مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-039-0
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٦٢

عمله بالمسحاة وتأكيد الإسلام بهذه المرحلة

روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه بإسناده عن عليّ بن حمزة قال : رأيت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت له : جعلت فداك ، أين الرجال؟ فقال : يا عليّ ، قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه. فقلت له : من هو؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وآبائي عليهم‌السلام كلّهم عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين.

أقول : ولا يخفى أنّ الإسلام أكّد وأوصى بعمل اليد بما لا مزيد عليه وكان الكدّ وعمل اليد من سنن الأنبياء والمرسلين ، إنّ آدم عليه‌السلام كان زارعا ، وأوّل من غرس النخل أنوش بن شيث بن آدم عليهم‌السلام ، وكان إدريس عليه‌السلام خيّاطا ، ونوح نجّارا ، ولقمان خيّاطا أيضا ، وداود كان له صنعة عمل الدرع ، وسليمان يعمل بالخوص ، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق وموسى وشعيب يحفظون الأغنام والجمال ويرتزقون من منافعه ، وكان لوط فلّاحا ، وصالح حجّارا ، ويحيى رقّاعا ، وزكريّا زارعا ، وكان عيسى في أوائل عمره صيّادا وتارة صبّاغا ، وكان في أواخر عمره طبيبا مع أنّه عليه‌السلام يقنع بالقليل ويأكل ممّا أنبتته الأرض ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتّجر قبل بعثته ويخيط ثوبه ويخصف نعله ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يعمل بالمسحاة تارة ويغرس الأشجار ويحفر الآبار ويحتطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها تغزل وتطحن وتعجن وتخبز ، هذه سير الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام.

عن السابع عشر من البحار : إنّ العبادة عشرة أجزاء ؛ تسعة منها طلب الحلال.

وفي خبر آخر : كسب الحلال فريضة بعد الفريضة.

وفي خبر آخر : أفضل الأعمال الكسب الحلال.

٢٨١

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسب يده.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أحد أكل طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده ، والمغزل بيد المرأة أحسن من الرمح بيد المجاهد في سبيل الله تعالى.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عمل الأبرار من النساء الغزل.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّه من طيّبات الرزق.

وعن البحار أيضا : قال الصادق عليه‌السلام : الخلق عيال الله ، فأحبّهم إليه أحسنهم صنيعا إلى عياله.

وعن الفقيه : الكادّ على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : العائد على أهله وولده كالمجاهد المرابط في سبيل الله تعالى.

ولا يخفى أنّ الأخبار في النهضة على الاكتساب والعمل قد تجاوز عن حدّ التواتر.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّما الورع التحرّي في المكاسب والكفّ عن المطالب.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مدّ عينيه إلى ما في أيدي الناس من دنياهم طال حزنه ، وسخط ما قسّم الله له من رزقه ، وتنغّص عليه عيشه.

وعن كتاب الإثنا عشريّة لمحمّد بن محمّد بن الحسن الشهير بابن القاسم الحسيني العاملي روى فيه عن الصادق قال : ثلاثة لا تستجاب لهم دعوة : رجل رزقه الله نفقة فأنفقه كلّه ثمّ قال : يا ربّ ارزقني ، فيقول الربّ : ألم أرزقك؟ ورجل دعا على امرأته وهي ظالمة له فيقال له : ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل جلس في بيته وترك الطلب يقول : يا ربّ ارزقني ، فيقول الربّ عزوجل : أولم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق.

وقال عليّ بن عبد العزيز : سألني الصادق عليه‌السلام عن حال عمر بن مسلم ، فقلت له : يابن رسول الله ، إنّ عمر بن مسلم ترك التجارة وجلس للعبادة بعد أن كان من معاريف التجّار ، ويقول : الله كفيل الأرزاق!

٢٨٢

فقال الصادق عليه‌السلام : ويل له ، أما علم بأنّ الله لا يستجاب له دعوة ، وكان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة تركوا العمل والتجارة حين نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١) فلمّا علم بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل إليهم من قال لهم : من أمركم بهذا؟ قالوا : إنّ الله كفيل لأرزاقنا فلذلك أعرضنا عن العمل وأقبلنا إلى العبادة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من فعل ذلك لا يستجاب له دعوة فعليكم بالاكتساب والتجارة.

