كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وتحالفوا على ذلك فولى الرفادة والسقاية هاشم ، وكان عبد شمس سفارا مقلادا ، ولد ، وكان هاشم موسرا ، وهو أول من سن الرحلتين لقريش ؛ رحلة الشتاء ، ورحلة الصيف ، وهو أول من طعم الثريد بمكة ، واسمه عمرو ، وإنما سمى هاشما لهشمه الخبز وثرده لقومه.

كما قال القائل :

عمر والذى هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

سنت لديه الرحلتان كلاهما

سفر الشتاء ورحلة الأصياف

ثم هلك هاشم بغزة من أرض الشام تاجرا ، فولى السقاية والرفادة بعد عمه المطلب ؛ فأقام لقومه ما كانت تقيمه آباؤه من قبله ، وشرف فى قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ؛ فأحبه قومه ، وعظم خطره فيهم.

وكان أكبر أولاد الحارث لم يكن أول أمره غيره ، وبه كان يكنى ، فقال له عدى بن نوفل بن عبد مناف : يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك؟ فقال له عبد المطلب : أو بالقلة تعيرنى؟ فو الله لئن أتانى الله عشرة من الولد لأنحرنّ أحدهم عند الكعبة.

فلما كمل له عشرة ، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك فأطاعوه ، وقالوا له : أوف بنذرك ، وافعل ما شئت ، قال : ليأخذ كل واحد منكم قدحا ، فيكتب فيه اسمه ، ثم ائتونى ، ففعلوا ، ودخلوا على هبل ـ وهو صنم كان يعبد فى جوف الكعبة ـ فقال عبد المطلب لصاحب القداح : اضرب على هؤلاء بقدحهم.

فأعطاه كل واحد قدحه ، وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغرهمم سنا وأحبهم إلى والده ، ثم ضرب صاحب القداح ؛ فخرج السهم على عبد الله ، فأخذه عبد المطلب بيده ، وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به على إساف ـ وهو صنم كان على الصفا ـ ليذبحه عنده ، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل أبيه حتى أثر فى وجهه شجة ولم تزل فى وجه عبد الله إلى أن مات ، فقامت قريش فى أنديتها ، وقالوا : لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه يذبحه فما بقى الناس على هذا ؛ ولكن أعذر فيه فنفديه بأموالنا.

٨١

وكان بالحجاز عرافة كاهنة لها تابع من الجن ، فانطلقوا به حتى قدموا عليها ، وقصّ عليها عبد المطلب خبر نذره ، فقالت لهم : ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى «وساخ» ، فرجعوا من عندها ثم غدوا عليها ، فقالت لهم : كم الدية فيكم؟ فقالوا : عشرة من الإبل ، فقالت : قربوا عن ولدكم عشرة من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعلى ولدكم فإن خرجت على ولدكم ؛ فزيدوا عشرة أخرى ، واضربوا عليها وعلى ولدكم ، واستمروا كذلك إلى أن تخرج السهم عن الإبل فانحروها عنه ، فقد رضى ربكم ونجى ولدكم.

فخرجوا حتى قدموا مكة ، فقدموا عشرة من الإبل ، وضربوا القداح ، فخرج القداح على عبد الله فزادوا عشرة فخرج عبد الله واستمروا يزيدون عشرة فعشرة حتى بلغت الإبل مائة فخرج القدح على الإيل فأعادها ثانية ثم ثالثة ، فخرج القدح على الإبل ، فأتى فنحرت ثم تركت لا يمنع من شحومها آدمى ولا وحش ولا طير.

قال الزهيرى : وكان عبد المطلب أول من سن ديّة النفس مائة من الإبل ، فجرت فى قريش ، ثم فشا فى العرب ، فأقرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرف وكرم.

الثامن ـ بناء قريش الكعبة المشرفة :

قال حائمة الحفاظ والمحدثين ، مولانا الشيخ «محمد الصالحى» (قد الله تعالى روحه) فى كتاب «سبل الهداية والرشاد فى سيرة خير العباد» (١) ؛ وهو أحسن كتاب للمتأخرين واسطة فى السيرة النبوية ، ولنا به إجازة عامة (رحمه‌الله تعالى) : إن امرأة جمرت الكعبة بالبخور ، فطارت شرارة من

__________________

(١) سبل الهداية والرشاد فى سيرة خيري العباد : فى كشف الظنون : سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد للشيخ محمد بن يوسف الدمشقى الصالحى ، وهو من أبسط كتب السير ، النبوية ، ذكر مؤلف هذا الكتاب الذى بين يدى القارئ أن كتاب سبل الهدى والرشاد منتخب من أكثر من ثلثمائة كتاب وآت من الفوائد بالعجب العجاب وقد زادت أبواه على سبعمائة باب. كشف الظنون : ٢ / ٩٧٨.

٨٢

مجمرها فى ثياب الكعبة فأحرقت أكثر أخشابها ، ودخل سيل عظيم وصدع جدرانها بعد توهينها ، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها أحد إلا من قريش ، وإذا كان البحر قد رمى سفينة إلى ساحل جده لتاجر رومى اسمه «باقوم» بموحدة وقاف مضمومة ، وكان تجارا بناء ، فخرج الوليد ابن المغيرة فى نفر من قريش إلى جدة ، فابتاعوا منه خشب السفينة وكلموا باقوم الرومى أن يقدم معهم إلى مكة ، فقدموا إليها ، وأخذوا أخشاب السفينة ، وأعدوها لسقف الكعبة.

قال الأموى : «كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم ، يحمل فيها الخشب والرخام والحديد مع باقوم إلى السفينة التى أحرقها الذين بالحبشة ، فلما بلغت قريب مرسى جدة ، بعث الله عليها ريحا فحطمها». انتهى.

قلت : لا يعرف طريق بين بحر الروم والحبشة ، يمر فيها على جده إلا أن يكون ملك الروم طلب ذلك من ملك يهجزها له من بندر السويس أو الطور أو نحو ذلك.

