مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-039-0
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٦٢

قال : نسبتك إيّاي إلى الجنون من غير محنة منك ولا تجربة ولا نظر في صدقي أو كذبي.

فقال الحارث : أو ليس قد عرفت كذبك وجنونك بدعواك النبوّة التي لا تقدر لها!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وقولك «لا تقدر لها» فعل المجانين ، لأنّك لم تقل : لم قلت كذا ، ولا طالبتني بحجّة فعجزت عنها.

فقال الحارث : صدقت ، أنا أمتحن أمرك بآية أطالبك بها ، إن كنت نبيّا فادع تلك الشجرة ـ وأشار إلى شجرة عظيمة ـ فإن أتتك علمت أنّك رسول الله ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشار إليها فانقلعت تلك الشجرة بأصولها وعروقها وجعلت تخدّ في الأرض أخدودا كالنهر حتّى دنت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووقفت بين يديه ، ونادت بصوت فصيح : فها أنا ذا يا رسول الله ما تأمرني؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعوتك لتشهدي لي بالنبوّة بعد شهادتك لله تعالى بالتوحيد ، ثمّ تشهدي لعليّ هذا بالإمامة ، فنادت الشجرة : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّك ـ يا محمّد ـ عبده ورسوله أرسلك بالحقّ بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وأشهد أنّ عليّا ابن عمّك أوفر خلق الله من الدين حظّا ، وأجز لهم من الإسلام نصيبا ، وهو أخوك في دينك وسناد ظهرك وقامع أعدائك وناصر أوليائك ، وباب علومك في أمّتك.

فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحارث بن كلدة وقال : يا حارث أو مجنون من هذا حاله وآياته؟

فقال الحارث : لا والله يا رسول الله ، ولكن أشهد أنّك رسول الله تبارك وتعالى وأنت سيّد الخلق أجمعين ، فأسلم وحسن إسلامه.

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : وأمّا كلام الذراع المسمومة فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٣٤١

لمّا رجع من خيبر إلى المدينة وقد فتح الله عليه جائته امرأه من اليهود وقد أظهرت الإيمان ومعها ذراع مسمومة مشويّة وضعتها بين يديه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذه؟ قالت له : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، كان لي حمل وعلمت أنّ أحبّ الطعام إليك الذراع المشويّ فنذرت لله لئن سلّمك الله منهم لأذبحنّه ولأطعمنّك من شواء ذراعيه ، والآن لقد سلّمك الله منهم وأظفرك عليهم وقد جئتك بنذري.

وكان مع رسول الله البراء بن معرور فمدّ يده وأخذ منه لقمة فوضعها في فيه ، فقال عليّ بن أبي طالب : يا براء ، لا تتقدّم على رسول الله ، فقال البراء ـ وكان أعرابيّا ـ : يا عليّ ، كأنّك تبخّل رسول الله! فقال عليّ : ما أبخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّي أبجّله وأوقّره ليس لي ولا لك ولا لأحد من خلق الله أن يتقدّم رسول الله بقول ولا فعل ولا أكل وشرب. فقال البراء : أما أبجّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال عليّ : ما لذلك قلت ولكن هذه هديّة جائت بها يهوديّة تظهر الإسلام ولسنا نعرف حالها فإذا أكلته بأمر رسول الله فهو الضامن لسلامتك منه ، وإذا أكلته بغير إذنه وكلك إلى نفسك. وكان عليّ بن أبي طالب يقول هذا والبراء يلوك اللقمة.

وإذا أنطق الله الذراع وقالت : يا رسول الله ، لا تأكلني فإنّي مسمومة ، فسقط البراء في سكرات الموت ولم يرفع إلّا ميّتا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ايتوني بالمرأة ، فأتي بها ، فقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقالت : وترتني وترا عظيما ؛ قتلت أبي وإخوتي وعمّي وابني ، ففعلت هذا وقلت : إن كان ملكا فأنتقم منه وإن كان نبيّا كما يقول فيمنعه الله منه ويحفظ ولن يضرّه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّتها المرأة لقد صدقت ، ثمّ قال لها رسول الله : لا يغرّك موت البراء فإنّما امتحنه الله لتقدّمه بين يدي رسول الله ولو كان بأمر رسول الله يأكل لكفي شرّ سمّه ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أدع لي فلانا وفلانا ، وذكر قوما من أصحابه فيهم سلمان وأبوذر والمقداد وعمّار وبلال وصهيب ، وقال : أقعدوا وتحلّقوا