وقال الصادق عليه‌السلام لرجل : لأقعدنّ في بيتي ولأصلّينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي ، وأمّا رزقي فسيأتيني ، إنّ هذا أحد الثلاثة الذين لا تستجاب لهم دعوة.

وقال عليه‌السلام أيضا : إنّ تارك الطلب لا تستجاب له دعوة.

وفي البحار أيضا : ذكر رجل عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاجتهاد في العبادة والقوّة على العمل ، وقالوا : أصحبناه في السفر فما رأينا بعدك يا رسول الله أعبد منه ، لا ينفتل من صلاة ولا يفطر من صيام.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : فمن كان يمونه ويقوم بكفايته؟

قالوا : كلّنا.

قال : كلّكم أعبد منه وقد جعل الله طلب الرزق على الخلق كلّه من الإنس والطير والهوامّ منهم بتعليم ومنهم بإلهام وأهل التحصيل والنظر يطلبونه بأحسن وجه من السؤال والاتكال والخلابة والخداع والاحتيال.

وفيه : خيركم من لم يكن كلّا على الناس.

وفي خبر آخر : ملعون من ألقى كلّه على الناس.

وفي خبر آخر : ملعون ملعون من ألقى كلّه على الناس.

__________________

(١) الطلاق : ٢ ـ ٣.

٢٨٣

وعن مالك بن دينار قال : قرأت في التوراة : طوبى لمن أكل من ثمر يده.

وعن النبيّ : ما أكل أحد طعاما قطّ خير من أن يأكل من عمل يده.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أكل من كدّ يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء.

وقال أبو عمر : ورأيت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق ينصابّ عن ظهره ، فقلت : جعلت فداك ، أعطني أكفيك ، فقال لي : إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة.

وقال إسماعيل بن جابر : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام وإذا هو في حائط له وبيده مسحاة وهو يفتح بها الماء وعليه قميص شبيه الكرابيس كأنّه مخيطة عليه من ضيقه.

قال فضل بن أبي قرّة : دخلت على أبي عبد الله وهو يعمل في حائط له ، فقلت : جعلني الله فداك ، دعني أعمله لك أو يعمله الغلمان ، قال : لا ، دعني ، فإنّي أشتهي أن يراني الله عزوجل أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي.

وقال أبو بصير : إنّي سمعت أبا عبد الله يقول : إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتّى أعرق وإنّ لي من يكفيني ليعلم الله عزوجل أنّي أطلب الرزق الحلال.

وقال عبد الأعلى : لقيت جعفر بن محمّد في بعض الجادات في حرّ الشمس ، فقلت له : يابن رسول الله ، أنت مع هذه المنزلة الرفيعة وقرابتك من رسول الله وفرض طاعتك على رقاب الناس لم أتعبت نفسك في هذا الحرّ الهجير وخرجت من بيتك؟ قال عليه‌السلام : خرجت لطلب الرزق لئن يغنيني الله من أمثالك.

وقال جعفر بن محمّد عليهما‌السلام لمحمّد بن مسلم : أرى فيك منقصة ، مالك لا تزيلها عن نفسك. قال : بأبي أنت وأمّي ما هو؟ قال : عدم اشتغالك بالكسب. قال : اشتغل يا سيّدي ، فرجع إلى الكوفة ووضع بين يديه سلّة تمر يبيعه عند باب مسجد الكوفة ، فمنعته عشيرته من ذلك وذهبوا به إلى دكّان القماش والتجارة فما قبل ذلك وقال : في هذا النوع من التجارة تبختر وتكبّر وأنا أخاف من اختيال نفسي ،

٢٨٤

ففتحوا له دكّانا يبيع فيه الطحين فاشتهر بالطحّان.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله يحبّ عبدا يتّخذ المهنة ليستغني بها عن الناس.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله يحبّ العبد المؤمن المتحرّف ـ أي ذو الحرفة ـ.

وعن النبيّ : إنّ الله يحبّ الصانع الحاذق.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله امرئ عمل عملا فأتقنه.

وقال عليّ بن الحسين : من طلب من الحلال فهو من الله تعالى صدقة عليه.

