقال : إنه دعانى إلى إلحاد ، وظهر لى إلحاده ؛ فقتله ، لنصرة الدين ، فقلت له : فالثلاثة الذين نزلوا المقتاة الآن ، بما استحللت دماءهم؟ ولأى شىء قتلتهم؟ فقال : والله ما قتلتهم ، وإنما أحضرت ثلاثة من قطاع الطريق ووهمت الناس أنهم هم الذين نزلوا المقتاة ، فأمرت بضرب أعناقهم ، ثم أحضر صاحب الشرطة ، فأمره بإحضار الثلاثة الذين تولوا المقتاة ، فأحضرهم بأنفسهم ، وشاهدتهم ، ثم أمرهم بإعادتهم إلى الحبس ، وهكذا ينبغى تدبير السياسة ، وإظهار النصفة وتخويف الجند وإرهابهم.

ومن معدلته : أنه كتب إلى الآفاق ، بإبطال ديوان المواريث ، والأمر بتوريث ذوى الأرحام ، وكانوا يحرمونهم الميراث وكانوا يستولون على مخلفات الأموال بالظلم.

ولا يصل الوارث جميع حقه من الأرث ، بل يأخذ كثير من غير حقه ، بأنواع التغلبات ، وكان يحصل على الرعية ظلم كثير بسبب ذلك ، وبعض الظلم باق إلى الآن ، ييسر الله تعالى إزالته على يد سلطان عصرنا ، وفقه الله تعالى لإحياء المكارم ، وإزاء المراحم ، وأعانه على إبطال المظالم.

ولما أمر المعتضد بإبطال ديوان المواريث فى سائر مملكته ، فرح الناس بذلك الخبر (١) ؛ ودعوا بدوام دولته ، وصار له بذلك صيت عظيم ، وأجر جميل عند الله الكريم ، ولعله هو الذى نفعه فى يوم آخرته ، ودخله الله جنات النعيم.

وكان من قضاته الإمام القاضى ، أبو خارم ـ بالخاء المعجمة والراء ـ وهو من أكابر العلماء ، أهل الدين والتقوى.

فكان من بعض تحلياته فى الدين أن شخصا انكسر عليه مال كثير للناس ، وثبت ذلك عليه عند القاضى المذكور ؛ فأمر بتوزيع ماله على [غرمائه](٢)

__________________

(١) فى (س) : وأخبره.

(٢) سقط من (س).

١٧٦

عن مائة بالمحاصة ، وكان قد انكسر على ذلك المديون مال للخليفة المعتضد أيضا ، فأرسل المعتضد إلى القاضى ، أبو خارم يقول له : اشركنى مع غرماء هذا المديون بالمحاصة ، فإن لى مالا أيضا فى ذمته ، فاجعلنى كأحد غرمائه.

فقال أبو خارم : إنى لا أحكم لمدعى بدون بينه عادله ، فأرسل وكيلا ، وبينة أرضاها ، لتكون مأسوة غرماء هذا المديون ، فاحكم لكم بعد سماع الدعة والبينة والتزكية ، سرا وجهرا.

فأمر المعتضد مشهودا يشهدون عند القاضى خوفا من رد شهادتهم ، ولم يحكم القاضى للمعتضد أن يكون بأسوة غرماء ذلك المديون ، فأعجب المعتضد ديانة القاضى وثباته على الحق ، وتصميمه على ذلك وعدم ميله إليه.

وما أحوج زماننا هذا إلى قاصد مثل هذا ، خصوصا فى أطراف البلاد ، يقول الحق ويثبت ، ولا يميل إلى خواطر العباد.