٣٤٢

عليه ، فوضع رسول الله يده على الذراع المسمومة ونفث عليه وقال : «بسم الله الشافي ، بسم الله الكافي ، بسم الله المعافي ، بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء ولا داء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» ثمّ قال : كلوا على اسم الله ، فأكل رسول الله وأكلوا حتّى شبعوا ثمّ شربوا عليه الماء فلمّا كان اليوم الثاني جاء بها ، فقال : أليس هؤلاء أكلوا ذلك السمّ بحضرتك فكيف رأيت دفع الله عن نبيّه وأصحابه؟ فقالت : يا رسول الله ، كنت إلى الآن في نبوّتك شاكّة والآن قد أيقنت أنّك رسول الله حقّا فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّك عبده ورسوله ، وحسن إسلامها.

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : لمّا حملت جنازة براء بن معرور إلى رسول الله ليصلّي عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا : يا رسول الله ، إنّه ذهب في حاجة رجل من المسلمين إلى قبا ، فجلس رسول الله ولم يصلّ عليه ، قالوا : يا رسول الله ، مالك لا تصلّي عليه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزوجل أمرني أن أؤخّر الصلاة عليه إلى أن يحضره عليّ بن أبي طالب فيجعله في حلّ ممّا كلّمه به بحضرة رسول الله ليجعل موته بهذا السمّ كفّارة له.

فقال له بعض من حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وشاهد الكلام الذي تكلّم به براء بن معرور : يا رسول الله ، إنّما كان مزاحا مازح عليّا ولم يكن منه جدّا فيأخذه الله عزوجل بذلك. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كان ذلك منه جدّا لأحبط الله تعالى أعماله كلّها ، ولو تصدّق بمثل ما بين الثرى إلى العرش ذهبا وفضّة ، ولكنّه كان مزحا وهو في حلّ من ذلك إلّا أنّ رسول الله يريد أن لا يعتقد أحد منكم أنّ عليّا عليه‌السلام واجد عليه فأريد أن يجدّد بحضرتكم إحلاله ويستغفر له ليزيده الله عزوجل بذلك قربة ورفعة في جنازته ، فلم يلبث أن حضر عليّ بن أبي طالب وقال : رحمك الله يا براء ولقد كنت صوّاما قوّاما ، وسممت في سبيل الله ، ثمّ قام رسول الله فصلّى عليه ودفن.

٣٤٣

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : وأمّا كلام الذئب بإعجاز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ رسول الله كان جالسا ذات يوم إذ جائه راع ترتعد فرائصه قد استفزعه العجب ، فلمّا رآه من بعيد قال لأصحابه : إنّ لصاحبكم هذا شأنا عجيبا ، فلمّا وقف قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حدّثنا بما أزعجك؟ قال الراعي : يا رسول الله ، أمري عجيب ، كنت في غنمي إذ جاء ذنب فتناول حملا فرميته بمقلاعي فانتزعته منه ثمّ جاء إلى الجانب الأيمن فتناول حملا فرميته بمقلاعي فانتزعته منه ، ثمّ جاء مع أنثاه يريدان أن يتناولا حملا فأردت أن أرمينه فأقعى على ذنبه فقال : أما تستحي تحول بيني وبين رزقي وقد قسمه الله ، أفما أحتاج أنا إلى غذاء أتغذّى به؟! فقلت : ما أعجب من هذا ذئب أعجم يكلّمني كلام الآدميّين ، فقال لي الذئب : ألا أنبئك بما هو أعجب من كلامي لك ، محمّد رسول الله ربّ العالمين يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق من الأوّلين وما لم يأت من الآخرين والناس يكذّبونه واليهود مع علمهم بصدقه ووجوده في كتبهم التي نزلت من ربّ العالمين بأنّه أصدق الصادقين وأفضل الفاضلين يكذّبونه ويجحدونه ، ويحك يا راعي آمن به تأمن من عذاب الله ، وأسلم تسلم من سوء العذاب الأليم.

فقلت له : والله لقد عجبت من كلامك واستحيت من منعي لك ، فكلّما شئت الآن من غنمي فدونك لا أدافعك ولا أمانعك. فقال لي الذئب : يا عبد الله ، أحمد الله إذ كنت ممّن يعتبر بآيات الله وينقاد لأمره ولكن الشقي كلّ الشقي من يشاهد آيات محمّد في أخيه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وما يؤدّيه عن الله عزوجل من فضائله وما يراه من وفور حظّ من العلم والعمل الذي لا نظير له فيه ، والزهد الذي لا يحازيه أحد فيه ، والشجاعة التي لا عدل له فيها ، ونصرته للإسلام التي لا حظّ لأحد فيها مثل حظّه ثمّ يرى مع ذلك كلّه رسول الله يأمر بموالاته وموالاة أوليائه والتبرّي من أعدائه ويخبر أنّ الله تعالى لا يقبل من أحد عملا وإن جلّ وعظم ممّن خالفه ثمّ هو

٣٤٤

مع ذلك يخالفه ويدفعه عن حقّه ويظلمه ويوالي أعدائه ويعادي أوليائه ، إنّ هذا أعجب من تكلّمي.