قال ابن إسحاق : «وكان بمكة قبطى يعرف نجر الخشب وتسويته ، فوافقهم أن يعمل لهم سقف الكعبة ، ويساعده باقوم ، قال : وكانت حية عظيمة تخرج من بئر الكعبة ـ التى يطرح فيها ما يهدى إلى الكعبة ـ تشرف على جدار الكعبة ، لا يدنو منها أحد إلا كشت وفتحت فاها ، وكانوا يهابونها ويزعمون أنها تحفظ الكعبة وهداياها ، وأن رأسها كرأس الجدى ، وظهرها وبطنها أسود ، وأنها أقامت فيها خمسمائة سنة».

وقال ابن عتبة : «فبعث الله تعالى طائرا فاختطفها ، وذهب بها ، قالت قريش : نرجوا أن يكون الله تعالى رضى لنا بما أردنا فعله ؛ فأجمع رأيهم على هدمها وبنائها».

قال ابن هشام : «فتقدم عائد بن عمران بن مخزوم ، وهو خال أبى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتناول حجرا من الكعبة ، فوثب من يده حتى رجع إلى مكانه ،

٨٣

فقال : يا معاشر قريش لا تدخلوا من مالكم فى ثبيانها إلا حلالا طيبا ليس فيه مهر بغى ولا ربا ولا مظلمة ، ثم إن قريشا اقتسمت جوانب البيت فكان شق البيت لبنى زهرة (١) ، وبنى عبد مناف (٢) ، وما بين الركن الأسود والركن اليمانى لبنى مخزوم (٣) ، ومن انضم إليهم من قريش ، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح (٤) وبنى سهم (٥) ، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار(٦) ،

__________________

(١) بنو زهرة : بطن من مرة بن كلاب ؛ من قريش ؛ من العدنانية ، وهم : بنو زهرة بن كلاب بن مرة ، منهم : سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف من العشرة المقطوع لهم بالجنة ، ومنهم : آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر : نهايةي الأرب فى معرفة أنساب العرب ص ٢٧٥.

(٢) بنو عبد مناف : بطن من قريش ؛ من العدنانية ، وهم : بنو عبد مناف بن قصى ، وأمه : حبى بنت خليل. نهاية الأرب : ٣٤٢.

(٣) بنو مخزوم : بطن من لؤى بن غالب ؛ من قريش ، وكان لمخزوم من الولد : عمرو ، وعامر ، وعمران. منهم : خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، ومنهم : أبو جهل ؛ عدو رسول الله ، وأخوه العاص قتلا كافرين ببدر ، وأخوهما سلمة بن هشام أسلم فكان من خيار المسلمين ، ومنهم : سعيد بن المسيب التابعى المشهور. نهاية الأرب : ٤١٦.

(٤) بنو جمح : بطن من هصيص ؛ من قريش ؛ من العدنانية ، وهم : بنو جمح بن عمرو بن هصيص ، كان له من الولد : حذافة ، وسعد. من بنى سعد بن جمح : أبو محذورة ؛ مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخوه أبى بن خلف عدو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلده ابن خلف بن حذافة بن جمح. نهاية الأرب : ٢١٨.

(٥) بنو سهم : بطن من هصيص ، من قريش ، من العدنانية ، وهم : بنو عمرو بن هصيص ، كان له من الولد : سعد ، وسعيد ، فمن بنى سعيد بن سهم : قيس بن عدى بن سهم ، وابنه الحارث بن قيس من المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنهم عبد الله بن الزبعرى الشاعر. ومن بنى سعد بن سهم : عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم. نهاية الأرب : ٢٩٨.

(٦) بنو عبد الدار : بطن من قصى بن كلاب ؛ من العدنانية ، وكان لعبد الدار من الولد : عثمان ، وعبد مناف ، والسباق. منهم : عثمان بن طلحة بن أبى طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وهو الذى أخذ منه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح. نهاية الأرب : ٣٣٦.

٨٤

وبنى أسد بن عبد العزى (١) ، وبنى عدى بن كعب (٢) ، وجمعوا الحجارة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل معهم حتى إذا انتهى الهدم إلى الأساس ، فأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة ، فضربوا عليها بالمعول ، فخرج برق كاد أن يخطف البصر ، فانتهوا عند ذلك الأساس ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصم فيه القبائل ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه ، وكادوا أن يقتتلوا على ذلك ، فقال لهم أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وكان شريفا مطاعا : اجعلوا الحكم بينكم سواء فيما اختلفتم فيه ، أول من يدخل من باب الصفا ؛ فقبلوا ذلك منه ، وكان أول داخل من ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا محمد الأمين ، وكان يسمى قبل أن يوحى إليه أمينا ؛ لأمانته وصدقه ، فقالوا جميعا : رضينا بحكمه ، ثم قصوا عليه قصتهم فقال عليه الصلاة والسلام : هلمّ إلىّ ثوبا ، فأتى به ، فأخذ الركن ؛ فوضعه بيده ، ثم قال : ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من هذا الثوب ، فحملوه جميعا ، وأتوا به ، ورفعوه إلى ما يحازى موضعه ؛ فتناوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الثوب ، ووضعه بيده الشريفة فى محله.

وذلك يقول هبيرة بن وهب المخزومى :

تشاجرت الأحياء فى فضل حطه

جرت طيرهم بالنحر من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبغض بعد مودة

وأوقد نارا بينهم شر موقد

فلما رأينا الأمر قد جد جده

ولم يبق شيئا غير سهل المهند

__________________

(١) بنو أسد بن عبد العزى : يبدو أنهم أحد بطون بنى أسد بن قصى بن كلاب الذين منهم : الزبير بن العوام ، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، وهو ابن عم الزبير بن العوام ، ومنهم أيضا : خديجة بنت خويلد زوجة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وورقة ن نوفل كذلك من بنى أسد. نهاية الأرب : ٣٨.

(٢) بنو عدى بن كعب : بطن من لؤى بن غالب ؛ من العدنانية ، وهم : بنو عدى بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، وكان لكعب من الولد : رزاح ، وعويج ، فمن بنى رزاح : أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ومن بنى عويج : نعيم بن عبد الله ، المعروف بالنحام ؛ بفتح النون وتشديد الحاء. نهاية الأرب : ٣٥٨.

