مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-039-0
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٦٢

قلت : فإنّي ربّما سافرت الشام فأدخل على إبراهيم بن الوليد.

قال : يا عبد الغفار! إنّ دخولك على السلطان يدعو إلى ثلاثة أشياء : محبّة الدنيا ، ونسيان الموت ، وقلّة الرضا بما قسم الله.

قلت : يابن رسول الله! فإنّي ذو عيلة وأتجر إلى ذلك المكان لجرّ المنفعة ، فما ترى في ذلك؟ قال : يا عبد الله! إنّي لست آمرك بترك الدنيا بل آمرك بترك الذنوب ، فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة ، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة.

قال : فقبّلت يده ورجله وقلت : بأبي أنت وامّي يا ابن رسول الله! فما نجد العلم الصحيح إلّا عندكم ، وإنّي قد كبرت سنّي ودقّ عظمي ولا أرى فيكم ما أسرّه ؛ أراكم مقتّلين مشرّدين خائفين ، وإنّي أقمت على قائمكم منذ حين أقول : يخرج اليوم أو غدا.

قال : يا عبد الغفار! إنّ قائمنا عليه‌السلام هو السابع من ولدي ، وليس هو أوان ظهوره ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الأئمّة بعدي إثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع قائمهم ، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلا كما ملئت جورا وظلما.

قلت : فإن كان هذا كائن يا ابن رسول الله فإلى من بعدك؟

قال : إلى جعفر وهو سيّد أولادي وأبو الأئمّة ، صادق في قوله وفعله ، ولقد سألت عظيما يا عبد الغفار ، وإنّك لأهل الحاجة. ثمّ قال عليه‌السلام : «ألا إنّ مفاتيح العلم السؤال» ، وأنشأ يقول :

شفاء العمى طول السؤال وإنّما

تمام العمى طول السكوت على الجهل

٧٤ ـ التصريح بأسمائهم عليهم‌السلام في خبر علقمة : وفيه أيضا بإسناده عن علقمة بن محمّد الحضرمي عن الصادق عليه‌السلام قال : الإئمّة إثنا عشر.

١٢١

قلت : يابن رسول الله! فسمّهم لي.

قال : من الماضين عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمّد بن علي ثمّ أنا.

قلت : فمن بعدك يا ابن رسول الله؟

قال : إنّي قد أوصيت إلى ولدي موسى وهو الإمام بعدي.

قلت : فمن بعد موسى؟

قال : عليّ ابنه يدعى بالرضا يدفن في أرض الغربة من خراسان ، ثمّ بعد عليّ ابنه محمّد ، وبعد محمّد ابنه علي ، وبعد عليّ الحسن ابنه ، والمهدي من ولد الحسن.

ثمّ قال عليه‌السلام : حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي! إنّ قائمنا إذا خرج يجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدد رجال بدر ، فإذا كان وقت خروجه يكون له سيف مغمود ، ناداه السيف : قم يا وليّ الله فاقتل أعداء الله.

أقول : هذه نبذة يسيرة من النصوص الواردة المنقولة عن أوثق المصادر لعلمائنا الأعلام وعن كتب إخواننا من أبناء السنّة أخرجناها واقتصرنا بها ، ولو أردنا الخوض في هذا المضمار لاحتجنا إلى مجلّدات كبار ، لكن في هذا النزر القليل كفاية لمن طلب الحقّ وجانب الاعتساف ؛ لأنّ هذه الأحاديث مع كثرتها وتواتر طرقها المرويّة من الصحابة وأهل البيت عليهم‌السلام وكون كثير منها في كتب مخالفينا كيف يعقل أن يشكّ في إمامتهم وأفضليّتهم ووجوب مودّتهم وإطاعتهم وتقديم قولهم على غيرهم والبرائة من أعدائهم؟! ولا يمكن أن يقال : إنّهم تواطئوا في الكذب وإنّهم وضعوا هذه الأحاديث وافتعلوها لكي يغالط الناس ويشكّكوهم في أمر هؤلاء مع أنّهم مختلف الآراء والهمم ، متباعد الديار والأوطان ، وفيهم جماعة من أهل بيت رسول الله وهم عند الأمّة بررة أتقياء ، وعند بعضهم معصومون مبرّؤون من الخطأ

١٢٢

والخلل ؛ فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ لكي يتّضح لكم سبيل الحقّ كاتّضاح الشمس في كبد السماء ، ولا تغرّنّكم حز عبلات قضاة الرشوة وعلماء السوء الذين اشتروا الدنيا بدل الآخرة ، ولا يرجعون إلى الطريق ولا يخافون عذاب الحريق ، والله يجازيهم بعلمهم فإنّه وليّ أمره وناصر دينه.

نبذة من معالي أموره ومكارم أخلاقه

رجوع الملّاح عن الوقف

روى ابن شهرآشوب في المناقب عن أبي الحسين بن سهلويه البصري المعروف بالملّاح ، قال : دلّني أبو الحسن ـ وكنت واقفيّا ـ وقال لي : إلى متى هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟ فقدح في قلبي شيئا وغشي عليّ ؛ فتبعت الحقّ.

