كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

الفصل الثانى فى قتال شاه إسماعيل وانهزامه

هو : شاه إسماعيل بن الشيخ حيدر بن الشيخ خنيد بن الشيخ إسماعيل ابن السلطان خواجة شيخ على بن الشيخ صدر الدين موسى بن الشيخ صفى الدين إسحاق الأردبيلى ، وإليه ينسب أولاده ، فيقال لهم : الصفويون.

وكان الشيخ صفى الدين صاحب زاوية فى أردبيل ، له سلسلة فى المشايخ أخذ عنه الشيخ الزاهد قطب دائرة الوجود : عبد القادر الكيلانى ، وينتهى بوسائط إلى الإمام أحمد الغزالى ، وتوفى الشيخ صفى الدين فى سنة ١١٣٥ ه‍ ، وهو أول من طهر منهم بطريق المشيخة والتصوف ، وأول من اختار سكنى أردبيل ، وبعد موته جلس فى مكانه الشيخ صدر الدين موسى ، وكانت السلاطين تعتقد فيه وتزوره.

وممن زاره والتمس بركته : تيمور لما عاد من الروم وسأله أن يطلب منه شيئا ، فقال له : اطلب منك أن تطلق كل شىء أخذته من بلاد الروم سركنار فأجابه إلى سؤاله ، وأطلق السركن جميعهم ، فصاروا أهل الروم يعتقدون الشيخ صدر الدين ، وجميع المشايخ الأرده بيليين من ذريته إلى الآن.

وحج ولده سلطان خواجة على ، وزار قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوجه إلى زيارة بيت المقدس ، وتوفى هناك وقبره معروف فى بيت المقدس ، وكان ممن يعتقده ميرزا شاه رخ تيمور ويعظمه ، فلما جلس الشيخ حينئذ : كان والده فى الزاوية بأردبيل كثير مريدوه ، وأتباعه فى أردبيل ، فتوهم منهم صاحب «أرد ريحان» يومئذ وهو : السلطان جهان شاه ابن فرا يوسف التركمانى مع طائفة قراقوا سلوا فأخرجهم من أردبيل ، فتوجه الشيخ حينئذ مع بعض مريديه إلى ديار «بكرلى» وانضر عنه الباقون ، وكان من أمراء ديار «بكرلى» يومئذ عثمان بيك بن فيلق بيك بن على بيك ، من طائفة «أق قوينلو ؛ جد أو رن حسن» بيك النابندرى ، وهو أول من تسلطن من طائفة أق قوينا ، وولى السلطنة منهم تسعة أنفس ، ومدة ملكهم اثنان وأربعون سنة ، وأخذ وملك

٢٨١

فارس من طائفة قوينلوا أول سلاطينهم : قره يوسف بن قره محمد التركمانى ومدة سلطنتهم : ثلاث وستون سنة ، وانقرض ملكهم على يد أوزن حسن بيك المذكور فى شوال سنة ٨٧٣ ه.

وكان أوزن حسن ملكا شجاعا ، مقداما ، مطاعا ، مظفرا فى حروبه ، ميمونا فى نزوله وركوبه ، إلا أنه وقع بينه ، وبين السلطان محمد بن مراد خان حرب عظيم فى «فارت» ، فانكسر أودن حسن بيك ، وقتل ولده زينك بيك ، وهرب هو وسلم من القتل ، وعاد إلى أدربانجان ، وملك فارس والعراقين.

ولما لجأ الشيخ «جينداق قوينلوا» ضاهره أوزن حسن بيك ولده وتزوج بنته خديجة بيكم ، فولدت له الشيخ حيدر ، ولما استولى أوزن حسن بيك على البلاد ، وطرد عنها ملوك قوينلوا وأضعفهم ، عاد الشيخ جيند مع ولده الشيخ حيدر إلى أردبيل ، وكثر مريدوه وأتباعه ، وتقوى بأوزن حسن بيك لأنه صهره ، فلما توفى أوزن حسن بيك : ولى موضعه ولده السلطان خليل ستة أشهر ، ثم ولده الثانى السلطان يعقوب ، فتزوج بنته حليمة بيكم من الشيخ حيدر ، فولدت له شاه إسماعيل فى يوم الثلاثاء الخامس والعشرون من رجب سنة ٨٩٢ ه‍ ، وكان على يديه هلاك ملوك العجم طائفة «أف قونيلوا» وقرة «حصاد قونيلوا» وغيرهم من سلاطين العجم كما هو معروف مشهور.

وكان الشيخ حينئذ جمع طائفة من مريديه ، وقصد قتال كرجستان ليكون من المجاهدين فى سبيل الله ، فتوهم منه سلطان سروان أمير خليل شروان شاه ، فخرج إلى قتاله فانكسر «جيند» وقتل ، وتفرق مريده ، ثم اجتمعوا بعد مدة على الشيخ حيدر ، وحسنوا له الجهاد والغزاه فى حدود كرجستان ، وجعلوا له رماحا من أعواد الشجر ، وركبوا فى كل عود سنانا من حداد وتسلحوا بذلك ، وألبسهم الشيخ حيدر تاجا أحمر من الجوخ ، فسماهم الناس «قزلباش» ، وهو أول من لبس التاج الأحمر لأتباعه ، واجتمع عليه خلق كبيرون ، فأرسل سروان شاه إلى السلطان يعقوب بن أوزن حسن يخوفه من خروج حيدر بن الشيخ جيند على هذه الصفة ، فأرسل أميرا من أمرائه

٢٨٢

اسمه سليمان بيك بأربعة آلاف نفر من العسكر ، وأمره أن يمنعهم من هذه الجمعية ، فإن لم يمتنعوا أذن لهم أن يقاتلوهم ، فمضى إلى الشيخ حيدر ، ومنعه من هذهي الجمعية فما أطاعوه ، فاتفق مع شروان الشاه فقاتلاه ومن معه ، فقتل الشيخ حيدر ، وأسر ولده شاه إسماعيل وهو طفل ، وأسر معه إخوته وجماعته ، وجاء بهم سليمان بيك إلى السلطان يعقوب ، فأرسل بهم إلى قاسم بيك القرمال ، وكان حاسم شر ، وأنه من قبل السلطان يعقوب وأمره أن يحبسهم فى قلعة «إصطخر» ، وحبسهم بها ، واستمروا محبوسين فيها إلى أن توفى السلطان يعقوب فى سنة ٨٩٦ ه‍.