٨٥

رضينا وقلنا العدل أول طالع

يجئ من البطحاء من غير موعد

فقد جاءنا هذا الأمين محمد

فقلنا رضينا بالأمين محمد

بخير قريش كلها أمسى نسمة

وفى اليوم مهما يحدث الله فى غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثله

أعم وأرضى فى العواقد واليد

أخذنا بأطراف الرداء وكلنا

له حصة من رفعه قبضة اليد

فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به

أكفهم وافى به خير مسند

وكل رضينا فعله وصنيعه

فأعظم به من رأى هاد ومهتد

وتلك يد منه علينا عظيمة

نروح بها هذا الزمان ونقتدى

ولما بنت قريش الكعبة جعلت ارتفاعها من خارجها ثمانية عشر ذراعا ، منها تسعة أذرع زائدة على ما عمره الخليل عليه‌السلام ، ونقصوا من عرضها أذرعا من جهة الحجر لقصر النفقة الحلال التى أعدوها لعمارة الكعبة ، ورفعوا بابها عن الأرض ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، جعلوا فى داخلها ست دعائم فى صفين ، ثلاث فى صف من شق الحجر إلى الشق اليمانى ، وجعلوا فى ركنها الشامى من داخلها درجة ، يصعد منها إلى سطح الكعبة.

تنبيه :

اختلف فى سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بنت قريش الكعبة ؛ فقيل : كان ابن خمس وثلاثين سنة ، وهو أشهر الأقوال.

وروى عن مجاهد أن ذلك قبل البعث بخمسة عشر عاما ، والذى جزم به ابن إسحاق أنه كان قبل البعث بخمس سنين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

التاسع ـ بناء سيدنا عبد الله بن الزبير الكعبة الشريفة فى زمن الإسلام :

وسيأتى تفصيل ذلك ، وما وقع له فى الباب الثالث فى بيان ما كان عليه وضع المسجد الحرام فى الجاهلية وصدر الإسلام إن شاء الله تعالى.

٨٦

العاشر ـ بناء الحجاج بن يوسف الثقفى بعد بناء سيدنا عبد الله بن الزبير (رضى الله تعالى عنه):

وسيأتى بيانه عقيب ذكر بناء عبد الله بن الزبير الكعبة إن شاء الله تعالى ، وبناء الحجاج هو جهة الميزاب والحجر (بسكون الجيم) ، ونقله جوف الكعبة ، ورفع الباب الشريف الذى لصق الملتزم وسد الباب الغربى الذى يلصق المستجاز لا غير ، وما عدا ذلك فى الجهات ، وهو وجه الكعبة الشريفة وجهة ظاهرها ، وما بين الركن اليمانى والحجر الأسود.

فهو بناء عد الله بن الزبير إلى الآن ، كما سنذكره فى زيادة عبد الله بن الزبير فى المسجد الحرام ، وهو الكعبة ، وبناءها على قواعد إبراهيم عليه‌السلام.

* * *

(فصل فى تحلية الكعبة الشريفة ؛ وبابها الشريف بالذهب

والفضة وقناديلها الشريفة)

قال أبو الوليد الأزرقى (رحمه‌الله تعالى) : «أول من حلى الكعبة الشريفة فى الجاهلية عبد المطلب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغزالتين اللتين وجدا فى بئري زمزم حين حفرها» ، ثم قال : «وأول من ذهّب البيت فى الإسلام عبد الملك بن مروان» ، وقال المسجى ما يقتضى خلاف ذلك. فقال : «أول من حلى البيت عبد الله بن الزبير ، جعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ، وجعل مفاتيحها من الذهب».

وذكر الفاكهى : «أن الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد ابن عبد الله القسرى بستة وثلاثين ألف دينار ، يضرب منها على باب الكعبة صفائحي الذهب ، وعلى ميزاب الكعبة ، وعلى الأساطين التى فى جوف الكعبة ، وعلى أركانها من داخل».

وذكر الأزرقى : «أن الأمين بن هارون الرشيد ، أرسل إلى عامله على

٨٧

مكة سالم بن الحجاج بثمانية عشر ألف دينار ؛ ليضرب بها صفائح الذهب على باب الكعبة ، فقلع على ما كان على الباب من الصفائح ، وزاد عليها الثمانية عشر ألف دينار ، فضربها صفائح ، وزاد عليها ثمانية عشر ألف دينار فضربها صفائح استمرت على الباب ، وجعل مساميرها وحلقة الباب وأعتابه من الذهب.

وذكر أيضا : أن حجبة الكعبة أرسلوا إلى المتوكل العباسى يذكرون له أن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها تصفح بالذهب ، وزاويتين تصفح بالفضة ، والأحسن أن تكون كلها ذهبا.

فأرسل المتوكل إلى إسحاق بن سلمة الصائغ بذهب ، وأمره بعمل ذلك ؛ فكسر إسحاق تلك الزاويات ، وأعادها من الذهب وعمل منطقة من فضة ركبها فوق إزار الكعبة داخلها ، عرضها ثلاثة أذرع ، وجعل لها طوقا من الذهب مفصلا بهذه المنطقة.

قال : وكان أسفل الباب عتبة من خشب ساج ، قد دثرت وتآكلت فأبدلها بخشب آخر ، ألبسه صفائح من فضة.

قال إسحاق الصائغ : فكان مجموع الزوايا وطوق الذهب ثمانية آلاف مثقال ، ومنطقة الفضة ، وما عمل على الباب من فضة ، وما حلى به المقام من الفضة سبعين ألف درهم.

وذكر السيد القاضى تقى الدين الفاسى (رحمه‌الله تعالى) : ما وقع بعد الأزرقى فى تحلية البيت فقال : «من ذلك أن الحجبة كتبوا إلى المعتضد العباسى أن بعض ولاة مكة ، قلع أيام الفتنة عضادتى باب الكعبة وغيّرها وسكها دنانير وأسرفها على دفع الفتنة ، فأمر المعتضد بإعادة ذلك جميعه ، فأعيدت كما أشار به». قال : «ومن ذلك أن أم المقتدر الخليفة العباسى أمرت غلامها لؤلؤ أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ، ففعل ذلك فى سنة ٣١ ه‍».

