كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

قال : حدثنى جدى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحسن بنى القاسم ابن عتبة عن أبيه ، قال : زاد عبد الله بن الزبير فى المسجد الحرام ؛ فاشترى دورا ودخلها فى المسجد ، وكان ممن اشترى بعض دارنا ـ يعنى دار جدنا الأزرق ـ وكانت لاصقة بالمسجد الحرام ، وبابها شارع على باب بنى شيبة ، على يسار الداخل إلى المسجد الحرام ، وكانت دورا كثيرة اشترى بعضها ببضعة عشر ألف دينار ، وأدخله إلى المسجد الحرام ، وكتب لنا ، إلى أخيه مصعب بن الزبير بالعراق يدفعها إلينتا.

قال : فركب رجل منا إلى العراق فوجدوا مصعبا يقاتل عبد الملك بن مروان ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى قتل مصعب ورجعوا إلى مكة ، فصار ابني الزبير يعدنا ويدافعنا حتى جاء حتى جاء الحجاج بن يوسف وحاصره ، وقتل ، ولم يأخذ منه شىء».

قال : وذكر جدى أنه سمع بعض مشايخه أهل مكة يذكرون : أن عبد الله ابن الزبير سقف المسجد غير أنهم لا يدرون أكله سقف أم بعضه»؟

قال : «ثم عمره عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه ؛ لكنه رفع جدرانه وسقفه بالساج ، وعمر عمارة حسنة».

قال : «وحدثنى جدى عن سفيان بن عيينة ، عن سعيد بن فرقد ، عن أبيه ، قال : كنت على عمل المسجد فى زمان عبد الملك بن مروان ؛ فأمر أن يجعل فى رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا من الذهب».

قال : «وروى جدى عن سفيان ، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن حفيدة عن داوان بن روح قال : مسجد الكوفة تسعة أجزئة ، ومسجد مكة سبعة أجزئه ، وذلك فى زمان عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه».

* ذكر عمارة الوليد بن عبد الملك للمسجد الحرام :

قال شيخ شيوخنا الحافظ السيوطى (رحمه‌الله تعالى) : كان الوليد جبارا ، أخرج أبو نعيم.

١٢١

قال عمر بن عبد العزيز : الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وعثمان بن عباد بالحجاز ، وفرقد بن يزيد بمصر : امتلأت الأرض جورا وظلما.

قال الحافظ السيوطى (رحمه‌الله تعالى) : لكنه أقام الجهاد فى أيامه ، وفتحت فى دولته الفتوحات العظيمة كأيام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وقال ابن أبى عبيدة : وأين مثل الوليد؟ افتتح الهند واليمن والأندلس ، وبنى مسجده دمشق ، وكتب بتوسيع المسجد النبوى وبنائه.

قال أبو الوليد الأزرقى : «قال جدى : عمر حدد الوليد بن عبد الملك ، ونقض عمل عبد الملك ، وعمل عملا محكما ، وكان إذا عمل المساجد زخرفها ، وهو أول من نقل الأساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف ، وجعل على رأس الأساطين صفائح الذهب ، وأزان المسجد بالرخام ، وجعل للمسجد سرادقات».

قال النجم عمر بن فهد (رحمه‌الله تعالى) : «بعث الوليد بن عبد الملك إلى واليه إلى مكة خالد بن عبد الله الأسلاى بستة وثلاثين ألف دينار يضرب بها على باب الكعبة صفائح الذهب وعلى ميزاب الكعبة وعلى الأساطين ، التى فى باطنها ، وعلى الأركان التى فى جوفها ، ويقال : إن الحلية التى حلاها الوليد بن عبد الملك الكعبة هى ما كانت فى مائدة سليمان داود من ذهب وفضة ، وكانت قد احتملت مكن طليطلة من جزيرة الأندلس على نغل قوى ، تفسخ بها ، وكانت بها أطواق من ياقوت وزبرجد.

* * *

١٢٢

الباب الرابع

فى ذكر ما زاد العباسيون فى المسجد الحرام لما انطوى بساط

ملك بنى مروان ، وآل إلى آل العباس الأمرة والسلاطين

مزقت بنى أمية كل ممزق ، وفتق الدهر حلل أثيابهم ومزق وحرق بنار اللهيب لباسهم وحرق ، وكان رقص لهم الدهر ، وصفق ، وكان يعور أموالهم بمواسم وغرر أيامهم بصنوف اللهو مواسم ورياح عزتهم فى أرض عزتهم بواسم.

وكانت تضيق بجيوشهم الفضاء ، وتجرى على حسب مطلوبهم خيول القدر والقضاء ، ثم انحرقت عنهم الأيام فأظلمت غرر إشراقهم ، وأزوى بلهيب العكس يانع أوراقهم ، فأدمتهم بصواعق إرعادهم ، وإبراقهم ، فلم يدفع عنهم الرمح ولا الحسام.

ولم ينفع ما سبق لهم من المن الحسام ، وأذاقوا الموت الأحمر مروان الحمار ، ونزع من تحت الملك التى تحت حافر الحمار ، فما بكت عليهم السماء والأرض ، وما بقى لهم إلا ما قدموه من نفل وفرض ، ونزعوا من الأثواب إلى بطن التراب ، وسيقوا للحساب إلى يوم الحساب.

فوفاء لدينا لا وفا فيها لبننيها ، ولا بقا لحالتى تمنيها وتحينها ولا ارتقى فيها على مجليها ، ذللت عزة عاد وهدمت قصر شداد ، وأخربت إرم ذات العماد ، فاق على الدنيا وزخرفها.

والحذر الحذر من هجوم صرفها وتصرفها ، كم نادتهم ، حذار حذار من بطش وفتكى.

١٢٣

وكم صاحت عليهم ، لا تغتر ، وانصحكى ، ولا يغرركم منى ابتسام ، فقولى : مضحك ، والفعل مبك.

