مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-039-0
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٦٢

وعن الباقر عليه‌السلام : إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم.

نعم يكره الجمع بين كنيته بأبي القاسم وتسميته بمحمّد للنهى الوارد في الأخبار فيه. وعن الجعفريّات ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لا أحلّ لأحد أن يتسمّى باسمي ولا يتكنّى بكنيتي إلّا مولود لعليّ عليه‌السلام من غير ابنتي فاطمة ، فقد نحلته اسمي وكنيتي وهو محمّد بن عليّ المعروف بابن الحنفيّة.

وعن دعائم الإسلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه نهى عن أربع كنى : عن أبي عيسى وأبي الحكم وعن أبي مالك وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمّد ، أنهى عن ذلك ساير الناس ورخّص فيه لعليّ عليه‌السلام ، وقال : المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي.

وعن الصادق عليه‌السلام قال : من السنّة والبرّ أن يكنى الرجل باسم ابنه.

وعن فقه الرضا عليه‌السلام : سمّوا أولادكم بأحسن الأسماء ، وكنّوهم بأحسن الكنى.

وذكر الشيخ الحرّ في الوسائل كراهية التسمية بالحكم والحكيم وخالد ومالك وحارث وضرار ومرّة وحرب وظالم وضريس وأسماء أعداء الأئمّة ، وكراهة كون الكنية أبا مرّة أو أبا عيسى أو أبا الحكم أو أبا مالك أو أبا القاسم إذا كان الاسم محمّد.

وكان للكنية شأن عظيم عند العرب وكانوا يتفاخرون بها ، ولم يكن للكنية في الأمم السالفة رسم ولا اسم ثمّ تداول بين العجم ، وكانت الكنية أهمّ من اللقب عند العرب ، قال شاعرهم :

أكنّيه حين أنادي به لأكرمه

ولا ألقّبه والسؤتة اللقبا

كذاك أدّبت حتّى صار من خلقي

إنّي وجدت ملاك الشيمة الأدبا

وكانت الكنية شرفا للمولود في المهد عند العرب.

وذكر العلّامة المجلسي في البحار رواية وفيها قال رسول الله لولده الحسين عليه‌السلام

٢١

يوم ولد : يا أبا عبد الله ، وكنّاه بهذه الكنية.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

نحن الكرام وطفلنا في المهد يكنى

إنّا إذا قعد اللئام على بساط العزّ قمنا

* * *

مناقب آل المصطفى قدوة الورى

بهم يبتغى مطلوبه كلّ طالب

مناقب تجلى سافرات وجوهها

ويجلو سناها مدلهمّ الغياهب

ألقابه عليه‌السلام

قال ابن شهر آشوب في المناقب : وألقابه : النجيب ، المرتضى ، الهادي ، النقي ، العالم ، الفقيه ، الأمين ، المؤتمن ، الطيّب ، المتوكّل ، العسكري.

وزاد في كشف الغمّة : الناصح والفتّاح. وقال : وأشهرها المتوكّل ، وكان يخفي ذلك ويأمر أصحابه أن يعرضوا عنه لأنّه كان لقب الخليفة يومئذ.

واللقب جمعه ألقاب ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ)(١).

وقال في المجمع : وقد يكون علما من غير نبز ، فلا يكون حراما.

واللقب مثل الكنية ممدوح ، وهو إمّا مشعر بالمدح أو الذمّ ، والنهي في الآية محمول على الألقاب المذمومة بحيث أنّ الملقّب يكره من ذلك ، ووضع اللقب أيضا للتعظيم والتوقير ، وبه أمر الشارع كما قال الله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(٢).

وفي الحديث : حقّ المؤمن على أخيه أن يسمّيه بأحبّ أسمائه.

__________________

(١) الحجرات : ١١.

(٢) النور : ٦٣.

٢٢

وكثرة الأسماء والألقاب دليل على شرف الملقّب والمسمّى به ، وكلّ لقب يشير إلى وصف مخصوص ، ولمّا كان الأئمّة سلام الله عليهم مستجمعين لجميع الصفات الكماليّة فليس لألقابهم حدّ محدود ، فكلّ صفة تدلّ على المدح تنطبق عليهم سوى الألوهيّة. وفي الحديث : نزّهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم.

نعم ، بعض الألقاب مختصّ لبعضهم ، مثل لقب أمير المؤمنين يختصّ بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والعسكريّين لعليّ الهادي والحسن العسكري لما قيل أنّ المحلّة التي يسكنها الإمامان بسرّ من رأى كانت تسمّى عسكر فلذلك قيل لكلّ واحد منهما العسكري ، وله وجه آخر سيأتي في معاجزه إن شاء الله ، ونحو خاتم الأوصياء والمنتظر المختصّان بالحجّة عجّل الله تعالى فرجه.

ثمّ إنّ ألقاب الأئمّة عليهم‌السلام بعضها نزل من السماء كما في خبر اللوح الآتي ذكره ، وبعضها من وضع آبائهم عليهم‌السلام ، وبعضها جرى على لسان أصحابهم في مخاطباتهم ومراسلاتهم ، نحو ابن الرضا عليه‌السلام.

