كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

أجلسه الله على سرير القرب والتدانى وعوضه ملك الفردوس الباقى عن سلطنه هذا الملك الفانى ، مولده سنة ٩٢٩ ه‍ كما يأتى فى محله.

ومنهم السلطان السعيد الشهيد السلطان مصطفى ، وهو أكبر أولاده مولده سنة ٩٢١ ه‍ ، استدعاه والده من المحل الذى ولاه ، وهو مغنيا إلى أرجلى ، وهو متوجه إلى تبريز لأخذ بلاد العجم ، فوصل إليه متمثلا أمره ، باذلا نفسه.

وكان والده يتوهم منه خروجه عليه ، فلما حضر بين يديه ، أو طائفة من البكمان بحتفه ؛ فخنق حبرا وجبل قهرا فى أواخر شوال سنة ٩٢٦ ه‍ ، وألطف ما قيل فى تاريخه ظلم بنى جذر آخر شوال ، ثم أرسل إبراهيم باشا الخادم إلى بروسا لقتل ولد له طفل اسمه مراد ، فمضى إليه وضفه وألحقه بوالده رحمه‌الله.

ولم يرتكب السلطان سليمان هذا الأمر الفظيع الذى قطع القلوب أى تقطيع إلا لتسكين الفتن ، وأطفأ نار المحن ما ظهر منها وما بطن ، صونا لدماء المسلمين ، وحفظا لنظام التأمين والتطمين.

وأولاده التسعة : السلطان محمد مولده سنة ٩٢٦ ه‍ ، وتوفى على فراشه بأجله فى سنة ٩٣٢ ه‍ ، ومنهم السلطان السعيد الشهيد الغريب الشديد السلطان أبا يزيد ، اجتمعت به مجدا واحدا فى رحلتى الثانية سنة ٩٦٥ ه‍.

وقد استدعانى وأنا مار عليه بقرب كوتاهية فى قرية يقال لها : «أنوك» ، وكان الأمر مفسر بعد بينه وبين والده المرحوم ، فعدلت إليه وحضرت بين يديه وأقبل علىّ بكليته وأقبلت عليه وعظمتى وعظم أمرى ، وكرمنى فوق قدرى ، وباسطتى وخاطبنى بدون واسطة ، وأجلى مجلسه إلىّ وحدى ولم يترك فرعا من الفروع التى أراد كشفها وتحققها إلا سألنى عنها بلطف ومودة ؛ فأجبته عن ذلك بأدب وسكون وملاحظة وأدرجت فى أثناء ذلك نصائح تصلح للملوك ، وهو يصغى إليها ويحسن فى الإصغاء إلى سماعها ، ويتفكه ويتلذذ سماعها ، وسألنى فى الإقامة عنده لمصاحبته ، فاعتذرت إليه وكرر ذلك فأبيت ، وكتان

٣٠١

الخير فى ذلك ، وكلما طال المجلس استأذنت للقيام فيأبى علىّ ويقول : وما أسرع ما مللت حديثنا ونحن نستطيب حديثك.

وكان أول المجلس من صلاة الظهر واستمر إلى العصر ؛ فألبسنى تشريفه وأحسن إلىّ بأثواب صوف ودراهم لها صوره ، وفارقته ودخلت أسطنبول.

وتوفيت والدته السلطانة أم السلاطين الخاصكية بعد دخولى وحضرت جنازتها وما أجرى من الصدقات عليها وكانت هى الطلسم للسلطان بايزيد ، فلما توفيت خلى الشأن بينه وبين أخيه سليم خان ، أدى إلى فتن عظيمة ومحاربات ، قتل فيها نحو خمسين ألف فصاعدا ، ثم لما عجز عن مقاومة والده وأخيه هرب إلى شاه طهماست ؛ ففرح له وأقام ناموسه ، وعجز عن حفظه ، فشرعت طهماست فى المكر والخداع ، وتفريق عسكره والاغترار ؛ لضعف بلاده عن أن تسعهم ؛ ففرقهم ، ثم استولى عليه وحبسه هو وأولاده ، وقتل عسكره واحدا بعد واحد ، واغتنم منهم مالا كثيرا وترددت الرسل بينه وبين السلطان سليمان فى تسليمه لوالده ، قلما تأكد طلبه من طهماست.

ذكر أنه أصرف عليه خزينة مال ، وأنه لا يسلم إلا بأن يعطى له ؛ فسئل عن كيفية ذلك ، فذكر مقدارا عظيما يكون قدر خراج مصر سنة ، فأمر السلطان سليمان بدفع ذلك القدر ؛ فلما تسلمه أحضر السلطان بايزيد وأولاده الأربع ، وكل واحد كالبدر الطالع والنجم الساطع ؛ فخنقوا مع والدهم بادراه الرهق حتى لم يبق فيهم رمق ؛ وأخمدوا أنفاسهم بالأوتاد ، وأطفئوا تلك الأنوار ، رزقوا الشهادة بالاضطرار ، وهم : السلطان أورخان ، والسلطان محمود ، والسلطان عبد الله ، والسلطان عثمان ، وحملت أجسادهم فى توابيت من قزوين إلى سيواس ، ودفنوا فى سيواس ، وأسكن الله الفتنة والوسواس ، وذلك فى سنة ٩٧٠ ه‍.

وكان للسلطان بايزيد ولد صغير فى بروسا ، فأمر بخنقه فخنق ، والله ـ تعالى ـ يبل مضاجعهم بأقطار أمطار الرحمة والرضوان ، ويعوضهم عن شبار الجنة ، ويروح أرواحهم فى عرف الجنان بالروح والركان ، والحور والولدان والخيرات الحسان.

٣٠٢

ومنهم السلطان جهانكير مولده سنة ٩٣٧ ه‍ ، وكانب أحدب ظريف لطيف الروح ، يحبه والده ولم يفارقه إلى أن توفى بأجله فى حلب بمرض الخناق فى سنة ٩٩٦ ه‍ ، ونقل إلى أسطنبول ودفن فى تربة أخيه السلطان محمود الشهير الشاه أده.

ومنهم الشاه زاده السلطان مراد توفى بأجله فى سنة ٩٣٧ ه‍ ـ رحمه‌الله تعالى عليه ورضوانه ـ آمين.

ومنهم الشاه زاده محمود توفى بأجله فى سنة ٩٣٨ ه‍ ، وهذا والذى قبله مدفنونان فى تربة السلطان سليم الكبير جدهما (رحمه‌الله تعالى) بمنه وكرمه آمين.

ومنهم الشاه زاده السلطان عبد الله ، توفى بأجله فى سنة ٩٣٢ ه‍ ، وتوفت والدة السلطان سليم خان فى سنة ٩٦٤ ، وكانت صالحة زاهدة محبة لفعل الخيرات ، كثيرة الصدقات أسكنها الله تعالى أعلى فراديس الجنان.