وولى بعده السلطان رستم ، ونازعه فى سلطنته إخوانه وتفرقت المملكة ، واستقر فى كل قطر من أولاد الشيخ يعقوب ، فهرب أولاد الشيخ حيدر إلى هيجان من بلاد كيلان ، وخرج من إخوان شاه إسماعيل خواجه شاه على بن الشيخ حيدر ، وجمع عسكرا من مريدى والده وقاتل بهم ، فقاتل فى أيام السلطان رستم بن السلطان يعقوب ، ثم توفى السلطان رستم ، وولى مكانه السلطان مراد بن يعقوب والوندينك ابن عمه.

وكان شاه إسماعيل فى الأهجان فى بيت صايغ يقال : «نجمة ذوكة» ، وبلاد الأهجان فيها كثير من الفرق الضالة كالرافضة ، والحرونة ، والزيدية ، وغيرهم ، فتعلم بينهم شاه إسماعيل فى صغره مذهب الرفض ، فإنه وأباه كان شعارهم مذهب السّنّة السّنّية ، وكانوا مطبعين منقادين لسّنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يظهر الرفض غير شاه إسماعيل ، وتطلبه من أمير الزند بيك جماعة وطلبوه من سلطان الأهجان فأبى أن يسلمه لهم ، وأنكر وحلف : أنه ما هو عندى ، ودوى فى يمينه ، وكان مختفيا فى بيت «نجمة ذوكة» ، وكان يأتيه مريد والده خفية ، ويأتونه بالنذور يعتقدون فيه ، ويطوفون بالبيت الذى هو ساكن فيه إلى أن أراد الله تعالى بما أراد ، وكثرت داعية الفساد ، واختلفت أموال العباد باختلاف السلاطين ، وكثرت الفساد بين العباد.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

__________________

(١) الآية سبقت الإشارة إليها.

٢٨٣

وحينئذ كثر أتباع شاه إسماعيل ، فخرج هو ومن معه والأهجان ، وأظهر الخروج لأخذ ثأر والده وجده فى أواخر سنة ٩٥ ه‍ ، وعمره يومئذ ثلاثة عشر سنة ، وقصد مملكة الشروان لقتال شروان شاه قاتل أبيه وجده ، وكلما سار منزلا كثر عليه داعية الفساد واجتمع عليه كثير إلى أوصل إلى بلاد شروان وخرج لمقاتلته شروان بعساكره وقاتلهم ، وقاتلوه ، فانهزم عسكر الشروان ، وأسر شروان شاه ، وأتوا به إلى شاه إسماعيل ، فأمر أن يضعوه فى قدر كبير ويطبخوه ويأكلوه ، ففعلوا كما أمر ، وأكلوه ، وكان ذلك أول فتوحاته.

ثم توجه إلى قتال الوندبيك فقاتله ، وانهزم منه واستولى على خزائنه وأقسمها فى عسكره ، وصار يقتل من ظفر به قتلا ذريعا ولا يمسك شيئا من الخزائن ، بل يفرقها فى الحال.

ثم قاتل مراد بيك بن السلطان يعقوب فهزمه فى الحال ، وأخذ خزائنه ، وقرقها على عسكره ، ثم صار لا يتوجه إلى بلاد إلا ويفتحها ويقتل جميع من فيها ، وينهب أموالهم ويفرقها إلى أن ملك تبريز ، وأدربايجان ، وبغداد ، وعراق العجم ، وخراسان ، وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره ، وقتل خلقا كثيرا لا يحصون على ألف ألف نفس ، بحيث لا بعهد فى الإسلام ، ولا فى الجاهلية ، ولا فى الأمم السابقة من قتل من النفوس من قتله شاه إسماعيل ، وقتل عدة من أعاظم العلماء ، بحيث لم يبق أحد من أهل العلم فى بلاد العجم ، وأحرق جميع كتبهم ، ومصاحفهم لأنها مصاحف أهل السنة ، وكلما مر بقبور المشايخ ينبشها ، ويخرج عظامهم ، وأحرقها ، وإذا قتل أمير من الأمراء باع زوجته وأمواله لشخص آخر.

ومن جملة مضحكاته :

أنه جعل كلبا من كلاب الصيد أميرا ، وترتب له ترتيب الأمراء من الخدام والكواخى والسماط والكسلان والأؤطاق والفرش الحرير ونحو ذلك.

وجعل له السلاسل من ذهب ومرتبة ومسندة يجلس عليها كالأمراء ، وسقط مرة منديل من يده إلى البحر ، وكان فى جبل شاهق مشرفا على البحر

٢٨٤

المذكور ، فرمى بنفسه خلف المنديل من عسكره فوق ألف نفس تحطموا وكسروا وغرقوا ، وكانوا يعتقدون فيه الألوهية ، ويعتقدون أنه لا ينكسر ولا ينهزم ، إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة ، حتى وصلت أخياره إلى السلطان سليم خان (عليه الرحمة والرضوان) تحرك فيه قوة العصبة العصيبة وأقدم على نصر السّنّة الشريفة السنية.

وعد هذا القتال من أعظم الجهاد وقصد أن يمحو من العالم هذه الفتنة والفساد ، وينصر مذهب أهل السّنّة الحنيفة على مذهب أهل البدع والإلحاد ، ويأتى الله إلا ما أراد فتهيأ السلطان سليم بخيله ورجله وعساكره المنصورة ورجله وسافر لقتاله ، وأقدم على جلاده وجداله ؛ وهو بحر الجيش العرموم ، ويصول بسيف عزمه ، ويقدم ويتقدم إلى أن تلافى العسكران فى قرب بنزيز ، ورتب السلطان سليم عسكره ، وتنزل من عند الله الفتح القريب والنصر العزيز ، فتجالد الفريقان بجالدران وتطارد الفرسان يهدرون كالنجانى الفوائج فوق البحور الموائج ، وتصادمت فرسان الزحف والصيال تصادم أطواد الجبال ، وصارت نجوم الأبطال رجوم البطش والقتال ، فزلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وخليت المعركة سماغها من القطل وصواعقها بروق البيض من بريق الصقل ورعودها حليل السيوف ، فى أعناق الجحفل وغيوتها صبيب الدم من أوداج رؤوس تخر وتفصل ، وأحجار المدامع كجلمود صخر حطه السيل من أعلى إلى أن طارت قلوب العدا هواء وذهبت قواهم حيا ، وولوا على أعقابهم أدبارا ، وانهزم شاه إسماعيل ولم يجد له من دون الله أنصارا ، وضاقت الأرض حتى أن هاربهم ، إذا رأى غير شىء ظنه رجلا وقتل غالب جنوده وأمرائه ، وساقت العساكر المنصورية العثمانية من ورائه وكادوا أن يقبضوا عليه ففر من أيديهم وهم ينظرون إليه.