فنقول على هذا الأصل : إنّ مولانا أبا الحسن الثالث عليّ الهادي كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت عليه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم ينفجر العلم من جوانبه كالبحر الزخّار ، هو من بيت الرسالة والإمامة ، ومقرّ الوصيّة والخلافة ، وكان عليه‌السلام نور الأصفياء وهادي الأولياء ، وقبلة الرحمة ، وقدوة الأوصياء ، وكاشف الغمّة ، إمام الأتقياء ، أمين الأمناء ، ثمال الضعفاء ، غصّة الأعداء ، مرشد العلماء ، أفقه الفقهاء ، وأعلم القرّاء ، وأقضى ذوي القضاة ، وأبلغ البلغاء ، وأخطب الخطباء ، وأنطق الفصحاء ، ودافع الكرب والبلوى ، ومعزّ الأولياء ، ومذلّ الأعداء ، وأفضل من يمشي على الغبراء ، وأشرف من كان تحت أديم السماء ، المطهّر المجتبى المنذر المرتضى ، خليفة ربّ الأرض والسماء ، المأمون المقتدى ، العروة الوثقى ، الآية الكبرى ، الحجّة العظمى ،

٢٣

السبب الأعلى ، المستقيم على الهدى ، غيث الندى ، مفتاح الهدى ، مصباح الدجى ، جوهر النّهى ، شمس الضحى ، ربّ الحجى ، بعيد المدى ، قليل الهوى ، يحكم عدلا ، وينطق فصلا ، وأشرف من صام وصلّى.

كاشف الكروب ، العالم بالغيوب ، المبرّأ من الذنوب ، المنزّه عن العيوب ، المخصوص بأشرف الأصل والحسب ، الهاشميّ الأب ، الآمر بالأدب ، ابن سيّد ولد آدم ، مفتاح النجاة ، والكرم السابق بالخيرات ، التالي للآيات ، القبلة للسادات ، المبيّن للمشكلات ، الدافع للمعضلات ، صاحب المعجزات ، النقيّ العابد ، والداعي الشاهد ، الإمام الطاهر ، القمر الباهر ، البحر الزاخر ، وكلمة الله العليا ، والحجّة الكبرى ، وآية الله العظمى ، ووجه الله الأعلى ، وحجاب الله الأعظم ، ودليل للقاصدين ، ومنار للمهتدين ، وسبيل للسالكين ، وشمس مشرقة في قلوب العارفين ، والسراج الوهّاج ، والسبيل والمنهاج والبحر العجاج ، والسحاب الهاطل ، والغيث الهائل ، والبدر الكامل ، والسماء الظليلة ، والنعمة الجليلة ، والطيب الرفيق ، والأب الشفيق ، مفزع العباد في الدواهي ، والحاكم والآمر والناهي ، مهيمن الله على الخلائق وأمينه على الحقائق ، بشر ملكيّ ، وجسد سماويّ ، ونور جليّ ، وسرّ خفيّ ، ومقام على السنام الأعظم والطريق الأقوم صلوات الله عليه.

ولنعم ما قال أبو الغوث فيهم عليهم‌السلام :

إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا

فحسبك من هاد يشير إلى هاد

مقاويل إن قالوا ، بهاليل إن دعوا

وفاة بميعاد كفاة بمرتاد

إذا أوعدوا أعفوا ، وإن عدّوا وفوا

فهم أهل فضل عند وعد وإيعاد

كرام إذا ما أنفقوا المال أنفدوا

وليس لعلم أنفقوه من إنفاد

ينابيع علم الله أطواد دينه

فهل من نفاد إن علمت لأطواد

عباد لمولاهم موالي عباده

شهود عليهم يوم حشر وإشهاد

هم حجج الله اثنتى عشرة متى

عدوت فثاني عشرهم خلف الهاد

٢٤

اسمه عليه‌السلام في التوراة

في شرح القصيدة لأبي فراس ، اسمه في التوراة «يطور».

وذكر العلّامة الخبير الميرزا محمّد رضا ـ الذي كان من فحول علماء اليهود فمنّ الله عليه بالإسلام واستبصر وصار من علماء الشيعة ـ في كتابه إقامة الشهود في الردّ على اليهود المطبوع الفارسي (١) ما حاصل تعريبه : وفي سفر التكوين من التوراة في فصل الخامس والعشرين آية الإحدى والثلاثين : بنايوت : علي ، قيدار : حسن ، ارئيل : حسين ، ميسام : علي ، ميشماع : محمّد ، دوماه : جعفر ، مسا : موسى ، حدر : علي ، تيما : محمّد ، يطور : علي ، نافيش : حسن ، قيدماه : مهدى.

وسيأتي في أحوال الحجّة عجّل الله تعالى فرجه ما يشبه ذلك عن كتاب مقتضب الأثر.