هلاك عدوّ محمّد بن ريّان

روى الأربليّ في كشف الغمّة عن محمّد بن ريّان بن صلت قال : كتبت إلى أبي الحسن استأذن في كيد عدوّ لم يمكن كيده ، فنهاني عن ذلك وقال كلاما معناه : تكفى إن شاء الله ، فكفيته والله أحسن كفاية : ذلّ وافتقر ومات أسوء الناس حالا في دينه ودنياه.

وفيه أيضا عن داود الضرير قال : أردت الخروج فودّعت أبا الحسن بالعشاء فخرجت وامتنع الجمّال تلك الليلة واصبحت وجئت أودّع القبر فإذا رسوله يدعوني ، فأتيته واستحييت وقلت : جعلت فداك ، إنّ الجمّال تخلّف أمس ، فضحك وأمرني بأشياء وحوائج كثيرة ، فقال : كيف تقول (١)؟ فلم أحفظ مثل ما قال لي ،

__________________

(١) قال المجلسيّ : قوله عليه‌السلام : «كيف تقول؟» أي سأله عمّا أوصى إليه هل حفظه؟ فكتب ذلك ليقرأه لئلّا ـ

١٢٣

فمدّ الدواة وكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أذكر إن شاء الله والأمر بيدك كلّه» فتبسّمت ، فقال لي : مالك؟ فقلت له : خير ، فقال : أخبرني ، فقلت له : ذكرت حديثا حدّثني رجل من أصحابنا أنّ جدّك الرضا عليه‌السلام كان إذا أمر بحاجة كتب «بسم الله الرحمن الرحيم أذكر إن شاء الله» فتبسّم وقال : يا داود ، لو قلت لك إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقا.

تمنّي زيد بن موسى

وعن كتاب الواحدة للحسن بن محمّد بن جمهور العمي قال : حدّثني سعيد بن سهل قال : رفع زيد بن موسى إلى عمر بن الفرج مرارا يسأله أن يقدمه على ابن أخيه عليّ بن محمّد ويقول : إنّه حديث السنّ وأنا عمّ أبيه. فقال عمر ذلك لأبي الحسن ، فقال عليه‌السلام : افعل ، وأقعدني غدا قبله ثمّ انظر.

فلمّا كان من غد أحضر عمر أبا الحسن عليه‌السلام فجلس في صدر المجلس ثمّ أذن لزيد بن موسى فدخل وجلس بين يدي أبي الحسن ، فلمّا كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسى قبله فجلس في صدر المجلس ثمّ أذن لأبي الحسن فدخل ، فلمّا رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه وجلس بين يديه.

أمره عليه‌السلام بإرسال رجل إلى الحائر ليدعو له

روى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي بإسناده عن سهل بن زياد ، عن أبي هاشم الجعفري قال : بعث إليّ أبو الحسن عليه‌السلام في مرضه وإلى محمّد بن حمزة فسبقني إليه محمّد بن حمزة فأخبرني محمّد وقال : ما زال يقول : ابعثوا إلى

__________________

ـ ينسى أو كتب ليحفظ بمحض تلك الكتابة بإعجازه ، وإمّا التعرّض لذكر التقيّة فهو إمّا لكون عدم كتابة الحوائج والتعويل على الحفظ للتقيّة أو لأمر آخر لم يذكر في الخبر.

١٢٤

الحير (١) ، وقلت لمحمّد : ألا قلت له : أنا أذهب إلى الحير ، ثمّ دخلت عليه وقلت له : جعلت فداك أنا أذهب إلى الحير. فقال : انظروا في ذلك ، ثمّ قال : إنّ محمّدا ليس له سرّ من زيد بن عليّ وأنا أكره أن يسمع ذلك.

قال : فذكرت ذلك لعليّ بن بلال ، فقال : ما كان الحير هو الحير ، فقدمت العسكر فدخلت عليه ، فقال : اجلس حين أردت القيام ، فلمّا رأيته أنس بي ذكرت له قول عليّ بن بلال ، فقال لي : ألا قلت له إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر وحرمة النبيّ والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله عزوجل أن يقف بعرفة وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يذكر فيها ، فأنا أحبّ أن يدعى لي حيث يحبّ الله أن يدعى فيها ، الخبر.

مقالة أبي عبد الله الجنيدي في حقّه عليه‌السلام

وفي شرح القصيدة لأبي فراس ، قال : روي عن محمّد بن جعفر قال : قدم المدينة عمر بن الفرج حاجّا بعد مضيّ أبي جعفر الجواد عليه‌السلام فأحضر جماعة من أهل المدينة من أهل الأدب والقرآن ؛ المخالفين والمعاندين لأهل البيت ، وقال لهم : اطلبوا رجلا من أهل المدينة من أهل الأدب والقرآن والعلم لا يوالي أهل بيت رسول الله لأضمّ إليه هذا الصبي (عنى أبا الحسن عليه‌السلام) وأوكله بتعليمه وأمره بأن يمنع الرافضة منه الذين يقصدونه ويعودونه ، وكان عمره يومئذ ستّ سنين وخمسة أشهر ، فذكروا له رجلا من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي وكان