ونزل ما تجوله من يخمه من آثار تحملاته ، وكان لا نظير له ، فاغتنمه عسكر السلطان سليم ووطئت حوافر خيله أرض تبريز ونهى وأمر وقتل من أراد وأسر وأعطى الرعية تمام الأمن والأمان ، ونشر فيها أعلام الإيمان ، وأخذ من أراد منها من الفضلا الأفاضل والمتميزين فى الصنائع والفضائل ، وساقهم

٢٨٥

يسركنا إلى اسطنبول على القانون ، وأراد أن يقيم فى تدبير الاستيلاء على إقليم العجم واليمن من تلك البلاد على الوجه الأتم ، فما أمكنه ذلك لكثرة القحط ، واستيلاء الغلا ، بحيث يبعث العليقة بما أتى درهم ويبيع الرغيف بمائة درهم ؛ وسبب ذلك أن القوافل التى كانت أعدها السلطان سليم لأن تتبعه بالميرة والعليق والمون ؛ تخلفت عنه فى مكان الاحتياج إليها ، فما وجدوا فى تبريز شيءئا من الماء كولات والجنوب لأن شاه إسماعيل عند انكساره أمر بإحراق والشعير وغير ذلك.

واضطر السلطان سليم إلى العود من تبريز إلى بلاد الروم ويتركها خالية خاوية على عروشها ، ثم تفحص عن سبب انقطاع القوافل عنه ، فأخبر أن سبب ذلك سلطان مصر قانصوه الغورى ، فإنه كان بينه وبين شاه إسماعيل محبة ومودة ومراسلات ، بحيث كان يتهم بالرقص فى عقيدته بسبب ذلك.

فلما ظهر للسلطان سليم خان أن الغورى هو الذى أمر بقطع القوافل عنه صمم على قتال السلطان الغورى أولا ، وبعده الاستيلاء عليه وعلى بلاده ، يتوجه إلى شاه إسماعيل ، فلما استقر ركاب السلطنة الشريفة العثمانية فى تخت ملكه الشريف تهيأ لأخذ مصر وإزالة دولة الجراكسة وتوجه بعسكره الجرار ناحية حلب فى سنة ٩٢٣ ه‍ ، وخرج إلى قتاله قانصوه الغورى بجميع عساكره من الجراكسة وغيرهم.

وتلاقى العسكران قرب حلب بمرج دابق ، وكان الغورى يتوهم ويخاف على نفسه من ملك أمير أخير بيك وجان بردى بك الغزالى ، وكان يكرهانه فى الباطن ويكرهما كذلك فأمرهما أن يتقدما لقتال السلطان سليم وجعلهما وعسكرها حجابا أمامه.

ووقف الغورى بخواص عسكره الذى يعتمد عليهم من الجلبان الذيبن أراد أن يقدمهم خلف خير بك والغزالى ، وقصد بذلك أن يقتلا بالبنادق والصربزن فى أول مرة ، ثم ييسلم هو ومن معه ، وتقطن خير بك والغزالى وكانا أرسلا إلى السلطان سليم وطلبا منه كتاب الأمان وتوثقا منه لا يقتلهما ، بل يكرمهما

٢٨٦

وينعم عليهما ، فأرسل السلطان سليم لهما بالأمان وعهد لهما بما يطيب خاطرهما ، وأن يوليهما مملكة مصر والشام فقبلا ذلك منه ووافقاه على ذلك بعد القتال ، فلما تلاقا العسكران واضطرمت نيران البنادق فى مرج دابق فر خير بك بمن معه من الميمنة ، وفر الغزالى ومن معه من الميسرة ، وبقى السلطان الغورى بمن معه من خواصه وجلسائه فى القلب ، وأطلقت البنادق والضريزن ، فهلك من هلك ، وهرب من هرب ، لا يدرى إيه سلك ، وانقلب النهار ليلا مظلما بالدخان وامتلأ وجه الأرض بشعل النفط والنيران وغار الغورى تحت سنابك الخيل.

ومحى نور العدل ظلام الظلم ، كما يمحى النهار الليل ، وذهبت قتلاهم الوحوش والطير كأن لم يكونوا شيئا مذكورا ، وأقبلت رايات السلطان سليم على قلعة حلبة الشهباء ، وقد احمرت من إسالة الدماء ؛ فطلب أهلها منه الأمان فأجابهم إلى القبول لطفا وكرما فخرجوا إلى لقائه بالمصاحف والأعلام ، وهم يحمدون بالتسبيح والتكبير ، ويقرأون : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١).

فقابلهم بالإجلال والإكرام ، وأفرغ على أهلهم خلع اللطف والأنعام ، وتصدق بأنواع الصدقات الجلية على الخاص والعام ، وحضر صلاة الجمعة ، وخطب الخطيب باسمه الشريف ودعا له ولآبائه وأسلافه ، وبالغ فى المدح والتعريف.

ومما قيل : وما زاده للألقاب فخرا وسؤددا بإطناب ذى مدح وإكثار مادح ، وعند ما سمع السلطان سليم الخطيب يقول فى تعريفه خادم الحرمين الشريفين ، سجد شكرا لله ثم قال : الحمد لله الذى يسر لى أن صرت خادم الحرمين الشريفين ، وأضمر خيرا جميلا وإحسانا جزيلا لأهل الحرمين الشريفين ، وخلع على الخطيب خلعا متعددة وهو على المنبر ، فأحسن إليه إحسانا كثيرا بعد ذلك.

__________________

(١) الآية رقم ١٧ من سورة الأنفال ، مدنية.