ولقد أجاد من قال في قصيدة له في مدحهم عليهم‌السلام :

ذرّيّة مثل ماء المزن قد طهروا

وطيبوا وصفت أوصاف ذاتهم

أئمّة أخذ الله العهود لهم

على جميع الورى من قبل خلقهم

قد حقّقت سورة الأحزاب ما جحدت

أعدائهم وأبانت فرض حبّهم

كفاهم ما بعمّا والضحى شرفا

والنور والنجم من آي أتت بهم

سل الحواميم هل في غيرهم نزلت

وهل أتى هل أتى إلّا بمدحهم

شمائله عليه‌السلام

كان الإمام عليّ الهادي كثّ اللحية ، أسمر اللون ، أدعج (٢) العينين ، شثن (٣)

__________________

(١) إقامة الشهود في الردّ على اليهود : ٤٨.

(٢) الدعج ـ بالتحريك ـ والدعجة ، شدّة سواد العين مع سعتها والأسود.

(٣) شثن ـ بالفتح وسكون الثاني ـ أي إنّهما يميلان إلى الغلظ.

٢٥

الكفّين ، عريض الصدر ، أقنى الأنف ، أفلج الأسنان ، حسن الوجه ، طيّب الريح ، وكان جسيم البدن شبيه جدّه أبو جعفر محمّد الباقر عليه‌السلام ، ولم يكن بالقصير المتردّد (١) ولا بالطويل الممّغط (٢) ، بعيد المنكبين ضخم الكراديس (٣).

قطرة من بحار فضائله من كتب الفريقين

قال ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة : فضل أبي الحسن عليّ الهادي : قد ضرب على المجرّة قبابه ، ومدّ على نجوم السماء أطنابه ، وما تعدّ منقبة إلّا وله أفخرها ، ولا تذكر مكرمة إلّا وله فضيلتها ، ولا نورد محمّدة إلّا وله تفصيلها وجملتها ، ولا يستعظم حاله السنيّة إلّا ونظر عليه أدلّتها ، استحقّ ذلك بما في جوهر نفسه من كرم تفرّد بخصائصه ، ومجد حكم فيه على طبعه الكريم يحفظه من الشوب حفظ الراعي لقلائصه (٤) ، فكانت نفسه مهذّبة وأخلاقه مستعذبة وسيرته عادلة وأفعاله فاضلة والمعروف بوجود وجوده عامرة آهلة ، وهو من الوقار والسكون والطمأنينة والعفّة والنزاهة والخمول والزهادة والنباهة على السيرة النبويّة والشنشنة العلويّة ونفس زكيّة وهمّه عالية لا يقاربها أحد من الأنام ولا يدانيها ، وطريقة حسنة مرضيّة لا يشاركه فيها خلق ولا يطمع فيها.

وقال محمّد بن طلحة الشافعيّ في مطالب السئول : أمّا مناقب عليّ الهادي ما حلّ في الآذان محلّ حلاها باشنافها ، واكتنفته شغفا اكتناف اللئالي الثمينة بأصدافها ، وشهد لأبي الحسن عليّ الهادي أنّ نفسه موصوفة بنفائس أوصافها ، وأنّها نازلة

__________________

(١) المتردّد المتناهي في القصر.

(٢) الممّغط ـ بتشديد الميم الثانية ـ المتناهي في الطول.

(٣) والكراديس جمع كردوس وهو رؤوس العظام أي ضخم الأعضاء.

(٤) جمع قلوص وهو ولد الناقة.

٢٦

من الدرجة النبوّة في ذرى أشرافها ، وشرفات أعراقها.

وذلك أنّ أبا الحسن كان يوما قد خرج من سرّ من رأى إلى قرية لمهمّ عرض له ، فجاء رجل من الأعراب يطلبه ، فقيل له : قد ذهب إلى الموضع الفلاني ، فقصده فلمّا وصل إليه قال له : ما حاجتك؟ فقال : أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقد ركبني دين فادح أثقلني حمله ولم أر من أقصده لقضائه غيرك. فقال له أبو الحسن : طب نفسا وقرّ عينا ، ثمّ أنزله ، فلمّا أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن : أريد منك حاجة ، الله الله أن تخالفني فيها. فقال الأعرابيّ : لا أخالفك فيها ، فكتب أبو الحسن ورقة بخطّه معترفا فيها أنّ عليه للأعرابي مالا عيّنه فيها يرجح على دينه ، وقال : خذ هذا الخطّ فإذا وصلت إلى سرّ من رأى أحضر الخطّ وعندي جماعة فطالبني به وأغلظ القول عليّ في ترك إيفائك إيّاه ، والله الله في مخالفتي ، فقال : أفعل ، وأخذ الخطّ.