* * *

(فصل في ذكر وزرائه العظام)

كان أول وزرائه أصفى زمانه بزوجمهر أوانه معدن الرأى والدهاء ، موضع العقل والنهاية محمد الجمالى الصديقى المعروف بيرى باشاه ، صادقه وزير الوالدة ؛ فأبقاه على وزارته مدة ، وكان السلطان سليم يتبع فى أول سلطته طوائف العلماء المتميزين بكمال العقل والأطهار الرأى ، فلم يجد أكمل عقلا منه ، وكان قاضيا فى بعض القضيات ؛ فقربه وولاه وزارته العظمى ، واستمر فى سلطنته وزيرا عنده لم يغيره ، وسلم من فتكه لكمال درسه مع كثرة قن قتل من الوزراء ، وكان كاملا فاضلا متين الرأى عاقلا ، يضرب المثل بفراسته وعلمه وعقله وحلمه.

فلما وزّر السلطان سليمان رأى فى خدمته من شباب ممالكه من هو مثابر على الوزارة طائيا إليها بجناحه ، ورأى سلطانا شابا يميل إلى أقرانه وذوى أنسابه وهو بينهم لشيخوخته وكبر سنه ، لا يناسبهم ؛ فاستعفى عن الوزارة ،

٣٠٣

وأجيب إلى سؤاله ، وانجمع النظر فى حاله وماله ، ورأى بعين كماله وثبات الدهر فى أحواله ، وأخذ فى زاد ترحاله ، وقدم الخيرات ما يكون ذخيرة لأخرته من الباقيات الصالحات.

فمن إنشائه وعماريه فى إدارته وفى أدربند ، وكان محل قطاع الطريق تنهب فيه قوافل المسلمين ؛ فعمل هناك تكية عظيمة ومحلا ، لنزول المسافرين ، فيه طعام يطبخ لهم يقدم إليهم ، ومسجدا جامعا ورتب لذلك ، كلما يحتاج إليه ، ووقف أوقافا عظيمة فصار أثرا باقيا على صفحات الزمان ، وجميلا يذكر به ، ويدعى له إلى انقضاء الدوران ، وله خيرات أخرى غير ذلك ، يلوح عليها علامات القبول عند الله تعالى ، وكان عزله فى سنة ٩٣٩ ه‍.

وولى مكانه فى الوزارة العظمى من المماليك الذى عنده داخل السرايا أوده باشا حرمه الخاص إبراهيم باشا ، كان شابا قد امتلأ غصن نضارته بماء الشباب ، ولازمته السعادة والدولة والعزة والعظمة ، من جمله خدام الركاب وكان أقدم منه فى الخدمة أحمد باشا ؛ فظن أن الوزارة العظمى لا تتعداه إلى غيره ؛ لأنه من خاص مماليك والده وإبراهيم باشا من مماليك السلطان سليمان نفسه ؛ فزاحمه فى صدره لست الوزارة وجلس بقوة إجلاله يخدم السلطنة الشريفة فى ميحل الصدارة ؛ فشكاه إبراهيم باشا إلى السلطان ؛ فدبر فى إزالته من ذلك المكان ؛ فطلبه السلطان سليمان ، وجعل له إياله مصر وأعطاها له تيمان وإقطاعا يستجاب خاطره ؛ فمضى إلى مصر واليا عليها ، وصار يتعقبه إبراهيم باشا للعداوة السابقة ، ويرميه بما يوجب قتله ؛ فبرر الأمر بجماعة من الأمراء المستحفظين بمصر ، أن يجتمعوا عنده ويقتلونه فى محله ويولى أحدهم مكانه ، إلى أن يرد الأمر الشريف السلطانى بكل بكى مصر.

وأرسلت هذه الأحكام إلى الأمراء المذكورين ؛ فوقعت تلك الأحكام بيد أحمد باشا قبل أن يصل الأمراء المذكورين ؛ فجمعهم فى ديوانه وذكر لهم أن الأمر الشريف السلطانى ورد إليه بقتلهم ؛ فأذعنوا للأمر الشريف ، فقتلهم.

٣٠٤

ثم سولت له نفسه العصيان ، وظن أنه يأوى إلى جبل يعصمه من السلطان وأنه يقابل ويقاتل بجيش يلفقه من مصر ؛ فأبدى الطغيان وادعى السلطنة لنفسه وأمر أن يخطب باسمه على المنابر فى أيام الجمع ، ورتب عسكرا من العوانية ، وجمع وضرب السكة باسمه على الدراهم والدنانير ، وصادر الناس وجمع المال الكثير ، وعصى على أهل قلعه الجبل ، وجمع عليها الشطار ، وأخذها بالحيل ، وقتل من فيها من عسكر السلطان ، وأوقد نيران الفتنة والعصيان.

وكان ممن حبسه للمصادرة جاد الحمزاوى ومحمود بيك ، وأراد قتلهما ، وقد أخر الله أجلهما ؛ فسمعا أنه دخل الحمام فكسرا الحبس وبرز أو نصبا صنجقا سلطانيا وناديا من أطاع السلطان فليقف تحت لوائه ؛ فاجتمع تحت الصنجق السلطانى خلق كثير وجم غفير ، وصار سد دارهم محمود بيك وجاد الحمزاوى بمشابهة الوزير ، وتوجها بالعسكر إلى الحمام فكبسا أحمد باشا وقد حلق نصف رأسه وأعجله النصف الثانى هجوم العسكر السلطانى عليه ؛ فهرب إلى السطوح ، وتسلق من مكان إلى مكان وخلص إلى البر ، والتجأ إلى شيخ العرب بناحية الشرقية عبد الدايم بن يقرظ ، وقوى العسكر السلطانى ونهبوا ما معه من الأموال بالظلم والمصادرة ، وخرجوا إليه يطلبونه ، وخوفوا عبد الدايم وحذروه من عصيان السلطنة فأتاهم به ممسوكا فقطعوا رأسه ، وطافوا بها فى مصر ، وعلقوها فى باب زويلة.

ثم جهزوا إلى الأعتاب السلطانية ، وذلك فى سنة ٩٣٠ ه‍ ، وخبط محمود بيك وجانم الحمزاوى مصر إلى أن ورد مصطفى باشا وضبط مصر بكاربكيا ، واستمر إبراهيم باشا فى وزارته العظمى معظما عند السلطان نافذ الأمر والنهى إلى أن أفرط فى الدلال وزاد فى الإدلال ، فاستبديا الأمور واستقل بمصالح الجمهور ؛ فأنفقت الغيرة من ازدياد دلاله وما تحملت زيادة عجبه وإدلاله ؛ فطلبه السلطان فى ليلة من أواخر رمضان إلى عنده وأنعم عليه على جارى عادته بنفائس أنعام وافرة ووهب له جميع ما فى محله من أوانى الذهب المدصعة بالجواهر الغالية ، وطيب خاطره وطيبه بالعنبر والمسك والغالية ، وأمره أن يبات عنده فى مجلس خاص به ، كان عادته أن يبات فيه ،

٣٠٥

وصبر عليه إلى أن غلب عليه سلطان المنام على مقلته ، وأماقه ، وأمر بذبحه ؛ فذبح ، وأخطأ الذابح نحره فصاح مستجيرا ، والسلطان قريبا منه ، وقد صمم فى أمن بأن يكمل ذبحه ، فقطع رأسه وأطفئ نبراسه ، وأخمدت أنفاسه ، وما كانت نار الغضب على إبراهيم بردا سلاما ؛ بل زادته حرا واضطراما ، ولعل كثرة إحسانه إلى الناس ، ونشر مكان التى زادت على الحد والقياس نفعته عند الله ـ تعالى ـ فى الدار الآخرة ، ولعله صدقت نيته فصادفت قبولا ، وصار عند الله الكريم ذخرا ، فكم من عمل صالح يكون سببا للنجاة من النار ، ويدخل صاحبه من الشهداء الأبرار ، وما ربك بظلام للعبيد ، وكان قتله فى الليلة السادسة والعشرين من رمضان سنة ٩٤١ ه‍.