وكان المعتضد ينظم شعرا حسنا ، ومن نظمه ، ما رثى به جاريته ذريرة :

يا حبيبا لم يكد

يعد له عندى حبيب

أنت عن عينى بعيد

ومن القلب قريب

ليس لى بعدك فى

شىء من اللهو نصيب

لك من قلبى على

قلبى وإن غبت رقيب

لو ترانى كيف حالى

فرط عول ونحيب

وفؤادى حشوه من

حرق القلب لهيب

فتيقنت بأنى

فيك محزون كئيب

وقال (رحمه‌الله تعالى) لما احتضر :

تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى

وخذ صفوها لما صفت ودع الرنقا

ولا تأمنن الدهر ، إنى أمنته

عدوا ولم أمهل على حب وحلقا

قبلت صناديد الرجال ولم أدع

فلم يبق لى حالا ، ولم يرع لى حقا

١٧٧

وأخليت دور الملك عن كل نازل

رفرقتهم غربا ومزقتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزا ورفعة

ودانت رقاب الخلق أجمع لى رقا

رمانى الردى سهما ، فأخمد جمرتى

فهذا رآنى حفزتى عاجلا بلقا

وأفسدت الدنيا آبى ودينى سفاهة

فمن ذا الذى منى بمصرعه أشقا

فيا ليت شعرى بعد موتى ما أرى

إلى رحمة الله أم ناره ألقا

ومما وقع فى أيام المعتضد من عمارة المسجد الحرام :

زيادة دار الندوة ، وإدخالها فى المسجد الشريف من الجانب الشرقى ، وهى أول الزيادتين.

وهى : صحن ربع بأربعة أروقة من جوانبه الأربع ، أضيف إلى المسجد الشريف فى وسط الجانب الشامى ، يلصقه إلى رواق الجانب المذكور ، وهذا المحل يسمى : دار الندوة.

وهى كانت فى زمن الجاهلية : دار تجتمع صناديد قريش فيها عند نزول حادث بهم للاستشارة فى دفع ذلك الحادث عنهم بالاتفاق على رأى يجمعون على كونه صوابا ، فيأتون بعد ذلك.

وكانت دار الندوة مما تتفاخر به قريش فى الجاهلية ، وكان قد اجتمع فى قصى بن كلاب الرفادة ، والسقاية ، والسدانة ، والندوة ، واللواء ، ففرقها فى أولاده.

ولما ظهر شأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمن به كثير من قريش ، ومن الأنصار ، حاصرته كفار قريش ، واجتمعوا فى دار الندوة ، وتشاوروا فى قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهر لهم إبليس اللعين فى صورة شيخ نجدى ، واختار لهم من الرأى ما اختاره ، فنجاه الله تعالى من كيد المشركين ، فأذن له فى الهجرة ؛ كما هو مذكور مشهور فى كتب السيرة.

وذكر الله ذلك فى كتابه العزيز ؛ حيث قال : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(١).

__________________

(١) الآية رقم ٣٠ من سورة الأنفال ، مكية.

١٧٨

وليست الزيادة هى غير دار الندوة قبل محلها فى تلك الأماكن لا على التنحين من خلف مقام الحنفى إلى آخر هذه الزيادة.

وكانت دار الندوة بعد ظهور الإسلام أكثر مرسا (١) الدور بمكة دار واسعة ينزل بها الخلفاء إذا وردوا مكة ويخرجون منها إلى المسجد الحرام للطواف والصلاة.

وكان لها فناء واسع صار بساطه ترمى فيه القمايم ، فإذا حصلت الأمطار القوية سال من الجبال التى فى يسار الكعبة مثل جبل قعيقعان وما حوله من الجبال سيول عظيمة إلى ذلك الفناء وحملت أوساخه وقمايمه إلى دار الندوة إلى المسجد الحرام ، واحتيج إلى تنظيف تلك الأوساخ والقمايم من المسجد الرشيف كلما سالت سيول هذا الجانب الشمالى فصار ضررا على المسجد الحرام.