فلمّا وصل أبو الحسن إلى سرّ من رأى وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم خرج ذلك الرجل وأخرج الخطّ وطالبه وقال كما أوصاه ، فألان له أبو الحسن القول ورقّقه له وجعل يعتذر ووعده بوفائه وطيّبه نفسه ، فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكّل فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن ثلاثون ألف درهم ، فلمّا حملت إليه تركها إلى أن جاء الأعرابي فقال : خذ هذا المال اقض منه دينك وأنفق الباقي إلى عيالك وأهلك وأعذرنا. فقال له الأعرابي : يابن رسول الله ، والله إنّ أملي كان يقصر عن ثلث هذا ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فأخذ المال وانصرف.

فهذه منقبة من سمعها حكم له بمكارم الأخلاق ، وقضى له بالمناقب المحكوم بشرفها بالاتفاق ، انتهى.

وقال ابن حجر في صواعقه : وكان عليّ الهادي وارث أبيه علما وسخاء.

٢٧

وقال المسعودي في إثبات الوصيّة : حدّث أبو عبد الله محمّد بن أحمد الحلبي القاضي قال : حدّثني الخضر بن محمّد البزّاز وكان شيخا مستورا ثقة يقبله القضاة والناس ، قال : رأيت في المنام كأنّي على شاطي دجلة بمدينة السّلام في رحبة الجسر والناس مجتمعون خلق كثيرين يزاحم بعضهم بعضا وهم يقولون : قد أقبل بيت الحرام ، فبينما نحن كذلك إذا رأيت البيت بما عليه من الستاير والديباج والقباطي قد أقبل مادّا على الأرض يسير حتّى عبر الجسر من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي والناس يطوفون به وبين يديه يخرّون حتّى دخل دار خزيمة.

إلى أن قال : فلمّا كان بعد أيّام خرجت في حاجة حتّى انتهيت إلى الجسر فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون : قد قدم ابن الرضا عليه‌السلام من المدينة فرأيته قد عبر عن الجسر على شهري (١) تحته كبير يسير عليه سيرا رقيقا والناس بين يديه وخلفه وجاء حتّى دخل دار خزيمة بن حازم ، فعلمت أنّه تأويل الرؤيا التي رأيتها ، ثمّ خرج إلى سرّ من رأى.

وقال القطب الراوندي في الخرايج : وأمّا عليّ بن محمّد الهادي فقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وتكامل فضله وعلمه وخصاله الخير ، وكانت أخلاقه كلّها خارقة للعادة كأخلاق آبائه ، وكان بالليل مقبلا على القبلة لا يفتّر ساعة ، وعليه جبّة صوف وسجّادة على حصير ، ولو ذكرنا محاسن شمائله لطال بها الكتاب.

وقال أحمد بن عبد القادر العجلي الشافعي في ذخيرة المآل على ما في المجلّد الثاني المتضمّن لحديث الثقلين من عبقات الأنوار (٢) للسيّد العلّامة الأمير حامد حسين الهندي من قصيدة له في مدحهم :

__________________

(١) بالكسر ضرب من البرازين.

(٢) عبقات الأنوار ٢ : ٣٩.

٢٨

ولا رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حبل الله وهو ولائهم

كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل

إذا افترقت في الدين سبعون فرقة

ونيّفا على ما جاء في واضح النقل

ولم يك ناج منهم غير فرقة

فقل لي بها يا ذا الوجاهة والعقل

أفي الفرقة الهلّاك آل محمّد

أم الفرقة اللاتي نجت منهم قل لي

فإن قلت في الناجين فالقول واحد

وإن قلت في الهلّاك عدت عن العدل

إذا كان مولى القوم منهم فإنّني

رضيت بهم لا زال في ظلّهم ظلّي

رضيت عليّا لي إماما ونسله

وكنت من الباقين في أوسع الحلّ

ولنعم ما قال السيّد الحميري من قصيدة له في مدحهم أوردها المرزباني :

يا رهط أحمد إنّ من أعطاكم

ملك الورى وعطائه أقسام

ردّ الوراثة والخلافة فيكم

وبنو أميّة صاغرون رغام

لمتمّم لكم الذي أعطاكم

ولكم لديه زيادة وتمام

ما زلت أعرف فضلكم وبحبّكم

قلبي عليه وإنّني لغلام

أوذى وأشتم فيكم ويصيبني

من ذي القرابة جفوة وملام

وقال :

مناقبهم مثل النجوم كأنّها

مصائبهم لم يحصها الدهر حاسب

وهم للورى إمّا نعيم مؤبّد

وإمّا عذاب في القيامة واصب

وقال :

هم أبحر العلم التي قذفت لنا

جودا بكلّ يتيمة عصماء

فاض الكمال عليهم من جدّهم

وسنا الكواكب من سناء ذكاء

وقال :

٢٩

ما عسى أن يقال في مدح قوم

أسّس الله مجدهم تأسيسا

ما عسى أن يقال في مدح قوم

قدّس الله ذكرهم تقديسا

هم هداة الورى وهم أكرم

الناس أصولا شريفة ونفوسا

روى أبو عبد الله محمّد بن مسلم بن أبي الفوارس الرازي الشافعي في مقدّمة أربعينه ما نصّه : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي فهما خليفتاي من بعدي أحدهما أكبر من الآخر سبب موصول من السماء إلى الأرض فإن استمسكتم بهما لن تضلّوا فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة ؛ فلا تسبقوا أهل بيت بالقول فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهم فتذهبوا ، فإنّ مثلهم فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك ، ومثلهم فيكم كمثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له.