__________________

(١) قوله : «ابعثوا إلى الحير» أي ابعثوا رجلا إلى حائر الحسين عليه‌السلام يدعو لي هناك. قوله : «انظروا في ذلك» يعني إنّ الذهاب إلى حائر الحسين عليه‌السلام مظنّة للأذى والضرر فانظروا في ذلك ولا تبادروا إليه ، لأنّ المتوكّل كان يمنع الناس من زيارته أشدّ المنع. قوله : «ليس له سرّ من زيد بن عليّ» لعلّه كناية عن خلوص التشيّع فإنّه بذل نفسه لإحياء الحقّ ويحتمل أن يكون «من» تعليليّة يعني ليس هو بموضع سرّ لأنّه يقول بإمامة زيد بن عليّ. قوله : «ما كان يصنع الحير» أي هو في الشرف مثل الحير فأيّ حاجة له في أن يدعى له في الحير. (البحار ج ١٢).

١٢٥

مقدّما عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر النصب والعداوة لأهل البيت.

فأحضره عمر بن الفرج وعيّن له راتبا من بيت المال وتقدّم إليه بما أراد ، وعرّفه أنّ السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الصبي وتعليمه ومنع الرافضة من الدخول إليه ، فقبل ذلك كلّه ، وكان يلازم أبا الحسن عليه‌السلام في القصر نهارا فإذا كان الليل أغلق عليه الباب وأخذ المفاتيح ، فمكث على ذلك مدّة وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع عنه والقرائة عليه.

قال محمّد بن جعفر : ثمّ إنّي لقيته يوم الجمعة وقلت له : ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه؟ فقال منكرا عليّ : أتقول هذا الصبي ولا تقول الشيخ ، أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة من هو أعرف منّي في الأدب والعلم؟ قلت : لا ، فقال : إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب وأظنّ أنّي قد بالغت فيه ثمّ إنّه يملي عليّ فيه أبوابا أستفيده منّه فيظنّ الناس إنّي أعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه.

قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأنّي لم أسمعه ثمّ لقيته بعد ذلك فسلّمت عليه وسألت عن خبره وحاله ، فقلت له : ما حال الصبي؟ فقال : دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض وأفضل من برأه الله تعالى ، وإنّه لربّما همّ بدخول الحجرة فأقول له : حتّى تقرأ عشرا ، فيقول : أيّ سورة تريد أن أقرأها ، فأذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيسرع بقرائتها لم أسمع أصحّ منها ، وصوت أطيب من مزامير داود التي يضرب به المثل ، وإنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله.

ثمّ قال المعلم الجنيدي : هذا صبيّ صغير ونشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين علم هذا العلم الكثير؟! يا سبحان الله! ما أعجب هذا.

قال محمّد بن جعفر : ثمّ لقيت المعلّم الجنيدي وقد نزع عن النصب وتاب وعرف الحقّ وقال بإمامته عليه‌السلام.

١٢٦

تفكّره عليه‌السلام في بيت ابن أبي حفصة

روى المجلسيّ رحمه‌الله في المجلّد الرابع من البحار عن المفيد والسيّد المرتضى رحمهما‌الله بالإسناد عن سليمان بن جعفر ، قال : قال لي أبو الحسن العسكريّ عليه‌السلام : نمت وأنا أفكّر في بيت ابن أبي حفصة :

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فإذا إنسان يقول لي :

قد كان إذ نزل الكتاب بفضله

ومضى القضاء به من الحكّام

إنّ ابن فاطمة المنوّه باسمه

حاز الوراثة من بني الأعمام

وبقي ابن نثلة واقفا متحيّرا

يبكي ويسعده ذووا الأرحام

نثلة وقيل نثيلة ، أمّ العبّاس بن عبد المطّلب رضى الله عنه.

أدلّة إمامة عليّ الهادي عليه‌السلام

الأوّل : النصّ عليه من أبيه كما تقدّم مع أربعة وسبعين رواية في النصّ عليه.

الثاني : إنّه أفضل أهل زمانه علما وعملا وزهدا وورعا وحلما وكرما ونزاهة وطيب ذات وجلالة صفات فيكون أحقّ بالخلافة والإمامة لقبح تقديم المفضول على الفاضل كما عرفت وستعرف من فضائله ومناقبه وأجوبته عن المسائل الغامضة التي عجز عنها من سواه ، ومن ظهور هيبته وجلالته عند الخاصّ والعام ، وما أثر عنه من أنواع الحكم والمواعظ وأنواع العلوم ممّا شاع وذاع وملأ الأسماع.

الثالث : ظهور المعجزات التي ستسمع بعيد هذا.