وقال أيضا : أرضاكم عند الله أسعاكم على عياله.

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : من طلب الدنيا حلالا وتعفّفا واستغناء عن الناس ليوسّع على عياله وتعطّفا على جاره لقى الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر.

وفي خبر آخر : من طلب الدنيا حلالا في عفاف كان في درجة الشهداء.

وعن الصادق عليه‌السلام : لا تكسلوا في طلب معاشكم فإنّ آبائنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها ، رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : البطالة يوقف الحرّ العزيز موقف العبد الذليل ، ويذهب ماء الوجه ، ويمحق الرزق.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله يكره العبد البطّال.

وفي خبر آخر : إنّ الله تعالى ليبغض العبد الفارغ.

وفي خبر آخر : إنّ الله يبغض الشابّ الفارغ.

وفي خبر آخر : إنّ الله يكره الرجل العاطل البطّال والمرأة العاطلة.

وفي خبر آخر : التاجر الصدوق مع النبيّين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وقال الصادق عليه‌السلام : ثلاثة يدخلهم الله الجنّة بغير حساب : إمام عادل ، وتاجر

٢٨٥

صدوق ، وشيخ أفنى عمره في طاعة الله عزوجل.

وقال فضيل بن يسار : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : إنّي تركت التجارة والاكتساب. قال : لا تفعل ، افتح بابك وابسط بساطك واسترزق الله ربّك.

وفي خبر آخر عنه قال عليه‌السلام : التجارة تزيد في العقل.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر النخعي : لا قوام لهم جميعا إلّا بالتجارة وذوي الصناعات فيما يجمعون من مرافقهم ويقيمون من أسواقهم ويكفونهم من الترفّق بأيديهم ممّا لا يبلغه رفق غيرهم.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الناس في الدنيا عاملان : عامل عمل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته ، يخشى على ما يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره ، وعامل عمل في الدنيا لما بعدها فجائه الذي له من الدنيا بغير عمل فأحرز الحظّين معا وملك الدارين جميعا فأصبح وجيها عند الله لا يسأل الله شيئا فيمنعه.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون ، وأخذوا منها ما أخذ الجبابرة المتكبّرون ، ثمّ انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح ، أصابوا لذّة زهد الدنيا في دنياهم وتيقّنوا أنّهم جيران الله غدا في آخرتهم ، لا تردّ

لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذّة.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير الناس من انتفع به الناس.

وقال أيضا : أحبّ عباد الله إلى الله جلّ جلاله أنفعهم لعباده.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله.

وقال أيضا : أفضل الناس أنفعهم للناس.

٢٨٦

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خصلتان ليس فوقهما من البرّ شيء : الإيمان بالله والنفع لعباد الله.

وروى الصدوق في الفقيه بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أوحى الله عزوجل إلى داود على نبيّنا وعليه‌السلام : إنّك نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. فبكى داود عليه‌السلام أربعين صباحا ، فأوحى الله تعالى إلى الحديد أن لن لعبدي داود ، فألان الله له الحديد ، فكان يعمل في كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستّين ألفا واستغنى من بيت المال.

قال معاذ : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا معاذ ، أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ قلت : ما ضعفت وما زهدت فيها. قال : فما لك؟ قلت : كنّا ننظر أمرا وذلك حين قتل الوليد وعندي مال كثير وهو في يدي وليس لأحد عليّ شيء ولا أرى أنّي آكله حتّى أموت. فقال عليه‌السلام : لا تتركها فإنّ تركها مذهبة للعقل ، اسع على عيالك وإيّاك أن يكون هم السعاة عليك.

قال الصادق عليه‌السلام : الزارعون كنوز الأنام ؛ يزرعون طيبا ، الزارع أخرجه الله يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة.

وقال أيضا : الكيمياء الأكبر الزراعة ، ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله تعالى من الزراعة ، وما بعث الله نبيّا إلّا زارعا.

والأخبار في ذلك متواترة.

وروى العلّامة المجلسيّ في البحار ج ١٧ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ للمؤمن ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يوم معاشه يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحلّ ويجمل.

وقال أيضا : وليس للمؤمن من بدّ من أن يكون شاخصا في ثلاث : مرمّة لمعاشه ، أو خطوة لمعاده ، أو لذّة في غير محرّم.