ألا وإنّ أهل بيتي أمان لأمّتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمّتي ما يوعدون.

ألا وإنّ الله عصمهم من الضلالة وطهّرهم من الفواحش ، واصطفاهم على العالمين.

ألا وإنّ الله أوجب محبّتهم وأمر بمودّتهم.

ألا وإنّهم الشهداء على العباد في الدنيا ويوم المعاد.

ألا وإنّهم أهل الولاية الدالّون على طرق الهداية.

ألا وإنّ الله فرض لهم الطاعة على الفرق والجماعة ؛ فمن تمسّك بهم سلك ومن حاد عنهم هلك.

ألا وإنّ العترة الهادية الطيّبون دعاة الدين وأئمّة المتقين وسادة المسلمين وقادة المؤمنين وأمناء ربّ العالمين على البريّة أجمعين الذين فرّقوا بين الشك واليقين وجاؤوا بالحقّ المبين.

أقول : وقد استوفينا الكلام في المجلّد الخامس من كتابنا الكلمة التامّة في أنّ

٣٠

حديث الثقلين متواتر من طرق أبناء السنّة فضلا عن الشيعة ، وأوضحنا دلالته على عصمتهم ووجوب طاعتهم وعدم جواز تقديم الغير عليهم وكفر من هتك حرمتهم ، وأثبتنا به وجوب مودّتهم وأعلميّتهم وإمامتهم.

ولنعم ما قال دعبل الخزاعيّ من قصيدة له في مدحهم :

هم أهل ميراث النبيّ إذا اعتزوا

وهم خير سادات وخير حماة

إذا لم نناجي في صلواتنا

بأسمائهم لم يقبل الصلوات

مطاعيم في الأقتار في كلّ مشهد

لقد شرفوا بالفضل والبركات

وقال أبو نؤاس :

مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علويّا حين تنسبه

فما له من قديم الدهر مفتخر

والله لما برى خلقا فأتقنه

صفاكم واصطفاكم أيّها البشر

وأنتم الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جائت به السور

وقال أحمد بن عبد القادر العجلي الشافعي في مدح أهل البيت :

تعلّموا منهم وقدّموهم

تجاوزوا عنهم فعظّموهم

ثمّ قال : أمّا التعلّم منهم فقد صحّ أنّهم معادن الحكمة وصحّ في حديث الثقلين فلا تقدّموا عليهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، وأمّا التقديم فهم أولى بذلك وأحقّ في مواضع كثيرة منها الإمامة الكبرى وتقديمهم في الخروج والدخول والمشي والكلام وغيرها.

وفي العبقات (ج ٢) المتضمّن لحديث الثقلين (ص ١٨٦) ما نصّه : روى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني الشافعي في منقبة المطهّرين بالإسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما ومعه عليّ والحسن والحسين فخطبنا وقال : أيّها الناس ، إنّ هؤلاء أهل بيت نبيّكم قد شرّفهم الله

٣١

بكرامته ، واستحفظهم بسرّه ، واستودعهم علمه ، عماد الدين ، وشهداء على أمّته ، برأهم قبل خلقه إذ هم أظلّة تحت عرشه نجباء في علمه ، وارتضاهم واصطفاههم فجعلهم علماء وفقهاء لعباده ، ودلّهم على صراطه.

فهم الأئمّة المهديّة والقادة الداعية والأئمّة الوسطى والرحم الموصولة ، هم الكهف الحصين للمؤمنين ، ونور أبصار المهتدين وعصمة لمن لجأ إليهم ، ونجاة لمن احترز بهم ، يغتبط من والاهم ، ويهلك من عاداهم ، ويفوز من تمسّك بهم ، الراغب عنهم مارق من الدين ، والمقصّر عنهم زاهق ، واللازم بهم لاحق.

فهم الباب المبتلى بهم ، من أتاهم نجا ، ومن أباهم هوى ، هم حطّة لمن دخله ، وحجّة الله على من جهله ، إلى الله يدعون ، وبأمر الله يعملون ، وبآياته يرشدون ، فيهم نزلت الرسالة ، وعليهم هبطت ملائكة الرحمة ، وإليهم بعث الروح الأمين تفضّلا من الله ورحمة ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين. فعندهم بحمد الله ما لم يلتمس ويحتاج من العلم والهدى في الدين ، وهم النور من الضلالة عند دخول الظلم ، وهم الفروع الطيّبة من الشجرة المباركة ، وهم معدن العلم وأهل بيت الرحمة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. ومثله في الخصائص العلويّة لأبي الفتح محمّد بن عليّ بن إبراهيم النطنزيّ الشافعيّ.