وكانت مدة ملكهم ألف شهر ، وكان ما تحملوه من الوزر والقهر ، تلك المدة كالمهر ، وجعل الله تعالى لبيت النبوة عوض ذلك ، ليلة القدر : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(١).

قال الحافظ شيخ الإسلام السيوطى (رحمه‌الله تعالى) فى الدر المنثور : «أخرج ابن أبى حاتم ، عمر رضي‌الله‌عنهما ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (رأيت ولد الحكم بن العاص على المنابر ، كأنهم القردة ، وأنزل الله فى ذلك : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(٢) ، والشجرة الملعونة فى القرآن ـ يعنى الحكم وولده)».

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة فى القرآن».

وأخرج ابن مردويه ، عن الحسن بن على رضي‌الله‌عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أصبح وهو مهموم ، فقيل له : مالك يا رسول الله ، قال : «إنى رأيت فى المنام كأن بنى أمية يتعاورون منبرى» هذا ، فقيل : يا رسول الله ، لا تهتم ، فإنها دنياتنا لهم ، فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(٢).

قال ابن عطية فى تفسيره : ولا يدخل فى هذه الرؤيا عثمان رضي‌الله‌عنه ، ولا معاوية ، ولا عمر بن عبد العزيز. انتهى.

وما كانت فى هذه الحقيقة ولاية بنى أمية إلا فتنة للناس ، وآل الملك بعدهم إلى آل العباس ، وأضحكهم الدهر بعد العبوس والبأس ، وألبسهم حلل

__________________

(١) الآية رقم ٢ ، ٣ من سورة القدر ، مكيتان.

(٢) الآية رقم ٦٠ من سورة الإسراء ، مكية.

(٢) الآية رقم ٦٠ من سورة الإسراء ، مكية.

١٢٤

الأمر والنهى ، وأفرحهم بذلك الإلباس ، وآنسهم بعد الوحشة ، وما دام لهم ذلك الإيناس ، وهكذا الدنيا تدول وتدال ، وما زال علكل زمان دولة ورجال ، أول من ولى منهم السفاح أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بني عبد الله بن العباس رضي‌الله‌عنهم ، وكان أصغر من أخيه أبى جعفر المنصور.

قال ابن جرير الطبرى : كان بدوء أمر بنى العباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم العباس عمه ، أن الخلافة تؤول إلى ولده ، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك إلى أن بويع لابنه محمد سرا ، فلما مات محمد عهد لولده إبراهيم فسجنه مروان ، وقتله فى الحبس ، فعهد إبراهيم لأخيه عبد الله هذا ، وبويع فى الكوفة فى ثالث ربيع الأول سنة ١٣٢ ه‍ ، وكان مولده سنة ١٠٨ ه‍ ، وتوفى بالجدرى فى ذى الحجة سنة ١٣٦ ه‍.

وكان نقش خاتمه : الله ثقة عبد الله ، وبه يؤمن ، وكان عدولا سفلحا قتل فى مبايعته من بنى أمية وأتباعهم لا يحصى كثرة ، وتوطدت له الممالك من الشرق إلى أقصى الغرب ، وكان عمره ثمانية وعشرون عاما ، ومدة إمارته أربعة أعوام ، وجرت عادة الله فى الملوك والسلاطين قصر أعمار من أكثر سفك الدماء منهم.

وولى بعده أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور ، هو أحسن من أخيه ، وبويع له من أخيه ، فى أول سنة ١٣٧ ه‍ ، وكان ظلوما عشوما ، هو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين ، وقتل الأخوين محمد وإبراهيم ابنى محمد بن عبد الله بن الحسن بن على رضي‌الله‌عنهم.

وكانا خرجا عليه ، وآذى بسببهما خلقا كثير من العلماء قتلا وضربا ـ ممن أفتى بجواز الخروج عليه ـ منهم الإمام أبى حنيفة (رضى الله تعالى عنه) ، أكرهه على القضاء ؛ فأبى ، فسجنه فمات فى السجن.

وقيل : إنه سمه فى السجن لكونه أفتى بجواز الخروج عليه ، وسمى لنجله أبا الدوانق ؛ لمحاسبة العمال والصناع على الدانق والحبة.

١٢٥

وقتل أبا مسلم الخراسانى ، وهو الذى قام بدعوة الناس إلى بنى العباس ، وشرح ذلك يطول.

ووليت له المماليك ، ودانت له الأمصار ، ولم يخرج عنه غير جزيرة الأندلس ؛ ملكها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموى ، وانفرد بالأندلس ، وطالت مدته ، وملكها أبوه واستمرت فى يدهم مدة.

وفى المحرم سنة ١٣٨ ه‍ ، قيل : وفى سنة ٨٣٩ ه‍ : أمر أبو جعفر المنصور بالزيادة فى المسجد الحرام ؛ فزيد فى شقه الشامى الذى يلى دار الندوة ، وزاد فى أسفله إلى أن انتهى إلى المنارة التى فى ركن باب بنى سهم ، ولم يزد فى الجانب الجنوبى شيئا ؛ لاتصاله بمسيل الوادى وصعوبة البناء فيه وعدم ثباته إذا قوى السيل عليه ، وكذلك لم يزل فى أعلا المسجد.

واشترى من الناس دورهم وهدمها ، وأدخلها فى المسجد الحرام ، وكان الذى ولى عمارة المسجد لأبى جعفر أمير مكة يومئذ من جانبه زياد بن عبد الله الحارثى ، وكان من شرطة عبد العزيز بن عبد الله بن مسافع ، جد نافع بني عبد الرحمن الشيبى ، وكان زياد أجحف بدار شيبة بن عثمان ، وأدخل كثيرها فى الجانب الأعلا من المسجد ، فتكلم مع زياد فى أن يميل عنه قليلا ففعل ، وكان فى هذا المحل أزورار فى المسجد ، وأمر أبو جعفر المنصور بعمارة منارة هناك ؛ فعملت.