قال الراعي : فقلت : أيّها الذئب أو كائن هذا؟ قال : بلى. قال : وما هو أعظم منه؟ قال : سوف يقتلونه باطلا ويقتلون ولده ويسبون حريمهم ومع ذلك يزعمون أنّهم مسلمون يدّعون أنّهم على دين الإسلام.

قال الراعي : فقلت : والله لو لا هذه الأغنام أمانة في رقبتي لقصدت محمّدا حتّى أراه ، فقال لي الذئب : يا عبد الله ، فامض إلى محمّد واترك الغنم عليّ لأرعاها. فقلت : كيف أثق بأمانتك؟ فقال لي : يا عبد الله ، إنّ الذي أنطقني بما سمعت هو الذي يجعلني قويّا أمينا عليها ، أولست مؤمنا بمحمّد مسلّما له فامض لشأنك فإنّي راعيك والله عزوجل.

فتركت غنمي على الذئب والذئبة وجئتك يا رسول الله ، فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجوه القوم وفيها ما يتهلّل سرورا به وفيها من يعبس شكّا فيه وتكذيبا ، فأسرّ المنافقون وقالوا : إنّ هذا قد واطأه محمّد ليخدع به الضعفاء الجهّال ، فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لئن شككتم أنتم فيه فقد تيقّنته أنا وصاحبي صاحب المناقب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي جعله الله لديني قوّاما ، ولعلومي أعلاما ، وفي الحروب مقداما ، وعلى أعدائه ضرغاما أسدا قمقاما لم يضرّني عبوس المعبّس المعرض عنكم ، هذا الراعي ولم يباعد مشاهدته فهلمّوا بنا إلى قطيعه ننظر إلى الذئبين فإن كلّمتا ووجدناهما يرعيان غنمه وإلّا كنّا على رأس أمرنا.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار فلمّا رأوا القطيع من بعيد قال الراعي : ذاك القطيع ، فقال المنافقون : فأين الذئبان؟ فلمّا قربوا رأوا الذئبين يطوفان حول الغنم يردان عنها كلّ غنم يبعدها ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتحبّون أن تعلموا أنّ الذئب ما عنى غيري بكلامه؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال :

٣٤٥

أحيطوا بي حتّى لا يراني الذئبان ، فأحاطوا به وقال للراعي : يا راعي ، قل للذئبين : من محمّد الذي ذكرته من بين هؤلاء؟ قال : فجاء الذئب إلى واحد منهم وتنحّى عنه ، ثمّ جاء إلى الآخر وتنحّى عنه ، فما زال حتّى دخل وسطهم فوصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأنثاه وقال : السّلام عليك يا رسول الله وسيّد الخلق أجمعين ، ووضعا خدودهما على التراب ومرّغاها بين يديه وقالا : نحن كنّا دعاة إليك ، بعثنا إليك هذا الراعي وأخبرناه بخبرك.

فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المنافقين معه ، فقال : ما للكافرين عن هذا محيص ، ولا للمنافقين من هذا معدل ، وقد علمتم صدق الراعي فيها ، أتحبّون أن تعلموا صدقه في الثانية ـ يعني عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : أحيطوا بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ففعلوا ، ثمّ نادى رسول الله : يا أيّها الذئبان ، إنّ هذا محمّد قد أشرتما للقوم إليه فأشيروا إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي ذكرتماه. قال : فجائه الذئبان وتخلّل القوم وجعلا يتأمّلان الوجوه والأقدام حتّى بلغا عليّا فلمّا تأمّلاه مرغا في التراب أبدانهما ووضعا على الأرض بين يديه خدودهما وقال : السّلام عليك يا وصيّ المصطفى وعالما في الصحف الأولى ، السّلام عليك يا من أسعد الله به محبّيه وأشقى بعداوته شانئيه ، فعجب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا معه وقالوا : يا رسول الله ، ما ظنّنا أنّ لعليّ هذا المحلّ من السباع مع محلّه منك. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف لو رأيتم محلّه من سائر الحيوانات المنبثّات في البحر والبرّ ، وتواضع أملاك سدرة المنتهى والحجب والعرش الكرسيّ.