قال : «ومن ذلك أن الوزير جمال الدين محمد بن على بن منصور

٨٨

المعروف بالجواد ، وزير صاحب مصر ، أنقد فى سنة ١٢٩ ه‍ صاحبه إلى مكة ومعه خمسة آلاف دينار ليعمل بها صفائح الذهب والفضة وأركان الكعبة من داخلها. قال : وممن حلاها الملك المظفر العباسى صاحب اليمن أيضا ، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحى ، صاحب مصر حلى باب الكعبة الذى يعمله لها بخمسة وثلاثين ألف درهم ، أن حفيده الملك الأشرف شعبان حلى باب الكعبة فى سنة ٧٧ ه‍». انتهى ما ذكره التقى الفاسى رحمه‌الله.

وقلت : وقد أدركنا الباب الشريف مصفحا بالفضة ، وكان يختلس من فضته أوقات الغفلة من قل دينه ، وخفت يده ، إلى أن انكشف سفل الباب الشريف عن خشبة الباب ، ومسك مرارا من يفعل ذلك وحبسه ، وبهذله فعرض ذلك على الأبواب الشريفة السلطانية فى أيام المرحوم المقدس سليمان خان ، أسكنه الله تعالى فسيح الجنات فى سنة ٩٧١ ه‍.

فبرز الأمر الشريف السلطانى بتصفيح الباب الشريف بالفضة إلى ناظر الحرم الشريف المقيم بمكة فى منصب نظارة الحرم الشريف المقيم بمكة يومئذ وهو من فضلاء كتبة مصر أحمد حلبى المقاطع جى صهر المرحوم محمد بن سليمان دفتردار مصر إذ ذاك (رحمه‌الله تعالى).

كان له شعر لطيف بالتركى ، وترجم باللسان العربى الزكى فى كتاب «روضة الشهداء» (١) لمولانا جامى ، زاده وضمنه من لطائف النظم والنشر ما يستحسنه الطبع ، ومن محاسن السجع ما يخف على السمع ، وهو كتاب مقبول متداول بين اللطافة ، وكان وصوله إلى مكة فى افتتاح سنة ٩٥٨ ه‍ ، وكان فى البيت الشريف خشبة من أخشاب سقفه المنيف انكسرت ، وصار الماء ينزل من موضع الكسر إلى جوف البيت المعظم ، وكان قاضى مصر يومئذ قدوة الموالى العظام ، مولانا حامد أفندى ، وهو الآن مفتى ممالك الإسلام

__________________

(١) روضة الشهداء : فارسى ، لحسين بن على الكاشفى المعروف بالواعظ البيهقى الميتوفى سنة ٩١٠ ه‍ ، وترجمه الفضولى محمد بن سليمان البغدادى (المتوفى سنة ٩٧٠ ه‍) ، وسماه حديقة السعداء. كشف الظنون : ١ / ٩٢٦.

٨٩

بالباب العالى ، أطال الله عمره المديد ، وأدام بقاءه السعيد ، قد حج إلى بيت الله الحرام ، وقاضى مكة يومئذ المرحوم مولانا محمد بن محمود المعروف بخواجة أفندى ، أسكنهما الله فسيحي الجنان وصف تربتهما بالروح والريحان ؛ فأطلعا على هذا الاختلال وعرض على أبواب الشريف السلطانية.

فلما وصل العرض إلى المرحوم المقدس المغفور له الأقدس سليمان خان بوأه الله عرف الجنان ، أرسل إلى مفتى الإسلام سلطان العلماء العظام مولانا أبى السعود أفندى المفتى الأعظم قدس الله روحه وكرم يستفتيه عن حكم الله تعالى فى المسألة جواز وعدم جواز.

فكتب إليه بجواز ذلك إن دعت الضرورة إليه ؛ فأرسل بجواز المفتى الأعظم إلى صاحب مصر يومئذ الوزير الأعظم على باشا المرحوم ؛ فأرسل الوزير المذكور إلى ناظر الحرم المشار إليه وقاضى مكة يومئذ مع مرسوم سلطانى مضمونه العمل بمقتضى الفتوى ؛ فجمع أحمد جلبى مؤن العمارة والأخشاب اللائقة بهذا العمل.

وكان كاتبه صولو مصطفى جلبى ومعماره مصطفى المعمار ، وقبل الشروع فى العمل اقتضى رأيهم مشاورة العلماء فى ذلك ؛ فجلس مولانا أفندى محمد بن محمود بن كمال بعد صلاة الجمعة لأربعة عشر ليلة ، خلت من شهر ربيع الأول سنة ٩٥٩ ه‍ فى الحرم الشريف واستحضر مفتى العلماء الشافعية المرحوم مولانا الشيخ : شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمى ، ومولانا الشيخ نور الدين على بن إبراهيم العسيلى ، ومولانا القاضى يحيى ابن طهيرة ، ومؤلف هذا الكتاب ، وتفاوضوا فى هذه المسألة ، فذكر مصطفى المعمار ، أنه شاهد عودين من أعواد سقف الكعبة مكسورين ، ك نزلا على محاذاة بقية أخشاب السقف الشريف ، من وسطهما اثنى عشر قيراطا.

وذكر أن عودا ثالثا أرخى بهما لنحو الباب الشريف ، ونزلا أيضا تسعة أصابع عن محاذاة أعواد السقف الصحيحة هبوطا إلى أسفل ، وأنه يحتمل أن يكون مكسورا ، ويحتمل أن يكون صحيحيا ، ولكنه أعوج باعوجاج ما إلى

٩٠

جانبه من العود المكسور وشهد معه المعلم أحمد الحميماتى المصرى وغيره. وذكروا أنه إن لم يتدارك تغير الخشب المذكور بخشب صحيح ، فالغالب من أمثال ذلك أن يسقط إلى أسفل ، وتتزعزع الجدران لسقوطه ، ويغلب فى الظن اختلال فى جانب السطح يؤدى إلى سقوط السطح جميعه ، وتشقق الجدران وسقوطها ؛ فأنفقت آراء الحاضرين على الإقدام على تعمير السطح ، وتبديل تلك الأعواد.

وعينوا أن يشرعوا حج يوم السبت منتصف شهر ربيع الأول سنة ٩٥٩ ه‍ ، فتصعبت طائفة حركهم الهوى والغرض بمخالفة ما رأيناه صوابا وحركوا طائفة من العلماء إلى الخلاف ، وزعموا : أن من تعظيم البيت الشريف لا يتعرض له بترميم ولا إصلاح ، وأن قيام الكعبة الشريفة هذه المدة المديدة والرياح تنسفها من الجوانب الأربع ، ولا يشرفها ولا يضرها ؛ ذلك دليل على أن قيامها ليس بقوة البناء ، بل بقدرة الله تعالى ، وأنه لا يجوز تغيير أخشابها إلا إذا سقطت بنفسها ، وغير ذلك من التمويهات والتهويلات التى تنبو عن مسامع العقلاء ، وهوّلوا الأمر على هؤلاء الناس بإغرائهم.