واتصل عمله فى أعلا المسجد بعمل الوليد بن عبد الملك ، وكان عمل أبو جعفر طاقا واحدا بأساطين الرخام ، دائرا على صحن المسجد ، وكان الذى زاد فيه مقدار الضعف مما كان قبله.

وزخرف المسجد بالفسيفساء والذهب ، وزينه بأنواع النقوش ، ورخم الحجر ؛ بالحاء المهملة المكسورة ثم الجيم ، وهو أول من رخمه.

وكان كل ذلك على يد زياد بن عبد الله الحارثى ، وإلى الحرمين والطائف من قبل المنصور ، وفرغ من ذلك فى عامين ، وقيل فى ثلاثة أعوام.

١٢٦

وكتب على باب بنى جمح ، أحد أبواب المسجد الحرام من جهة الصفا :

بسم الله الرحمن الرحيم ، محمد رسول الله ، أرسله بالهدى ، ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (١) ، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً ، وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(٢) ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٣).

أمر عبد الله أمير المؤمنين (أكرمه الله تعالى) بتوسعة المسجد الحرام وعمارته والزيادة فيه ؛ نظرا منه للمسلمين واهتماما بأمورهم ، والذى زاد فيه الضعف مما كان عليه قبل ، وفرغ منه ، ورفعت الأيدى عنه فى ذى الحجة سنة ١١ ه‍ ، وذلك بتيسير الله تعالى على أمير المؤمنين ، وحسن رعايته وكفايته وإكرامه له بأعظم كرامة.

وأعظم الله تعالى أجر أمير المؤمنين فيما نوى من توسعة المسجد الحرام ، وأحسن ثوابه ، وجمع له بين خيرى الدنيا والآخرة ، وأعز نصره وأيده آمين.

وحج المنصور فى ذلك العام ، وأحرم من الحيرة ، وبذل على نجله الأموال العظيمة ، أعطى أشراف قريش لكل نفر منهم ألف دينار ، وأعطى أهل المدينة عطايا لم يعطها أحد كان قبله.

ولما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيتي المقدس ثم سلك إلى الشام ثم إلى القة ، فنزلها.

كذا ذكره الحافظ عمر بن فهد رحمه‌الله ، وذكر حكاية مفيدة ، أذكرها استطرادا ، وإن كانت خارجة عن مقصودنا لعظم فائدتها ، وهى : لما حج المنصور ، كان يخرج من دار الندوة إلى الطواف آخر الليل يطوف ويصلى ، ولم يعلم أحد ، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة ، فيجئ

__________________

(١) المقصود الآية رقم ٩ من سورة الصف ، مدنية.

(٢) الآية سبقت الإشارة إليها.

(٣) الآية رقم ٩٧ من سورة آل عمران ، مدنية.

١٢٧

المؤذنون ، ويسلمون عليه ، ويؤذنون الفجر ويقيمون الصلاة ؛ فيخرج ويصلى بالناس ، فخرج ذات ليلة فى السحر ، وشرع يطوف ، إذ سمع رجلا عند الملتزم يقول : اللهم إنى أشكو إليك ظهور البغى والفساد فى الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع ، فأسرع المنصور فى مشيته حتى ملأ مسامعه من كلامه ، ثم خرج من الطواف إلى ناحية المسجد ، ثم أرسل إلى ذلك الرجل ، فصلى ركعتين ، وقبل الحجر ، ثم أقبل مع الرسول وسلم على المنصور ؛ فقال له المنصور : ما هذا الذى سمعتك تقوله ، من ظهور البغى والفساد فى الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم. فو الله لقد حشوت مسامعى ما أقلقنى ، وأمرضنى ، وأشغل خاطرى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن آمنتنى على نفسى ، وأصغيت إلىّ بأذن واعية ، أنبأتك بالأمور من أصلها ؛ وإلا احتجبت عنك بقدرة الله تعالى ، ولم تصل إلىّ ، واقتصرت على نفسى ففيها شغل شاغل عن غيرى ، فقال : آمن على نفسك ، فقل ؛ فإنى ألقى عليك السمع ، وأنا شهيد بالقلب ، فقال : إن الذى داخله الطمع ، حتى حال بينه وبين الحق ، ومنع من إصلاح ما ظهر من الفساد والبغى فى الأرض هو أنت ، فقال : أيها الرجل ، كيف يدخلنى الطمع ، والصفراء والبيضاء بيدى ، والحلو والحامض فى قبضتى ، ومن يحول بينى وبين ما أريد من ذلك ، فقال : هل داخل الطمع أحد من الناس ، ما داخلك يا أمير المؤمنين إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين ، وأنفسهم ، وأموالهم ، فأغفلت عن أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الحجر والطين ، وأبوابا من الخشب والحديد ، وحجابا معهم السلاح ، واتخذت وزراء فجرة ، وأعوانا ظلمة ، إن نسيت لا يذكرونك ، وإن أحسنت لا يعينونك ، وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والسلاح والرجال ، وأمرت ألا يدخل عليك غيرهم من الناس ، ولم تأمر بإنصار المظلوم إليك ، ومنعت من إدخال الملهوف عليك ، وحجبت الجائع والعارى والمحتاج عنك ، وما أحد منهم إلا وله حق فى هذا المال ، فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، وأمرتهم ألا يحجبوا

١٢٨

عنك ، يقولون فى أنفسهم : هذا قد خان الله ، فما لنا لا نخونه ، فاتفقوا على ألا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا ، ولا يخالف أمرهم عامل إلا أفضوه عنك وأبعدوه ، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم ، عظمتهم الناس ، وهابوهم وأكرموهم ، وكان أول من صانعهم وداراهم عمالك بالأموال والهدايا والرشا ، فتقووا بها على ظلم رعيتك ، وتبعهم من كان ذا قدرة وثروة من رعيتك ؛ ليظلموا من دونهم ، فامتلأت بلادك بالظلم والغم ، وزاد طمعهم وبغيهم وكثر فسادهم وإفسادهم ، وصار هؤلاء شركاؤك فى سلطانك فأنت غافل ، فإن جاءك متظلم حيل بينه وبين الوصول إليه ، وإن أراد رفع قصته إليك ، وصرخ بين يديك ، ضرب ضربا مبرحا ؛ ليكون نكالا لغيره.

