كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

من تاريخ الفاكهى ، وذرعوا من ركن المسجد إلى المحل الذى وضع فيه ابن الزمن أساسه ، فكان سبعة وعشرين ذراعا ، فقال ابن الزمن : المنع قاصر لى وبجمع الناس ، فقال له القاضى : أمنعك الآن ، لأنك مباشر فى هذا الحال لهذا الفعل الحرام ، وأمر الغيب أيضا بإزالة تعديه.

وتوجه القاضى بنفسه إلى محل الأساس ، ومنع البنائين والعمال من العمل وأرسل عرضا ومحضرا فيه خطوط العلماء إلى السلطان قايتباى.

وكتب بن الزمن أيضا إليه ؛ وكانت الجراكسة لهم تعصب وقيام فى مساعدة من يلوذ بهم ، ولو على الباطل ، فلما وقف على تلك الأحوال السلطان قايتباى ، نصر ابن الزمن ، وعزل القاضى إبراهيم وولى خصمه المنصب ، وأمر أمير الحاج أن يضع الأساس على مراد ابن الزمن ، ويقف عليه بنفسه ، وكان أمير الحاج يشبك الجمالى.

فوصل فى موسم سنة ٨٧٥ ه‍ ، ووقف بنفسه بالليل ، وأوقد المشاعل وأمر البنائين والعمال بالبناء ؛ خوفا من الإطالة العامة عليهم ، فبنوه إلى أن صعد ، وآبه وجه الأرض.

وجعل ابن الزمن ذلك رباطا وسبيلا ، وبنى فى جانبه دارا ، وحفر الميضأة ، وجعل لها بابا فى سوق الليل ، وجعل فى جانب الميضأة مطبخا يطبخ فيه الدشيشة ، ويقسم على الفقراء ، ووقف على ذلك دورا بمكة ، ومزارع بمصر ، واستمر إلى أن انقطع ذلك المطبخ فى عهدنا.

وبيعت القدور بل الدور ، وبالله العجب من ابن الزمن ، وما ذكرناه من ضله ، وخبرته ، كيف ارتكب هذا المحرم بإجماع المسلمين طالبا به الثواب؟ وكيف تعصب له سلطان عصره الأشرف قايتباى مع أمه أحسن ملوك الجراكسة عقلا ودينا ، وخيرية ؛ وهو يأمر بفعل هذا الأمر المجمع على مرمته فى مشعر من مشاعر الله تعالى؟ وكيف يعزل قاضى الشرع الشريف لكونه نهى عن منكر ظاهر الإنكار؟ فرحم الله الجميع وغفر لهم.

وأين هذا عما حكى عن أنوشروان العادل ، وهو من أهل الكفر ، لما أراد

١٤١

المهندسون تسوية إيوانه ، بإدخال قطعة أرض لعجوز بعد أن بذلوا لها أضعاف ثمن أرضها ؛ فأبت ، فأمر بعدم التعرض لعرضها ؛ فبقى فى إيوانه ازدوار بسب ذلك ، فقال : هذا الازدوار خير من الاستقامة ، وصار ذلك مثلا يذكر بعد ألوف من السنين :

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن روى

* * *

فصل

قال الحافظ نجم الدين عمر بن فهد فى حوادث سنة ١٩٧ ما ملخصه :

«فيها هدمت الدور التى اشتريت لتوسعة المسجد والزيادة فيه الزيادة الثانية للمهدى ، فهدموا أكثر دوران عباد ، وجعلوا المسعى والوادى فيها ، وهدموا ما بين الصفا والوادى من الدور ، وحرثوا الوادى من موضع الدور ، حتى وصلوا إلى مجرى الوادى القديم فى الأجياد الكبير ؛ وهو الآن الطريق ، الذى يمر منه إلى دور السادة الأشراف ؛ أمراء مكة المشرفة ، عمّر الله بهم البلاد ، وأزال بوجودهم موارد الفتنة والفساد.

وابتدؤوا من باب بنى هاشم من على المسجد ، ويقال له الآن : باب علىّ رضي‌الله‌عنه.

ووسع المسجد يمنه إلى أسفل ، وجعل فى مقابلة هذا الباب باب فى المسجد ، يعرف الآن بباب حزورة ، ويحرفونه العوام ، ويسمونه باب عزورة ، لأن السيل إذا زاد على مجرى الوادى ، ودخل المسجد وخرج من هذا الباب إلى أسفل مكة ، فإذا طفح غير ذلك ، خرج من باب الخياطين أيضا ، ويسمى الآن باب إبراهيم ، فيمر السيل ولا يصل إلى جدار الكعبة الشريفة من الجانب اليمانى ، فكان من جدار الكعبة إلى الجدار اليمانى من المسجد المتصل بالوادى تسعة وأربعون ذراعا ونصف ذراع.

فلما زيدت هذه الزيادة الثانية فيه صار من جدار المسجد أولا إلى الجدار الذى عمل آخر ، وهو باق إلى اليوم تسعون ذراعا ، فاتسع المسجد غاية

١٤٢

الاتساع ، وانخل فى قرب الركن اليمانى فى المسجد من أسفله ، دار أم هانئ بنت أبى طالب (رضى الله تعالى عنهما) كانت بقرب هذا الباب داخل المسجد الحرام الآن.

ومن هذا الباب يدخل إلى المسجد شرفاء مكة ؛ آل الحسن بن على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، وكانت عند دار أم هانئ (رضى الله تعالى عنها) بئر جاهلية ، حفرها قصى بن كلاب أحد أجداد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأدخلت تلك البئر أيضا فى المسجد الحرام.

وحفر المهدى عونها بئر خارج باب الحزورة ، يغسّلون عندها الموتى من الفقراء إلى الآن ، ومن المسجد الحرام من أسفله باب بنى سهم يعرف الآن بباب العمرة ، لأن المعتمر من التنعيم ، يدخلون منه إلى المسجد ، يستقربونه بالنسبة إلى الدخول إلى المسجد الحرام من أعلى مكة ، كما هو السنة الشريفة».