وما أحسن ما قال الأربليّ من قصيدة له في مدحه عليه‌السلام :

إمام هدى له شرف ومجد

أقرّ به الموالي والمعادي

تصوب يداه بالجدوى فتغني

عن الأنواء في سنة الجماد

١٢٧

بنى في ذروة العلياء بيتا

بعيد الصيت مرتفع العماد

فمن يرجو اللحاق به إذا ما

أتى بطريف فخر أو تلاد

من القوم الذين أقرّ طوعا

بفضلهم الأصادق والأعادي

بهم عرف الورى سبل المعاني

وهم دلّوا الأنام على الرشاد

لهم أيد جلبن على سماح

وأفعال طبعن على سداد

وفيكم رغبتي وعلى هداكم

محافظتي وحبّكم اعتقادي

وقد قدّمتكم زادا لسيري

إلى الأخرى ونعم الزاد زادي

ولنعم ما قال السيّد أبو بكر بن عبد الرحمان بن محمّد بن عليّ العريضي المتوفّى سنة ١٣٤١ بحيدرآباد الدكن ، المترجم في أعيان الشيعة (٧ : ١٦٠) :

آل بيت الرسول أشرف آل

في الورى أنتم وأشرف ساده

أنتم السابقون في كلّ فخر

أسّس الله مجدكم وأشاده

أنتم للورى شموس وأقمار

إذا ما الضلال أرخى سواده

أنتم منبع العلوم بلا ريب

وللدين قد جعلتم عماده

أنتم نعمة الكريم علينا

إذ بكم قد هدى الإله عباده

لم يزل منكم رجال وأقطا

ب لمن أسلموا هداة وقاده

أنتم العروة الوثيقة والحبل

الذي نال ما سكوه السعاده

سفن للنجاة إن هاج طوفا

ن الملمّات أو خشينا ازدياه

وبكم آمن أمّة الخير إذ

أنتم نجوم الهداية الوقّاده

أذهب الله عنكم الرجس أهل

البيت في محكم الكتاب إفاده

وبتطهير ذاتكم شهد القرآ

ن حقّا فيالها من شهاده

من يصلّي ولم يصلّ عليكم

فهو مبد لذي الجلال عناده

معشر حبّكم على الناس فرض

أوجب الله والرسول اعتماده

١٢٨

وبكم أيّها الأئمّة في يو

م التنادي على الكريم الوفاده

يوم تأتون واللواء عليكم

خافق ما أجلّها من سياده

المحبّون خلفكم في أمان

حين قول الجحيم هل من زياده

فاز والله في القيامة شخص

لكم بالوداد أدّى اجتهاده

كلّ من لم يحبّكم فهو في النار

وإن أوهنت قواه العباده

هكذا جائنا الحديث عن الها

دي فمن ذا الذي يروم انتقاده

كلّ قال لكم فأبعده الله

وعن حوضكم هنالك زاده

خاب من كان مبغضا أحدا

منكم ومن قد أساء فيه اعتقاده

ضلّ من يرتجي شفاعة طه

بعد أن كان مؤذيا أولاده

آل بيت الرسول كم ذا حويتم

من فخار وسؤدد وزهاده

أنتم زينة الوجود ولا زلتم

بجيد الزمان نعم القلاده

كيف يحصى فخاركم رقم أقلا

م ولو كانت البحار مداده

أنتم أنتم حلول فؤادي

فاز والله من حللتم فؤاده

ومن جزالة عطاء مولانا عليّ الهادي عليه‌السلام وكرمه الواسع

* ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب قال : دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد ابن إسحاق الأشعري وعليّ بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري فشكى إليه أحمد بن إسحاق دينا عليه ، فقال : يا عمرو ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار.

ثمّ قال ابن شهرآشوب عقيب ذلك : هذه معجزة لا يقدر عليه إلّا الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء.

١٢٩

* وروى الصدوق في الأمالي بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال : أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام فأذن لي ، فلمّا جلست قال : يا أبا هاشم ، أيّ نعم الله عزوجل عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟ قال ابو هاشم : فبهتّ فلم أدر ما أقول له ، فابتدأ وقال : رزقك الله الإيمان فحرّم به جسدك على النار ، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل. يا أبا هاشم إنّما ابتدأتك لأنّي ظننت أنّك تريد أن تشكو إليّ من فعل بك هذا وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها.

وقصّة الأعرابيّ تقدّم في فضائله.

* وروى الشيخ في غيبته أنّ عليّ بن جعفر دخل على أبي الحسن الهادي فأمر له بثلاثين ألف درهم.

* وروى الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي النباطي في الدرّ النظيم قال : إنّ أبا هاشم الجعفري قال : خرجت مع أبي الحسن الهادي إلى ظاهر سرّ من رأى يتلقّى بعض القادمين ، فأبطأ ، فطرح لأبي الحسن غاشية السرج فجلس عليها ، فشكوت إليها قصور يدي وضيق حالي ، فأهوى يده إلى رمل فناولني منه كفّا وقال : اتّسع بهذا يا أبا هاشم واكتم ما رأيت ، فخبأته معي ورجعنا وأبصرته فإذا هو يتّقد كالنار وكان ذهبا أحمر ، فدعوت صائغا إلى منزلي ، فقلت له : اسبك لي سبيكة ، فقال لي : ما رأيت ذهبا أجود منه ـ وكان هو كهيئة الرمل ـ. فقال الصائغ : من أين لك هذا؟ فقلت : هذا كان عندنا قديما.