وأنت تنظر بعينك ولا ترحم بقلبك ، فإن سألتهم عنه ، قالوا : أساء الأدب ؛ فأدبناه ، وجهل مقامك ؛ فضربناه ، فأبقى الإسلام على ظهور هذه المظالم والآثام ، فإنى سافرت لأرض الصين ، فقدمتها ، وقد أصاب ملكهم آفة أذهبت سمعه فجعل يبكى ؛ فقال له وزراؤه : مالك تبكى ، لأبكت عيناك ، فقال : إنى لا أبكى على فقد سمعى ؛ ولكن أبكى على المظلوم يصرخ ببالى ، يطلب رفع ظلامته ؛ فلا أسمع صوته ، وحيث أذهب سمعى ، فإن بصرى لم يذهب ، فنادوا فى الناس : أن لا يلبس أحمر إلا المظلوم لأميزه بالنظر ؛ فأعينه ، وكان يركب الفيل كل يوم ليرى المظلومين ، ويستدنيهم ، ويرفع عنهم ظلامتهم.

انظر يا مسكين ، هذا مشرك بالله ، غلبت رأفته بالمشركين على رأفتك بالمسلمين ، وأنت تؤمن بالله ، وابن عم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الأموال لا تجمع رلا لواحد من ثلاثة أمور : إن قلت أجمعها لولدى ي ، فقد أراك الله تعالى عبرا فى الطفل ، يخرج من بطن أمه عريانا ، ماله على وجه مال ، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه وتصونه عن كل أحد ، فما زال الله يلطف بذلك الغلام حتى يسوق إليه ما قدره له من المال ويحويه كما حواه غيره.

ولست الذى تعطى ، بل الله يعطى من يشاء ، ويمنع ممن يشاء ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع.

١٢٩

وإن قلت أجمع المال لأشيد به سلطانى ، فقد أراك الله تعالى عبرا ممن كان قبلك ، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة ، وما أعدوا من السلاح والكراع ، وما ضرك ما كنت أنت فيه.

فو الله ما فوق ما أنت فيه منزلة تدرك إلا بالعمل الصالح ، واعلم أنك لا تعاقب أحدا من رعيتك إذا عصاك بأعظم من القتل ، والله تعالى يعاقب من عصاه بالعذاب الأليم ، وأنه يعلم خائنة الأعين ، وما تخفى الصدور ، فكيف يكون وقوفك غدا بين يديه؟ وقد نزع ملك الدنيا من يدك ، ودعاك إلى الحساب ، هل يغنى عنك ما كنت فيه شيئا؟

قال : فبكى المنصور بكاء شديدا ، حتى ارتفع صوته ، ثم قال : كيف احتيالى فيما خولت ، ولم أر من الناس إلا جانبا عنى ، قال : يا أمير المؤمنين عليك بالأعلام الراشدين ، قال : ومن هم؟ قال : العلماء العالمون. قال : فإنهم قد فروا منى ، قال : نعم ، فروا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر لهم من طريقك ، فإذا فتحت الأبواب ، وأسهلت الحجاب ، ونصرت المظلوم ومنعت المظالم ، وظهرت بالعدل ، ونشرت الفضل ؛ فأنا ضامن لمن هرب منك أن يعود إليك.

وجاء حينئذ المؤذن ، وسلموا عليه ، أذنوا للفجر ، وأقاموا ؛ فقام المنصور إلى الصلاة ، فصلى بالناس ، وإذا بالرجل قد غاب من بين أيديهم ، فلما فرغ من الصلاة ، سأل عنه ، فقالوا : ذهب ، فقال : إن لم تأتونى به عاقبتكم عقابا شديدا ، فذهبوا يلتمسوه ، فوجدوه فى الطواف ، فتقدم إليه الحرس ، فقال : انطلق معى ، وإلا هلكت ، وهلك من معى ، فقال : كلا لست بذاهب معك ، فقال : إنه يقتلنى إن لم آته بك ، فقال : كلا إنه لا يقدر على ذلك ، وأخرج من جيبه ورقة ، وقال : ضعها فى جيبك ، فلا يصيبك منه شىء ، فإنه دعاء الفرج ، قال : وما دعاء الفرج؟ قال : لا يرزقه الله إلا للسعداء ، من دعا به صباحا ومساء هدمت ذنوبه واستجيب دعاؤه ، وبسط الله تعالى رزقه ، وأعطاه أمله ، وأعانه على عدوه ، وكتب عند الله صديقا ، فقال : اقرأه لى عندوا تلفته منك ، قال : قل : اللهم كما لطفت

١٣٠

فى عظمتك دون اللطف ، وعلوت بعظمتك على العظماء ، وعلمت ما تحت أرضك ، كما علمت ما فوق عرشك ، وكان وسواس الصدور كالعلانية عندك ، وعلانية القول كالسر فى علمك ، فاتكاد كل شىء لعظمتك ، وخضع كل سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك ، اجعل لى من كل هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا ، اللهم إن عفوك عن ذنوبى وتجاوزك عن خطيئتى ، وسترك على قبيح عملى ، أطمعنى أن أسألك مالا استوجبه منك ، فصرت أدعوك آمنا ، وأسألك مستأنسا ، وإنك أنت المحسن إلىّ ، وإنى المسيئ إلى نفسى فيما بينى وبينك ، أتودد وأتبغض إليك ، ولكن الثقة حملتنى على الجرأة عليك ؛ فعد بفضلك وإحسانك إلىّ ، إنك أنت التواب الرحيم.