ثم ولى الوزارة العظمى الوزير الثانى إياس باشا ، وكان من الأرنوت من مماليك المرحوم السلطان سليم خان ، وكان محبا للصلحاء معتقدا فى طائفة العلماء ، معتدلا فى أحواله ، صادقا فى أقواله ، عطوفا فى رايه وأفعاله ؛ اجتمعت به فى أول رحله إلى أسطنبول سنة ٩٤٣ ه‍ ، وكان يكاتب والدى ويلتمس دعاه ، فأكرمنى وأقبل علىّ وأحسن إلىّ ورقانى عند السلطان ، وأخبرته عن والدى وكبر سنه وانفراده بعلم الحديث وعلم السنة فى عصره ؛ فحصل لى أنعام كثيرة ـ جزاه الله عنى خير الجزاء ورحمة وأسكنه جنات العلا ـ واستمر وزيرا إلى أن توفى سنة ٩٤ ه‍ أربع وأربعين وتسعمائة.

ثم ولى بعده الوزارة العظمى لطفى باشا وجنسه من الأرنوت ، وهو من مماليك المرحوم السلطان سليم ، وكان له فضل واشتغال ومشاركة فى بعض المسائل ، وله رسالة بالتركية ، شرح فيها الفقه الأكبر لإمامنا الأعظم أبى حنيفة النعمان ، وله أثار جمة فى وزارته ، منها ربطال الأولاق فإنهم كثروا فى تلك الأيام وعم أذاهم للمسافرين ، وكانت الطرقات لا تخلى منهم ؛ فيأتى أحد الأولاق إلى المسافر ويرميه عن دابته ويركبها إلى أن تنقطع ؛ فيرميها ويأخذ دابة مسافر أخر ـ وهلم جرا ـ لا يسلم منهم أحد ، فلما ولى الوزارة أبطل كثرتهم ، وعين أن يرسل الأولاق إلا فى المهمات العظيمة السلطانية المتعلقة بظهور عدو على المملكة يخشى عليها منه وأمثال ذلك من الأمور

٣٠٦

العظيمة جدا ؛ فقل ضررهم بعد ذلك على المسافرين ، وصارت الناس تدعو له بسبب إزالة هذه المظلمة ، وكانت الخلفاء تعد خيلا تربط لهم فى كل البلاد وقوية تحت حكمهم ، وكانت تسمى خيل البريد ؛ فإذا حدث أمر مهم ركبوا من أرادوا على خيل البريد ؛ فيركبها إلى أن يصل قرية أخرى فيجد فيها خيل البريد ، فيركبها ويترك الأول ، وهكذا إلى أن يصل بغداد ، ويرجع عنها بالأمر الذى يؤمر به ، وكان له خدام لمثل هذه الخيول بعلوفات ومرتبات ـ رحمهم‌الله ـ ورحم من أزال ظلم بقية الأولاق ودفعه عن المسلمين بالكلية ، وعين لهذه المهمات خيل البريد كما كان يفعله الخلفاء ـ رحمهم‌الله ـ.

واستمر لطفى باشا وزيرا إلى أن وقع بينه وبين زوجته مشاحنة ، وهى أخت حضره السلطان سليمان ، وسببه كثرة مسكه إلى الجوارى ؛ فشكته إلى أخيها فطلبه إلى عنده وضربه بالقوس على رأسه وأمره بمفارقتها وأكرهه على طلاقها ؛ ففارقها مكرها ، وطلب الإذن فى الحج فأذن له ، فحج فى سنة ٩٤١ ه‍.

فاجتمعت به فأرانى تأليفه بتعريبه ؛ فعربته ، ثم أمرنى أن أترجمه له فترجمته له على حسب ما أراد ، وأحسن إلىّ بسبب ذلك ، ثم عاد من الحج إلى الباب واستأذن أن يكون فى قرية من إقطاعه ؛ فأذن له واستمر فيها إلى أن توفى إلى رحمة الله ـ تعالى ـ.

وولى مكانه الوزارة سليمان باشا الخادم هو من الأرنوت من مماليك السلطان سليمان ، وكان قد ولى إياله مصر قريب من عشرة أعوام ، ثم عزل عنها ، ثم أعيد إليها ، وجعل سد دار العسكر المجهز إلى الهند ؛ لدفع ضرر البرهان اللعين عن المسلمين واستيلائهم على بنادر السويس وعلى بنادر الهند ، ثم كثر أذاهم لبنادر اليمن ووصلوهم إلى بندر جده وإلى بنادر السويس على مرحلتين من مصر ، وغاثوا فى البحر ، وأخذت سفائن الحجاج غصبا ، وذهبوا أموال المسلمين وأنفسهم أسرا وقتلا ونهبا ، وقتلوا سلطان كجرات السعيد الشهيد بهادر شاه ، وقتلوه غدرا ؛ فتحركت الحمية العلية الإسلامية السليمانية ، فأمر سليمان باشا أن يعود إلى مصر وأن يعمر سفائن يركبها مع عسكر جرار إلى أرض الهند ، ويقطع دابر الكفار ، وينظف تلك الأقطار من

٣٠٧

الكفرة والفجار ؛ فعمل سبعين عرابا وسفائن مسمارية كبار لحمل الأثقال ورتب العساكر ، وقتل عند سفره جماعة لا ذنب لهم غير صدق خدمتهم وحسن الوفاء بعهدهم ؛ حسدا لهم على ما آتاهم الله من فضله منهم الأمير الخمراوى وولده الأمير يوسف ، وكان من الصناجق العظيمة ـ ختم الله لهما بالشهادة ، وقتل أيضا الأمير داود بن عم أمير الصعيد ، وكان كريما بذولا حافظا لبلاد الصعيد بغير ذنب أتاه.