وذكر بقية أبواب المسجد الحرام عند ذكر العمارة الشريفة السلطانية والعثمانية ، خلد الله تعالى ملك سلاطينها إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى ، واستمر البناة والمهندسون فى بناء هذه الزيادة ، ووضع الأعمدة الرخام ، وتسقيف المسجد بالخشب الساج المنقش بالألوان نقرا فى نفس الخشب.

كما أدركناه ، وكان فى غاية الزخرفة والإحكام ، باقية فيه لون اللازورود فى غاية الصفاء والتزويق بالنسبة إلى لازورود هذا الزمان.

واستمر عملهم المذكور إلى أن توفى المهدى (رحمه‌الله تعالى) لثمان بقين من المحرم سنة ١٩٩ ه‍ قبل أن يتم عمارة المسجد الحرام على الوجه الذى أراده ، وكان مولده فى جمادى الآخر سنة ١٣٧ ه‍ ، ومدة ملكه عشر سنين وشهرا ، وعاش ثلاثا وأربعين سنة ، وعقد الأمر لولده موسى الهادى.

* * *

١٤٣

فصل

فى ولاية أبى موسى الهادى بن المهدى بن المنصور العباسى ولد بالرى فى سنة ١٣٧ ، وأمه أم ولد ، تسمى : الخيزران والدة هارون الرشيد ، وكان حين موت والده بجرجان ، وقد عهد له والده بالخلافة فأخذ له البيعة هارون الرشيد لما مات أبوه ، لثمان بقين من الحرم سنة ١٣٩ ، ولم يلى الخلافة قبله أحدا فى مقدار سنة.

وركب خيل البريد من جرجان إلى بغداد ، لما بويع له بالخلافة ، وما ركبها خليفة غيره ، وكان طويل جسيما أبيضا ، بشفته العليا تلقيص ؛ فيكثر لذلك فتح فمه ، ويغفل عن ذلك ؛ فيستمر فمه مفتوحا ، فوكل به أبوه فى صباه خادما كلما رآه مفتوح الفم ، قال له : موسى أطبق ، فينفق على نفسه ، ويضم شفته ؛ فلقبه الناس : موسى أطبق ؛ فعرف بهذا اللقب.

وكان أوصاه أبوه بقتل الزنادقة ، فقتل منهم خلقا كثيرا وكان شجاعا كريما ، يعجبه المدح ، دخل عليه ابن أبى حفصة ، فأنشده قصيدة فى مدحه ، فلما بلغ إلى قوله :

تتشابه يوما بأسه ونواله

فما أحد يدرى لأيهما الفضل

فقال له الهادى ، قبل أن يتمها : أيهما أحب إليك ، ثلاثون ألفا معجلة ، أو سبعون ألفا مؤجلة؟ فقال : اجعلها لك كلها ، المعجل والمؤجل ، وعجلنا لك بهما ، وأمر له بمائة ألف.

وقد مدحه إبراهيم الموصلى بقصيدة أولها :

سليمى أزمعت بينا

فأين لقاؤنا أين

فأعطاه سبعمائة ألف.

وكان إكمال المسجد الحرام أول شىء ، أمر به الهادى ، وبادر الموكلون بذلك إلى إتمامه ، وكملوه إلى أن اتصل بعمارة المهدى ؛ وبنوا بعض أساطين الحرم الشريف من جانب باب أم هانئ الحجارة ؛ ثم طليت بالحص.

١٤٤

وكان العمل فى خلافة الهادى دون العمل فى خلافة المهدى ؛ فى الاستحكام والزينة والاهتمام ؛ ولكن كملت عمارة المسجد على الوجه الذى كان باقيا إلى هذه الأيام ، وما زيد بعد ذلك إلا الزيادتين ؛ كما نشرحهما إن شاء الله تعالى.

وهذه الأساطين الرخام جلبها المهدى من بلاد مصر والشام ، وأكثرها مجلوب من بلاد أخميم من أعمال مصر ، وهى بلدة خراب الآن من بلدان إقليم مصر القديمة كيرة الرخام ، يجلب منها إلى مصر وإلى غيرها من البلدان الرخام العظيمة والأعمدة اللطيفة المنحوتة المخروطة من الرخام الأبيض.

يقال : إن أكثر رخام المسجد منها.

ولم تطل مدة موسى الهادى ، وكان مدة ملكه ستة وشهرا ، وتوفى شابا عمره أربع وعشرون سنة ، فى منتصف ربيع الأول سنة ١٧٠ ، واختلف فى سبب موته ، فقيل : أنه وقع نديما له ، فتعلق به ، فوقع فى مقصبة ، فدخلت قصب فى مخارجها ، فماتا جميعا.

وقيل : بل قتلته أمه الخيزران ؛ لأنه عمل على قتلها ، وأراد قتل أخيه هارون الرشيد ، ليولى العهد ولدا صغيرا من أولاده ، وعمره عشر سنين ، وكانت أمه الخيزران قد استبدت بالأمور العظام ، وكانت المواكب تقف على بابها ، فزجرها الهادى عن ذلك ، وقال لها : إن وقف أمير على بابك ، ضربت عنقه ، أما لك معزل يشغلك ، أو مصحف ، أو سبحة؟ فقامت من عنده غضبى ، فبعث إليها طعاما مسموما ؛ فأطعمه للكلب ؛ فانتثر لحمه ، فعملت على قتله لما دخل للمنام ، وأمرت جواريها بأن يغمى وجهه بساط يجلس على جانبه ، فاشتد نفسه إلى أن مات.