قال : فقرأته ، وأخذت الورقة فى جيبى ، وإذا بالرسل تسعى إلىّ ؛ فأتيته وإذا حمى يتلظى ، فلما وقع نظره علىّ سكن غيظه ، وتسم ، وقال لى : ويلك أنت تحسن السحر ، فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ، ثم قصصت عليه أمرى ، ثم قال : هات الورقة ، فناولته إياها ؛ فأخذها وصار يبكى ، إلى أن بل لحيته وأمر لى بعشرة آلاف درهم ، ثم قال : أتعرف الرجل؟ فقلت : لا ، قال : ذلك الخضر عليه‌السلام.

قلت : وإنى أروى هذه الحكاية عن والدى الشيخ علاء الدين أحمد القادرى النهروالى ، الخرقانى الحنفى نزيل مكة المشرفة ، وحمدا لله تعالى ، قال : أنبأنى بهذه الحكاية ، العز عبد العزيز بن النجم بن فهد ، عن والده ، عن القاضى زين الدين أبو بكر بن الحسين العثمانى المراغى ، عن الحافظ يوسف بن عبد الرحمن ، قال : أخبرنا الإمام أبو الحسن على بن أحمد البخارىّ عن الحافظ أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى قال : أخبرنا محمد بن ناصر ، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا محمد بن على بن الفتح ، حدثنا أبو نصر محمد بن محمد النيسابورى ، عن إبراهيم بن أحمد الخشاب ، حدثنا أبو على الحسن بن عبد الله الرازى ، حدثنا المثنى بن سلمة القرشى ، قاضى اليمن ، قال : سمعت أبا المهاجر المكى يقول : قدم أبو

١٣١

جعفر المنصور مكة ، وكان يخرج من وسط دار الندوة إلى الطواف آخر الليل ، وساق الحكاية بطولها.

قال النجم عمر بن فهد (رحمه‌الله تعالى) : وفى سنة ٥٨ ه‍ ، عزم على الحج أبو جعفر المنصور ، وكان يريد قتل سفيان الثورى رضي‌الله‌عنه فلما وصل إلى بئر ميمون ، بعث إلى الخشابين ، فقال لهم : إن رأيتم سفيان الثورى ، فأصلبوه ، فجاءوا ونصبوا له الخشب ، وكان جالسا بفناء الكعبة ، ورأسه فى حجر فضيل بن عياض ورجلاه فى حجر سفيان بن عيينة ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، قم واختف ، ولا تشمت بنا الأعداء ، فقام إلى أستار الكعبة ، وأخذها ثم قال : برئت منه إن دخلها أبو جعفر ، وعاد إلى مكانه فركب أبو جعفر من بئر ميمون ، فلما كان بين الحجون سقط عن فرسه ؛ فاندقت عنقه ، فمات لوقته.

فمن سابع ذى الحجة ، وقت السحر ، فحروا له مائة قبر ، ودفنوه فى واحد منها ، ليعمى قبره عن الناس ، وبرأ الله منهم ، قسم عبده سفيان ، فانظر إلى عباد الله المخلصين ، وإدلالهم على جناب قدس رب العالمين ، وكيف حال أهل الدنيا المغرورين؟ وكيف تضمحل عظمتهم فى عظمة سلطان السلاطين؟ وما أحقر سلطنة البشر المخلوق من ماء مهين ، وما أسرع زوال ملكه ، وصيروره عبرة للمعتبرين ، إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار ، وعظمة لمن أراد أن يتذكر عواقب هذه الاغترار ، ويعلم أن الملك لله الواحد القهار ، ولا شريك له فى الملك ، ولا ولى له من الذل علتى الدوام والاستمرار.

والمنصور هو الذى بنى مدينة بغداد ، ومولده فى سنة ٣٥ ه‍ ، ومدة ملكه اثنين وعشرين سنة ، وثلاثة أشهر ، وعاش أربع وستين سنة ، وكان رأى مناما يدل على قرب أجله ؛ فعهد إلى ولده محمد ، وصار إلى الحج ، وتوفى كما ذكر.

وولى بعده الملك والخلافة أبو عبد الله ، ولقبه المهدى ، ثالث من ولى

١٣٢

الخلافة من العباسيين ، وقام بالبيعة له بمكة كما مات أبوه الربيّع بن يونس الحاجب ، وأسرع بإرسال الخبر إليه ، فوصل إليه الخبر من بغداد ، فكتم الأمر ، ثم جمع الناس فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن المنصور أمير المؤمنين ، دعى ؛ فأجاب ، وأمر ؛ فأطاع ثم ذرفت عينه ثم قال : لقد بلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفراق الأحبة ، وقد فارقت عظيما وقلدت جسيما ، فعند الله احتسبت أمير المؤمنين ، وبه أستعين على تقليد أمور المسلمين ، ونزل فيما بعد الناس ، وأول من جمع تعزيته وتهنئته أبو دلامة الشاعر حيث قال :

عيناى واحدة ترى مسرورة

بأميرها جذلى وأخرى تذرف

تبكى وتضحك تارة ويشوبها

ما أنكرت ويسرها ما تعرف

فيسوؤها موت الخليفة محرما

ويسرها أن قام هذا يخلف

ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى

شعرا أسرحه وآخر أنتف

هذا حباه الله فضل خلافة

ولدا كجنات النعيم تزخرف

وكان المهدى لما شب ولاه أبوه طبرستان والرى وما يليها ، فتأدب وتميز ، وجالس العلماء ، وكان كريما مليح الشكل ، شجاعا محبا للعلماء ، وكان يقول : ادخلوا علىّ العلماء والقضاة ، وأحضروهم عندى ، ولو لم يكن فى حضورهم إلا رد المظالم حياء منهم لكان خيرا كثيرا.