* دخل سامرّاء فتى من العلويّين وسأل حاجة من الإمامين عليهما‌السلام ، فأنشأ هذه القصيدة :

قصدتكما أشكو زمانا معاديا

ألحّ فأضنى مهجتي وفؤاديا

تكدّر صفو الدهر لي في صروفه

وقد كنت أرجو أن أرى الدهر صافيا

١٣٠

حنانيكما منّا عليّ بنظرة

فقد بلغت منّي الحياة التراقيا

وجودا على قلب أضرّ به الضنى

وأصبح من قرع النوائب راميا

بلغت من العمر الثلاثين صابرا

وما بلغت نفسي المنى والأمانيا

إلى م أرى دهري بوجهي عابسا

وحتّى متى فيه أقاسي عنائيا

هبا إنّ لي ذنبا به كنت مخطئا

ألست لكم يا آل طه مواليا

لئن كان ما ألقاه أجرا ومحنة

كفاني حتّى الآن ما كنت لاقيا

أبا الحسن الهادي قصدتك راجيا

نداك وحاشا أن تخيب رجائيا

فمن لي إذا لم تقض منك حوائجي

وإنّك للحاجات لا زلت قاضيا

بجودك أرجو أن أرى الدهر ضاحكا

فجودك لا ينفكّ للشرّ ماحيا

فلا الغيث يحكي بذل كفّيك هاميا

ولا البحر يحكي فيض جودك طاميا

وفيك أبا المهديّ دفع ملمّتي

ونيل الأمانيّ والمنى في حياتيا

أحصّن نفسي فيك من كلّ طارق

فلا زلت بعد الله للنفس واقيا

وإنّك لي في الدهر ملجا ومفزع

فهب لي عطفا من حنانك ساميا

إمام الهدى سمعا شكاية واله

غدا جسمه من فرط بلواه باليا

أناديك للهمّ المبرّح في الحشا

حنانيك فاسمع صرختي وندائيا

بكم يا بني الهادي تمسّك راجيا

وما خاب من فيكم تمسّك راجيا

قصدت ومالي مقصد في سواكم

ومن قصد البحر استقلّ السواقيا

ختمت بكم شعري وقد كان نفثة

بها ضاق صدري فاستحالت قوافيا

ثمّ إنّ الفتى نال مراده وبلغ آماله. وكم له من نظير لا تحصى ، ومن مثيل لا يستقصى.

روى السيّد هاشم البحرانيّ في مدينة المعاجز عن ثاقب المناقب ، عن أبي هاشم قال : حججت سنة فلمّا صرت إلى المدينة ذهبت إلى باب أبي الحسن ووجدته حجّ

١٣١

منها راكبا ، فاستقبلته وسلّمت عليه ، فقال : امض بنا إذا شئت ، فمضيت معه حتّى خرجنا من المدينة ، فلمّا أصحرنا التفتّ إلى غلامه وقال : إذهب فانظر في أوائل العسكر ، ثمّ قال : انزل بنا يا أبا هاشم. قال : فنزلت وفي نفسي أن أسأله شيئا وأنا أستحي منه ، فعمل بسوطه في الأرض خطّا فنظرت فإذا نقرة صافية فيها أربعمائة مثقال. فقلت : بأبي أنت وأمّي لقد كنت شديد الحاجة إليها.

ومن زهده وعبادته عليه‌السلام

ما أورده اليافعي في مرآة الجنان في حوادث سنة ٢٥٤ ، قال : وفيها توفّي أبو الحسن عليّ الهادي ابن محمّد الجواد رضي‌الله‌عنهما ، عاش أربعين سنة وكان متعبّدا فقيها إماما ، وكان قد سعي به إلى المتوكّل ، وقيل له : إنّ في منزله سلاحا وكتبا ، فأوهموه أنّه يطلب الخلافة ، فوجّه من هجم عليه ، فهجموا على منزله فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة ليس بينه وبين الأرض بساط إلّا الرمل والحصى وهو يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فحمل إليه على الصفة المذكورة ، فلمّا رآه عظّمه وأجلسه إلى جنبه ، وكان المتوكّل يشرب وفي يده كأس ، فناوله الكأس الذي في يده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي وعظمي منه ، فعفاه ، فقال : أنشدني شعر استحسنه ، فقال : إنّي لقليل الرواية في الشعر ، قال : لا بدّ أن تنشدني ، فأنشده (الأبيات الآتية في محلّها).

قال : فأشفق من حضر على العسكريّ وظنّوا أنّ بادرة تبدر عليه ، فبكى المتوكّل بكاء طويلا حتّى بلّت دموعه لحيته وبكى من حضره ثمّ أمر برفع الشراب وقال : يا أبا الحسن ، أعليك دين؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردّه إلى منزله مكرّما.

١٣٢

وفي الدرّ النظيم : وكان عليّ الهادي عليه‌السلام يقول في مناجاته بالليل : إلهي ، مسيء قد ورد وفقير قد قصد ، لا تخيّب مسعاه وارحمه واغفر له خطاه.