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : وأمّا حنين الجذع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ رسول الله كان يخطب بالمدينة إلى جذع نخلة في صحن مسجدها ، فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، إنّ الناس قد كثروا وإنّهم يحبّون النظر إليك إذا تخطب ، فلو أذنت أن تعمل لك منبرا له مراق ترقاها فيراك الناس إذا خطبت ، فأذن في ذلك ، فلمّا كان

٣٤٦

يوم الجمعة مرّ بالجذع فجاوزه إلى المنبر فصعده فلمّا استوى عليه حنّ ذلك الجذع حنّ حنين الثكلى وأنّ أنين الحبلى ، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم ، فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع واحتضنه ومسح يده عليه وقال : أسكن فما تجاوزك النبيّ تهاونا بك ولا استخفافا بحرمتك ولكن ليتمّ لعباد الله مصلحتهم فهدأ حنينه.

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : أمّا قلب الله السمّ على اليهود الذين قصدوا به إهلاكهم فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا ظهر بالمدينة اشتدّ حسد عبد الله بن أبي له فدبّر عليه أن يحفر له حفيرة في مجلس من مجالس داره ويبسط فوقها بساط ونصب في أسفل الحفيرة أسنّة ورماح ونصب سكاكين مسمومة وشدّ أحد جوانب البساط والفراش إلى الحائط ليدخل رسول الله وخواصّه مع عليّ عليه‌السلام فإذا وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجله على البساط وقع في الحفيرة وكان قد خبئ في داره رجالا بسيوف مشهورة يخرجون على عليّ عليه‌السلام ومن معه عند وقوع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحفيرة فيقتلونهم بها ثمّ دبّر السمّ في طعامه فجائه جبرئيل فأخبره بذلك ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقعد على البساط وحوله أصحابه وأكلوا من الطعام المسموم ولم يصبهم مكروه.

ثمّ جاء أصحاب عبد الله بن أبي وأكلوا من فاضل الطعام ظنّا منهم إنّه ليس بمسموم فماتوا بأجمعهم وجائت بنت عبد الله بن أبي ورأت تحت البساط أرضا ملتئمة فجلست على البساط واثقة فأعاد الله الحفيرة فسقطت فيها وهلكت فوقعت الصيحة. فقال عبد الله بن أبي : إيّاكم أن تقولوا وقعت في الحفيرة فيعلم محمّد ما دبّرناه عليه ، فقالوا : سقطت من السطح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا أعلم بماذا ماتت.

قال عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام : أمّا تكثير الله القليل من الطعام فإنّ رسول الله كان يوما جالسا هو وأصحابه وقال : أشتهي حريرة ، وقال الآخر : أشتهي حمل

٣٤٧

المشوي. فقال عبد الله بن أبي : هذا والله اليوم الذي أكيد فيه محمّدا ونقتله ونخلص العباد والبلاد منه. فقال : يا رسول الله ، أنا أضيفكم عندي شيء من برّ وسمن وعسل ، وعندي حمل مشوي ، فعمل ما يشتهون جعل فيه السمّ ، فجاء فقال : هلمّوا إليّ ، فقال رسول الله : أنا ومن معي من هؤلاء؟ فقال : دون هؤلاء لأنّ الشيء قليل لا يشبع أكثر من خمسة إلى عشرة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تعالى يبارك لنا ، فنادى : يا معاشر المهاجرين والأنصار ، هلمّوا إلى مائدة عبد الله بن أبي ، فجاؤوا مع رسول الله وهم سبعمائة فأكلوا حتّى شبعوا ووسعهم الله البيت ثمّ خرجوا سالمين ولم يصبهم مكروه.

روايته عليه‌السلام في احتجاج رسول الله مع المشركين واليهود

روى المجلسيّ في الرابع من البحار والطبرسيّ في الاحتجاج بإسناد إلى أبي محمّد العسكري عليه‌السلام في خبر طويل ملخّصه أنّه عليه‌السلام قال : قلت لأبي عليّ بن محمّد عليه‌السلام : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاندوه؟ قال عليه‌السلام : بلى مرارا كثيرة : منها : ما حكى الله من قولهم : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) إلى قوله (رَجُلاً مَسْحُوراً)(١).

وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٢).

وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (كِتاباً نَقْرَؤُهُ)(٣).

وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعدا ذات يوم بمكّة بفناء الكعبة إذا اجتمع إليه جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري ابن هشام

__________________

(١) الفرقان : ٧ ـ ٨.

(٢) الزخرف : ٣١.

(٣) الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٣٤٨

وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أميّة المخزومي ، وكان معهم جمع ممّن يليهم كثير ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدّي إليهم عن الله أمره ونهيه.

فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد وعظم خطبه ، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والإحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ، ويصغّر قدره عندهم ، فلعلّه ينزع عمّا هو فيه من غيّه وباطله وتمرّده وطغيانه ، فإن انتهى وإلّا عاملناه بالسّيف الباتر.

قال أبو جهل : فمن ذا الّذي يلي كلامه ومجادلته؟

قال عبد الله بن أبي أميّة المخزومي : أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرنا حسبيا ومجادلا كفيّا؟

قال أبو جهل : بلى.

فأتوه بأجمعهم ، فابتدأ عبد الله بن أبي أميّة المخزومي فقال : يا محمّد لقد ادّعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا ؛ زعمت أنّك رسول الله ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله ؛ بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الرّوم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلّا كثير المال ، عظيم الحال ، له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدّام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم فهم عبيده ، ولو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمّد إلّا رجلا مسحورا ولست بنبي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل بقي من كلامك شيء؟

قال : بلى ، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من فينا أكثره مالا ، وأحسنه حالا ، فهلّا أنزل هذا «القرآن» الّذي زعم أنّ الله أنزله عليك وابتعثك به

٣٤٩

رسولا على رجل من القريتين عظيم ؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة ، وإمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل بقي من كلامك شيء يا عبد الله؟

فقال : بلى ، لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكّة هذه ، فإنّها ذات أحجار وعرة وجبال ، تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون ، فإنّنا إلى ذلك محتاجون ، أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا فتفجّر الأنهار خلالها ، خلال تلك النّخيل والأعناب تفجيرا ، أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفا ، فإنّك قلت لنا (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) الآية (١) ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون ، أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا به فلعلّنا نطغى ، وإنّك قلت لنا : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(٢) ثمّ قال لصعودك : أو ترقى في السّماء ولن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أميّة المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب فإنّه رسولي ، وصدّقوه في مقاله أنّه من عندي ، ثمّ لا أدري يا محمّد إذا فعلت هذا كلّه اؤمن بك أو لا اؤمن بك ، بل لو رفعتنا إلى السّماء وفتحت أبوابها وأدخلتنا لقلنا إنّما سكّرت أبصارنا وسحرتنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله أبقي شيء من كلامك؟

قال : يا محمّد أو ليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ؟ ما بقي شيء فقل ما بدا لك وافصح عن نفسك إن كان لك حجّة ، وأتنا بما سألناك به.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهمّ أنت السّامع لكلّ صوت ، والعالم بكلّ شيء ، تعلم ما قاله عبادك.

__________________

(١) الطور : ٤٤.

(٢) العلق : ٦ ـ ٧.

٣٥٠

فأنزل الله عليه : يا محمّد (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) إلى قوله (رَجُلاً مَسْحُوراً)(١) ثمّ قال الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٢) ، ثمّ قال : يا محمّد (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(٣) وأنزل عليه : يا محمّد (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الآية (٤) ، وأنزل الله عليه : يا محمّد (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) إلى قوله : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٥).

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله أمّا ما ذكرت من أنّي آكل الطّعام كما تأكلون ، وزعمت أنّه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنّما الأمر لله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو محمود ، وليس لك ولا لأحد الإعتراض عليه بلم وكيف ، ألا ترى أنّ الله كيف أفقر وأغنى بعضا ، وأعزّ بعضا وأذلّ بعضا ، وأصحّ بعضا وأسقم بعضا ، وشرّف بعضا ووضع بعضا ، وكلّهم ممّن يأكل الطّعام ، ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا : لم أفقرتنا وأغنيتهم ، ولا للوضعاء أن يقولوا : لم وضعتنا وشرّفتهم ، ولا للزمنى والضعفاء أن يقولوا : لم أزمنتنا وأضعفتنا وصحّحتهم ، ولا للأذلّاء أن يقولوا : لم أذللتنا وأعززتهم ، ولا لقباح الصّور أن يقولوا : لم قبّحتنا وجمّلتهم ، بل إن قالوا ذلك كانوا على ربّهم رادّين ، وله في أحكامه منازعين ، وبه كافرين ، ولكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعزّ المذلّ المصحّح المسقم ، وأنتم العبيد ليس لكم إلّا التّسليم لي والإنقياد لحكمي ، فإن سلّمتم

__________________

(١) الفرقان : ٧ ـ ٨.