وولى الخلافة من بعده ، بعهد من أبيه أخوه هارون الرشيد العباسى ، الخامس من العباسيين ، ليلة السبت ، لأربع عشرة ليلة ، بقيت من ربيع الأول سنة ١٧٠ هجريا ، وأمه الخيزران أم الهادى ، وفيها قال مروان بن أبى حفص الشاعر :

١٤٥

يا خيزرانة هناك ثم هناك

أضحى يسوس العالمين ابناك

وكان فصيحا بليغا كثير العبادة ، كثير الحج والغزو ، وكذلك يقول بعض الشعراء :

فمن يطلب لقاءك أو يرده

ففى الحرمين أو أقصى الثغور

وكان يحج عاما ويغزو عاما ، وقد يجمع بينهما فى عام واحد ، وكان يصلى فى خلافته كل يوم مائة ركعة ، لا يتركها إلا لعلة ، ويتصدق كل يوم بألف درهم ، ويحب العلم وأهله ، ويعظم حرمات الإسلام ، وبلغه عن بشر المريسى ، أنه كان يقول بخلق القرآن ، فقال : لئن ظفرت به ؛ لأضربن عنقه.

وكان يأتى بنفسه إلى بيت الفضل بن عياض رضي‌الله‌عنه ، ويعظمه ، وكان يبكى على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه ، وكان قاضيه الإمام ، أبو يوسف (رضى الله تعالى عنه) ، وكان يعظمه كثيرا ، ويمتثل أمره ، ويروى عن أبى معاوية الضرير ، قال : أكلت مع الرشيد يوما ، وصب على يدى من لا أعرفه ، ثم قال : أتدرى من صب عليك؟ قال : أنا ؛ إحلالا للعلم.

وأراد الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم والقلزم ، ليهيأ له أن يغزو الروم ببلادهم ، فقال له يحيى بن خالد البرمكى : لو فعلت ذلك دخلت سفائين الروم أرض العرب ، واختطفوا المسلمين من المسجد الحرام ، فتركه ، وكانت أيام الرشيد أيام خير كأنها أعراس.

وله أخبار فى اللهو والملزات ، سامحه الله تعالى ، وله مناقب لا تحصى ، ومحاسن لا تستقصى ، وأنشد الصولى بن يعقوب بن جعفر :

خرج الرشيد فى السنة التى ولى فيها الخلافة إلى أطراف بلاد الروم ، وظفر ، وعاد ؛ فحج بالناس آخر السنة ، وفرق بالحرمين مالا كثيرا ، وكان رأى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النوم ، فقال له : إن هذا الأمر قد صار إليك فى هذا الشهر ، فاغزو وحج ، ووسع على الحرمين ؛ ففعل هذا كله فى عام واحد أول خلافته ؛ ذكر ذلك الحافظ السيوطى وغيره.

١٤٦

قال الحافظ النجم عمر بن فهد (رحمه‌الله تعالى) فى حوادث سنة ١٧٠ ه‍ : «فيها حج هارون الرشيد بالناس ، وفرق مالا كثيرا ، وكان حجه ، ما يشاء على اللبود ، تفرش له من منزل ، وقيل : إن الحجة التى حج فيها ما يشاء هى حجته فى سنة ١٧٧ ه‍ ، وقال : وفى بعض حجات هارون الرشيد ، أخلى له السعى ، ليسعى فتعلق ببغلته أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فوقف له هارون ، وأقبل عليه ، فصاح به : يا هارون ، فقال : لبيك يا عم ، قال : ارق إلى الصفا ، فلما رقاه قال : ارم بطرفك إلى البيت ، قال : قد فعلت ، فقال : كم هم (يعنى الحجيج) قال : ومن يحصيهم إلا الله تعالى ، قال : فاعلم أيها الرجل أن كل واحد من هذه الخلائق يحاسب عن خاصه نفسه ، ويسأل عنها وحدها يوم القيامة ، وأما أنت وحدك فتسأل عنهم أجمعين ، فانظر كيف جوابك حين تسأل يوم القيامة؟ فبكى هارون بكاء شديدا ، وجلس وخدمه يعطونه منديلا ، بعد منديل ، وهو يبلها بدموعه ، فقال له : وأخرى أقولها ، قال : قل يا عم ، فقال : إن الرجل إذا أساء التصريف فى ماله حجر عليه ، فكيف تسرف فى مال المسلمين وتسئ التصريف فيه وأنت تحاسب بين يدى الله تعالى على جميع ذلك؟ فازداد بكاؤه ، وازداد نحيبه ، وأراد جنده أن يطرد الرجل عنه فكفهم عنه إلى أن فرغ من نصائحه ، وقام عنه بنفسه هارون يبكى ويتضرع ، ويستغفر.

* * *

فصل

وفى أثناء دولة الرشيد ، قدمت الخيزران أم الرشيد والهادى إلى مكة قبل الحج فى سنة ١٧١ ه‍ ، فأقامت إلى أن حجت ، وعملت الخيزران الخيرات ، واشترت دورا بالصفا إلى جانب دار الأرقم المخزومى ، التى تشتمل على مسجد مأثور ، يقال له «المجتبا» لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو فيه إلى الإسلام خفية من صولة المشركين فى أول البعث.

١٤٧

وأسلم فيه جماعة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، ولما أسلم فيه عمر رضي‌الله‌عنه ظهر الإسلام ، وفيه الآن قبه ومزار يسمى «قبة الرحمن».