فكتب قاضى مكة يومئذ من قبل المعتضد العباسى القاضى محمد بن عبد الله المقدسى وأمير مكة يوسف من قبله أيضا عج بن حاج مولى المعتضد والمذكور مكاتبات إلى مهزير المعتضد يومئذ ، وهو عبد الله بن سليمان بن وهب يتضمن :

«أن دار الندوة قد عظم خراها ، وتهدمت ، وكثيرا ما يلقى فيها القمايم حتى صارت ضررا على المسجد الحرام وجيرانه ، وإذا جاء المطر سالت السيول من بابها إلى بطن المسجد وجمله تلك القمايم إلى المسجد الحرام ، وأنها لو أخرج ما فيها من القمايم وهدمت وبنيت مسجدا يوصل بالمسجد وجعلت رحبة يصلى الناس فيها وينتفع الحجاج بها كانت مكرمة لم يتهيأ لأحد من الخلفاء بعد المهدى والهادى ، ومنقبة تامة وشرفا وأجرا باقيا على طول الزمان.

وأن بالمسجد خرابا كبيرا وإن سقفه يسيل منه الماء إذا جاء المطر ، وأن وادى مكة قد انكبس بالأتربة فعلت الأرض عما كانت وصارت السيول تدخل من

__________________

(١) هكذا فى (أ) ، (س) ، ولعله يقصد أكثر الدور التى بمكة التى يجتمع فيها الناس.

١٧٩

الجانب اليمانى أيضا إلى المسجد الحرام ، ولا بد من قطع تلك الأراضى وتمهيدها وتنزيلها إلى حد تمر فيه السيول منحدرة عن الدخول إلى المسجد الحرام ، ووفد أيضا على بغداد سدنة الكعبة ورفعوا إلى ديوان الخلافة أن وجه جدران الكعبة من داخلها قد تشعث ، وأن الرخام المفروش عن أرضها قد تكسر ، وأن عضادتى باب الكعبة كانت من بعض العلويين فقلع عامل مكة يومئذ مقدار الربع من الذهب الذى كان مصفحا على باب الكعبة ومن أسفله وما على الباب الشريف من الذهب ، فضربه دنانير واستعان به على دفع تلك الفتنة ، وجعل بدل الذهب فضة مموهة على الباب الشريف ، وعلى أنف الباب المنيف ، فإذا تمسح الحجاج أيام الحج تبركا بذلك المكان الشريف ذهب صنع الذهب ، وانكشفت الفضة فيجدد تمويهها كل سنة ، والمناسب إعادة ذلك ذهبا صرفا كما كان ، وأن رخام الحجر ـ بسكون الجيم ـ قد انكسر ويحتاج إلى التجدد ، وأن بلاط المطاف حول الكعبة الشريفة لم يكن تاما ، ويحتاج إلى أن يتمم من جوانبها كلها ، وأن ذلك من أعظم القربات وأكبر المثوبات ، وقد رفع ذلك إلى الديوان العزيز للمبادرة إلى انتهاز ذلك.

والأمر راجع إلى آراء (١) الخلافة الشريفة ، والسلام».

فلما أشرف على هذه المكاتبات (٢) كاتب الخلافة المعتضد ـ يومئذ ـ الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب الكاتب ، وكان من أهل الخير له قدم راسخ فى قصد الجميل وفعل الخيرات ونية جميلة فى إحراز الأجر والثواب بادر إلى عرض ذلك على أسماع الخليفة المعتضد ، وحسن له اغتنام هذهي الفرصة ، والمبادرة إليها ، وبذل المقدور فيها فبرز آمر المعتضد إليه وإلى غلامه المومى بالحضرة بعمل ما ترفع إليه من ترميم الكعبة الشريفة ، والحجر ، والمطاف ، والمسجد الحرام ، وأن يهدم دار الندوة ويجعل مسجدا يلحق بالمسجد الحرام ويوصل به ، وأن يحفر الوادى ، والمسيل ، والمسعى ، وما حول المسجد الحرام ، ويعمق حفرها إلى أن يعود إلى حاله الأول ، ويجرى السيل إليه ، وأن يحكم ذلك غاية الإحكام.

__________________

(١) فى (أ) : إيراء.

(٢) فى (س) : المكايتبات.

١٨٠