ثم توجه إلى الهند وصلب صاحب عدن فى طريقه مع أنه فتح له باب عدن وزين له الأسواق بوصول العسكر المنصور السلطانى ، فبمجرد وصوله إليه صلبه على صارى الفنتينال ، جعل صنجقا فى عدن وتوجه إلى الهند ، وعاد منها إلى اليمن من غيري أن ينال كفار الأفرنج منه ضرر ، فكان الأمير أحمد صاحب زبيد إذ ذاك من جملة اللوند اللذين استولوا على تلك الديار ، فأعطاه الأمان وطلبه إلى عنده وقتله ، وولى موضعه أمين ممن كان معه ، وعاد إلى مكة فحج وعاد إلى مصر ، ثم إلى الباب العالى ، وأسفرت سفرته على أخذ زبيد وعدن ، وكان ظالما غاشما كثير السفك ، لا يعتمد له على عهد ولا يوثق له بأمان ، ولم يعهد منه شجاعة ولا إقدام ، وإنما يفتك بمن وقع فى يده مأسورا مغلولا ، ودعا له المرحوم السلطان سليمان خدمة والده السلطان سليم وصدقه فى الخدمة ، فولاه الوزارة العظمى عوضا عن لطفى باشا لما عزله ، واستمر وزيرا عظيما مده يسيره إلى أن عزله.

وولى مكانه فى الوزارة العظمى أحد الوزراء العظام رستم باشا فى سنة ٩٤١ ه‍ ، وكان السلطان قد زوجه كريمته صاحبة الخيرات جانم سلطان بنت السلطان سليمان خان ، فملأ عين الوزارة وزين مداره ، وهو من جنس الأرنوت ممن مماليك السلطان سليم خان ، وكان ذكىّ المعيا حاذقا فطنا ذكيا ، ذا بال وسيع ، وفكر دقيق بديع ، جيد الحافظة ، حسن القريحة ، ثاقب الرأى حليما صبورا رزينا وقورا ، كامل العقل ، كثير الأدب ، اجتمع فيه من خصال الكمال ما لم يجتمع فى غيره من الرجال ، ولم يكن فيه خصلة شينة غير إفراط حب الدنيا والميل الشديد إلى جمعها بكرة وعشية ، وتلك خصلة

٣٠٨

عمت أكثر الطبائع والشيم وغلبت على أكثر الأعالى والهمر ، ولا يملئ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ، واستمر فى الوزارة العظمى إلى أن قتل المرحوم السلطان مصطفى ، وكان ذلك كما يقال بتأسيسه وتتحيله ومكره وتدسيسه ، حتى إن بعض الظرفاء جعل تاريخ ذلك على ما زعم أنه ألهم به وهو مكرر متم ، وتوهم من العسكر الإقدام عليه بالقتل ؛ فعز له السلطان صونا له وخوفا عليه من العسكر ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وولى مكانه الوزارة العظمى أحمد باشا ، كان وزيرا ثابتا ، وكانت وزارته تحله القسم ، ولعله لما أضمر السلطان فى خاطره الأشم إلى أن قدر الله ـ تعالى ـ ما قدره فى الأزل ودنا منه وقت حلول الأجل ، فعند بروزه من عوض الأمور عليه ، وانصرافه من بين يديه ، أمر بقتله عند الباب الداخل من السرايا فخنق هناك وأخرج ملفوفا فى بساط وتفرقت عنه الأباع والأسياط ، ومضى إلى الله الكريم وأقدم على الغفور الرحيم ، وأعيد فى الوزارة العظمى رستم باشا ، واستمر وزيرا كبيرا معتبرا اعتبارا كبيرا يعمل بآرائه وينفرد بإنفاد الأمر وإمضائه لا يعارضه أحد من الأركان ، بل يطيعونه ويذعنون له غاية الإذعان ، وصار لا تتصرف قضاة العسكر والدفتردارية والبكلاربكية ، وسائر الحكام والنظار فى منصب جليل أو حقير صغير أو كبير إلا بأمره وإشارته وإرادته ، بحيث لم يعهد أن وزيرا غيره أحاط بالأمور كإحاطته ، وحفظ جزئيات المناصب وكلماتها ويتعظ لحفظه ويقظته ، وكان لا يخلو من الصدقات والإحسان والميل إلى العلماء والصلحاء ، واستمر على عظمته وجلاله لم يختل منها شىء ، إلا فى فتنة السلطان بايزيد ، وكل شىء حد محدود وأمن المقدور ممدود ؛ فإن السلطان اتهمه مع بايزيد ، ونزلت مرتبته بسبب ذلك عنده بالنوب البعيد ، ولكنها كانت تهمة واهية لا أصل لها ، وكان خائفا من ذلك أ» د الخوف ، ولم يشاوره السلطان فى شىء من أحوال بايزيد ، وكان يشاور على باشا ؛ فأدى الحال إلى ما أدى ، ولو استشار رستم باشا وأطاعه فى أمره لم يتفاقد أمره إلى ما آل إليه بحسن سياسيه ودقة تدبيره ، والأمر إلى الله من قبل ومن بعد وما قدر الله فهو كائن ، والأخطار تدول حول الأخطار ،

٣٠٩

وكم أريق بسبب هذه الفتنة من دم لا ذنب لصاحبه ، وكم قتلت بالتوهم نفس مظلومة لا جرم لهم فى هذه البلاد ونوائبه. شعر :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

واستمر رستم باشا خائفا يترقب إلى أن أمرضه الوهم وأنحله ، فصار فى فراشه يترقب إلى أن وافاه أجله المعتوم ، فمات وأقدم على الله الحى القيوم ، والله أعلم بما تخفى الصدور ، وهو الرؤوف الرحيم ، وكانت وفاته فى سنة ٩٦٨ ه‍ ، ودفن فى تربة قرب تربة الشاه زاده السلطان محمد ـ رحمة الله عليه ورضوانه ـ.

وولى الوزارة العظمى على باشا ، وكان من جنس اليوسنية ، وكان جسيما طويلا وظنا فطنا منهيما نبيلا على خلاف ما ترى من عظم هيكله وسمن بدنه ، فإنها مظنة البلادة فى الأكثر ؛ فإذا أخطأ فيه مقتفاه زادت الفطانة غاية كما تنقل هذه الهيئة عن الإمام محمد صاحب أبى حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ فإنه كان فى غاية الفطنة والذكاء يضرب به المثل فى ذلك ، فكان على باشا له فضله فى الإنشاء ونظر فى التاريخ ، اجتمعت به فى رحلتى إلى أسطنبول فى سنة ٩٦٠ ه‍ ، فو الله لطيف المجاورة حسن المفاكهة لذيذ المصاحبة ، ذكر لى بعض غزواته الدالة على قوة شجاعته ، وأنه باشر قتال الكفار بنفسه وأنه افتتح قلعة عظيمة لهم ، اقتلعها منهم ، فقلت له :