وهذه الدور التى اشترتها الخيزران متصلة بهذا المزار الشريف ، وتسمى الآن دار الخيزران ، وكانت قد آلت إلى بعض الأشراف من بنى حسن ، ثم اشتراها صاحبها المرحوم المغفور المبرور المحسن المشكور الأمير المأمون بأجر عين عرفة إلى بلد الله المعمور ، الباذل نفسه وأولاده فى سبيل الله ؛ طلبا لنيل الثواب والأجور ـ دفتر دار مصر سابقا صاحب اللواء السلطانى المنصور السعيد الشهيد المشهور المذكور بالإحسان إلى يوم النشور إبراهيم بيك بن تغرى بردى ، المهمندار أسكنه الله فى دار القرار جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار ، ثم ملكها من المرحوم بطريق الهدية على يد المرحوم رجب جلبى أفندى ، ناظر الدقات السليمية ، حضرة السلطان الأعظم سلطان ملوك العام ، ذى الخلق الحليم والطبع السليم المرحوم المغفور السلطان سليم ، نقله الله إلى جنات النعيم ، وملكه ملكا أعظم من ملكه العظيم ، فملكها ، فهو نشأه زاده يومئذ قبل أن يلى تحت السلطانة العظمى ؛ ففرح بها كثيرا ، واستبشر بحصولها ، ونوى أن ينشئ فيها عمارة وخيرات ، وجهات تصرف إلى فقر هذه الجهات ، فلم يقدر على ذلك ، وزاحمته أمور الملك والسلطنة ، ومحى هذه الكفار ، وافتتاح بلاد قبرص وغيرها ، ولم يمكنه الزمان الجائر ، ولا ساعده الدهر الغادر ؛ ومكن حصل له ثواب ما نواه من الخيرات ، فالأعمال بالنيات ، وإن الأرض لله ، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

هذه الدار من أملاك ملك العصر والزمان سلطان سلاطين الدهر ، فى هذا الأوان ، صاحب تخت السعادة والإسعاد ، وارث سريره الملك من الآباد والأجداد ، السلطان الأعظم الأكرم السلطان مراد ، خلد الله تعالى أيام سلطنته القاهرة إلى يوم الحشر ، والتناد والهمة العدل فى الرعية لإحياء رسوم المعدلة من العباد.

قلت : ولم أطلع للرشيد مع كثرة خيره على أنه عمر فى أيامه شيئا من المسجد الحرام ، غير أن عامله بمصر موسى بن عيسى أهدى إلى مكة المشرفة

١٤٨

منبرا منقوشا مكلفا له سبع درجات ، فجعل فى المسجد الحرام أخذ المنبر القديم الذى يخطب عليه بمكة ، ووضع بعرفه ، وذلك فى أول حجات الرشيد ، وقيل : فى سنة من الهجرة ، ووصل إلى مكة المشرفة منبر صغير له ثلاث درجات ، ووضع فى وجه البيت الشريف ، فخطب عليه معاوية بن أبى سفيان ، وهو أول من خطب بمكة.

فكان الخلفاء والولاة بها قبل ذلك يخطبون بها قياما على أقدامهم فى وجه الكعبة والحجر.

قال أبو الوليد الأزرقى : «حدثنى جدى عن عبد الرحمن بن حسن ، عن أبيه ، قال: أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبى سفيان» ، وساق ما قدمناه فى ذلك ، ثم قال : «وذلك المنبر الذى جاء به معاوية ربما خرب ، وكان يعمر ، ولا يزاد فيه حتى حج الرشيد ، فأتى بمنبر له تسع درجات ، وخطب عليه ، وكان منبر مكة لم يغير إلى أيام الواثق بالله العباسى ، فأراد أن يحج ؛ فأمر أن يعمل له ثلاث منابر ، منبر بمكة ، ومنبر بمنى ، ومنبر بعرفات ، وحج وخطب عليها ، وفرق بالحرمين مالا كثيرا.

وفى أيامنا التى أدركناها من الشباب إلى المشيب ، شاهدنا منابر عملها سلاطين عصرنا ، وسنذكرها إن شاء الله تعالى.

* * *

فصل

اعلم أن ما يتحققه العاقل ، ولا يذهل عنه إلا الأبله : أن الدنيا دار الأكدار ومحل الهموم والغموم والخسران ، وأن أخف الخلق بلاء دائما الفقراء ، وأعظم الناس تعبا وهما وغما ، هم الملوك والأمراء والكبراء.

ويقال : لكل شبر قامة من الهمّ.

وقيل شعر فى ذلك :

لقد قنعت همتى بالخمول

وصدت عن الرتب العالية

١٤٩

وما جهلت طعم العلا

ولكنها تورث العافية

وقيل فى ذلك أيضا :

بقدر الصعود يكون الهبوط

فإياك والرتب العالية

وكن فى مقام إذا ما سقطت

تقوم ورجلاك فى عافية

وطالما رضيت الملوك والسلاطين بحال الفقراء والضعفاء والمساكين شعر :

فى كل بيت كربة ومصيبة

ولعل بيتك إن رأيت أقلها

فارض بحال فقرك واشكر الله تعالى على خفة ظهرك ، ولا تتعد ، وقف على حدك تجد ذلك ؛ نعمة خفية ساقها الله تعالى إليك ، ورأفة ورحمة أفاضها الله تعالى من خزائن لطفه عليك.

فاعتبر بهذه الكلمات ، وخذ لنفسك حظا وافرا من هذه العطايات.

وذلك أن هارون الرشيد ، من أعقل الخلفاد العباسيين وأكلمهم رأيا وتدبيرا وفطنة وقوة واتساع مملكة ، وكثرة خزائن ، بحيث كان يقول للسحاب : امطرى حيث شئت ، فإن خراج الأرض التى تمطرى فيها يحيى إلى.

ومع ذلك كان أتعبهم خاطرا ، وأسهر فكرا ، وأشغلهم قلبا ، وكان أولاده محمد الأمين من زبيدة بنت أبى جعفر القاسم.

* تقسيم الرشيد مملكته ما بين ولده الأمين والمأمون ، وما وقع :

وكانت زبيدة قد استولت على عقل الرشيد ، تتصرف فيه كيف أرادت ، وكان ولده منها ـ محمد الأمين ـ كثير الترف والدلال ، كثير اللهو واللعب ، ملعوبا على عقله ، لا يصلح للملك ولا يستحق الخلافة.

وولده الثانى من جارية سوداء ، اسمها مراجل ، من جوارى المطبح ، ماتت فى نفاسها ، وهو عبد الله المأمون أتم عقلا وأكمل رأيا ، وأصح تدبيرا وأكثر فضلا ومعرفة ، فيه صلاح لتدبير الملك وأهلية لأن يصير خلفا عن أبيه فى خلافته.