وقال أيضا في المجلّد المذكور (ص ١٨٨) : روى شهاب الدين أحمد بن سبط قطب الدين في توضيح الدلائل ـ الذي ألّفه في ترجيح الفضائل وهو من أكابر أبناء السنّة والجماعة ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة طويلة وفيها قال : سيكون من بعدي أقوام يكذبون عليّ فيقبل منهم ومعاذ الله أن أقول على الله تعالى إلّا الحقّ أو أنطق بأمره إلّا الصدق ، وما آمركم إلّا ما أمرني به ، ولا أدعوكم إلّا إلى الله ، (وَسَيَعْلَمُ

٣٢

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١).

فقام إليه عبادة بن صامت فقال : ومتى ذلك يا رسول الله؟ ومن هؤلاء عرّفناهم لنحذرهم.

قال : أقوام قد استعدّوا لنا من يومهم وسيظهرون لكم إذا بلغت النفس منّي هاهنا ـ وأومأ إلى حلقه ـ.

فقال عبادة : إذا كان ذلك فإلى من يا رسول الله؟

فقال : عليكم بالسمع والطاعة للسابقين من عترتي ، والآخذين من نبوّتي فإنّهم يصدّونكم عن الغيّ ، ويدعونكم إلى الخير ، وهم أهل الحقّ ومعادن الصدق ، يحيون فيكم كتاب الله وسنّة رسول الله ، ويجنّبونكم الإلحاد والبدعة ، ويقمعون بالحقّ أهل الباطل ، لا يميلون مع الجاهل. أيّها النّاس ، إنّ الله خلقني وخلق أهل بيتي من طينته لم يخلق منها غيرها ، كنّا أوّل من ابتدأ من خلقه ، فلمّا خلقنا نوّر بنورنا كلّ ظلمة ، وأحيا بنا كلّ طينة.

ثمّ قال عليه‌السلام : هؤلاء خيار أمّتي وحملة علمي وخزانة سرّي وسادة أهل الأرض الداعون إلى الحقّ ، المخبرون بالصدق غير شاكّين ولا مرتابين ولا ناكصين ولا ناكثين ، هؤلاء الهداة المهتدون والأئمّة الراشدون ، المهتدي من جائني بطاعتهم وولايتهم ، والضالّ من عدل عنهم وجائني بعداوتهم ، حبّهم إيمان وبغضهم نفاق ، هم الأئمّة الهادية وعرى الأحكام الواثقة ، بهم يتمّ الأعمال الصالحة ، وهم وصيّة الله في الأوّلين والآخرين والأرحام التي أقسمكم الله بها إذ يقول : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(٢) ، ثمّ ندبكم إلى حبّهم فقال : (قُلْ لا

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) النساء : ١.

٣٣

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١) ، هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم من النجس ، الصادقون إذا نطقوا ، العالمون إذا سئلوا ، الحافظون لما استودعوا ، جمعت فيهم الخصال العشر : الحلم والعلم والنبوّة والنبل والسماحة والشجاعة والصدق والطهارة والعفاف والحكم ، فهم كلمة التقوى ووسيلة الهدى والحجّة العظمى والعروة الوثقى ، هم أوليائكم من قول ربّكم وعن قول ربّي أمرتكم ، الحديث.

ولنعم ما قال محمّد بن حبيب الضبّيّ في قصيدة له في مدحهم :

لو لا الأئمّة واحد عن واحد

درس الهدى واستسلم الإسلام

كلّ يقوم مقام صاحبه إلى

أن ينتهي بالقائم الأيّام

ابن النبيّ وحجّة الله التي

هي للصلاة وللصيام قيام

ما الناس إلّا ما أقرّ بفضلكم

والجاحدون بهائم وهوام

بل هم أضلّ عن السبيل بكفرهم

والمقتدى منهم بهم أزلام

يدعون في دنياكم وكأنّهم

في جحدهم إنعامكم أنعام

يا نعمة الله التي تحبوا بها

من يصطفي من خلقه منعام

وقال غيره :

ما شكّ في فضل آل فاطمه

إلّا امرؤ كان أصله نغل

خدّي لأقدام آل فاطمة

إذا تخطّوا على الثرى نعل

* * *

يا آل أحمد يا مصابيح الدجى

ومنار منهاج السبيل الأقصد

لكم الحطيم وزمزم ولكم منى

وبكم إلى سبل الهداية يهتدي

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

٣٤

وقال الآخر :

هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصا

يمسك في أخراه بالسبب الأقوى

هم القوم فاق العالمين مناقبا

محاسنهم تجلّى وآثارهم تروى

موالاتهم فرض وحبّهم هدى

وطاعتهم ودّ وودّهم تقوى

وذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة (١) للشيخ شمس الدين ابن العربي قوله :

رأيت ولائي آل طه فريضة

على رغم أهل البعد يورثني القربا

فما طلب المبعوث أجرا على الهدى

بتبليغه إلّا المودّة في القربى

وذكر ابن الصبّاغ المالكي في الفصول (٢) : لقائل :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها

مناقبهم جائت بوحي وإنزال

مناقب في شورى وسورة هل أتى

وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي

وهم آل بيت المصطفى فودادهم

على الناس مفروض بحكم وإسجال

ولنعم ما قال دعبل من قصيدة له في مدحهم :

هم أهل ميراث النبيّ إذا اعتزوا

وهم خير قادات وخير حمات

وإن فخروا يوما أتوا بمحمّد

وجبريل والفرقان ذي السورات

ملامك في أهل النبيّ فإنّهم

أحبّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيّرتهم رشدا لأمري فإنّهم

أحبّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيّرتهم رشدا لأمري فإنّهم

على كلّ حال خيرة الخيرات

فيا ربّ زدني من يقيني بصيرة

وزد حبّهم يا ربّ في حسنات

بنفسي أنتم من كهول وفتية

لفكّ عناة أو لحمل ديات

أحبّ قصيّ الوجه من أجل حبّكم

وأهجر فيكم أسرتي وبنات

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ١٠١.

(٢) الفصول المهمّة : ١٣.

٣٥

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميّز فينا كلّ حقّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

إذا لم نناج الله في صلواتنا

بذكرهم لم يقبل الصلوات

أئمّة عدل يقتدى بفعالهم

ونؤمن منهم زلّة العثرات

وكيف ومن آتي يطالب زلفة

إلى الله بعد الصوم والصلوات

علوم الأئمّة لدنيّ

وروى محمّد خواوند شاه الشافعي في روضة الصفا في ترجمة مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإنّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة عليها‌السلام ، وعندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه.

فسئل عن تفسير هذا الكلام ، فقال : أمّا الغابر فالعلم بما يكون ، وأمّا المزبور فالعلم بما كان ، وأمّا النكت في القلوب فهو الإلهام ، وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة عليهم‌السلام نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم ، وأمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولن يخرج حتّى يقوم قائمنا أهل البيت ، وأمّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وكتب الله الأولى ، وأمّا مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة ، وأمّا الجامعة فهو كتاب طوله سبعون ذراعا ؛ إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فلق فيه وخطّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتّى أنّ أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة.

وروى هذه الرواية الكليني في الكافي والمفيد في الإرشاد والطبرسي في

٣٦

الاحتجاج بعين هذه الألفاظ ، وكان صاحب روضة الصفا أخذها منهم.

وقال الدميري الشافعي في حياة الحيوان في لغة جفر ما نصّه : قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر جلد جفر كتب فيه الإمام جعفر بن محمّد الصادق لآل البيت كلّ ما يحتاجون إلى علمه وكلّ ما يكون إلى يوم القيامة ، وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعرّيّ بقوله :

لقد عجبوا لأهل البيت لمّا

أتاهم علمهم في مسك جفر

ومرآت المنجّم وهي صغرى

أرته كلّ عامرة وقفر

وقال نور الدين عليّ بن محمّد المعروف بابن الصبّاغ المالكي في فصول المهمّة ما نصّه : علوم آل محمّد لا تتوقّف على التكرار والدرس ، ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس لأنّهم المخاطبون في أسرارهم ، المحدّثون في النفس ، فسماء معارفهم وعلومهم بعيدة عن الإدراك واللمس ، ومن أراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس ، وهذا ممّا يجب ان يكون ثابتا مقرّرا في النفس ، فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ، ويقفون على حقائق المعارف في خلوات العبادة.

إلى أن قال : فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمان الولادة ، ولا شكّ أنّ كلّ واحد من الأئمّة الإثنى عشر كان أعلم أهل زمانه وأحلمهم وأورعهم وأزهدهم وأعبدهم وأشدّهم في دين الله ، وأكرمهم كرما ونزاهة وطيب ذات وجلالة صفات ، ويكفي في ذلك ما سنتلوه عليك من أجوبة الإمام عليّ الهادي عن المسائل الغامضة التي عجز عنها ممّن كان في عصره ومن ظهور هيبته وجلالته عند الخاصّ والعام ، فلله درّ هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار وحبك به من علوّ مقدار ، فهم جميعا في كرم الأرومة وطيب الجرثومة كأسنان المشط متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فيا له من بيت عالي الرتبة ، سامي المحلّة ، فلقد طاول السماك علا ونبلا وسما على

٣٧

الفرقدين منزلة ومحلّا ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثني فيه ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمّة انتظام اللئالي ، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتّت شملهم والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه ، أحيانا الله على حبّهم وأماتنا عليه وأدخلنا في شفاعة من ينتمون في الشرف صلى‌الله‌عليه‌وآله.

النصوص الواردة على إمامة مولانا أبي الحسن عليّ الهادي

عموما وخصوصا ، المنقولة من كتب الفريقين

وهي كثيرة جدّا نكتفي بقليل منها تبصرة لمن طلب الانصاف وجانب الاعتساف ، ولو أردنا الخوض في هذا المضمار لا حتجنا إلى مجلّدات كبار لكن في النذر القليل كفاية لمن طلب الحقّ والدراية.