وقال الشيخ في المصباح : إنّ أبا الحسن العسكريّ عليه‌السلام كان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب الحمد وأوّل الحديد إلى قوله تعالى : (هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، وفي الرابعة الحمد وآخر الحشر ، وكان يدعو في تعقيب صلاة الفجر : يا كبير كلّ كبير ، إلى آخر ما يأتي في أدعيته عليه‌السلام.

العبادة وحقيقتها

إنّ حقيقة العبادة هي الطاعة ، فكلّ من أطاع الله تعالى وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عابد ، ولمّا كان متعلّقات الأوامر الصادرة من الله تعالى على لسان نبيّه متنوّعة كانت العبادة بحسب ذلك أيضا متنوّعة ، فمنها الصلاة ومنها الصيام ومنها الصدقة إلى غير ذلك من الأنواع ، وإنّ الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام مثله مثل أجداده في كونه قائما بكلّ واحد منها ، مسارعا إليها ، مقبلا عليها ، متحلّيا بها ، فهم عبدوا الله حقّ طاعته ، وعرفوه حقّ معرفته.

وأمّا الزهد فإنّه لا يتحقّق إلّا بعد معرفة الشيء المزهود فيه والإحاطة بأنّ مجانبته خير من مقارنته ، والإعراض عنه أنفع من الإقبال عليه ، فإنّ من لم يعرف الشيء ولم يحط بأنّ اجتنابه خير من اجتذابه لا يحصنه بزهد فيه ونفرة عنه ، ولا يقدم عليه بميل إليه ولا باقتراب منه إذ النفرة والرغبة ينشئان ممّا اشتمل ذلك الشيء من المفاسد المنفرة والمصالح المرغبة وذلك لا يحصل إلّا بعد الإحاطة والمعرفة به ، فيتوقّف الزهد على معرفة المزهود فيه ، ولمّا كان معرفة مولانا عليّ الهادي وسائر الأئمّة كاملا بذات الدنيا ومحيطا على مساويها ، ويرون السموم القتّالة المودعة فيها ، وزوالها وفنائها ، تركوها وأفصحوا بإيراد صورها ومعانيها ،

١٣٣

وصدعوا ببيان عطب طالبيها وفوز مجانبيها.

قال سبط ابن الجوزي في التذكرة : إنّ عليّا الهادي عليه‌السلام لم يكن عنده ميل إلى الدنيا وكان ملازما للمسجد ، ولمّا فتّشوا داره لم يجدوا فيه إلّا مصاحف وأدعية وكتب العلم.

نبذة ممّا جرى بينه عليه‌السلام وبين خلفاء عصره

ما ذكره العلّامة المجلسي في المجلّد الرابع من البحار عن كتاب الاستدراك ، قال : نادى المتوكّل يوما كاتبا نصرانيّا : أبا نوح ، فأنكروا الكنى الكتابيّين فاستفتى فاختلف عليه ، فبعث إلى أبي الحسن ، فوقّع عليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(١)» فعلم المتوكّل أنّه يحلّ ذلك لأنّ الله قد كنّى الكافر.

الثاني : ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب ، قال : روى أبو محمّد الفحّام قال : سأل المتوكّل ابن جهم : من أشعر الناس؟ فذكر شعراء الجاهليّة والإسلام ، ثمّ إنّه سأل أبو الحسن عليّ الهادي عليه‌السلام ، فقال : الحماني حيث يقول :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمطّ خدود وامتداد الأصابع

فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما يهوي نداء الصوامع

ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كلّ جامع

فإنّ رسول الله أحمد جدّنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالع

قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ، جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكّل ثمّ قال : هو جدّك لا ندفعك عنه.

__________________

(١) المسد : ١.

١٣٤

الثالث : ما رواه جمال الدين يوسف بن الحاتم الفقيه الشامي في الدرّ النظيم ، قال : قدم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ قد فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : قد هدم الإيمان شركه ، وقال بعضهم : يفعل به كذا وكذا ، واختلفوا عليه ، فأمر المتوكّل بالكتاب إلى أبي الحسن عليه‌السلام وسؤاله عن ذلك ، قال : فلمّا قرأ الكتاب كتب عليه‌السلام : «يضرب حتّى يموت». فأنكر يحيى بن أكثم ذلك وأنكر الفقهاء الذين كانوا بالعسكر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سل عن هذا فإنّه شيء لم ينطق به الكتاب ولم يجيء به السنّة ، ولا نطق به الكتاب ، ففسّر لنا لم أوجبت عليه الضرب حتّى يموت ، فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(١).

الرابع : ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب عن أبي عبد الله الزيادي قال : لمّا سمّ المتوكّل نذر لله إن رزقه الله العافية تصدّق بمال كثير ، فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في المال الكثير ، فقال حاجبه : إن أتيتك يا أمير المؤمنين بالصواب فما لي عندك؟ قال : عشرة آلاف درهم وإلّا ضربتك مائة مقرعة ، قال : قد رضيت.