١٥٠

وما قدر أبوه أن يجعله ولى عهده من بعده ، محاذرة على خاطر زبيدة من ذلك ؛ فجعل محمد الأمين ولى عهده فى سنة ١٧٥ ه‍ ، ولقبه بالأمين وعمره يومئذ سنين ، تحرص أمه زبيدة على ذلك.

وجعل عبد الله المأمون ولى العهد بعد محمد الأمين ، فى سنة ١٧٩ ، وولاه ممالك خراسان بأسرها ، وعهد إلى ولده في الثالث فى سنة ١٨٩ ، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبى ، ولقبه المؤتمن ، وقسم مملكته بين هذه الثلاثة ، فقالت العقلاء : لقد ألقى بينهم ، وأضر الرعية بهم.

قال عبد الملك بن صالح :

الله قلدها هارون خلافته

لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا

وقلد الأمر هارون لرأفته

بنى أمينا ومأمونا ومؤتمنا

وطوى الرشيد الملك عن ولده الرابع ، وهو المعتصم ؛ لكونه أميا ، فأراد الله تعالى خلاف ما أراد به الرشيد ، وقتل محمد الأمين على يد عبد الله المأمون ، وصارت الخلافة بعد المأمون إلى محمد المعتصم ، ساقها الله تعالى إليه وجعل الخلفاء كلهم من نسله ، ولم يجعلها من غير نسله من أولاد الرشيد ، وأن الملك بيد الله يومئذ يؤتيه من يشاء.

وكان الرشيد لما كمل عهده لأولاده المذكورين ، فبايعوهم وعاهدوهم ، وكتب بذلك عهدا محكما ، وكتابا مبرما ، ووضع الأعيان والأكابر والأركان والأمراء والكبراء خطوطهم عليه ، وجهزهم إلى بيت الله تعالى ، وأمر بتعليقه فى وسط الكعبة الشريفة ليشتد الوثوق به ، ولا يقع خلافه.

وفى ذلك قال إبراهيم الموصلى :

خير الأمور معية

وأحق الأمر بالتمام

أمر قضى أحكامه

مولاى فى البيت الحرام

ولم يغن ذلك التدبير عما رقمه فلم التدبير فى لوح المقادير ، والله على كل شىء قدير:

١٥١

ولو كانت الدنيا تنال بغبطة

وتدبير رأى نيل أعلى المطالب

ولكنما الأقدار تجرى بقدرة

من الله لا يجدى تدابير طالب

قال شيخ شيوخنا الحافظ السيوطى (رحمه‌الله تعالى) ، وذكر محمد بن الصباح الطبرى : أن أباه شيع الرشيد من خراسان إلى النهروان ، فجعل يحادثه فى الطريق ، ويشكو الرشيد همومه ، ويتنفس عنده نفاثات الصدور إلى أن قال له : يا صباح ، أظنك لا ترانى بعد هذا ، فقلت : بل يطيل الله عمر أمير المؤمنين ، ونفديه بأرواحنا ويعيش سالما من الآفات ، فقال : إنك لا تدرى ما أجد ، فقلت : لا والله ، فقال : تعالى حتى أريك ما أخفيه عن غيرك ، وتنحى عن الطريق ، وأومأ إلى من عنده بالتنحى عنه ، فأبعد عنهم وهم يرمقونه بطرف خفى ، ثم قال : أمانة الله يا صباح اكتم امرى ، فقلت : نعم ، فكشف عن بطنه ، فإذا عصابة جرير عريض معصوبة على بطنه ، فقال : اكتمها عن كل أحد وحولى رقباء ، وكل واحد من أولادى يعدون أنفاسى علىّ.

فمسرور رقيب المأمون ، وجبريل بن يختيشوع رقيب الأمين ، وفلان ، وعد ثلاثا ، والسينة رقيب المؤتمن ، وكل منهم يحصى أيامى وساعاتى ، ويستطيل عمرى وحياتى ، ويظهر ذلك الآن منهم ، فإن طلبت برذونا لركوبى ، فيأتون به أعجف ضعيفا ، يزيد فى علتى ، ويضاعف علىّ مرضى ، ثم طلب منهم برذونا لركوبه ، فأتوه ببرذون عاجز منقطع يتعب راكبه ، كما ذكر ـ وهو يدارمهم ويصبر على ما يكابده منهم ، فنظر إلىّ نظرة حزين مكروب وركب ذلك البرذون ، فقبلت رجله وأودعته ، وفارقته ، وهم ينظرون إلىّ نظرة خفت عاقبتها ، وكف الله تعالى شرهم.

واستمر الرشيد عليلا إلى أن بلغنى وفاته بطوس (رحمه‌الله تعالى) انظر إلى هذا الملك الجليل ، والخليفة النبيل ، والسلطان الذى قل أن يوجد له مثيل ، وهو عاجز فى يد غلمانه مغلوب عليه فى ملكه وسلطانه متحسر على عظم شأنه ، متأسف على علو مكانه ، بيده خزائن الأرض ، وما يملك منها نقيرا ولا قطميرا ، ولا يقدر على شىء ، وكان ربك قديرا.

١٥٢

ولما جردت المنية موسى الحمام على هارون ، ومزق ثياب رشد الرشيد ، مخالب المنون ، وخلعت عنه خلع الخلافة ، والسلطان ، وغسلته سماء الدموع بماء الأجفان ، وحنطته بحنوط أعماله ، وأدرجته فى أكفان خصاله وحلالته ، ونقلته من سرور السعود إلى حدود اللحود ؛ فمضى كأن لم يكن شيئا مذكورا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا (١).