وحاول أن يقوم لذلك فتنة من العوام ، وكتب مولانا الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر تأليفا واسعا بالرد على أولئك المعاندين ، واستند إلى نقول كثيرة ، وصمم على الجواز ، وجاءنى رحمه‌الله تعالى يحرضنى على الثبات على ما صدر منى من القول بالجواز.

ونقل لى عن المحب الطبرى فى كتابه استقصاء البيان فى مسألة الشاذروان بعد ذكر حديث عائشة رضي‌الله‌عنها فى هدم الكعبة ما نصه : «ومدلول هذا الحديث تصريحا وهو أنه كما يجوز التغيير فى الكعبة لمصلحة ضرورية وحاجة مستحسنة». انتهى.

ولما بلغ سيدنا ومولانا المقام الشريف العالى السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن أبى نمر صاحب مكة إذ ذاك ، تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جنانه ، وحضر بنفسه فى البر إلى مكة المشرفة ، وسيدنا سلطان العلماء لإعلام شيخ الإسلام شمس الملة والدين الشيخ محمد بن مولانا الشيخ أبى

٩١

الحسن البكرى ، نفع الله به وبأسلافه الكرام ، وشيد به إذار شريعة سيد الأنام (عليه أفضل الصلاة والسلام) ، ومولانا شيخ الإسلام قاضى القضاة ومرجع أهل بلد الله الحرام القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن يعقوب المالكى طيب الله ثراه ، وجعل الفردوس أعلى مأواه ، وناظر الحرم الشريف المكى يومئذ أحمد جلبى المذكور ؛ فحضروا جميعا تجاه البيت الشريف عند مقام إبراهيم عليه‌السلام.

وأشير إلى سيدنا ومولانا الشيخ محمد البكرى أن يلقى درسا يتكلم فيه على قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١) فتكلم على جارى عادته بلسان طلق فصيح ولفظ منتظم مليح ؛ أقهر به الحاضرين ، وأدهش به الناظرين ، وأفاد وأجاد وقلد نفائس الدر الأجياد.

فلما انقضى الدرس أخرج الناظر فتوى المفتى للناس ، قرأها مولانا الشيخ الأعظم الشيخ محمد البكرى ، فقال : ومن يخالف هذا من الناس؟! هذا هو عين الصواب ، ومحض الحق.

فأمر مولانا السيد الشريف الشيخ أحمد العمار بالشروع فى العمل ؛ فشرعوا وسكنت الفتنة ولله الحمد.

وكل ذلك كان تدبير المرحوم القاضى تاج الدين المالكى رحمه‌الله ، وكان له عقل مجسما ورأى صواب محضا ، وله فضل تام وفكر صائب تمام ، توفى إلى رحمة الله تعالى فى سنة ٩٩ ه‍.

ولما كشف عن تلك الأعواد التى فى السقف الشريف وجدها مكسورة ؛ كما ظنوا ، فأبدلها بأعواد جيدة فى غاية الأحكام والاستقامة ، وأعادوا السقف والسطح كما كان بغاية الإتقان.

ويسطر ذلك فى صحائف مولانا المرحوم السلطان سليمان (عليه الرحمة

__________________

(١) الآية رقم ١٢٧ من سورة البقرة ، مدنية.

٩٢

والرضوان) ، ثم بعد الفراغ طلبوا منا شيئا يمكن كتابته ؛ فكتب لهم كتابا يتضمن التاريخ ، وهو : والحمد لله الذى عمرا الكعبة الشريفة بالشريعة المحمدية ، فغدت وهى البيت المعمور حسا ومعنى.

وشيد قواعد ملك من جدد سقفها تشيد : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا)(١) ، وأصلح الوجود بوجود من وجد فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه (٢) وخصّه بكنز : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٣) ، فكان له بذلك عظمة وكرامة ، وإنا له الحظ الأوفر من ملك سميه نبى الله سيدنا سليمان ، بن السلطان سليم خان الخالد عزه من ملوك بنى عثمان خادم الحرمين الشريفين الخافقة ألوية نصره ورايات ظفره فى الخافقين.

فلقد جدد سقف الكعبة المعظمة ، حفظ الله دولتها حفظ البيت المعمور والسقف المرفوع وأصلح أرضها المقدسة ، وجدارها ، المتخذة قبلة للسجود والركوع ، وغرد خير تاريخ تجديد عمارته على غصون حساب الجد ، فكان مجدد سطح بيت الله مالك الدولة السلطان سليم ملكه الله دول الأرض السلطانية ومن عليها ، وجعل باب سعادته قبلة تسجد جباة المطالب إليها.

ثم لما فرغ من تجديد سطح البيت الشريف ، وما يتعلق به شرع فى تسوية فرش المطاف الشريف ، فإن أحجاره انفصلت ، وصار بين كل حجر حفر ، وكانت تلك الحفر تسد تارة بالنوّرة وتدلك ، وتارة بالرصاص وتسمر بمسامير الحديد ، فأزال ما بين الأحجار من الحفر وتحت طرف الحجر إلى أن ألصقه بطرف الحجر الآخر من جوانبه الأربع.

واستمر فى فرش المطاف الشريف على هذا الأسلوب إلى أن فرغ من ذلك ، وأصلح أبواب المسجد الشريف بالفضة وفرش المسجد جميعه بالجص ،

__________________

(١) الآية رقم ١٢٧ من سورة البقرة ، مدنية.

(٢) الآية رقم ٧٧ من سورة الكهف ، مكية.

(٣) الآية رقم ١٨ من سورة التوبة ، مدنية.