(٢) الإسراء : ٤٨.

(٣) الفرقان : ١٠.

(٤) هود : ١٢.

(٥) الأنعام : ٨ ـ ٩.

٣٥١

كنتم عبادا مؤمنين ، وإن أبيتم كنتم بي كافرين ، وبعقوباتي من الهالكين. ثمّ أنزل الله عليه : يا محمّد (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعني آكل الطّعام (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(١) يعني قل لهم أنا في البشريّة مثلكم ، ولكن ربّي خصّني بالنبوّة دونكم كما يخصّ بعض البشر بالغنى والصحّة والجمال دون بعض من البشر ، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوّة.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا قولك : «هذا ملك الرّوم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلّا كثير المال ، عظيم الحال ، له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدّام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم فهم عبيده» ؛ فإنّ الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنّك وحسبانك ولا باقتراحك ، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو محمود ، يا عبد الله إنّما بعث الله نبيّه ليعلّم النّاس دينهم ويدعوهم إلى ربّهم ويكدّ نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره ، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها ، وعبيد وخدم يسترونه عن النّاس ، أليس كانت الرّسالة تضيع والامور تتبطّأ؟ أو ما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون؟

يا عبد الله ، إنّما بعثني الله ولا مال لي ليعرّفكم قدرته وقوّته وأنّه هو النّاصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالته ، فهذا بيّن في قدرته وفي عجزكم ، وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا ، ثمّ يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا قولك لي : «لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا» ؛

__________________

(١) الكهف : ١١٠.

٣٥٢

فالملك لا تشاهده حواسّكم لأنّه ليس من جنس هذا الهواء لا عيان منه ، ولو شاهدتموه ـ بأن يزاد في قوى أبصاركم ـ لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر ، لأنّه إنّما كان يظهر لكم بصورة البشر الّذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده ، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأنّ ما يقوله حقّ؟ بل إنّما بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات الّتي ليست في طبائع البشر الّذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عمّا جاء به أنّه معجزة وأنّ ذلك شهادة من الله بالصّدق له ، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما تعجزون عنه ويعجز عنه جميع البشر لم يكن في ذلك ما يدلّكم أنّ ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتّى يصير ذلك معجزا ، ألا ترون أنّ الطّيور الّتي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأنّ لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها؟ ولو أنّ آدميّا طار كطيرانها كان ذلك معجزا ، فإنّ الله عزوجل سهّل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجّته وأنتم تقترحون عمل الصّعب الّذي لا حجّة فيه.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا قولك : «ما أنت إلّا رجل مسحور» ؛ فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أنّي في صحّة التميز والعقل فوقكم؟ فهل جرّبتم عليّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية أو زلّة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي؟ أتظنّون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدّة بحول نفسه وقوّتها أو بحول الله وقوّته؟ وذلك ما قال الله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجّة أكثر من دعاويهم الباطلة الّتي تبيّن عليك تحصيل بطلانها.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا قولك : «لو لا نزّل هذا «القرآن» على رجل من القريتين عظيم ؛ الوليد بن المغيرة بمكّة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف» ؛ فإنّ الله ليس يستعظم مال الدّنيا كما تستعظمه أنت ، ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو

٣٥٣

كانت الدّنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقي كافرا به ومخالفا له شربة ماء ، وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرّحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو عزوجل ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله فعرّفته بالنبوّة لذلك ، ولا ممّن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصّه بالنبوّة لذلك ، ولا ممّن يحبّ أحدا محبّة الهواء كما تحبّ أنت فتقدّم من لا يستحقّ التقديم وإنّما معاملته بالعدل فلا يؤثّر إلّا بالعدل لأفضل مراتب الدّين وجلاله إلّا الأفضل في طاعته والأجدّ في خدمته ، وكذلك لا يؤخّر في مراتب الدّين وجلاله إلّا أشدّهم تباطأ عن طاعته ، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال والحال من تفضّله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب ، فلا يقال له إذا تفضّلت بالمال على عبد فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوّة أيضا لأنّه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ، ولا إلزامه تفضّلا لأنّه تفضّل قبله بنعمه.

ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحدا وقبّح صورته ، وكيف حسّن صورة واحد وأفقره؟ وكيف شرّف واحدا وأفقره ، وكيف أغنى واحدا ووضعه؟ ثمّ ليس لهذا الغنيّ أن يقول : هلّا أضيف إلى يساري جمال فلان؟ ولا للجميل أن يقول : هلّا اضيف إلى جمالي مال فلان؟ ولا للشريف أن يقول : هلّا اضيف إلى شرفي مال فلان؟ ولا للوضيع أن يقول : هلّا اضيف إلى ضعتي شرف فلان؟ ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كيف يشاء وهو حكيم في أفعاله ، محمود في أعماله ، وذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يا محمّد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) فأحوجنا بعضا إلى بعض ، أحوج هذا إلى مال ذلك ، وأحوج ذلك إلى سلعة هذا

__________________

(١) الزخرف : ٣٢.

٣٥٤

وإلى خدمته ، فترى أجلّ الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب ؛ إمّا لسلعة معه ليست معه ، وإمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به ، وإمّا باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير ، فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني ، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ، ثمّ ليس للملك أن يقول : هلّا اجتمع إليّ إلى مالي علم هذا الفقير؟ ولا للفقير أن يقول : هلّا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرّف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني؟ ثمّ قال الله : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ثمّ قال : يا محمّد قل لهم : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(١) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدّنيا.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا قولك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى آخر ما قلته ، فإنّك قد اقترحت على محمّد رسول الله أشياء :

منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوّته ، ورسول الله يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتجّ عليهم بما لا حجّة فيه.

ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك ، وإنّما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها ، فإنّما اقترحت هلاكك ، وربّ العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كمما تقترحون.

ومنها المحال الّذي لا يصحّ ولا يجوز كونه ورسول ربّ العالمين يعرّفك ذلك ويقطع معاذيرك ويضيّق عليك سبيل مخالفته ، ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتّى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص.

ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنّك فيه معاند متمرّد لا تقبل حجّة ولا تصغي

__________________

(١) الزخرف : ٣٢.

٣٥٥

إلى برهان ، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله النّازل من سمائه أو في جحيمه أو بسيوف أوليائه.

فأمّا قولك يا عبد الله «لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكّة هذه فإنّها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون فإنّنا إلى ذلك محتاجون» فإنّك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيّا؟

قال : لا.

قال رسول الله : أرأيت الطائف الّتي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذلّلتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟

قال : بلى.

قال : وهل لك في هذا نظراء؟

قال : بلى.

قال : فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟

قال : لا.

قال : فكذلك لا يصير هذا حجّة لمحمّد لو فعله على نبوّته ، فما هو إلّا كقولك : لن نؤمن لك حتّى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي النّاس ، أو حتّى تأكل الطّعام كما يأكل النّاس.

وأمّا قولك يا عبد الله «أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنها وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا» أو ليس لك ولأصحابك جنّات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجّرون الأنهار خلالها تفجيرا ، أفصرتم أنبياء بهذا؟

قال : لا.

٣٥٦

قال : فما بال اقتراحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلّت على صدقه ، بل لو تعاطاها لدلّ تعاطيها على كذبه لأنّه يحتجّ بما لا حجّة فيه ، ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ، ورسول ربّ العالمين يجلّ ويرتفع عن هذا.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله وأمّا قولك (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) فإنّك قلت : وإن يروا كسفا من السّماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ، فإنّ في سقوط السّماء عليكم هلاككم وموتكم ، فإنّما تريد بهذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يهلكك ، ورسول ربّ العالمين أرحم بك من ذلك ، لا يهلكك ولكنّه يقيم عليك حجج الله ، وليس حجج الله لنبيّه وحده على حسب اقتراح عباده ، لأنّ العباد جهّال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد ، وقد يختلف اقتراحهم ويتضادّ حتّى يستحيل وقوعه ، والله عزوجل طبيبكم ، لا يجري تدبيره على ما يلزم به المحال.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم؟ وإنّما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه ؛ أحبّه العليل أو كرهه ، فأنتم المرضى والله طبيبكم ، فإن أنقدتم لدوائه شفاكم ، وإن تمرّدتم عليه أسقمكم.

وبعد ؛ فمتى رأيت يا عبد الله مدّعي حقّ من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكّامهم فيما مضى بيّنة على دعواه على حسب اقتراح المدّعى عليه؟ إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولا حقّ ، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله وأمّا قولك «أو تأتي بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم» فإنّ هذا من المحال الّذي لا خفاء به ، وإنّ ربّنا عزوجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرّك ويقابل شيئا حتّى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال ، وإنّما هذا الّذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة الّتي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.

٣٥٧

يا عبد الله أوليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكّة وقوّام عليها؟

قال : بلى.