٢٨٧

وعن الرضا عليه‌السلام : لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يكون فيه خصال ثلاث : التفقّه في الدين ، وحسن التقدير في المعيشة ، والصبر على الرزايا.

وعن الصادق عليه‌السلام قال في جواب فرق الصوفيّة : وأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطائه رفع منه قوته لسنته حتّى يحضر عطائه من قابل ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، أنت في زهدك تصنع هذا وإنّك لا تدري لعلّك تموت اليوم أو غدا! فكان جوابه أن قال : ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء ، أما علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فإذا أحرزت معيشتها اطمأنّت.

وروي أنّ سلمان بعد أن مضى من عمره ثلاثمائة وخمسين سنة غرس ثلاثمائة نخلة.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده الحسن : يا بني ، لا تلم إنسانا يطلب قوته ، فمن عدم قوته كثر خطاياه.

التقطنا هذه الأخبار من كتاب «كار در اسلام» تأليف الشيخ يوسف الجيلاني ، فارسيّ.

نبذة من مواعظه ونصايحه عليه‌السلام وما يشاكل ذلك

* قال المسعودي في مروج الذهب : حدّثني محمّد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلّة المعروفة بسراي غسان ، قال : حدّثني أبو دعامة قال : أتيت عليّ بن محمّد بن علي بن موسى عليهم‌السلام عائدا في علّته التي كانت وفاته منها ، فلمّا هممت بالانصراف قال لي : يا أبا دعامة ، قد وجب حقّك عليّ ، ألا أحدّثك بحديث تسرّ به؟ قال : فقلت له : ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله. قال : حدّثني أبي محمّد بن عليّ

٢٨٨

قال : حدّثني أبي عليّ بن موسى قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد قال : حدّثني أبي محمّد بن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، أكتب ، فقلت : ما أكتب؟ فقال : أكتب ، «بسم الله الرحمن الرحيم ، الإيمان ما وقر في القلوب ، وصدّقته الأعمال ، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكح».

قال أبو دعامة : فقلت : يابن رسول الله ، والله ما أدري أيّهما أحسن : الحديث أم الإسناد؟ فقال : إنّها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نتوارثها صاغرا عن كابر.

* ومن كلامه عليه‌السلام في أنّ ولايتهم عصمة : روى الصدوق في الأمالي بسنده عن المنصوريّ ـ وكان يلقّب بأبي نؤاس ـ قال : قال سهل بن يعقوب : قلت لعليّ بن محمّد عليهما‌السلام ذات يوم : يا سيّدي ، قد وقع إليّ اختيارات الأيّام من سيّدنا الصادق عليه‌السلام ممّا حدّثني به الحسن بن عبد الله بن مطهّر ، عن محمّد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه ، عن سيّدنا الصادق عليه‌السلام في كلّ شهر ، فأعرضه عليك؟ فقال لي : افعل ، فلمّا عرضته عليه وصحّحته قلت له : يا سيّدي ، في أكثر هذه الأيّام قواطع من المقاصد لما ذكر فيها من التحذير والمخاوف فيها فربّما ندعو في الضرورة إلى التوجّه في الحوائج فيها. فقال لي : يا سهل ، إنّ لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجّة البحار الغامرة وسباسب البيد الغابرة بين سباع وذئاب وأعادي الجنّ والإنس لأمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا ، فثق بالله عزوجل وأخلص في الولاء لأئمّتك الطاهرين وتوجّه حيث شئت.

* ومن كلامه عليه‌السلام في مدح العلم والعلماء : ونقل المجلسي في المجلّد الأوّل من البحار عن الأمالي بسنده عن محمّد بن عبد الله بن ياسين قال : سمعت العبد الصالح

٢٨٩

عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا عليهم‌السلام بسرّ من رأى يذكر عن آبائه قال : قال أمير المؤمنين : العلم وراثة كريمة ، والآداب حلل حسان ، والفكرة مرآة صافية ، والاعتبار منذر ناصح ، وكفى بك أدبا لنفسك تركك ما كرهته لغيرك.