٩٣

ثم ورد حكم السلطان بتصفيح الباب الشريف بالفضة ، وأخرجوا جميع فضة الباب ، وزادوا عليها فضة ، وجعلت صفائح ، وصفح منها باب الكعبة الشريفة وسمرت الصفائح بمسامير الفضة ، وأعيدت الحلقات الأربع على الباب الشريف ، وأصلح الميزاب الشريف وصفح بالفضة المموهة بالذهب ، إلى أن غير بعد ذلك وعمل الميزاب والباب السلطانى مصفحا بالذهب ؛ وأرسل إلى هنا ، فوضع موضع الميزاب الذى كان فى الكعبة ، وجهز إلى الباب الخاقان ؛ فوصل ووضع فى الخزينة العامرية.

وأما عمارة المطاف الشريف فوقع فى سنة ٩٨١ ه‍ ، وكنت قد أمرت بتاريخ يكتب على بعض مواضع المطاف ؛ فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم» : («إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(١).

تقرب إلى الله تعالى بتجديد فرش أحجار المطاف وتسويتها تحت أقدام الطائفين فى الطواف ، وتحلية الباب الشريف والميزاب المعظم المنيف خليفة الله الأعظم سلطان الروم والعرب ، والعجم من اصطفاه الله تعاللى فى أرضه واجتباه لترميم بيته الحرام ، واختاره وارتضاه لخدمة الركن والمقام السلطان بن السلطان الملك المظفر أبو الفتوحات والنصر سليمان خان تقبل الله منه صالح الأعمال ، وبلغه ما يؤمله من السعادة والإقبال ، ولما تم غرد بالتاريخ طير الهنا ، عمر الله قبلتنا.

* * *

(فصل فى ذكر معاليق الكعبة المعظمة وكسوتها)

أما المعاليق فقد ذكر المسعودوى رحمه‌الله تعالى فى «مروج الذهب» : «كانت الفرس تهدى إلى الكعبة أموالا وجواهر فى الزمان الأول ساسان ابن تابك أهدى غزالتين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا إلى الكعبة».

__________________

(١) الآية رقم ٩٧ من سورة آل عمران ، مدنية.

٩٤

وقال الشريف التقى الفاسى فى «شفاء الغرام» : يقال : إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشى ، أول من علق فى الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة وصيره للكعبة.

منها : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، لما افتتح مدائن كسرى كان مما أهدى إليه هلالان ، فبعث بها ، فعلقها بالكعبة ، وبعث السفاح (١) بالصحيفة الحضر فعلقت فى الكعبة ، وبعث المأمون الياقوت التى تعلق فى كل موسم فى سلسلة من الذهب فى وجه الكعبة ، وبعث المتوكل (٢) على الله بشمسة من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوتي الرفيع والزبرجد ؛ تعلق فى سلسلة من الذهب فى وجه البيت فى كل موسم.

وأهدى المعتصم (٣) العباسى قفلا لباب الكعبة فيه ألف مثقال ذهب فى سنة

__________________

(١) السفاح ؛ هو : أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، أمه : رابطة بنت عد الله الحارثية ، ولد بناحية البلقاء سنة ١٠٨ ه‍ ، بويعي بالخلافة سنة ١٣٢ ه‍ ، عاش السفاح ثلاثا وثلاثين سنة ، ومات سنة ١٣٦ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٢٤.

(٢) المتوكل على الله ؛ هو : جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون الهاشمى العباسى البغدادى ، أبو الفضل ، أمه : أم ولد تركية تسمى : شجاع ومولده فى سنة ٢٠٥ ه‍ ، وقيل : ٢٠٧ ه‍ ، وبويع بالخلافة بعد موت أخيهي الواثق فى ذى الحجة من سنة ٢٣٢ ه‍ ، وقتل فى ليلة الأربعاء ثالث أو رابع شوال سنة ٢٤٧ ه‍ فى القصر الجعفرى ، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة شهر وتسعة أو ثمانية أيام ، ومات وعمره إحدى وأربعون سنة ، وتخلف بعده ابنه المنتصر. تاريخ الخميس : ٢ / ٢٣٧ ، ٢٣٩.

(٣) المعتصم ؛ هو : محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور ، أمه : أم ولد اسمها : ماردة. بويع بالخلافة بعد أخيه المأمون بعهد منه إليه لما احتضر ، وكان أبوه قد أخرجه من الخلافة وعهد إلى الأمين والمأمون والمؤتمن فساق الله إليه الخلافة وجعل الخلفاء العباسيين بعد ذلك من ولده ، ولم يكن من نسل أولئك خليفة ، وكان المعتصم يلقب بالثمانى ؛ فإنه ثامن خلفاء بنى العباس ، وملك ثمانى سنين وثمانية أشهر ، وزاد بعضهم وثمانية أيام ، وافتتح ثمان حصون ، وقيل : إنه ولد فى شعبان وهو الثامن من شهور السنة وكان نقش خاتمه الحمد لله ، وهى ثمانى حروف ، وبويع بالخلافة سنة ٢١٨ ه‍ ، ومولده سنة ١٨٠ ه‍ ، وقهر ثمانية أعداء ، ووقف ببابه ثمان ملوك ، وخلف من الذهب ثمانية آلاف ألف ـ

٩٥

٢١٩ ه‍ ، وكان والى مكة يومئذ من قبله صالح بن العباس مارا إلى الحجبة ليقبضهم ، فمضى إلى الحجبة ليسلم إليهم القفل ؛ فأبوا أن يأخذوه منه ، وأراد أن يأخذ القفل الأول ويرسل به إلى الخليفة ، فأبوا أن يعطوه ذلك ، وتوجهوا إلى بغداد ، وتكلموا مع المعتصم ، فترك قفل الكعبة عليها ، وأعطاهم القفل الذى كان بعثه إليها ، فاقتسموه بينهم.

وذكر الفاكهى : أن من أهدى إلى الكعبة طوق من ذهب مكلل بالزمرد والياقوت مع ياقوتة كبيرة خضراء ، أرسله ملك السند لما أسيلم فى سنة ٣٥٩ ه‍ ، فعرض أمره على المعتمد على الله (١) ، وتبعه أحمد الموفق بالله بن أخى المعتمد على الله ، فأمر بتعليقها فى البيت الشريف ؛ فعلقت.