٢٨٧

وأقام بحلب أياما يسيرة وهو على المنبر فأحسن إليه إحسانا كثيرا ، وهو يمهد الملك ويجرى أحكام العدل ويحسن إلى العرب ، ثم ارتحل بالجيش المنصور إلى الشام ، فخرج أهل الشام إلى لقائه ، وطلبوا منه الأمن والأمان واللطف والرحمة والاطمئنان ، فأجابهم إلى ما سألوه وبسط لهم ما طلبوه وأملوه فقبلوا الأرض بين يديه وبالغوا بالدعاء بدوام دولته والثناء عليه ، فخلع على كل من يستحق التشريف خلع الرضا والإكرام وألبسهم التشاريف الفاخرة كل بحسب حاله واستحقاقه.

ودخل إلى الشام بموكبه الكريمة وأقام به لتمهيد أمور المملكة برأيه الشريف القويم وخطب له الخطباد ، فخلع عليهم وأكرمهم وأحسن إليهم ، وقابل الناس بسن ضاحك ووجه متهلل مسرور أو جبينا أغر يملأ الأرجاء ضياء ونورا وأمر بعمارة قبة الشيخ الأكبر الأحمر مولانا الشيخ محيى الدين بن عربى رضي‌الله‌عنه ورتب عليه أوقافا كثيرة ، وعمل له مطبخا يطبخ فيه الطعام الفقر الشيخ المرحوم ، وجعل عليها متوليا وناظرا بجميع الريع والأوقاف ويصرفه فى جهات الخير ، ونظره من أعم الأنظار وبلاد الشام إلى الآن وما يسر الله تعالى أجرا مثل هذا الخير العظيم لأحد من ملوك الجراكسة ولا من كان قبلهم.

ولا شك أن روحانية الشيخ رضي‌الله‌عنه هى التى جلست السلطان سليم (طيب الله ثراه) إلى سلطنة بلاد العرب وحصل له الإمداد العظيم بالبركة والنصر والتأييد فى حصول ما أمله وطلبه.

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء بيده الخير وهو على كل شىء قدير ، واستمر السلطان سليم خان بأرض الشام إلى مهد أمورها وضبط حصونها وقصورها ، ثم توجه إلى افتتاح إقليم مصر ، وأزال البؤس عنها والأصر ، ولما وصل إلى خان يونس قبل فيه الوزير المعظم حسام باشا وكان من أهل الخير ، وله عمارة فى آف شهر يخرج منها الطعام للمسافرين دائما ، واستمر السلطان سليم متوجها إلى مصر ، فوصل إلى بلاد غرة ، ثم عدل عنها بمفرده إلى زيارة القدس والخيل فى نفر قليل بقصد الزيارة ، فأحسن

٢٨٨

إلى أهل القدس وأهل خليل الرحمن ، وعاد إلى عسكره وصار كلما مر ببلدة وقرية أو قصة فى طريقة أحسن إلى الرعاء ونظر بعين المعدلة والإحسان إلى البريا ، وأزال عن الضعفاء ظلم الظالمين ونشر العدل فى العالمين بقية السيف من الجراكسة ، وولوا عليهم الدودار الكبير مقدم ألف طومان باى ، ولقبوه الملك الأشرف ، واجتمعوا عليه ، وألقوا مقاليد سلطنتهم إليه ، وساروا بمواكبهم بين يديه ؛ وجندوا الجنود ، وعقدوا الألوية والبنود ، وبرزوا إلى الريدانية ؛ خارج مصر ، ونصبوا المدافع الكبار ، وملكوها بالبارود ، والأحجار ، وهيبوها ليطلقوها إذا أقبلت العساكر العثمانية ، فلما أخبرهم الجواسيس بذلك عدلوا إلى مسيرتهم ، وجاءوا من خلف جبل المقطم ، من وراء عسكر الجراكسة ، ورموا بالمدافع والمحامل والضريزانات على العجل ، واستمرت مدافع الجراكسة مركوزون لمن يأتى من أمام الريدانية بلا نفع ، ولا دفع ، وقاتل السلطان طومان باى ومن ثبت معه من أمراء الجراكسة ، قتالا قويا ، وأظهر طومان بأى شجاعة قوية ، عرف بها ، وشهد له المصاف وهو يغوص فى عسكر ويحمل ، ويكر ويفر ، وقتل من وراء السلطان سليم الأول فى ذلك اليوم سنان باشا وأسف السلطان سليم على شهادته.

ومن جملة نكاته قال : عند ما أخبر بهروب عسكر الأعداء ، وأخذ مصر ، وقتل سنان باشا أى قائده فى مصر بلاد يوسف ، ووجه النكتة ؛ أن يوسف يلقب بسنان عزمهم ، وبعد أن ثبتوا ساعة ، انكسروا فهربوا وتفرقوا ، وتشتتوا ، وتمزقوا ـ وهرب طومان باى إلى البر ، ونزل على شيوخ عريان بنى حرام عبد الدايم بن بقر ، ودخل السلطان سليم إلى مصر ، ونزل فى ساحاتها فى الجزيرة الوسطى ، فطاف عسكره بالبلدان ، وأمنوا الناس ، وأزالوا عنهم الخوف والبأس ، ما عدا الجراكسة ، فإنهم إذا ظفروا بهم ربطوهم وأثوابهم إلى السلطان سليم خان ، فيأمر بضرب رقابهم ، وترمى جيفهم فى البحر النبيل ، وتجمع رؤوسهم أكواما إلى أن عفنت الجزيرة بروايح القتلى ، فانتقل السلطان سليم إلى المقياس ، وأمر أن يبنى له فى علوه كوشكا عاليا ؛ سكنه مدة إقامته بمصر ، هربا من عفونات أشلاء القتلى.

٢٨٩

ثم أن شيخ العرب عبد الدايم بن بقر يقرب إلى خاطر السلطان سليم ، وسلم إليه السلطان طومان باى أسيرا ، وأنعم على شيخ بالخلع ، والتشاريف والإنعامات السلطانية وحبس طومان باى عنده ، وأراد أن يكرمه ، ويجعله نائبا عنه بمصر إذا برز عنها ، وصار يحضره فى مجلس الصحبة ، ويستخبره عن الأمور والأحوال ، فأرجف أهل مصر عن طومان باى ، أنه لم يقع فى الأسر ، وأنه ايختفى ، وأنه يجمع عسكرا ، وينتهز الفرصة ، وأنه شجاع لا يطاق ، ولا يقدر أحد على مسكه.