الأوّل : خبر الخيراني : روى المفيد في الإرشاد بسنده عن الخيرانيّ عن أبيه قال : كنت ألزم باب أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام للخدمة التي وكّلت بها ، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر في آخر كلّ ليلة ليعرف خبر علّة أبي جعفر ، وكان الرسول الذي يتخلّف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا بي الرسول واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام ، فقال الرسول : إنّ مولاك يقرأ عليك السّلام ويقول لك : إنّي ماض والأمر صائر إلى ابني عليّ ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي ، ثمّ مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه ، فقال : ما الذي قال لك؟ قلت : خيرا ، قال : سمعت ما قال ، وأعاد عليّ ما سمع ، فقلت : قد حرّم الله عليك ما فعلت لأنّ الله تعالى يقول : (وَلا تَجَسَّسُوا)(١) فإن

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

٣٨

سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوما ، وإيّاك أن تظهرها إلى وقتها.

قال : وأصبحت وكتبت نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا وقلت : إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها. فلمّا مضى أبو جعفر عليه‌السلام لم أخرج من منزلي حتّى علمت أنّ رؤساء العصابة اجتمعوا عند محمّد بن الفرج يتفاوضون في الأمر ، فكتبت إلى محمّد بن الفرج يعلمني باجتماعهم عنده ويقول : لو لا مخافة الشهرة لصرت معهم إليك ، فأحبّ أن تركب إليّ ، فركبت وصرت إليه فوجدت القوم مجتمعين عنده ، فتجارينا في الباب فوجدت أكثرهم قد شكّوا ، فقلت لمن عنده الرقاع وهم حضور : أخرجوا تلك الرقاع ، فأخرجوها ، فقلت لهم : هذا ما أمرت به ، فقال بعضهم : قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكّد هذا القول. فقلت لهم : قد آتاكم الله بما تحبّون ، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة فسألوه ، فسأله القوم فتوقّف عن الشهادة ، فدعوته إلى المباهلة فخاف منها وقال : قد سمعت ذلك وهي مكرمة كنت أحبّ أن يكون لرجل من العرب فأمّا مع المباهله فلا طريق إلى كتمان الشهادة ، فلم يبرح القوم حتّى تسلّموا لأبي الحسن.

قال المفيد بعد نقله هذه الرواية : والأخبار في هذا الباب كثيرة جدّا إن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب ، وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن وعدم من يدّعيها سواه في وقته ممّن يلتبس الأمر فيه غنى عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل.

٢ ـ رواية أبي خالد : روى الكلينيّ في الكافي بسنده عن أبي خالد مولى أبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليه‌السلام قال : إنّ أبا جعفر عليه‌السلام أوصى إلى ابنه عليّ الهادي عليه‌السلام.

٣ ـ رواية إسماعيل بن مهران : روى المفيد في الإرشاد بإسناده عن إسماعيل بن

٣٩

مهران لمّا خرج أبو جعفر من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى ، فقلت له عند خروجه : جعلت فداك ، إنّي أخاف عليك في هذا الوجه ، فإلى من الأمر بعدك؟ قال : فكرّ إليّ بوجهه ضاحكا وقال لي : ليس حيث كما ظننت في هذه السنة ، فلمّا استدعى به المعتصم صرت إليه فقلت له : جعلت فداك ، أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتّى اخضلّت لحيته ثمّ التفت إليّ فقال : عند هذه تخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ عليه‌السلام.

٤ ـ رواية صقر بن أبي دلف : روى الصدوق في الإكمال بسنده عن صقر بن أبي دلف قال : سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليهما‌السلام يقول : إنّ الإمام بعدي ابني عليّ ؛ أمره أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والإمامة من بعده في ابنه الحسن.

قال ابن حمّاد في مدحهم من قصيدة له :

بقاع في البقيع مقدّسات

وأكناف بطيبة طيّبات

وفي كوفان آيات عظام

تضمّنها الغريّ مونقات

وفي غربيّ بغداد وطوس

وسامرّا نجوم زاهرات

مشاهد تشهد البركات فيها

وفيها الباقيات الصالحات

ظواهرها قبور دارسات

بواطنها بدور لامعات

جبال العلم فيها راسيات

بحار الجود فيها زاخرات

معارج تعرج الأملاك فيها

وهنّ بكلّ أمر هابطات

بها الرحمان أقسم لو علمتم

وفي القرآن هنّ مسمّيات

بيوت يذكر اسم الله فيها

رجال بالسجود لهم سمات

وهم حجج علينا بالغات

وهم نعم علينا سابغات

وحبل الله ينجو ما سكوه

وجوه ذو العلى متوجّهات

وهم معنى الصراط وفاز عبد

على ذاك الصراط له ثبات

رآهم آدم أنوار قدس

بحافة عرشه متلألئات

٤٠