إن لم تقيد ما ذكرتموه بالتدوين يذهب من الخواطر ، ولا يعلم تفصيله بعد مضى سنوات قليلة ؛ فإذا أفنى من كان حاضرا فى هذا الغزا فنى خبره أيضا ، ولم يذكره أحد بعد ذلكي مطلقا ، وينمحى علمه من صفحات الوجود بعد قليل ، وذكرت له اعتناء علماء العرب بعلم التاريخ ، وإن من جملة كتب التاريخ اللطيفة (الروضتين فى أخبار الدولتين) لابن أبى شامه ، ذكر فيها دولة السلطان نور الدين الشهيد والسلطان صلاح الدين بن أيوب وغزواتهما مع إفرنج ، وافتتاح البلاد ، ومداومتهما على الجهاد ، وهو كتاب فى غاية اللطف وحسن الوضع ، باق على صفحات الزمان ، معلوم عند القاضى

٣١٠

والدان ، مخلد فيه ذكرهما ، مؤيد فى أطباق أوراق الدهر أثرهما ، وهما فى الحقيقة أميران من أمرائكم ، أحدهما بكلاربكى مصر ، والثانى بكلاربكى الشام ؛ فلأى معنى لا تكون أخباركم وأثاركم مدونة فى الكتب مخلدة فى صفحات الإعصار والحقب فأعجبه كلامى كثيرا وأمر فاضل ذلك الوقت فى الإنشاء الغاربى صاحبنا المرحوم المقدّس مولانا على جلبى الحميرى المعروف ب «فتن لوزاده أفندى» ، أحد أفراد الدهر وفضلائه ، أوحد علماء العصر كمالا ونيلا (طيب الله ثراه وجعل الفردوس أعلى مثواه) أن يكتب له شيئا من ذلك ؛ فشرع وأنا هناك فى شىء من ذلك المعنى فائق فى بابه لطافة وحسنا ، ثم تقلبت الليالى والأيام ومنعت الموانع من حصول ذلك المرام.

شعر :

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنّها وكأنّهم أحلام

واستمر على باشا على وزارته العظمى فى صدر صدراته الأجل الأسمى ينافد الأمر علىّ القدر صاحب الصدر إلى أن نقله الدهر عن صدارته ، ورماه الزمان عن قوس وزارته ، ودعاه داعى الفناء إلى حضرته وسقاه الحمام كأس منيته ؛ فعاش سعيدا ومضى إلى الحده فريدا وحيدا ، وانتقل من دار الفناء إلى البقاء حميدا ، وما صحبه مما بحوله غير ما قدمه من أعماله ، وأقدم على الله الكريم بما كسب من أفعاله وهو أرحم الراحمين.

ثم ولى مكانه وزارة العظمى فى ذلك المقام الرفيع ، أصف الوزراء العظام محمد باشا ـ أبقاه الله تعالى ـ وصدر الصدارة على الثبات والدوام ، وصانه من آفات الدهر ، وحرسه من نوائب الزمان والأيام ؛ وناهيك به عقلا وحرصا وضرامة وعزما وإقداما وحزما ودقة وفهما وفكرا باقيا ورأيا صائبا وحذقا وفطنة وصدقا وأمانة وكمالا وجمالا ومهابة وجلالا وسعادة وإقبالا ونظرا فى عواقب الأمور ، وأعانه لصالح الجمهور ، ومحبة للعلم وللعلماء ، واعتقادا فى الصلحاء والأولياء ، وإحسانا إلى الفقراء والضعفاء ، ومما قيل :

وما بلغت كف امرئ متناولا

من المجد إلا والذى نال أطول

٣١١

وما بلغ المهدون للناس مدحه

وإن أطنبوا إلا الذى فيه أكمل

وكانت وزارته فى سنة ٩٧٢ ه‍ ، واستمر على وزارته وعظمته وصدارته إلى أن أظهر اليد البيضاء ، وكمال التدبير والمضى ، بحيث تحير العقلاء فى بيان جأشه وعدم نفرته واستيحاشه ، وضبط الجيش الأعظم وحفظ الخميس القرموم ، وهم فى أرض العداء وفى حومة القتال وقوة الحرب والكيّال وشدة الجدال والجلاد.

وقد توفى السلطان سليمان فى ذلك الحال ، فلم يقع شىء من الاختلال ، وانتظمت الأموال ، وأخذت قلعة مكنوار من القزال ، وهى محشوة بالعدد والعدد من الأفرنج الأبطال ، والسلطان فى السكرات والغمرات ، وكتم ذلك عن جميع خدامه ومن حوله من الأغاوات ، وأرسل إلى ولده السلطان السليم من مسافة ستين يوما وأجلسه على التخت ، وما وضعت الحرب أوزارها ، بل أضرمت المجاهدون نارها ، وغنمت المسلمون ، وأخذل الله فى هذا الحال طوائف الكفار اللئام ، وكان ذلك الاحتيال والتدبير بتدبير هذا الوزير الحاذق الفطن الكئيب ، ورائيه المنير الثاقب المصيب ، وتدارك بما يجب تداركه بالقلب الرحيم ، وكل ذلك الإلهام من الله الرقيب القريب.

هذا مع كثرة إحسانه ، وتواتر إنعامه ، وتوالى الطافة وإسعافه وإكرامه سيما أهل الحرمين الشريفين والتصدق عليهم ، والنظر باللطف والرأفة إليهم ، والإنعام فى كل عام على عموم الفقراء والصلحاء بألف دينار ، فأكثر الصدقة ومن عين ماله وأعماله الخير فى الحرمين الشريفين ، وأجرى عيونا ، وحفر آبارا وأربطة وأبنية للفقراء ، وغير ذلك من المآثرر الجليلة والخيرات الوافرة الجزيلة التى يحتمل أن تفرد بالتأليف ، وتورد فى تصنيف جليل لطيف ، وله مآثر فى أكثر بلاد الإسلام ، وقد أجرى عين الزّرقا بالمدينة الشريفة بعد ضعفها ، وأضاف إليها آبارا ، ومنها بئر «أريس» ، وهى بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية ؛ وأعمال خير معروفة بقباء ، من أعذب آبار المدينة.

ذكر المجد (الفيروزبادى) أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفل فيها ، ووقع خاتم النبى

٣١٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يد سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه وهو جالس فى حافة البئر ؛ وقد نزع الخاتم الشريف من يده ؛ فسقط فى البئر ؛ فأنزل فيها رجلا فلم يظفر به ، وركب عليهما اثنى عشر نازحا لينزحوها ؛ فغلبهم الماء ، ولم يوجد الخاتم فى عصرنا ، حمل حضرة الوزير الأعظم وبلا من مائها إلى مصب عين الزّرقا ، وصرف على ذلك أموالا جزيلة ؛ فقويت العين ، وأضاف إليها آبار مياه أخرى حلوى ، قوّى بها جريان عين الزّرقا ، إلى أن أجرى وبلا من مائها إلى باب الرحمة ، وجعل فيها موضعا يتوضأ فيه الناس لدخول المسجد الشريف ، وأجرى وبلا من مائها إلى حمام عظيم مكلف بناه فى المدينة الشريفة ، انتفع أهل المدينة والزوار ، ودعوا له بالخير ، وصار ثوابا جاريبا.