فبلغ السلطان سليم خان الرجيف ، ورأى الفتنة لا تسكن ما دام طومان باى محبوسا ، فأمن أن يركب على بغلة ، ويحلف بالعسكرة من البنكحرية ، ويمضى به إلى باب زويلة ، ويصلب فيه ، ليراه الناس بأعينهم ، ويصدقون بأنه مسك ، وصلب على باب زويلة لإحدى عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ٩٢٣ ه‍.

ثم ولى القضاة الأربعة على المذاهب الأربعة بمصر ، وهم قاضى القضاة جمال الدين الطويل ولاه قضاة الشافعية ، وقاضى القضاة نور الدين على بن بسينى الطرابلسى الحنفى قاضى الحنفية ، وقاضى القضاة الدمير المالكى ؛ قاضى المالكية ، وقاضى القضاة شهاب الدين أحمد النجار الحنبلى ، وولى ملك الأمراء خير بك على مصر المحروسة ، وولى جان بردى الغزالى الشام ، كما وعهدهما بذلك ، ومهد الأمور ، وسار إلى أسكندرية ، وعاد من مصر ، ثم إلى تخت القسطنطينة العظمى فى يوم الخميس ؛ لخمس بقين من شعبان سنة ٩٢٣ ه‍.

وأخذ معه كثيرا من أعيان الناس سركنا إلى الروم كما هو قانونهم ، ووصل إلى تخت ملكه ، ومقتر سلطنته مظفرا منصورا وشكر الله وحمده على نصرته ، وتأييده.

وكان عبدا شكورا ، وافتقد خزائنه فوجدها قد انصرف غالبها ، فإنه قد أصرف فى هاتين السفرتين ؛ وهما السفر إلى بلاد قزلياس ، والسفر إلى إقليم مصر خزائن عظيمة مما جمعها آباواه وأسلافه ، فلما أراد سفرا ثالثا إلى بلاد

٢٩٠

العجم لقطع مجادرة طاف القزلياس ، رأى ما بقى فى خزائنه لا يفى بتلك المصرف فتاخى لتجتمع فى خزائنه مما يجمع له من خراج الأرض ، وقد لا يفى بالمراد ، ويأبى الله إلا ما أراد، وقيل : ما كل يتمنى المرء يدركه ، تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن ، وظهر فى اثنا ظهره جراحة منعته الراحة ، وحرمت منه الاستراحة وعجت فى علاجه ؛ خداق الأطباق ، تجبر فى دائه ؛ عقول الألباب وعظم الجراح ، وكثر القراح ، واتسع الحرق ، والتهب القزح وكانت توضع الدجاجة فى جرحه ؛ فتذوب بحره ، وشوهدت معاليق أكباده فى جوفه من خلف وراء ظهره ، وأثبت المنية أظفارها فيه ، فما نفعه التمائم والرقاد ، وفداه بالأموال ، والأرواح ، فما قبل الفدا وقيل :

ولو قبل الفدا لكان يفدى

وإن حصل المصاب على النقاد

ولكن المنون لها عيون

نكد لحاظها فى الانتقاد

فقل للدهر أنت أحيت فالبس

برغم بينك أثواب الحداد

فقضى نحبه ولقى ربه ، ومضى سليم بقلب سليم ، قادما على ربه الكريم ، الغفور الرحيم ، وتبوأ مقعدة من سرير الملك نجله الوارث ، السعيد كذلك يؤتى الله الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء وهو الفعال لما يريد.

وكانت وفاته (رحمه‌الله تعالى) وأسكنه غرف الجنان ، وأنزل عليه شبائب المغفرة والرضوان ، فى سنة ٩٢٦ ه‍.

* * *

الفصل الثالث

فى بيان ما عمره السلطان سليم فى الحرم الشريف ، وبعض إحسانه إلى أهل الحرمين الشريفين فى أيام سلطنته ، وكان (رحمه‌الله تعالى) كوالده كثير المحبة لأهل الحرمين الشريفين حسن الالتفات إليهم ، كثير الأحسان والعطف ، وضاعف الصدقة الرومية التى كان يجهزها لهم والده ، ويكرم من قدم عليه منهم أتم إكرام ، ويحسن إليهم أعظم إحسان وإنعام ، فوصلت

٢٩١

صدقاته الرومية ، ووصل معها دفتر الصير على حكم ما فرده والده المرحوم لأهل الحرميين ، فى أول سلطنته عام ٩١٨ ه‍.

وتضاعف الدعاء له بالحرميين الشريفين ، وسافر إليه جماعة منهم من أهل مكة : الخطيب محيى الدين العراقى ، فحصل له منه إنعام جزيل ، وخير جميل ، ورتب له فى دفتر الصرمائة دينار ذهب ، وفرح ممن قدم عليه من الحجازيين ، وأنعم على كل أحد يحبه.

وكان يرسل الصدقات الرومية كل سنة ، فلما افتتح مصر ، وجد بها من قضاة مكة ، قاضى القضاة صلاح الدين محمد بن أبو السعود بن إبراهيم بن ظهيرة.

وكان السلطان الغورى حبسه بمصر من غير ذنب للطمع فيه ، ولما خرج بعساكره من مصر إلى مرج دابق ، أطلق كل من فى حبسه أرباب الجرائم ، إلا القاضى صلاح الدين ، فإنه أبقاه فى الحبس ، فلما انكسر ، وقتل فى مرج دابق ، وتوجه السلطان طومان باى إلى الحبس وأطلقه ، فلما وصل السلطان سليم إلى مصر ، جاء إليه القاضى صلاح الدين فأكرمه وعظمه ، وخلع عليه وجهزه إلى مكة ، معزوزا مكرما ، مع الإحسان إليه.

وكان بمصر جماعة من الحجازيين ؛ أحسن إليهم كلهم ، وأكرمهم وولى أمانة بندر جده لتاخى اسمه الخوجا قاسم الشروانى كان مقيما بمكة ، ثم سافر إلى مصر ، فصادف دخول السلطان سليم إلى مصر فخدمه ، وتقرب إلى خاطره الشريف فأرسله إلى مكة أمينا فى بندر جده ، أميرا عليها ، فوصل إليها وتمكن من البندر ، وأرسل السلطان من أمرائه إلى مكة ؛ الأمير مصلح الدين بيك بالصدقات الرومية ، وبكسوة الكعبة ، ومحمد شريف رومى ، فوصل فى صحبة أمير الحاج المصرى المقر العلاى بالمجل الشريف المصرى على المعتاد وبرز شريف مكة يومئذ مولانا السيد بركات بملاقات المحملين إلى سبيل جوخى ، وهو والد سيدنا ومولانا الشريف جمال الدين محمد يونمى (أطال الله عمره الشريف).