قال الشريف التقى الفاسى رحمه‌الله : «ومما علق بعد الأزرقى فى قصبة من فضة فيها كتاب بيعة ابن جعفر أمير المؤمنين ، قد أمر بها الفضيل بن عياض فى موسم سنة ٣٩١ ه‍ ، وكان وزن القصبة ثلثمائة وتسعين درهما فضة ، وعليها خارجا من ذلك ثلاثة أزرار ملآنة سلاسل من فضة ، ودخل الكعبة يوم الاثنين لأربع ليال خلون من صفر ، فعلق هذه القصبة مع معاليق الكعبة».

__________________

ـ دينار ، ومن الدراهم مثلها ، وخلف من الجمال والبغال ثمانية آلاف ، ومن الجوارى مثلها ، وبنى ثمانى حصون ، وأنشأ مدينة سر من رأى وهى سامرا ، ومات بها فى يوم الخميس تاسع عشر ربيع الأول ، ومات وعمره سبع وأربعون سنة وسبعة أشهر. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٣٦ ، ٣٣٧.

(١) المعتمد على الله ؛ هو : أحمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى بن المنصور ، أمه : أم ولد رومية اسمها : فتيان ، ولد سنة ٢٢٩ ه‍ بسر من رأى ، كان يميل إلى اللذات والسكر ، جعل أخاه الموفق طلحة ولى عهده على الأمور حتى قوى أمر طلحة وصار إليه الحل والعقد وانقهر معه المعتمد وصار كالمحجور عليه معه ، ثم مات المعتمد فجأة وهو سكران ولم تطل أيام بعد فوت أخيه الموفق طلحة ، وقيل : سم فى لحم ، وقيل : رمى فى رصاص مذاب ، وقيل : وقع فى حفرة ببغداد فى سنة ٢٧٩ ه‍ ، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة ، وفى سيرة مغلطاى اثنتين وعشرين وأحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٤٢ ، ٣٤٣.

٩٦

قلت : وسيأتى أن هارون الرشيد كتب : أن يكون ولى عهده بعده محمد الأمين (١) ثم عبد الله المأمون (٢) ، وبايع لهما على ذلك أعيان مملكته ، وكتب مبايعتهم ، وأرسل نسخة ذلك العهد وعلقها فى الكعبة.

ثم لما وقع بعد الاختلاف بينهما وأرسل الأمين عسكرا لقتال أخيه المزمون ، أرسل إلى مكة ، وأخرج كتاب العهد من الكعبة ومزقه ؛ فمزق الله ملكه ، وانكسر عسكره ، وانتصر المأمون وجاء إلى بغداد وحاصر الأمين ، إلى أن أمسكه عبد الله بن طاهر وقتله ، وأتى برأسه إلى المأمون ، وسيأتى تفصيل ذلك جميعه إن شاء الله تعالى.

ثم لما وقعت الفتن بمكة أخذت تلك المعاليق من الكعبة ، فصرفت فى ذلك ، وقد كانت الملوك ترسل بقناديل الذّهب وتعلق فى الكعبة.

وكانت شيوخ سدنة البيت الشريف إذا احتاجت اختلست منها ما تسد به خللها ، وتدفع به فقرها واحتياجها ، وقد أدركناه فى زمن الصبا ، وقد خفت القناديل.

__________________

(١) محمد الأمين ؛ هو : محمد بن الرشيد هارون بن المهدى بن محمد بن المنصور الهاشمى القرشى العباسى البغدادى ، أمه : زبيدة بنت جعفر المنصور الهاشمية العباسية ، وهو ثالث خليفة تخلف أبواه هاشميان ؛ الأول : على بن أبى طالب ، والثانى : ابنه الحسن ، والثالث : محمد هذا ، ولى الخلافة بعد موت أبيه ، واستناب أخاه المزمون على ممالك خراسان ، وفى أيامه فتحت أهواز.

وفى يوم السبت الخامس والعشرين من المحرم سنة ١٩٨ ه‍ ، ظفر ظاهر بن الحسين بالأمين فقتله بظاهر بغداد وشال رأسه على رمح وطيف به ، وكانت خلافته أربع سنين وأيام ، وفى سيرة مغلطاى : أربع سنين وستة أشهر وعشرة أيام. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٣٣ ، ٣٣٤.

(٢) المأمون ؛ هو : عبد الله بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور ، أمه : أم ولد تسمى : مراجل ، ماتت أيام نفاسها به ، ولد سنة ١٧٠ ه‍ عندما استخلف أبوه بويع بالخلافة بمرو ، له اعتناء بالفلسفة وعلوم الأوائل ، وعاش المأمون ثمانيا وأربعين سنة ، وكانت وفاته فى ثانى عشر رجب سنة ثمانى عشرة ومائتين ، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة إلا ستة أشهر ، وفى سيرة مغلطاى اثنتين وعشرين سنة ، وفى دول الإسلام نيفا وأربعين سنة ، وتوفى بالبدنرون من طرسوس ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من رج سنة ٢١٨ ه‍. تاريخ الخميس : ٢ / ٣٥ ، ٣٣٦.

٩٧

وأدركنا من شيوخ الكعبة من كان يتهم بذلك ، بل أخبرنى نجار أنه عمل محطا لأحدهم مركبا من الخشب مربعا من عدة أعواد ، طول كل واحدة منها نحو دراع تركب فتطول ، ثم تفك وتحمل فى الكم ، فإذا دخل الشيخ يوم فتح الكعبة ابتدأ فدخل وحده كما هو عليه مشايخ الكعبة ، وركب ذلك المحط ، ونزل قنديلا وفك تلك الأعواد ، وغمس ذلك القنديل ، ووضعه فى كمه الواسع.

ثم أذّن للناس بالدخول إلى البيت الشريف ، وما يحمله على ذلك غير فقره واحتياجه تجاوز الله عنه ، وافتقد مرة أمير من أمراء جده قنديلا كان علق قريبا فى البيت الشريف ؛ فكلم على ذلك الشيخ ، وأراد إهانته فلم يقدر على ذلك ، وتكلم الناس عليه ، وكان يقول : الحافظة على هيئة الإنسان أوجب من المحافظة على قناديل معلقة فى الكعبة لا ينفعها تعليقه ، ولا يضرها فقده ، وقد وصلنا إلى حد المخمصة ، فنعذر فى ذلك إن وقع فعله منا ، والبيت الشريف الآن ولله الحمد والشكر فى غاية الصون فى أيام هذا الشيخ الموجود الآن لعفته وأمانته علقت فى أيامه قناديل كثيرة أهداها الملوك إلى الكعبة الشريفة ، وهى محفوظة معلومة عند الناس ، باقية يرونها فى سقف البيت الشريف ، أوقات فتح الكعبة لسائر الناس.