قال : أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟

قال : بسفراء.

قال : أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك وخدمك لسفرائك : لا نصدّقكم في هذه السّفارة إلّا أن تأتونا بعبد الله بن أبي اميّة لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاها ، هل كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟

قال : لا.

قال : فما الّذي يجب على سفرائك؟ أليس إن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلّهم على صدقهم يجب عليهم أن يصدّقوهم؟

قال : بلى.

قال : يا عبد الله أرأيت سفيرك لو أنّه لمّا سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك : قم معي فإنّهم قد اقترحوا عليّ مجيئك معي ، أليس يكون هذا لك مخالفا وتقول له : إنّما أنت رسول لا مشير ولا آمر؟

قال : بلى.

قال : فكيف صرت تقترح على رسول ربّ العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم؟ وكيف أردت من رسول ربّ العالمين أن يستذمّ إلى ربّه بأن يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوّامك؟ هذه حجّة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كلّ ما اقترحته يا عبد الله.

وأمّا قولك يا عبد الله («أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) ـ وهو الذهب ـ» أما بلغك أنّ لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟

٣٥٨

قال : بلى.

قال : أفصار بذلك نبيّا؟

قال : لا.

قال : فكذلك لا يوجب لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبوّة لو كان له بيوت ، ومحمّد لا يغتنم جهلك بحجج الله.

وأمّا قولك يا عبد الله (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) ثمّ قلت : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) يا عبد الله الصعود إلى السّماء أصعب من النّزول عنها ، وإذا اعترفت على نفسك أنّك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول ، ثمّ قلت : «حتّى تنزل علينا كتابا نقرؤه من بعد ذلك ثمّ لا أدري اؤمن بك أو لا اؤمن بك» فأنت يا عبد الله مقرّ بأنّك تعاند حجّة الله عليك ، فلا دواء لك إلّا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكة الزبانية ، وقد أنزل الله عليّ حكمة بالغة جامعة لبطلان كلّ ما اقترحته ، فقال تعالى : (قُلْ) يا محمّد (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(١) ما أبعد ربّي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهّال ممّا يجوز وممّا لا يجوز ، وهل كنت إلّا بشرا رسولا لا يلزمني إلّا إقامة حجّة الله الّتي أعطاني ، وليس لي أن آمر على ربّي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرّسول الّذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.

فقال أبو جهل : يا محمّد هاهنا واحدة ؛ ألست زعمت أنّ قوم موسى احترقوا بالصاعقة لمّا سألوه أن يريهم الله جهرة؟

قال : بلى.

قال : فلو كنت نبيّا لاحترقنا نحن أيضا ، فقد سألنا أشدّ ممّا سأل قوم موسى ،

__________________

(١) الإسراء : ٩٣.

٣٥٩

لأنّهم كما زعمت قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ونحن نقول : لن نؤمن لك حتّى تأتي بالله والملائكة قبيلا نعاينهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا جهل أما علمت قصّة إبراهيم الخليل لمّا رفع في الملكوت ، وذلك قول ربّي : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(١) قوّى الله بصره لمّا رفعه دون السّماء حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين ، فرأى رجلا وامرأة على فاحشة ، فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثمّ رأى آخرين ، فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثمّ رأى آخرين فهمّ بالدّعاء عليهما فأوحى الله إليه : يا إبراهيم إكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإنّي أنا الغفور الرّحيم الجبّار الحليم ، لا يضرّني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم ، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك ، فاكفف دعوتك من عبادي وإمائي فإنّما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي ، وعبادي معي بين خلال ثلاث : إمّا تابوا إليّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم ، وإمّا كففت عنهم عذابي لعلمي بأنّه سيخرج من أصلابهم ذرّيّات مؤمنون ؛ فأرفق بالآباء الكافرين وأتأنّى بالامّهات الكافرات ، وأرفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم ، فإذا تزايلوا حلّ بهم عذابي وحاق بهم بلائي ، وإن لم يكن هذا ولا هذا فإنّ الّذي أعددته لهم من عذابي أعظم ممّا تريده بهم ، فإنّ عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي ، يا إبراهيم خلّ بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك ، وخلّ بيني وبين عبادي فإنّي أنا الجبّار الحليم العلّام الحكيم ، ادبّرهم بعلمي ، وأنفذ فيهم قضائي وقدري.

يا أبا جهل إنّما دفع عنك العذاب لعلمه بأنّه سيخرج من صلبك ذرّيّة طيّبة

__________________

(١) الأنعام : ٧٥.

٣٦٠