وقدم عليه مروان أن أبا حفصة الشاعر ؛ أنشده قصيدة ، فلما وصل إلى قوله :

إليك قصرنا النصف من صلواتنا

مسيرة شهر نواصله

وما نحن نخشى أن تخيب مصيرنا

إليك أمنا البر عاجله

فضحك المهدى ، وقال : كم بيت قصيدتك ، قال : سبعون بيتا ، فأمر له بسبعين ألف درهم ، قبل أن يتم إنشادها ، وله شعر رقيق لطيف ، أحسن من شعر أبيه وأولاده بكثير ، ومنه ما ذكر الصولى ، وهو يقول :

١٣٣

ما يكف الناس عنا ما يريد الناس منا

إنما همهم أن ينبشوا ما قد دفنا

لو سكنا باطن الأرض لكانوا حيث كنا

إن المراد واكشف أمر قد سترناه كشفنا

ومن نظمه هذا البيت من عدة أبيات نظمها فى جارية كان يحبها حبا شديدا :

أما يكفيك أنك تملكينى

وأن الناس كلهم عبيدى

وكان المهدى يحب الحمام ، فدخل عليه غياث ، وكان يروى الحديث ، فقال : روى عن أبى هريرة رضي‌الله‌عنه مرفوعا (١) : «الأسبق فى حافر أو نصل ، وزاد فيه : أو جناح» ، ففهم المهدى أنه وضع له هذه الزيادة فى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلم يجبه بالرد تأدبا ، وأمر له بعشرة آلاف درهم ، فلما قام له المهدى قال : أشهد أن قفاك قفا كذاب ، ثم أمر بذبح ما عنده من الجناح ؛ فذبحت.

ذكره غير واحد من علماء الحديث ، منهم الحافظ السيوطى (رحمه‌الله تعالى) ، وكان نقش خاتم المهدى : الله ثقة محمد ، وبه يؤمن.

وحكى الربيع قال : عرض على المنصور يوما خزائن مروان بن محمد ، وكان من جملتها اثنى عشر ألف ، عدله ثياب خزافا ، فأخرج منها ثوبا واحدا ، ودعا بالخياط ، وقال : فصل من هذا جبة لى ، وجبة لولدى محمد ، فقال : لا يجئ منه جبتان ، فقال : فصلة جبة وقلنسوة ، ونجدان ، يخرج ثوبا آخر ، فلما أفضت الخلافة إلى ولده محمد أمر بترك الثياب كلها بعينها ، فيغرقها جميعا فى عبيده وخدمه فى ساعة واحدة ، وكان جوادا شجاعا كثيرا اللهو والصيد ، إلا أنه كان يكره الزنادقة ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، ووصى ابنه الهادى بقتلهم حيث وجدهم.

قال النجم عمر بن فهد فى حوادث سنة ١٦٠ ه‍ : «وفيها حج أمير المؤمنين المهدى العباسى ، وحمل له الأمير محمد بن سليمان الثلج ؛ حتى

__________________

(١) الحديث المرفوع : هو ما أضيف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، فهو والمسند عند قوم سواء مقدمة ابن الصلاح : ١٩٣.

١٣٤

وافى مكة ، وهذا شىء لا يتم قبله ، ونزل المهدى دار الندوة وجاءه عبد الله ابن عثمان بن إبراهيم الحجبى ، فى ساعة خالية ، نصف النهار ، فأدخل عليه ، فقال : إن معى شيئا لم يحمل إلى أحد قبلك ؛ فكشف له عن الحجر الذى فيه صورة قدمى خليل الله إبراهيم عليه‌السلام ، وهو الذى يزار الآن ، بمقام إبراهيم.

فسّر المهدى ، وقبله ، وتمسح به ، وصب فيه ماء فشربه وأرسله إلى أهله وأولاده ، فتمسحوا به ، وشربوا الماء منه ، ثم احتمله وأعاده إلى مقام إبراهيم ، وأعطاه المهدى جزائر كثيرة ، وأقطعه ضيعا بوادى نخلة ، يقال له ذات القريع ، فباعه بعد ذلك بسبعة آلاف دينار.

وذكر حجبة الكعبة للمهدى : أنه تراكم على الكعبة كسوة كثيرة ، أثقلها ، ويخاف على جدرانها من ثقله ، فأمر بنزعها ، فنزعت حتى بقيت مجردة ووجدنا كسوة هشام من الديباج التخين ، وكسوة من قبله ، عامتها من ثياب اليمن ، فجردت الكعبة منها ، وطلى جدرانها من داخلها وخارجها بالغالية والمسك والعنبر ، وصعد الخدام على سطح الكعبة ، وصاروا يسكبون قوارير المسك المطيبة على جدران الكعبة من الجوانب الأربع وتعلقوا بالبكرات التى يخاط عليها ثياب الكعبة ، وهم يمسحون الطيب على الكعبة ، إلى أن استوعبوها.

ثم كسيت ثلاث كساوى من القباطى والخز والديباج ، وقسم المهدى فى الحرمين الشريفين أموالا عظيمة ، وهى ثلاثون ألف ألف درهم وصل بها معه من العراق.

وثلثمائة ألف دينار وصلت إليه من مصر ، ومائة ألف دينار وصلت إليه من اليمن ، ومائة ألف ثوب ، وخمسين ألف ثوب.

فرق جميع ذلك على أهل الحرمين ، واستدعى قاضى مكة يومئذ ، وهو محمد الأوفص بن محمد بن عبد الرحمن المخزومى وأمره أن يشترى دورا فى أعلا المسجد ، ويهدمها ، ويدخلها فى المسجد الحرام.

١٣٥

وأعد لذلك أموالا عظيمة ، فاشترى القاضى جميع ما كان من المسجد الحرام والمسعى من الدور ، فما كانت من الصدقات والأوقات للمسجد بدلها دارا فى فجاج مكة ، واشترى فى كل ذراع فى مثله ، فما دخل فى المسجد بخمسة وعشرين دينارا ، وما دخل فى مسيل الوادى بخمسة عشر دينارا ، وكان مما دخل فى ذلك الهدم دار الأزرقى ، وهى يومئذ لاصقة بالمسجد الحرام من أعلاه على يمين الخارج من باب بنى شيبة ، وكان ثمن ناحية بها ثمانية عشر ألف دينار ، وكان أكثرها دخل فى المسجد الحرام فى زيادة عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه ، ودخلت أيضا دار خيرة بنت سباع الخزاعية ، وكان ثمنها ثمانمائة وأربعين ألف دينار دفعت إليها ، وكانت شارعة على المسعى يومئذ قبل أن تؤخر المسعى ، ودخلت أيضا دار لآل جبير بن مطعم ، ودار شيبة بن عثمان ، اشترى جميع ذلك ، وهدم وأدخل فى المسجد الحرام.