ومن خيراته : أنه وسع بئر ذى الحليفة ، ويقال لها : بئر على ، وهو ميقات أهل المدينة وأهل الشام للإحرام لدخول مكة ؛ فحفرها ونزل فى الأرض إلى أن جعل وجه الماء عشر فى عشر ؛ لأن لا ينجس بوقوع النجاسة فيها ، وجعل أحد جوانبها الأربع درجات تنزل من أعلاه إلى أسفله ، حيث كان محل الماء ، فصار كل واحد يرد إليه بسهولة ، بلا تكلف ولا احتياج إلى دلو وجهد ، وغير ذلك ، وهذا خير جزيل عظيم وثواب كثير جميل لا ينقطع أثره ، ولا يفنى خبره.

ومنها : أنه أمر أن يبنى له بمكة المشرفة بقرب الحرم الشريف موضع يكون مأوى للفقراء صونبا للمسجد الحرام عنهم ، وأن يبنى فيه مصاطب ومباسط تصلح للمرضى فتكون دار الشفاء لهم ، وأن يبنى من الخارج دكاكين وبيوت تكرى وتصرف فى مصالح هذا المكان ، وأمر ببناء حمام ـ فى وسط البلد ـ عظيمة الشأن طيب الهواء والماء ، وله رباط أخرى أيضا ، وخيرات كلها مثوبات عظمى ، ووردت صدقاته فى سنة ٩٧٤ ه‍ مضاعفة ؛ ففرقت فى المسجد الشريف على الضعفاء والفقراء ، وتضاعف الدعاء منهم بحضرته الشريفة ولنجله السعيد ، بلغه الله ـ تعالى ـ مراتب الكمال ورزقه السعادة والإقبال ، والله تعالى يطيل بقاؤه ويديم عزه وعلاه ، ويثبت وزارته العظمى

٣١٣

ويبقيه فى صدر الصدارة الكبرى ، ما دامت الدنيا محفوظا بالملائكة الكرام ، محروسا بعين الله الحى الذى لا ينام ، مصونا من نوائب الليالى والأيام ؛ بجاه محمد سيد الأنام (عليه أشرف الصلاة والسلام) :

وهذا دعاء شامل النفع للورى

فيا رب قابل بالقبول دعائى

* * *

(فصل فى ذكر غزوات السلطان سليمان خان

عليه الرحمة والرضوان)

وكان السلطان المرحوم المغفور محبا للجهاد فى سبيل الله باذلا نفسه وخزائنه ، بإعلاء كلمة الله ، يؤثر التعب فى ذلك على الراحة ، ويجب الغزو ، ويرغب إليه عن الاستراحة ، بحيث لم ترتفع راية الإسيلام عن رأس من السلاطين العظام أكثر جهادا ونصرة للدين ، وأكمل عدة وآله لقطع دابر المشركين ، وأكبر ملكا وسلطانا ، وأكثر جيوشا وأعوانا ، وأقطع سبقا وسنانا ، وأحمى للإسلام وذويه ، وأوفى للشرك ومتحليه ، وأعدى للإفرنج اللعين ، وأقع للكفرة والملحدين ، وأقوى نصرة للإسلام والمسلمين.

وأشد عضدا لأهل الإيمان ، وأنصر لأهل الشرف فى هذا الزمان من السلطان سليمان ، فكم روح بلاد الكفر واستباها ، وداس أرض الأعداء بحافر فرسه وأجناحها ، وجاس خلال معانيها ورباعها ، وافتتح صياخينها وقلاعها ، وأخرب معاهد الأصنام ، وبنى مساجد الإسلام.

فلو نشرت صفحات الدول لكانت دولته غرة تلك الدول ، ولو عددت فتوحات السلاطين لكانت ساحة طراز تلك الحلل ، وإن غزواته إفرادها بالتأليف يسقى من صفحات الدهر ذكرها الشريف.

وأما هذا التصنيف اللطيف فلا يسع فيها الطفيف ، فليذكرها إجمالا فى هذهب العاجلة ، ونعدد أسماؤها فى غضون هذه الرسالة ، فإن فتح الله فى الأجل ، وساعد العمد على ذلك الأمل ، حررنا لآل عثمان تاريخا جليلا وكتابا حافظا طويلا ، يستفد فيه علم العرب والعجم ما يجدونه فى كتب

٣١٤

تواريخ الأمم ، إن شاء الله تعالى ، فأقول : «أوّل غزواته لمّا ولى السلطانة غزوة أنكروس ، برز إليها من القسطنطينية العظمى لإحدى عشر ليلة خلت من جمادى الآخر سنة ٩٢٧ ه‍ ، بعسكر جرار ، وجيش كرار عظيم المقدار ، يدك الأرض دكا ، ويصك الجبال الراسيات صكا ، فلمّا وصلوا إلى ديار الكفار جاسوا خلالها ، ونازلوا أبطالها ، وقتلوا رجالها ، وسبوا أطفالها ، ونهبوا متاعها وأموالها ، وفتحوا حصونها وقلاعها ، وملكوا الأرض وبقاعها ، ومن أعظم ما افتتح من البلاد قلعة بلغراط ، وهن قلعة محكمة منيعة باقية إلى الآن بيد المسلمين ، وأسدوا الأسارت الأسيرة.

وعاد السلطان إلى دار مملكته سالما غانما منصورا ، مؤيد بنصر الله تعالى ، ظافرا مسرورا ، وزينت البلاد لانتصاره وفرح المسلمون ، وكان الله من أنصاره وذلك أول فتوحاته وغدة أسفاره وغزواته ، وكانت عوده إلى سرير ملكه فى شهر ذى القعدة الحرام سنة ٢٧ ه‍.

وفى هذا العام عصى جان بردى الغزالى الجركسى أمير الأمراء بالشام ، وجمع طائفة من عصاة العرب ، وبعض أشقياء الجراكسة وادّعى السلطنة ، وخطب لنفسه ؛ فجهز عليه فرهاد باشا وقاتله فيما تقرب الصالحية ومسكه وقطع رأسه ، وأرسل بها إلى الباب العالى ، وكفى الله أمره ودرأ عن المسلمين فتنته وشده ، وذلك لسبع مضين من شهر صفر الخير سنة ٩٣٩ ه‍. والله سبحانه وتعالى أعلم بذلك.