وقد وصل فى وسط سنة ٩٧١ من الباب الشريف العالى السلطانى جاويش اسمه «محمد جاويش» كان قبل ذلك كاتبا للحرم الشريف على عمارة المسجد الحرام ، وكان توجه بشارة إتمام عمل المسجد الشريف على عمارة المسجد الشريف إلى الباب العالى السلطانى ، وهو رجل فى غاية الأمانة والاستقامة وحسن الخدمة وفضيلة الكتابة ، وحسن الحظ والمروءة ، وعلو الهمة سلمه الله تعالى.

وأقبلت عليه السلطنة نصرها الله تعالى ، وأنعمت عليه بأنواع الإنعام والترقى وغير ذلك من الإكرام ، وصار فى عدد خواص جاويشية الباب العالى.

٩٨

وأرسل إلى الحرمين الشريفين الخلع الشريفة السلطانية لمن باشر خدمة الحم الشريف من هذه العمارة ، وأجلسهم سيدنا ومولانا المقام الشريف العالى ، سيد السادات الأشراف وصفوة الصفوة من شرفاء بنى عبد مناف السيد الشريف الحسيب النسيب المستغنى بشرف ذاته عن التوصيف والتلقيب بدر الدنيا مولانا السيد حسن بن أبى نمى (خلد الله تعالى دولتهما وسعادتهما وأدام غرهما وسيادتهما).

وكذلك شيخ مشايخ الإسلام سيد العلماء العظام ، وسند الفضلاء الكرام ، ناظر المسجد الحرام ، ومدرس أعظم مدارس سلاطين الأنام صفوة نخبة آل سيد المرسلين (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام).

وقاضى المدينة المنورة سابقا بدر الملة والدين ، مولانا السيد حسين الحسينى المالكى ، لا زال حرم الآمنين مشمولا فى أيام نظارته بالعز والتمكين ، وأهل الحرمين الشريفيين غارقتين فى بحر إحسانه كل وقت وحين.

وكذلك قاضى مكة المشرفة يومئذ ، قاضى قضاة المسلمين أولى ولاة الموحدين ، معدن الفضل واليقين ، وارث علوم سيد الأنبياء والمرسلين ، مولانا مصلح الدين لطفى بك زاده ذكره الله تعيالى بالصالحات وأفاض عليه سوابع الخيرات.

وكذلك أمين العمارة الشريفة افتخار الأمراء العظام معمر المسجد الحرام الأمير أحمد وفقه الله تعالى وسدده وأكرمه وأسعده.

وجهزت السلطنة الشريفة نصر الله بها الإسلام ، وأيد بتأييدها دين سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) مع الجاويش المشار إليه ثلاث قناديل من الذهب مرصعة بالجواهر ، ليعلق اثنان منها فى سقف بيت الله تعالى ، زاده الله تعالى تشريفا تعظيما.

والثالث فى الحجرة الشريفة النبوية تجاه الوجه الشريف النبوى تعظيما لسيد الأنام على ذلك الوجه المليح ، تحية مباركة من ربنا وسلام.

فلما وصل محمد جاويش إلى مكة المشرفة شرفها الله تعالى بما فى يده من

٩٩

الخلع والتشاويف والقناديل المعظمة ، قوبل بغاية التعظيم والإجلال ، وعومل بنهايات الاحترام والإقبال ، وألبس الخلع الشريفة الفاخرة ، وأنعم عليه بالضيافة والإنعامات الوافرة ، وحضر إلى المسجد الحرام بنفسه النفيسة سيدنا ومولانا ، المقام العالى السيد حسن المشار إلى حضرته العالية ، أدام الله عزه وإقباله ، ومعه أكابر السادات الأشراف ، وجلس فى الحطيم الكريم تجاه بيت الله المنيف ، ومعه سيدنا ومولانا ناظر حرم الله تعالى شيخ مشايخ الإسلام ، القاضى حسين الحسينى المومئ إليه ، خلد الله عظمته وإجلاله عليه ، وباقى من ذكرنا وسائر الأعيان والأهالى وكافة العلماء والفقهاء والموالى ، واجنمعت الناس حول الكعبة الشريفة ما امتلأ الحرم الشريف بذلك الموكب المنيف ، وفتح باب بيت الله تعالى ، وأحضرت الخلع الشريفة السلطانية والفناديل الخاقانية السنية ، وقرأت المراسيم الشريفة المطاعة فى الأقطار والجهات فوق منبر لطيف بصوت جوهرى يسمعه الخاص والعام ، وألبس سيدنا ومولانا الشريف حسن (نصره الله) خلعتين فاخرتين ، ثم مولانا ناظر الحرم الشريف ثم من كان له خلعة من السلطنة ثم طاف سيدنا ومولانا السيد حسن بالبيت بخلعته على المعتاد والرئيس والمؤذن على يدو للسلطنة الشريفة وله بعلو زمزم علىّ والناس كلهم رافعون أكفهم للدعاء ، إلى أن فرغ سيدنا ومولانا من الطواف ، ودعا بالملتزم الشريف ، ثم صلى ركعتى الطواف فى مقام إبراهيم.

ثم طلع هو ومولانا ناظر الحرم الشريف وبقية الأعيان إلى باب بيت الله تعالى ، ودخلوا الكعبة وأحضرت القناديل الشريفة ، واختاروا لها مكانا بائنا يقع نظر الداخل إلى باب البيت الشريف ، فى أول دخوله إلى الكعبة المعظمة عليها.

وأحضر سلّم يصعد عليه ، وعلقها سيدنا ومولانا السيد حسن بيده الشريفة تعظيما لأمر السلطنة العلية المنيفة ، وقرأت الفواتح فى الكعبة الشريفة وحولها ، ودعت الناس أجمعون ، ورفعوا أصواتهم ، وهم إلى الله تعالى يتدرعون بدوام دولة هذا السلطان الأعظم ، سلطان سلاطين العالم ، خلد الله تعالى خلافته الزاهرة ، وأيد أيام سلطنته القاهرة ، وجمع له بين سعادة الدنيا والآخرة.

١٠٠