وقد حكى : أن الرشيد كان رأى مناما أنه يموت بطوس ، فلما وصل إلى طوسى ، وقد غلب عليه الوعك عرف أنه ميت فبكى ، واختار لنفسه مدفنا ، وقال : احفروا لى قبرا فى هذا المحل ، فحفروا له ، فقال : قربونى شفيرة ، فحملوه فى قبة ؛ إلى أن أتى القبر ؛ فسالت عبرته ، وزادت عبرته ، وقال : يا ابن آدم إلى أن تصير ، ولا بد من هذا المصير.

وأمر أن ينزل إلى لحده من يقرأ ختمة فيه ، ففعلوا ذلك ؛ فمات وصلى عليه ابنه صالح ، وألحد فى القبر بطوس لثلاث مضين من جمادى الآخر سنة ١٩١ ه‍ ، وتقدم أن مولده بالرى ، وكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وشهرين ، ونصف شهر رحمه‌الله تعالى.

* * *

فصل

لما توفى الرشيد ولى الخلافة ولده محمد الأمين ، وكان مليح الصورة أبيضا فصيحا جميلا بليغا ، سبى التدبير كثير التبذير ، ضعيف الرأى أرعن ، لا يصغى إلى قول المشير.

ولما ولى الخلافة اتخذ اللهو شعارا ، وشرب الخمر خمارا ، وخلع العذار فى العذارى ، واشترى عريب المغنية بمائة ألف دينار ، وأخذ جارية ان عمه إبراهيم المهدى بعشرين ألف دينار ، وعزل أخاه المؤتمن ، وخلع أخاه المأمون ،

__________________

(١) المقصود الآية رقم ٣٨ من سورة الأحزاب ، مدنية.

١٥٣

وأرسل إلى الكعبة المعظمة من جاءه بصحيفة عهد والده له ولأخوته ؛ فمزقها ، وعهد إلى ولد له رضيع سماه الناطق بالحق ، ودعا له على المنابر.

وممن نصح الأمين ، ومنعه من هذا الغدر والنكث خادم ابن ابن حريمة ؛ فقال : يا أمير المؤمنين ، لن ينصحك من كذبك ، ولم يغشك من صدقك ، وإنى أنصحك ولا أصدقك ، ولا أكذب فى نصحك ، لا تجرى العواد على الخلع ؛ فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد ؛ فينكثون عهدك ، وإن الغدر رشوم ، والناكث منكوب مغلوب ، وصاحب الحق مظلوم وجرت العادة بنصرة المظلوم ، وتوجه القلوب إليه ، ورقة النفوس له.

ولذلك تأثير فى الظاهر والباطن ، فأبى الأمين منه ، ونبذ كلامه ، وعمل برأيه السقيم وصمم على ذلك أشد تصميم ، وأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين ، ومعه أربعة آلاف مقاتل.

وأرسل جيشا مع على بن عيسى على أخيه المأمون ، عدتهم أربعون ألفا ، فانهزم عيسى بن على ، وقتل وذبح وتشتت عسكره ، وجاء طاهر بن حسين برأسه إلى المأمون لذلك : و (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ، غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)(١) فقوى قلب المأمون لذلك ، وكثر أتباعه ، ومال الناس إليه ، فجمع الجموع ، وسار إلى بغداد لقتال أخيه الأمين ، ولا زال أمر المأمون يحسن بحسن تدبيره ، وإتيان الناس إليه ، ويضعف أمر الأمين بكثرة لهوه ، وتقصيره ، ونفور القلوب عنه ، إلى أن حضر فى بغداد ، وتفرقت عنه جنوده ، وهربوا إلى المأمون ، كل ذلك والأمين فى لهوه وغفلته ، ولعبه مع نسائه بحضرته واحتجابه عن أهل دولته ، إلى أن هجم طاهر بن الحسين ، ودخل بغداد ، فجاء مسرور الخادم إلى الأمين ، وهو فى جنب حوض ماء ، مع جواريه يصيد معهن السمك فى ذلك الحوض.

وكان وضع فى أنف كل سمكة درة نفيسة ، شبكتها بقصب الذهب ، فكل من صادت من جواريه سمكة كانت الدرة التى فى أنفها لصائدتها ، فرفع

__________________

(١) الآية رقم ٢٤٩ من سورة البقرة ، مدنية.

١٥٤

الأمين رأسه إلى مسرور ، فقال له : إن طاهر بن الحسين دخل بعسكره إلى بغداد ، فقال : دعنى ، فإن الجارية فلانة صادت مشنقتين ، وأنا ما صدت شيئا ، فرجع مسرور باهتا ، وإذا بالحبذ قد حاطوا بدار الخلافة ونهبوها ، وأمسك طاهر بن الحسين الأمين بيده ، وحبسه ، فلما شاهد الأمين هذاي الحال ، قال لظاهر بن الحسين : يا طاهر ؛ اعلم أنه ما قام لنا قائم قط ، وكان جزاؤه عندنا إلا السيف ، انظر لنفسك ، أو دع يلوح بأبى مسلم وأمثاله الذى بذلوا أموالهم فى قيام الدولة ، فكان مالهم إلى القتل ، فهذه عادة الله تعالى فى مقيمى الدولة كعمرو بن سعيد ، أقام دولة عبد الملك بن مروان ؛ فقتله ، وأبى مسلم الخراسانى قام بدولة السفاح فقتله المنصور ، وكعبد الله القائم بدولة العبيديين ، قتله عبد الله المهدى.

وأمثال ذلك كثيرة ـ فيمن ذكرت ـ فأثرن هذه الكلمات فى قلب طاهر ، وصار يخدر منها ، إلى أن كان آخر قتله بيد المأمون.

ولما رأى طاهر بن الحسين بعد الاستيلاء على الأمين ، وحسه ، عدم سكون الفتنة ، أدخل عجما لا يعرفون اللسان على الأمين وأمرهم بقتله ، فقتلوه ، وأخذ برأسه وطيف بها فى مدينة بغداد ، ونودى عليه هذا رأس المخلوع ، إلى أن سكنت الفتنة وكان ذلك فى محرم سنة ١٩٨ ه‍.