وجعل دار القوارير رحبة بين المسجد الحرام والمسعى ، ثم استقطعها جعفر البرمكى من الرشيد لما آلت الخلافة إليه ، فبناها دارا ثم صارت إلى حماد البربرى فغمرها ، وزين باطنها بالقوارير وظاهرها بالرخام والفسيفساء.

قلت : وتداولت الأيدى عليها بعد ذلك إلى أن صارت رباطين متلاصقين ، أحدهما كان يعرف برباط المراغى ، والثانى كان يعرف برباط السدرة ؛ فاستبدلهما السلطان قايتباى ، فبناهما مدرسة ورباطا فى سنة ٨٨٣ ه‍ ، ووقف عليها مسقفات بمكة ، وأقطاعا بمصر ، وهو باق إلى الآن صدقة جارية على سكانها ، غير أنه شرع فى أوقافه الخراب لاستيلاء الأيادى الحادثة عليها ، عمر الله عمرها وأحسن نظرها.

وهذه الزيادة الأولى للمهدى فى أعلى المسجد ، كذلك فى أسفله إلى أن انتهى به باب بنى سهم ، ويقال له الآن باب العمرة ، وإلى باب الخياطين ، ويقال له الآن باب إبراهيم ، وكذلك زاد من الجانب الشامى إلى منتهاه الآن ، وكذلك زاد فى الجانب اليمانى أيضا إلى قبة الشراب وتسمى الآن : قبة العباس ، والى حاصل الزيت.

وكان بين جدار الركن اليمانى ، وجدار المسجد الحرام الذى يلى الصفا

١٣٦

تسعة وأربعون ذراعا ونصف ذراع ، وكان ما وراءه مسيل الوادى ، فهذه الزيادة كلها الأولى للمهدى ، وأمر بالأساطين فحملت من مصر ومن الشام ، وحملت إلى قرب جده فى موضع كان فى أيام الجاهلية ساحلا لمكة ، يقال له : الشعبية ؛ فجمعت هناك ، لأن مرساه قريب بخلاف بندر جده ؛ لأن مرساه الذى تقف فيه السفيئة بعيد عن البر.

وصارت أساطين الرخام تحمل منها على العجل إلى مكة ، ويتحاكى العربان إلى الآن بقايا الأساطين الرخام دفنها الريح بالرمل ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، وعمل الأساس لتلك الأساطين بحيث حفر لها فى الأرض جدران على شكل الصليب ، أقاموا كل أسطوانة على موضع التقاطيع ، كشف عنه السيل العظيم الواقع فى سنة ٩٣ ه‍ فشاهدنا أساس الأساطين على هذا الوجه ، واستمر عليهم إلى سنة ١٩١ ه‍.

فحج المهدى من ذلك العام ، وشاهد الكعبة العظيمة ، ليست فى وسط المسجد بل فى جانب منه ، ورأى المسجد قد اتسع من أعلاه وأسفله ، ومن جانبه الشامى.

وضاق من الجانب اليمانى الذى يلى مسيل الوادى ، وكان فى محل المسيل الآن بيوت الناس يسلكون من المسجد فى بطن الوادى ثم يسلكون زقاقا ضيقا ، ثم يصعدون إلى الصفا ، وكان السعى فى موضع المسجد الحرام ، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر العابدى عند حد ركن المسجد اليوم ؛ فهدموا أكثر دار محمد بن عباد بن جعفر العابدى ، وجعلوا المشعر والوادى فيها ، وكان عرض الوادى من الميل الأخضر الملاصق للمئذنة التى فى الركن الشرقى للمسجد إلى الميل الآخر الثانى الملاصق الآن لرباط العباس.

وكان هذا الوادى مستطيلا إلى أسفل المسجد الآن يجرى فيه السيل ملاصقا لجدار المسجد إذ ذاك ، وهو الآن بطن المسجد من الجانب اليمانى.

فلما رأى المهدى تربيع المسجد الحرام ، ليس على الاستواء ، ورأى الكعبة الشريفة فى الجانب اليمانى من المسجد ؛ جمع المهندسين ، وقال لهم : أريدر

١٣٧

أن أزيد فى الجانب اليمانى من المسجد ، لتكون الكعبة فى وسط المسجد ، فقالوا له : ما يمكن ذلك إلا بأن تهدم البيوت التى على حافة المسيل فى مقابلة هذا الجدر اليمانى مني المسجد ، وينقل المسيل إلى تلك البيوت ، ويدخل المسيل فى المسجد ، كما قدمناه.

ومع ذلك كان وادى إبراهيم له سيول عظيمة عارمة وهو واد حدور يخاف إن حولناه من مكانه ، أن لا يثبت أساس البناء فيه على ما يزيد من الاستحكام فتذهب به السيول ، وتعلو السيول فيه ، وتنصب فى المسجد ، ويلزم هدم دور كثيرة ، وتكثر المؤنة ، ولعل ذلك لا يتم.

فقال المهدى : لا بد أن أزيد هذه الزيادة ، ولو أنفقت جميع بيوت الأموال ، وصمم على ذلك ، وعظمت نيته ، واشتدت رغبته ، فصار يلهج به ، فهندس المهندسون ذلك بحضوره ، وربطوا الرماح ، ونصبوها على أسطحة الدور ، من أول الوادى إلى آخره ، وربعوا المسجد وشوهد من فوق الأسطحة ، وطلع المهدى إلى جبل أبى قبيس وشاهد تربيع المسجد ، وشاهد الكعبة فى وسط المسجد ، ورأى ما يهدم من البيوت ، ويجعل مسيلا محلا للسعى ، وشخصوا له تلك الرماح المربوطة من الأسطحة ، ووازنوا ذلك مرة أخرى حتى رضى به ، ثم توجه إلى العراق ، وخلف الأموال الكثيرة لتشترى هذه البيوت والصوف على هذه العمارة العظيمة ، وهذه هى الزيادة الثانية للمهدى فى المسجد الحرام.