فأتى أبا الحسن عليّ الهادي عليه‌السلام فسأله عن ذلك ، فقال : قل له يتصدّق بثمانين درهما ، فأخبر المتوكّل ، فسأله ما العلّة؟ فأتاه وسأله ، قال : إنّ الله تعالى قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)(٢) وعددنا مواطن رسول الله فبلغت ثمانين موطنا ، فرجع إليه فأخبره ، ففرح وأعطاه عشرة آلاف درهم.

الخامس : ما رواه عليّ بن عيسى الأربليّ في كشف الغمّة ، قال : قال الحافظ

__________________

(١) غافر : ٨٤ و ٨٥.

(٢) التوبة : ٢٥.

١٣٥

عبد العزيز : قال عليّ بن يحيى بن أبي منصور : كنت بين يدي المتوكّل ودخل عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عليهم‌السلام ، فلمّا جلس ، قال المتوكّل : ما يقول ولد أبيك في العبّاس ابن عبد المطّلب؟ قال عليه‌السلام : ما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعة نبيّه على جميع خلقه وفرض الله طاعته على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وذكر هذه القصّة أيضا المسعودي في مروج الذهب ، ثمّ قال بعد أن أوردها ما نصّه : فأمر له بمائة ألف درهم ، ثمّ قال : وإنّما أراد أبو الحسن طاعة الله على نبيّه فرض.

السادس : ما روي في الدرّة الباهرة : قال أبو الحسن للمتوكّل : لا تطلب الصفا ممّن كدرت عليه ، ولا النصح ممّن صرف سوء ظنّك إليه فإنّما قلب غيرك لك كقلبك له.

السابع : ما روي عن كتاب الاستدراك عن ابن المتوكّل ، قال : قيل للمتوكّل : إنّ أبا الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا عليهم‌السلام يفسّر قول الله تعالى : (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ)(١) في الأوّل والثاني. قال : وكيف الوجه في أمره؟ فقالوا : تجمع له الناس وتسأله بحضرتهم فإن فسّرها بهذا كفاك الحاضرون أمره ، وإن فسّرها بخلاف ذلك افتضح عند أصحابه.

قال : فوجّه إلى القضاة وبني هاشم والأولياء فسأل المتوكّل عنه عليه‌السلام ، فقال : هذان رجلان عناهما ومنّ عليهما بستر عيبهما ، أفيحبّ أمير المؤمنين أن يكشف ما ستره الله؟ فقال : لا أحبّ.

الثامن : ما رواه في شرح القصيدة لأبي فراس ، قال : روي أنّ قيصر ملك الروم كتب إلى خليفة من خلفاء بني العبّاس كتابا يذكر فيه : إنّا وجدنا في الإنجيل : من

__________________

(١) الفرقان : ٢٧.

١٣٦

قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرّم الله جسده على النار وهي : (ث ج خ ز ش ظ ف) فإنّا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجده ، وطلبناها في الزبور فلم نجدها ، فهل تجدونها في كتبكم؟

فجمع العلماء فسألهم في ذلك فلم يجيبوا عن ذلك إلّا النقي عليّ بن محمّد الرضا عليه‌السلام ، فقال : إنّها سورة الحمد فإنّها خالية من هذه السبعة أحرف. فقيل له : ما الحكمة في ذلك؟ قال عليه‌السلام : لأنّ الثامن الثبور ، والجيم من الجحيم ، والخاء من الخيبة ، والزاي من الزقّوم ، والشين من الشقاوة ، والظاء من الظلمة ، والفاء من الفرقة أو من الآفة.

فلمّا وصل إلى قيصر وقرأ فرح بذلك فرحا شديدا وأسلم من وقته ومات على الإسلام.

التاسع : ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد وكذا في الدرّ النظيم ليوسف بن حاتم الشامي ، روى بسنده عن محمّد بن يحيى المعاذي قال : قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته : من حلق رأس آدم عليه‌السلام حين حجّ؟ فعجز القوم عن الجواب ، فقال الواثق : أنا أحضر لكم من ينبئكم بالخبر ، فبعث إلى عليّ بن محمّد الهادي فأحضره ، فقال له : يا أبا الحسن ، من حلق رأس آدم حين حجّ؟ فقال : سألتك يا أمير المؤمنين إلّا أعفيتني. قال : أقسمتك لتقولنّ.

قال : أمّا إذا أقسمتني فإنّ أبي حدّثني عن جدّي عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله : أمر جبرئيل أن ينزل بياقوتة من الجنّة فهبط بها ومسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه فحيث بلغ نورها صار حرما.

وروى الخطيب أيضا أنّ المتوكّل اعتلّ في أوّل خلافته ، فقال : لئن برئت لأتصدّقنّ بدنانير كثيرة ، إلى آخر ما قدّمناه آنفا.

العاشر : سبب شخوصه إلى سامرّاء : قال المفيد في الإرشاد : كان سبب شخوص

١٣٧

أبي الحسن من المدينة إلى سرّ من رأى أنّ عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحرب والصلاة في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسعى بأبي الحسن إلى المتوكّل وكان يقصده بالأذى ، وبلغ أبا الحسن سعايته به ، فكتب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به ، فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول.