قال محمد بن راشد : أخبرنى إبراهيم بن المهدى : أنه كان مع الأمين لما حوصر ؛ فطلبنى فى ليلة مقمرة ؛ فجئته ، فقال : ما ترى فى حسن هذه الليلة ، وضوء هذا القمر ، فاشرب معى نبيذا ، فقلت : نعم ، فسقانى ، ثم طلب جارية مغنية ، فجأت جارية اسمها ضعف فتطيرت منها ، وغنت بشعر النابغة الجعدى :

كليب لعمرى كان أكثر صرا

وأيسر ذنيا منك صرح بالدّم

فتطيب من ذلك ، وقال : غنى غير هذا ، فغنت :

أبكى فراقهم يوما فأرقنى

إن التفرق للأحباب بكاء

ما زال يعد وعليهم ذئب دهرهم

حتى تفانوا وريب الدهر عداء

١٥٥

فقال لها : لعنك الله ، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت :

أما ورب السكون والحرك

إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار ولا

دارت نجوم السماء فى الفلك

إلا لنقل السلطان عن ملك

قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذو العرش دائما أبدا

ليس بفان ولا مشترك

فقال لها : قومى لعنك الله ، فقامت ، فعثرت فى كأس بلور ؛ فكسرته ، فازداد تطيره ، فقال له إبراهيم : ما أظن أمرى إلا قد قرب ، وإذا بصوت سمعناه فى الشارع ، قضى الأمر الذى فيه تستفتيان ؛ فقام مغتما ، وقمت عنه ، فأخذ بعد ليلتين وقتل (تجاوز الله عنه).

وعظم قتل الأمين على المأمون ، وكان يريد أن يرسل به طاهر بن الحسين إليه ، ليرى رأيه فيه ، فحقد ذلك عن طاهر حتى عاش طريدا بعيدا ، وآل عمره إلى ما آل.

* * *

فصل

لما تم على الأمين ما تم ، وكان على أمه زبيدة أشد ما تم ، آل الملك إلى عبد الله المأمون بعد قتل أخيه فى سنة ١٩٨ ه‍ ، وكان من رجال بنى العباس حزما وعلما وحلما وفراسة ، وفيها سمع الحديث على جماعة ، وتأدب وفقه وبرع فى فنون التاريخ والأدب.

ولما كبر اعتنى بالفلسفة ، وفنون علم الأوائل ، فضلّ وأضل ، ومحن الناس بالقول بخلق القرآن ، ولو لا ذلك لكان يعد من أكمل الخلفاء ، وكان يضرب المثل بحمله ومن أنصافه : أنه رأى أن آل بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بالخلافة من غيرهم ؛ فهم بخلع نفسه وتفويض الأمر إلى على بن عيسى الكاظم ، وهو الذى لقبه بالرّضى ، وضرب الدراهم والدنانير باسمه ، وزوجه ابنته ، وأمره بترك السواد ، ولبس الخضرة ، وجعله ولى عهد فى

١٥٦

الخلافة ، فاشتد ذلك على بنى العباس وخرجوا عليه ، وبايعوا إبراهيم بن المهدى ، ولقبوه المبارك فسار المأمون عليه ؛ فهرب منه ، واختفى ثمان سنين ، ثم جاء إلى المأمون فى صفر سنة ٢١٠ ه‍ ، وتوفى على بن موسى الرّضا فى سنة ٢٣٠ ، وأسف عليه المأمون ، وأراد إقامة غيره.

وذكر الصولى : أن بعض أصحابه ، قال له : إنك فى بركة بأولاد على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، والأمر على برهم ، والأمر فيهم وكلمه العباسيون فى إعادة لبس السّواد ؛ فأبى ، فكرروا عليه ذلك ، إلى أن أجابهم إلى ذلك ، وأعاد شعار السواد ، وكان كثير الجهاد ، وهو الذى فتح قرة حصار ، وكان كثير العبادة ، فقيل : إنه ختم فى شهر رمضان ثلاثة وستين ختمة ، وكان العلماء محجوبين فى أيامه ، يجبرهم على القول بخلق القرآن ؛ فدعوا عليه ، فأهلكه الله تعالى ، ويقال : أن سبب موته ، أنه اشترى كل سمكة تسمى الرعادة إن لمسها أحد ، أخذته النفاضة من ساعته لشدة بردها ؛ فأكل منها فمات لوقته.

وما أمن المأمون من إطهار ويب المنون ، ونقل من الملك جسمه إلى الهلك المصون ، وأولاه التراب عن الأحباب ، وسالت عليه العيون ، ورجع إلى ربه الكريم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون (١).

وكانت وفاته لاثنى عشر ليلة ، بقيت من رجب سنة ٢١٨ ، بأرض الروم ، ودفن بطرسوس ، وفيه قال أبو سعد المخزومى :

خلفوه بعريصتى طرسوس

مثلما خلفوا أباه بطوس

هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون

أو عن ملكه المأسوس

* * *

فصل

لما مات المأمون ، ولى بعده الخلافة ، أبو إسحاق محمد المعتصم بن

__________________

(١) المقصود الآية رقم ١٥٦ من سورة البقرة ، مدنية.

١٥٧

هارون الرشيد ، مولده سنة ١٨٠ ه‍ ، وكان يقال له المثمن ؛ لأنه ثامن الخلفاء ، وثامن أولاد الرشيد ، والثامن من أولاد العباس ، واستخلف سنة ٣١٢ ه‍ ، وملك ثمانية أعوام ، وعاش ثمانية وأربعين سنة.

قال الصولى : كان مع المعتصم غلام فى الكتاب يتعلم معه القرآن ، فمات الغلام ، فقال له الرشيد : يا محمد مات غلامك ، فقال : يا سيدى قد استراح من الكتاب ، فقال : يا ولدى ، إن الكتاب يبلغ منك هذا المبلغ؟! وقال لمعلمه : اتركه لا تعلمه شيئا ، فانتشأ عاميا يكتب كتابة مغشوشة ، ويقرأ قراءة ضعيفة.