٢٩٢

ولبس الخلع الشريف السلطانة ، وسار إمام المحملين ؛ المصرى والرومى ، بأعلامها وطبولها ، واستمر فى ذلك الموكب إلى أن فارق المحملين ، وأمير الحاج ، والأمير مصلح الدين من عند باب السلام ، وأدخل المحملات إلى الحرم الشريف عند باب السلام ، وأدخل المحملات إلى الحرم الشريف ووضعا على يمين مدرسة الأشرف قايتباى ، ونزل أمير الحاج المصرى فى مجمع البرقية ، على يمين الخارج من باب الصفا ، وهو رباط صاحب كالبركة من ملوك الدكن ، وقد هدمت الآن مع باقى ذلك الجانب من البيوت ، والمدارس الملاصقة بجدر الحرم الشريف توسيعا بطرف السيل ودفعا لضرر دخوله إلى المسجد الحرام من ذلك الجانب دانراكم السيل ، وكان هدمها بالأمر الشريف السلطانى فى سنة ٩٨٤ ه‍.

وفرقت الصدقة الرومية فى يوم الجمعة لأربع مضين من ذى الحجة سنة ٩٢٣ ه‍ فى الحرم الشريف على الفقراء ، وقرر جماعة من المجاورين لكل شخص مائة دينار ذهب ، منهم مولانا نور الدين حمزة بن القاضى مصطفى القرمانى ، ومولانا القاضى زينبي الدين على القرمانى ، وقرر باسم سيدنا ومولانا الشريف أبى نمى (أطال الله تعالى عمره الشريف) خمسمائة دينار ذهب ، فى أول دفتر الصدقات باقية إلى الآن باسم الشريف ، تقبض له فى كل عام ، وفرق بعده هذه الأخيرة صدقة ، كانت تجهز من خزيمة مصر من قبل ملوك الجراكسة ، أبقاها السلطان سليم على حالها ، وأجراها فى كل عام من خزيمة مصر ، تفرق على فقراء الحرمين ، وعلى مشايخ العرب ؛ أرباب الله ، فى طريق الحج ، وهى مستمرة إلى الآن.

وفرقت الصدقات المصرية التى تجمع من أوقاف الحرمين بمصر وتجهز إلى الحرمين الشريفين ، ويقال لها : المهر الحكمى ، وهو أيضا باق إلى الآن ، وأنه تقهقر وتضعف ، وصار لا يصرف على حكم الربع والخمس ، لضعف الأوقاف المصرية ، واستيلاء الأكلة عليها ، ودخول الظلمة فيها (أحيى الله من أحياها) ، (وأنمى حياة من عمرها ونماها).

وبعد الفراغ من توزيع الصدقات ، قربت ختمة شريفة فى الحظم الشريف

٢٩٣

حضرها الأمراء والقضاة ، والفقهاء والأعيان باسم السلطان سليم ، وأهديت إلى صحائف الشريفة ثوابها ، وقرر للإمام مصلح الدين ثلاثين نفرا يقرأ كل واحد منهم جزءا شريفا فى كل يوم يكمل بهم ختمه كاملة ، يهدى ثواب ذلك إلى السلطان سليم خان.

وقرر لهم مفرق الأجزاء ، وداعيا وحافظا للأجزاء ، وجعل لكل واحد منهم اثنى عشر دينارا ذهب ، فى دفتر الصدقات الرومية ، يصل إليهم فى كل عام ، ثم جمع طائفة من الفقراء وأعطى لكل نفر ثلاثة دنانير ذهب متفرقة ، وكتب أسمائهم فى الدفتر ، ثم كتب بيوت فقهاء مكة المشرفة ، وكتب أسماء من فى البيوت ، وعين لكل نفر منهم ثلاثة دنانير ذهبا ، وألحق ذلك فى دفتر الومية ، وسماها البيوت ؛ وهى باقية إلى الآن ، ثم كثر عليه الفقراء ، فجمعهم فى حوش كبير ، وأعطى لكل واحد دينارين ذهب ، وسماهم العامة ، وكتب أسمائهم وألحقهم بالدفتر.

وهذا الترتيب كله باق إلى الآن ، وثوابه لمن أسس هذا الخيرات ؛ جاريا فى صحائف حسناته إلى يوم القيامة ، ثم خطب الخطيب شرف الدين يحيى النورى خطبة التروية ، فى سابع ذى الحجة ، وفى ظهر اليوم الثامن توجه الناس إلى عرفات ، وتوجه الأمير مصلح الدين بالمحل الرومى ، وتوجه المقر العلاى بالمحل المصرى ، إلى عرفات ، وصلوا فى اليوم التاسع صلاة الظهر والعصر جمعا بينهما بعد الزوال ، بعد أن خطب الخطيب فى مسجد نمره ، ثم شرعوا فى الوقوف فى ذيل جبل الرحمة وعرفة.

ووقف بين يديه الأمير مصلح الدين بالحمل الرومى ، والأمير الحاج المصرى بالحمل المصرى ، ولم يصل فقى ذلك العام الحمل الشامى ، ودعا الخطيب للسلطان سليم خان ، وكذلك سائر الحجاج ، وأفاض الإمام وأفاض الناس معه.

وكانت الوقفة الشريفة يوم الأربعاء المبارك ، وبانوا بالمزدلفة ، ثم أفاضوا بعد فجر يوم النحر إلى منى ونزل شيخ الكعبة من منى فى يوم النحر ، ونزل

٢٩٤

معه الأمير مصلح الدين لأوامر بعض الأوامر السلطانية ونفاذها ، ولإيصال الخير والإحسان إلى الفقراء ، واستجلاب الدعاء من الصلحاء ، بنصرة السلطان سليم خان ودوام سلطنته.

وفى ليلة الجمعة فى أواخر ذى الحجة ، طلب بعض الأولياء الصالحين ، والعلماء العاملين منهم : مولانا الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ يسين الحضرمى والشيخ عبد الله بن أحمد ياكيثى الحضرمى ، وشيخنا محمد بن عبيد الحطاب المالكى ، ولده شيخنا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الحطاب المالكى ، والشيخ أيوب الأزهرى ، وجماعة من الصلحاء ، وحضر لهم دوابا يركبونها إلى التنعيم عند مساجد السيدة عائشة رضي‌الله‌عنها.