الغزوة الثانية : وهى غزوة رودس وهى جزيرة فى وسط البحر ما بين أسطنبول ومصر ، وبنى بها الكفار حصنا حصينا وحصارا فى غاية الاستحكام مكينا ، اتخذه الكفار مكمنا لأخذ المسلمين ، وأتقنوه غاية الإتقان والتمكين ، بحيث رسخ أساسه إلى تخوم الأرضين ، وارتفع رأسه جوم السرطين والبطين ، ينظرون من أعلى القلعة السفائن التى تمر فى البحر من مسافة بعيدة ؛ فيتهيئون للتحصين ، إن كان ذلك عسكرا من المسلمين ، ويأخذونهم إن كانوا من سفار البحر ، واتخذته النصارى معبدا يجهزون أموالهم إليه فى استحكام بنائه وإتقانه ، وجعلوه من أعلاه إلى أسفله فى جميع جوانبه ثقوبا ، وضعوا

٣١٥

فيه المدافع الكثيرة ، ترمى على من يقصدها من الخارج ؛ فتصيب كل من قصدها فى جهة من الجهات ، ولها باب من حديد وسلسلة عظيمة فى وسط البحر تمنع الراكب من الوصول إلى الباب ، ويهيئون أغرية مشحونة بالسلاسل والمدافع والمقاتلة ، إذا أحسوا بسفينة فى البحر من الحجاج والتجار ، أخرجوا إليها تلك الأغربة ، وأخذوها ونهبوا ما فيها من الأموال ، وأسروا المسلمين ، فيقطعون الطريق على هذا الأساول ، ويجمعون الأموال ، ويصرفونها على مقاتلهم ، وكان هذا دأبهم ، وعجز المسلمون ، وعم عزاهم المسلمين ، فتجهز السلطان بعسكره المنصور إلى أخذ هذه الجزيرة ، وكان سفره الميمون إليها ، ونزول مخيمه الشريف فى أسكور متوجها إلى هذه الغزوة لعشر بقين من شهر رجب سنة ٩٣٨ ه‍ ، وكان وصوله إلى رودس ونزوله عليها فى شهر رمضان من السنة المذكورة ، فأحاط بها برا وبحرا ، وما أمكن من فى الأرض أن يقرب من حصار رودس للخندق العظيم الذى حولها ، ما أمكن من فى الأرض أيقرب لها من صونه بالمدافع العظيمة من أعلى الحصار ، وما أمكن من فى الأرض القرب للسلسلة الممدودة من الحديد فى البحر والرمى على من يقربها بالمدافع الكبار ، فصاروا يصيبون المسلمين بالمدافع ولا تصيبهم مدافع المسلمين ؛ لمتانة عرض الحصار وعدم تأثير المدافع فيه ، فتأخرت عساكر البحر قليلا ، وأمروا بسوق الرمل والتراب أمثال الجمال وتترسوا بها ، وصاروا يقدمون قليلا قليلا ، إلى أن وصل التراب إلى الخندق وامتلأ به ، وقرب من جدار الحصار ، وارتفع عليه ، وصار الكفار الفجار تحت المسلمين يصابون ولا يصيبون ، ورموا عليهم النار ، وأحرقوهم بنار الدنيا قبل نار الآخرة ، إلى أن عجزوا ووهنوا وتحققوا إنهم مأخوذون.

فطلبوا من السلطان سليمان الأمان ، وشرطوا أن يحملوا نساءهم وأطفالهم وأولادهم ونقودهم ويعزوا أين أرادوا ، ولا يتعرض لهم أحد من الجند ، فأجابهم السلطان إلى ذلك بعد أن نهاه الوزير عن أمانهم ، فإنهم لم يبق لهم منعة ولا قوة ، وإن الأموال التى أرادوا حملها خزينة كبيرة ، وإن هؤلاء الكفار إذا نجوا بهذه الخزينة أمكنهم التقوى بها ، وجمع العسكر من

٣١٦

النصارى ، والعود إلى أذى المسلمين ، فلم يصغ السلطان إلى قولهم ومنعهم ، وأعطاهم الأمان ، وخرجوا الجميع بأموالهم إلى جزيرة الأندلس فى غاية الحصار والمتانة ، ويقال له مالطة ، وصاروا يؤذون المسلمين ، ويقطعون الطريق على الحجاج والسفار ، وهم الآن وإن تعدوا عن المسلمين ، إلا أن أذاهم كثير ، وأفادهم عظيم.

وقد ندم السلطان سليمان على إعطاء الأمان وأرسل إليهم عمارة بعسكر جرار لأخذهم واستئصالهم أخر عمره ، وجعل عليهم مصطفى باشا الوزير الأسقدياوى سروان.

فوقع بينه وبين القبوذان مخالفة أدت إلى انكسار المسلمين ، فكان فى ضمير المرحوم تدارك هذا الأمر وإرسال عسكر أخر لأخذ مالطة وقهرها ، فما أمهله العمر رحمه‌الله تعالى.

وكان فتح رودس لست مضين من شهر صفر الخير سنة ٩٣٩ ه‍ ، وحصل لأهل الإسلام غاية الفرح والسرور بهذا الفتح العظيم وعمل الناس لذلك تواريخا ألظفها يفرح المؤمنون بنصر الله.

وفتحت أيضا عدة قلاع فى ذلك العام ، منها استان كوى وقلعة بودرم ، وقلعة أندوس ، وغير ذلك من القلاع ، أخذت من الكفار الفجار ، وصارت فى ضبط العساكر المنصورة السليمانية.

وأرسل السلطان من وزرائه فرهاد باشا مع عسكر إلى على بيك بن شاه سوار أمير مراد خان ، فإنه كان يظهر الطاعة ويبطن العصيان ، فاستدعاه إلى عنده ، وأظهر أنه وصل إليه بخلع سلطانية وتشاريف فاخرة خاقانية له ولأولاده ، فوصل إليه على بيك ابن شاه سوار مع أولاده الخمسة ، فأدخلهم فرهاد باشا إلى محل خلوته ، وأمر بقتلهم ؛ فقطعت رؤسهم ، وجهزت إلى الديوان الشريف ، وضبطت بلاده ، وكفى الله تعالى شده ، وذهب فساده من البلاد.

كل ذلك فى سنة ٩٣١ ه‍ ، وفى هذا العام خرج كاشف الشرقية الأمير

٣١٧

جانم الجركسى عن الطاعة ، وخرج معه كاشف البحيرة إنياك بيك ، واجتمع عليهما طائفة من الجراكسة المناجة وجماعة من عصاة العرب الأبالسة ، وأظهروا العصيان ، وأبدوا الخلاف والطغيان.

فأرسل عليهم بكلاربكى مصر يومئذ مصطفى باشا عسكرا ، فقاتلوه فقتلا وقطعت رؤوسهما ، وعلقت زويله ، ثم أرسلت إلى الأبواب العالية وكانت فتنة درأ الله تعالى شرها ، وكفى المسلمين أمرها ، وذلك فى محرم سنة ٩٣١ ه‍.

الغزوة الثالثة : عود السلطان سليمان إلى كفار أنكدوس ثانيا ، فإن ملك أنكروس المسمى قيراز ظهر منه الخلاف والجدال ، فتوجه إليه لقطع جادته ، ومحو أثره وعادته ، السلطان المرحوم بالجيش الأعظم والجيش العرمرم ، وضرب أوطاقه المظفر فى حلقة لوبكار لإحدى عشر ليلة خلت من رجب الموجب سنة ٩٣٢ ه‍.