روى في مرآة العقول أنّ بريحة العبّاسيّ كتب إلى المتوكّل : إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج عليّ بن محمّد منهما فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتّبعه خلق كثير ، ثمّ كتب إليه بهذا المعنى زوجة المتوكّل ، فنفذ يحيى بن هرثمة وكتب معه إلى أبي الحسن كتابا جيّدا يعرّفه أنّه قد اشتاق إليه وسأله القدوم إليه ، وأمر يحيى بالمسير إليه ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك ، فقدم يحيى المدينة وبدأ به بريحة وأوصل الكتاب إليه ثمّ ركبا جميعا إلى أبي الحسن وأوصلا إليه كتاب المتوكّل ، فاستأجلهما ثلاثة أيّام ، فلمّا كان بعد ثلاث عادوا إلى داره فوجدوا الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها صلوات الله عليه متوجّها إلى العراق ومعه يحيى بن هرثمة.

١١ : صورة كتاب المتوكّل إليه : قال المفيد في الإرشاد : فخرجت نسخة الكتاب وهي :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ؛ فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجب لحقّك ، مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ، ويثبت به من عزّك وعزّهم ، ويدخل الأمن عليك وعليهم يبغي بذلك رضا ربّه وأداء ما فرض عليه فيك وفيهم ، فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمّد عمّا كان يتولّى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك وعند ما قرفك (أي اتّهمك) به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين برائتك منه وصدق نيّتك ما كان يلي من

١٣٨

ذلك محمّد بن الفضل وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى امرك ورأيك والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحبّ إحداث العلم بك والنظر إلى وجهك ، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت ، فإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون برحلتك ويسيرون بمسيرك فالأمر في ذلك إليك ، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك حتّى توافي أمير المؤمنين ، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحمد له إثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك ، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته ، كتب إبراهيم بن عبّاس في جمادى الآخرة سنة ٢٤٣».

فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكّل بأن يحجب عنه في يومه فنزل في خان يقال له خان الصعاليك.

أقول : تاريخ الكتاب ينافي ما هو مشهور بل متواتر بأنّ مقامه عليه‌السلام كان في سامرّاء عشرين سنة وأشهر ، وتوفّي سنة ٢٥٤ ، ومقتضى تاريخ الكتاب كان مقامه إحدى عشرة سنة وسهو الكاتب محتمل.

١٢ : مجيء يحيى بن هرثمة لإشخاصه عليه‌السلام من المدينة إلى سامرّاء : قال المسعودي في مروج الذهب : حدّثنا ابن أبي الأزهر عن القاسم بن أبي عباد عن يحيى بن هرثمة قال : وجّهني المتوكّل إلى المدينة لإشخاص عليّ بن محمّد لشيء بلغه عنه ، فلمّا صرت إليها ضجّ أهلها ضجيجا وعجّوا عجيجا ما سمعت مثله ، فجعلت أسكتّهم وأحلف أنّي لم أومر فيه بمكروه ، وفتّشت منزله فلم أصب فيه إلّا المصاحف ودعاء وما أشبه ذلك ، فأشخصته وتولّيت خدمته وأحسنت عشرته ، فبينا أنا في يوم من الأيّام والسماء صاحية والشمس طالعة إذ ركب وعليه ممطر قد

١٣٩

عقد ذنب دابّته فتعجّبت من فعله فلم يكن من ذلك إلّا هنيئة حتّى جائت سحابة فأرخت عزاليها ونالنا من المطر أمر عظيم جدّا ، فالتفت إليّ فقال : أنا أعلم أنّك أنكرت ما رأيت وتوهّمت أنّي أعلم من الأمر ما لم تعلم وليس كما ظننت ولكنّي نشأت بالبادية فأنا أعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر فلمّا أصبحت شممت منها رائحة المطر فتأهّبت لذلك.

قال : فلمّا قدمت إلى مدينة السّلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد ، فقال : يا يحيى ، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمتوكّل من تعلم ، وإن حرّضت عليه قتله كان رسول الله خصمك. فقلت : والله ما وقفت منه إلّا على أمر جميل ، فسرت إلى سامرّاء فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه ، فقال لي : والله لئن سقط من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون الطالب بها غيري ، فتعجّبت من قوله وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من أمره وما سمعته من الثناء عليه ، فأحسن جايزته وأظهر برّه وتكرمته.

ومثله في تذكرة الخواصّ.

١٣ : وروى الراوندي في الخرايج عن يحيى بن هرثمة قال : دعاني المتوكّل ، فقال لي : اختر ثلاثمائة رجل ممّن تريد واخرجوا إلى الكوفة فخلّفوا أثقالكم فيها وأخرجوا على طريق البادية إلى المدينة وأحضروا عليّ بن محمّد الرضا إليّ معظّما مكرّما مبجّلا.

قال : ففعلت وخرجنا وكان في أصحابنا قائد من الشراة (١) وكان لي كاتب يتشيّع وأنا على مذهب الحشويّة (٢) وكان ذلك الشاري يناظر الكاتب وكنت

__________________

(١) الشراة جمع شاري وهو الخارجيّ.

(٢) طائفة من أبناء السنّة يجرون على الله صفات المخلوقين.

١٤٠