وركب معهم وأشار عليهم أن يعتمروا عن والدة السلطان سليم خان ، فأحرم كل واحد منهم بالعمرة عن المرحومة ، ولبى عنها وعادوا إلى الكعبة الشريفة ، فطافوا وسعوا ، وحلقوا ثم أهدوا ثواب تلك العمرة إلى صحابيها ثم أحسن إليهم ورتب لهم الصر فى دفتر الصدقات فدعوا له ولها وللمرحوم والدها السلطان الأعظم سليم خان ، ثم وصل من بندر السويس إلى بندر جده بحرا سقايين مسماريه فيها حبوب للصدقات السلطانية لأهل الحرميين الشريفين ، جهزها الأمير خير بك نائب السلطنة الشريف بمصر بأمر السلطان سليم ، وهى سبعة آلاف أردب حب فيها ؛ ألفى أردب لأهل المدينة الشريفة وخمسة آلاف أردب لأهل مكة ، ووصل الأمر الشريف السلطانى أن يوزع ذلك الأمير مصلح الدين ، فجلس فى الحرم الشريف ، وطلب قاضى القضاة شيخ الإسلام ؛ مولانا القاضى صلاح الدين بن ظهرة الشافعى ، والقضاة الثلاثة الحنفى والمالكى والحنبلى ، ونائب جده ، الأمير قاسم الشروانى ، وبقية الفقهاء الأعيان.

وقرأ عليهم المرسوم السلطانى ، واستأذنهم فى توزيع ذلك ، وذكروا أنه لا بد من عروض ذلك على شريف مكة سيدنا ومولانا السيد الشريف بركات ، وأخذ رأيه العالى فى ذلك ، فكتب إليه ساعيا ، وكتبوا إليه صورة الأمر الشريف.

٢٩٥

واستدعوا رأيه العالى فى ذلك ، فكتب إليهم الجواب بالمبادرة إلى امتثال الأمر السلطانى أن يوزع ذلك ، مما وصل من حب الصدقات الشريفة من المستخفين ، بحسب اتفاق الأرامن أعيان أهل المجلس.

واجتمعوا ثانيا بعد وصول الجواب ، واتفق رأيهم على بيع شىء من ذلك الحب ليصرف فى نقله من جده إلى مكة ، وبأن يكتب أسامى الناس على العموم ، ويصرف إلى كل واحد ما يخصه من الحب ، وما يخصه من ثمن ما باعوه ، بعد استيفاء المصالح.

وأمر شيخ الإسلام الصلاحى أن يباشر كتابه دفتر ذلك ورقم أسامى الناس الشيخ رضى الدين الحناووى الشاهد العدل الكبير الشهود العدول فى باب السلام المكى ، فكتب كل محلة ، وكتب ما فى كل بيت فى أعداد الأنفار ؛ رجالا ونساء ، وأطفالا وخدما ، ما عدا التجار والسوقة والعسكر ، فكانوا اثنى عشر ألف نفر ، فخص كل نفر ست رباعى بكيل الربع الكبير ، الذى هو أربع كيل عن أربع وعشرين قدحا بالكيل المصرى المستمر الآن ، وأن يدفع ذلك لكل نفر دينار ، فوزع ذلك جميعه على هذا الوجه ، ثم جعل لكل واحد من القضاة الأربع ثلاث أرادب.

فزيد فى أسماء بعض البيوت بحسب الاغتنا بشأن كبير البيت ، وهذا أول صدقات الحب الشريف السلطانى ، واستمر إلى الآن وتزايد على ما كان ، بحيث كان سائر فقهاء مكة والمجة اورين يتعيشون بوصوله هذا الحب إليهم.

أما فى جميع السنة وأكثرها فلو فقدوا ذلك والعياذ بالله تعالى ، هلكوا وكذلك يرتققون فى الصدقات الرومية وغيرها مما كان بسبب الأنعام عليهم سلاطين آل عثمان (نصرهم الله وخلد ملكهم السديد ، وطوق بقلائد إحسانهم العبيد أعناق خدام الله الرعايا فى الأحرار والعبيد) أقامت فى الرقاب لهم أيادى هى الأطواق والناس الحمائم ، فيجب على كافة الإسلام عموما وعلى أهل الحرمين الشريفين خصوصا الدعاء بدوام سلطنة ال عثمان (خلد الله سلطنتهم) مر الزمان ، فإن دولتهم الشريفة هى عماد الإسلام ،

٢٩٦

وإحسانهم متواصل إلى كافة الأنام ، سيما جيران بلد الله الحرام ، وجيران نبيه الأطهر (عليه أفضل الصلاة والسلام).

فإنهم فازوا بإنعاماته الوافرة فى أيام هذه الدولة الزاهرة ، وحازوا من الصدقات المتكاثرة فى نوبة هذه السلطنة القاهرة ، ما لم يتصوره من الدول الماضية العابرة ، فالله تعالى يديم علينا سلطانهم ، كما دام علينا بركتهم وإحسانهم ، ومما جدد الأمير مصلح الدين المذكور بنا مقام الحنفية ، فإنه كان مسقفا على أربعة أعمدة فى صدر محراب عمل فى سنة ٩٠١ ه‍ ، فأراد أن يوسعه ويجعله قبة فأمر بعقد مجلس ، حضر فيه القضاة الأربعة والأئمة والعلماء والأعيان ، وقال لهم : إن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان ، روح الله تعالى ، روحه الشريف بروائح الروح والريحان ، والرحمة والرأفة والرضوان ؛ جدير بأن يكون له فى هذا المسجد مقام ، يجتمع فيه أهل مذهبه ومقلدوه ، ويكون أوسع من هذا المقام.

فذكر بعض العلماء أنه لا شك فى عظم كل واحد من الأئمة (رضوان الله عليهم أجمعين) ، غير أن تعدد المقامات فى مسجد واحد فى استقلال أهل كل مذهب باء مام ما ؛ أجازه كثير من العلماء ، وأن تعدد هذه المقامات فى وقت حدوثه ؛ أنكره العلماء غاية الإنكار فى ذلك العهد.