ثم وصل بالعساكر المنصورة إلى أن وصل إلى نهر طراوة ، وبنى عليه جسر من السيفائن ، وعد العسكر المنصور على الجسر ، واستمر إلى أن وصل بدون ، فقاتل قزال الملعون ، بقين من ذى الحجة سنة ٩٣٢ ه‍.

وفى ذلك الحرب الشديد أنكر قزال الكافر العنيد ، وانتصرت جبيوش الإسلام ، وتفرقت عباد الصليب والأصنام ، وافتتحت فى هذه الغزوة عدة من القلاع المشهورة ، والحصون المعمورة الشديدة ، وصارت من جملة مضافات الممالك الشريفة السلطانية والأقاليم المحروسة المحمية الخاقانية ، من جملة قلعة أويل ، وقلعة مراوان ، وقلعة راجه ، وقلعة برقاص ، وقلعة بوكاى ، وقلعة ركئوار ، وغيرها من قلاع الكفار وحصون أولئك الفجار ، وأعظمها قلعة مردون محل تحت أنكروس الملعون.

فإنها قلعة راسخة البناء ، عالية الفضاء ، سامية إلى عنوان السماء ، تناطح الثريّا ، وتسامى السماء ، وتطاول الجوزاء ، فى غاية الثبات والإتقان واستحكام الوضع والبنيان ، وهى تحت سلاطين أنكروس ، ومقر سلطنتهم المنحوس ، وعند ما أحاط بها حضرة السيلطان وجنوده أهل الإيمان علم من

٣١٨

كان فيها من جنود الشيطان ، فخرجوا منها ، وهربوا ، وطلبت الرعايات الأمان ، فأمنهم حضرة السلطان ، وضبطت البلاد ، ووضع فيها عساكر تحفظها من العدوان ، وغنم كثير من الأموال ، والأنفس والأرواح.

وفتك بأعداء الإسلام ، وسفك دمهم المطلول المباح ، وعاد إلى قصر سلطنته ، ودار مملكته ، سعيدا ، مظفرا ، منصورا ، فوصل سرير السعادة ، وتخت الملك والسيادة ، فى أواخر شهر ذى القعدة الحرام سنة ٩٣٢ ه‍.

الغزوة الرابعة : غزوة بيج.

اجتمعت كفارها اللئام وبمخة قزال وفوندوس ، وغاروا على قلعة بدون ، أخذوا من المسلمين على مر ، فتوجه السلطان إلى دفعهم وقلعهم ، وجمعهم وبرز من أسطنبول إلى حلقة لوبكار لليلتين مضتا من رمضان سنة ٩٣٥ ه‍.

واستمر راحلا إلى أن وصل إلى المخيم العالى ؛ فإذا امرأة من ملوك أنكروس اسمها أزوال بانود داست البساط الشريف السلطانى ، والتزمت بأداء خراج بلاد الأنكروس كل عام ، فقوبلت من الحضرة الشريفة السلطانية بالقبول ، وخلع عليها الخلع الفاخرة ، وكتب لها الأحكام الشريفة بالأمان ، وعادت إلى بلادها فى أواسط ذى القعدة سنة ٩٣٠ ه‍.

واستمر الوطاق الشريف السلطانى إلى أن وصل العسكر المنصور الخاقانى قلعة بورون ، وأحاطوا بها إحاطة الأطواق بالأعناق ، وبياض العين بسواد الأحداث ، فى أواسط ذى الحجة من السنة المذكورة إلى أن فتح الله بورون ، وسائر البلاد ، وخذل أهل الكفر والعناد ، وولوا هاربين ومأسورين ومقتولين بعد الحرب الشديد ، لأربع مضين من محرم الحرام سنة ٩٣٦ ه‍.

ثم افتتحت قلعة تساق حصارى ، ثم توجه الجند المذكور إلى قلعة بيج ، وهى محل تحت بمخة قزال الخائب الآمال ، وأحاط بها مخيم سرداقات الفتح والنصر القريب ، بالعسكر المنصور المظفر من عند الله ، القريب المجيب ، وهرب منها قزال المذبول ، وهو مدبر مكسور ، وطلب أهل القلعة الأمان ، وأتوا بمفاتيحها إلى حضرة السلطان ، فأعطاهم الأمان ، وأخذ قلعة بيج ،

٣١٩

وهى مني أعظم قلاع الكفار المحكمة الراسخة القرار ، الرافعة المنار ، وذلك لليلتين بقيتا من شهر المحرم سنة ٩٣٦ ه‍.

ولما كانت القلعة المذبورة بعيدة عن حدود ممالك الإسلام غير مأمونة من هجوم الكفار اللئام ، أمر الحضرة السلطانية بهدمها ، فهدمت ، وأخربت ، ونهبت أطراف تلك القلعة ، وسبيت أولاد النصارى ، ونساؤهم ، وتركت خرابا ، وعادت الحضرة السلطانية إلى تخت الملك بالنصر والتأييد ، والعز المشيد ، والفتح الجديد ، فوصل إلى أسطنبول فى أوائل شهر ربيع الآخر سنة ٩٣٤ ه‍.

الغزوة الخامسة : غزوة المان.

لما وصلت الأخبار إلى الأبواب السلطانية أن بمخة قزال جمع طائفة من كبار المان ، وأراد الإفساد ، والطغيان ، توجه السلطان سليمان الغازى فى سبيل الله إلى أن قتل هذا الكافر اللعين ، وحك اسمه من صحيفة الوجود ، بعون الملك المعين.

وبرز من دار الإسلام أسطنبول إلى الحليفة لوبكار ، لعشر ليال بقين من شهر رمضان المبارك عام ٩٣٨ ه‍ ، وأرسل فى البحر لحفظ وجه البحر من النصارى ، وضبط الأسافل والسواحل ، أمير الأمراء الكرام أحمد باشا القبودان ، عشرين غرابا مشحونا بالأبطال ، لأهل الصفاح والكفاح ، تطير بأجنحة الرياح من غير جناح ، فى أوائل شهر شعبان المكرم من السنة المذكورة ، وافتتح عدة قلاع من بلاد الإفرنج الكفار ، وأرغبوا الكفار ، وأعجلوا بهم إلى عذاب النار ، فبرز المخيم الشريف السلطانى مع الجيش المنصورى الخاقانى إلى مملكة المان ، وحاربوا وسبوا من ذرارى الكفار ألادا كالنجوم الدرارى ، ومن البنات والنساء خوابد كالكنس الجوارى ، ونهبوا الأموال ، وقتلوا البطال ، وركبوا الرجال ، وهربوا ملوكهم ، وتركوا رعيتهم وصعلوكهم ، وبذلوا ما بقى من الأموال والذخائر على بذل الأموال لهم ، ثلاثة أعوام ، فأجيبوا من جانب السلطنة الشريفة إلى سؤالهم ، وكتب لهم بذاك توقيع الأمان لترقيع حالهم.

٣٢٠