وقال نفطويه : كان المعتصم من أشد الناس قوة وبطشا ، كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه ؛ فيكسره.

نقل ذلك الحافظ السيوطى ، وتلك قوة عظيمة ما وصل إليها أحد ، وهو أول من أدخل الأتراك الدواوين ، وكان يشبه بملوك الأعاجم ، وبلغ غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا ، وبعث إلى سمرقند ، وفرغانة أموالا لشراء الأتراك ، وألبسهم أطواق الذهب والديباج ، وكانوا يطردون الخيل فى بغداد ، ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فشكاهم أهل بغداد إلى المعتصم ، واجتمعوا على بابه ، وقالوا : إن لم تخرج جندك الأتراك عنا ، حاربناك ، قال : تحاربونى ، وأنتم عاجزون عن حربى؟ فقالوا : نرمك بسهام الأسحار ، ونسل عليك بسيوف الدعاء ، فقال : والله لا أطيق ذلك ؛ ولكن انظرنى لأنظر لى إلى بلد أنتقل بهم فيها ، ولا تتضروا واد ، وكفوا عنى سهام دعائكم ، فبنى مدينة «سر من رأى» بقرب بغداد ، وانتقل إليها فى سنة ٢٠٣ ، وللمعتصم عدة غزوات مع الكفار ، أشهرها غزوة عمورية ظهرت له فيها اليد البيضاء ، ونصر فيها الملة المحمدية الغراء وخذل فيها الكفار أعداد الدين ، وأعز فيها يالإسلام والمسلمين.

وملخصها أن ملك الروم أرسل كتابا إلى المعتصم يهدده ؛ فاستشاط غضبا ، وأمر بجوابه ، فكتب له الجواب ، فلم يرضه شىء منها ، ومزق الكتاب الذى ورد عليه.

١٥٨

وأمر أن يكتب فى ظهره قطعة منها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، الجواب ما تراه لا ما تقرؤه ، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار» ، وتجهز من ساعته ؛ فمنعه المنجمون ، وقالوا : إن الطالع نحس.

فقال : هو نحس عليهم لا علينا ، وتلاحقته العسكر ، ووقع فيه حرب عظيم ، قتل ستون ألفا من النصارى ، وأسر منهم ستون ألفا ، وهرب ملكهم ، وتحصن بحصن عمورية ، فخاصره المعتصم ، ونزل به إلى أن فتحه ، وأسر ذلك الملك الكافر ، وقتله وكان ذلك فتحا عظيما من أعظم فتوح الإسلام ، ومدحه الشعراء بقصائد طنانة.

وأحسن ما قيل فيها قصيدة أبى تمام التى سارت بها الركبان ، وطنت حصارتها فيها الأسماع والأذهان ، وهى هذه القصيدة :

السيف أصدق أنباء من الكتب

فى حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف من

متونهن جلاء الشك والريب

والعلم فى شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا فى السعة الشهب

أين الرواية بل أين النجوم وما

صاغوه من زخرف منها ومن كذب

ولو تبين أمر قبل موقعه

ما يخف ما حل بالأوثان والصلب

فيه تفتح أبواب السماء له

وهزت الأرض من أثوابها القشب

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتقب فى الله مرتغب

لم يغز قوما ولم ينهض إلى بلد

إلا تقدمه جيش من الرعب

ولم يقد جحفلا يوم الوغى لغدا

من نفسه وحدها فى عسكر لجب

غداك جر الثغور المستضافة عن

برق الثغور وعن سلسالها الخصب

حتى تركت عمود الشرك منعفرا

ولم تعرج على الأوتاد والطنب

إن الأسود أسود القاب همتها

يوم الكريهة فى المسلوب لا السلب

خليفة الله جاز الله سعيك عن

جرثومة الدين والإسلام والحسب

١٥٩

إن كان بين ضروب الدهر من رحم

موصولة أو ذمام غير منعصب

بين أيامك التى نصرت بها

وبين أيام درا قر النسب

انظر هذا الدر المندور ، والجوهر الذى يزرى بجواهر العقود ، وتنزه فى رياض ألفاظه ومعانيه ، واجن نمار البلاغة من معاطف أزهاره ومجانية.

وخذ بالحظ الوافر ، من ذوق تراكيبه ومبانيه ، وكان المعتصم من أغلظ الخلفاء الذين ألزموا الناس بالقول بخلق القرآن ، وهذه من أعظم خصاله الردّية ، مع أنه كان عاميا ، لاحظ له من الكمالات العلمية ، بل جهله على ذلك مجرد الجهل والعصبية وما كان أغناه هو وأخوه عن إلزام العلماء بهذه الجهليات عدوا وبغيا.

وما لهم والدخول فى هذه المسالك الضيقة ، ضلالا وغياما ، وما حملهم على ذلك غير الجهل والغرور بهذه الدنيا ، حاضرا ولا يظلم ربك أحد.

ولما جرد عليه الأجل سيف المنون ، فاعصم المعتصم ظهور الحسن ، ولا منعه من جسام الحمام ، مال ولا بنون.

كل حى فى الحمام فؤادى

ما لحى مؤمل من خلود

لا يهاب المنون شىء ولا

يرعى على والد ولا مولود

يقدح الدهر فى تباريح رضوى

ويحط الصخور من هبود

ولقد تركت الحوادث والأيام

أيام وهنا فى الصخرة الجلود

كأنا كالزرع يحصدنا الد

هر فمن بين قائم وحصيد

يحكم الله ما يشاء ويمضى

ليس حكم الله بالمردود

ليس ينجى من المنون حصون

عاليات ، ولا حصار جديد

ومن أرجى دعائه لما احتضر : اللهم إنك تعلم أنى أخافك من قبلى لا من قبلك ، وأرجوك من قبلك لا من قبلى ، فيا من لا يزول ملكه ، ارحم ملكا

١٦٠