ولهم فى ذلك العصر رسالات متعددة باقية بأيدى الناس إلى الآن ، وأن علماء مصر ، أفتوا بعدم جواز ذلك ، وخطئوا من قال بجوازه ، ثم انقض المجلس على غير اتفاق.

ثم ذكر القاضى بديع الزمان الضياء الحنفى أنه جده القاضى أبا البقاء بن الضياء أفتى بجواز هلك ، فشرع الأمير مصلح الدين فى إتمام ما قصده ، وهدم تلك السقيفة ، ووسع المكان ، وعمل قبة من الحجر الأصفر والأحمر الميس ، وأصرف على ذلك ذهبا كثيرا.

واستمر مقاما يصلى فيه الحنفية بالحنفيين إلى أن غيره الأمير خوش كلدى أمير بندر جده ، وهدم وبنى المقام مربعا ، ذا طبقتين ، جعل الطبقة العليا

٢٩٧

للمكبرين ، ليصل آذانهم إلى سائر المسجد الحرام ، لارتفاع مكانهم ، وهو باق إلى الآن على هذا الحكم.

وبعد فراغ الأمير مصلح الدين من بناء القبة توجه إلى المدينة الشريفة بما معه من الصدقات الرومية ، وتصدق بها على جيران النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتب دفتر بأسمائهم ، وأحسن إليهم إحسانا وافرا ، واستجلب الدعاء منهم للمرحوم السلطان سليم خان ، ثم توجه إلى الينبع ، وركب البحر إلى مصر ، ثم إلى الروم ، وأبقى ذكرا جميلا ، وحصل ثوابا جزيلا (رحمهم‌الله تعالى رحمة واسعة) آمين ، آمين ، آمين.

* * *

٢٩٨

الباب الثامن

فى دولة السلطان المحفوف بالرحمة والرضوان السلطان الأعظم

سليمان خان وبعض ما فعله من المآثر الحسان والصدقات الجارية

والخيرات الباقية على صفحات الجارية والخيرات الباقية على

صفحات الزمان سقى الله عهده سحائب الرضا والغفران

كان سلطانا سعيدا أيده الله ـ تعالى ـ لنصره الإسلام تأييدا ولى السلطنة بعد وفات والده المرحوم السلطان سليم خان فى سنة ٩٨٢ ه‍ ، فجلس على تحت السلطنة ، ولا أدمن أنف أحد ، ولا أريق فى ذلك محجمه من دم ؛ ومولده الشريف سنة تسعمائة ، كذا ذكره مولانا محمد بن خطيب قاسم الرومى ؛ فى حاشية كتاب له مختصر من (ربيع الأبرار) للزمخشرى ، سماه (الروضة) ، ورأيت ذلك بخط طائفة من الفضلء المعتمدين ، فيكون سنة الشريف حيد ولىّ السلطنة ستا وعشرين ، واستمر فى السلطنة تسعا وأربعين سنة.

وكان عمره أربعة وسبعين سنة وشهرين ، وهو سلطان غاز فى سبيل الله ، فجاهد لنصرة دين الله ، رغم أنوف عداه بلسان سيفه وسنان قناه ، وكان مؤيدا فى حروبه ومغازيه ، مسددا فى رأيه ومغازيه ، مسعودا فى معانيه ومغانيه ، مشهودا وقائعيه ومراميه ، إيان سلك ملك ، وأنى توجه فتح ، وفتك فأين سافر وسفك.

وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب ، وافتتح البلاد الشاسعة الواسعة بالقهر والحرب ، وأخذ الكفار والملاحدة بقوة الطعان والضرب ، وأيد الدين الحنيفى بحدود سيفه الباتر ، وأقام الحنيفية ، وأحيى مالها من مأثر ، ونصر

٢٩٩

مذهب أهل السنة السنية ، وأظهر شرائع الشعائر ، ودفع أهل الإلحاد وقمعهم فمالهم من ناصر.

وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية فى هذا القرن العاشر مع الفضل الباهر والعلم الزاهر والأدب الفض ؛ الذى يقصر عن شأنه كل أديب وشاعر ، إن نظم نضد عقود الجواهر أو نثر نثر منثور الأزاهر ، ونطق قلائد الأعناق نفائس الدر الفاخر ، له ديوان فائق بالتركى ، وأخر عظيم النظر فارسى يتداولهما بلغاء الزمان ، ويعجز أن ينسخ على منواله فضلاء الدوران ، تتناقله الركبان بكل لسان وتستلذ بمعانيه العقول والأذهان.

وكان رؤفا شفوقا ، صادقا صدوقا ، إذا قال صدق ، وإذا قيل له صدق لا يعرف المكر والنفاق ، ولا يألف مساوئ الأخلاق ، بل هو صافى الفؤاد ، صادق الاعتقاد ، منور الباطن كامل الإيمان ، سليم القلب خالص الجنان ، ولا يرتاب فى كمال ديانته ، ولا يشكل فى صلاحه ولا فى ديانته ، ولا تناهيت فى ثنائه محاسنه إلا وأكثر ما قلت مما ادع ، وقد أهلنى الله لئن قبلت يده الشريفة وتشرفت برؤية طلعتة المنورة اللطيفة.

وشاهدت ذاته العلية المنيفة ، فرأيت نورا يتلألأ وهيبة ألبسها الله مهابة وجلالا ، وجبينا يتضوع ضيئا وجمالا ، وألبسنى تشريفة الشريف وشملنى بإحسانه الوافر المنيف ، فها أنا أتقلب إلى الآن فى جزيل إنعامه ، وأعيش إلى الآن فى فائض تفضلاته وإكرامه ، وأترحم على ذاته الطاهرة الجميلة ، كلما تذكرت إحسانه وجميله ، وأخلد ذكره فى الحسن فى أطباق أوراق الليل والنهار ، وأرقمه فى صفحات دفاتر الأيام ، حيث لا يمحوه كرور الدهور والأعصار ، لا تريد الأيام إلا حدة ولا يزال غضا طريا ، جديد البراعة والعبارة.

* * *

فصل فى ذكر أولاده والأمجاد الكرام وأحفاده النجباء العظماء

كان أكرمهم وأمجدهم وأعزهم وأسعدهم وأنجبهم وأرشدهم ولى عهده وخلاصه عصره وربيب حجره ومهده مشدد أساس الملك العثمانى السلطان سليم الثانى.

٣٠٠