وهذا ملخص ما ذكره الأزرقى والفاكهى والحافظ نجم الدين عمر بن فهد فى تواريخهم.

وهاهنا إشكال عظيم ؛ ما رأيت من تعرض له ، وهو أن السعى بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التى أوجبها الله تعالى علينا فى ذلك المحل المخصوص ، ولا يجوز لنا العدول عنه.

ولا تعتبر هذه العبادة إلا فى هذا المكان المخصوص ، الذى سعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وعلى ما ذكره هؤلاء الثقات ، أدخل المسعى فى المسجد الشريف ، وحول ذلك المسعى إلى دار بن عباد ، كما تقدم.

١٣٨

وأما المكان الذى يسعى فيه الآن ، فلا يتحقق أنه بعض من المسعى ، الذى سعى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره ، فكيف يصح السعى فيه؟ وقد حول محله ، كما ذكره هؤلاء الثقات.

ولعل الجواب عن ذلك : أن المسعى فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عريضا ، وبنيت تلك الدور بعد ذلك فى بعض عرض المسعى القديم ، فهدمها المهدى وأدخل بعضها فى المسجد الحرام ، وترك بعضها للسعى فيه ، ولا تحول تحويلا كليا ، وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين (رضى الله تعالى عنهم) ، مع توفرهم (١) إذ ذاك.

وكان الإمامان أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن رضي‌الله‌عنهما والإمام مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه موجودين يومئذ ، وقد أقروا ذلك ، وسكتوا عليه ، وكذلك من صار بعد ذلك الوقت فى مرتبة الاجتهاد ، كالإمام الشافعى ، وأحمد بن حنبل ، وبقية المجتهدين رضي‌الله‌عنهم ، وكان إجماعا منهم على صحة السعى ، من غير نقل عنهم.

وبقى الإشكال فى جواز إدخال شىء من المسعى فى المسجد وكيف يصير حال الاعتكاف فيه؟ وحكمه : بأن يجعل حكم المسعى حكم الطريق العام.

وقال علماؤنا : يجوز إدخال الطريق فى المسجد ، إذا لم يضر بأصحاب الطريق ؛ فيصير مسجدا ، ويصح الاعتكاف فيه ، حيث لم يضر بمن يسعى ، فاعلم ذلك ، وهذا مما تقرر بيانه ، ولله الحمد على التوفيق لتبيانه.

* * *

فصل

ومما يلائم ما نحن فيه ، من عجيب ما نقل ، فى التعدى على المسعى الشريف ، واغتصابه ، ما وقع قبل عصرنا هذا بنحو مائة عام فى أيام دولة الجراكسة فى سلطنة الملك الأشرف قايتباى المحمودى ، سامحه الله تعالى.

__________________

(١) فى (س) : توفيرهم.

١٣٩

ومحصله : أنه كان له تاجر يستخدمه قبل سلطنته فى زمن إمارته ، اسمه الخوجا شمس الدين محمد بن عمر بن الزمن ، كان مقربا منه بعد سلطنته ، ويتعاطى له متاجرا مع دينه وخيرته ، ومآثره الجميلة ، واعتقاده فى العلماء والصلحاء ، واتصافه بطلب العلم أيضا.

وكان السلطان قايتباى أرسله إلى مكة ليتعاطى له تجارة ، وليعمر له جانبا من الحرم الشريف ، ومن الحجر الشريف ، ومن جوف الكعبة.

وهو الذى أمره بعمارة المسجد الشريف النبوى بعد الحريق المشهور الواقع فى سنة ٨٨ ه‍ ، وبنى له المدرسة التى فى المدينة الشريفة ، وأجرى عين الزرقاء بالمدينة ، وعين خليص من طريق المدينة ، وعين عرفات ، وغير ذلك من الخيرات الجارية إلى الآن.

غيري أن حب الجاه ، ونفاد الأمر أوقعه فيما نذكره ، وهو أنه كان يبنى ميضأة أمر بعملها السلطان الملك الأشرف بن الناصر حسن بن قلاوون ، وكانت فى مقابلة باب على ، يحدها من الشرق بيوت الناس ، ومن الغرب المسعى الشريف ، ومن الجنوب مسيل وادى إبراهيم الذى يقال له الآن : سوق الليل ، ومن الشمال دار سيدنا العباس رضي‌الله‌عنه الذى هو الآن رباط يسكنه الفقراء ، واستأجر الخوجا شمس الدين بن الزمن هذا الميضأة ، وهدمها وهدم من المسعى مقدار ثلاثة أذرع ، وحفر ساسه ليبنى بها رباطا لسكن الفقراء ؛ فمنعه من ذلك قاضى القضاة بمكة ، عالم المسلمين وقاضى الشرع المبين ، القاضى برهان الدين إبراهيم بن على بن ظهيرة الشافعى ، فلم يمتنع من ذلك ؛ فجمع القاضى إبراهيم محضرا حافلا ، حضره علماء المذاهب الأربع ، ومن أجلهم مولانا الشيخ زين الدين قاسم قالطوبغا الحنفى رئيس العلماء الحنفية يومئذ ، والشيخ شرف الدين محمد بن عبيد الحنفى ، والشيخ علاء الدين الزواوى الحنبلى ، وبقية العلماء المكيين والقضاة والفقهاء.

وطلب الخوجا شمس الدين بن زمن ، وأنكر عليه جميع الحاضرين وقالوا له : فى وجهك ، إن أرض المسعى كان خمسا وثلاثون ذراعا ، وأحضر النقل

١٤٠