* وقال الطبرسيّ في الاحتجاج : روي عن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام أنّه قال : لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه‌السلام من العلماء الداعين عليه ، والدالّين إليه ، والذابّين عن دينه بحجج ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلّا ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل.

* الفحّام ، عن المنصوري ، عن عمّ أبيه ، عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عليهم‌السلام ، قال الباقر عليه‌السلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)(١).

* وروى العالم الجليل الحسن بن محمّد بن الحسن تلميذ المفيد في كتابه «نزهة الناظر» : وقال عليه‌السلام : خير من الخير فاعله ، وأجمل من الجميل قائله ، وأرجح من العلم عامله.

* روايته عليه‌السلام في الصبر : روى المجلسيّ في الجزء الثالث من البحار نقلا عن كتاب الحسين بن سعيد ، عن الحسن بن عليّ قال : سمعت أبا الحسن يقول : قال محمّد بن عليّ عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الصابرون؟ فيقوم عنق من الناس فينادي مناد : أين المتصبّرون؟ فيقوم عنق من الناس؟

فقلت : جعلت فداك ، ومن الصابرون؟ ومن المتصبّرون؟ قال :

قال عليه‌السلام : الصابرون على أداء الفرائض ، والمتصبّرون على ترك المعاصي.

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

٢٩٠

* روايته عليه‌السلام في المجازاة : روى الشيخ الطوسيّ في الأمالي بسنده عن أبي الحسن العسكري عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني مناد : يا رسول الله ، إنّ الله قد أمكنك من مجازاة محبّيك ومحبّي أهل بيتك الموالين لهم فيك ، والمعادين لأعدائهم فيك ، فكافهم بما شئت ، فأقول : يا ربّ ، الجنّة فأبوّئهم منها حيث شئت ، فذلك المقام المحمود الذي وعدت به.

* وروى ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول بسنده ، قال أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام لبعض مواليه : عاتب فلانا وقل له إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا إذا عوتب قبل.

* منعه عليه‌السلام عن التشأّم : وفيه أيضا ، قال الحسن بن مسعود : دخلت على أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه‌السلام وقد نكبت اصبعي وتلقّاني راكب وصدم كتفي ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي ، فقلت : كفاني الله شرّك من يوم ما أشئمك ، فقال لي عليه‌السلام : يا حسن ، هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له.

قال الحسن : فآب إلى عقلي وتبيّنت خطائي ، فقلت : يا مولاي استغفر الله.

فقال : يا حسن ، ما ذنب الأيّام حتّى صرتم تتشئّمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟!

قال الحسن : قلت : أنا استغفر الله أبدا وهي توبتي يابن رسول الله.

قال : والله ما ينفعكم ولكنّ الله يعاقبكم بذنبكم ما لا ذمّ فيه ، أما علمت يا حسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : لا تعد ولا تجعل للأيّام صنعا في حكم الله.

ثمّ قال عليه‌السلام : من آمن مكر الله وأليم أخذه تكبّر حتّى يحلّ به قضاؤه ونافذ أمره ، ومن كان على بيّنة من ربّه هانت عليه مصائب الدنيا ولو قرّض ونشر.

٢٩١

نبذة من كلماته القصار في أنواع المعارف والمواعظ

ذكرها أبو محمّد الحسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني الحلبي في تحف العقول :

قال عليه‌السلام : إذا خالف المؤمن ما أمر به ممّن آمنه لم يأمن أن يصبه عقوبة الخلاف.

وقال عليه‌السلام : الشاكر أسعد بالشكر منه من النعمة التي أوجب الشكر ؛ لأنّ النعم متاع والشكر نعم وعقبى.

وقال عليه‌السلام : إنّ الله جعل الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا ، ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا.

وقال عليه‌السلام : إنّ الظالم الحليم يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه ، وإنّ المحقّ السفيه يكاد أن يطفى نور حقّه بسفهه.

وقال عليه‌السلام : من جمع لك ودّه ورأيه فأجمع له طاعتك.

وقال عليه‌السلام : من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه.

وقال عليه‌السلام : الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون.

وفي الدرّ النظيم ليوسف بن الحاتم الشامي ، قال عليه‌السلام : من سأل فوق قدر حقّه أولى بالحرمان.

وقال عليه‌السلام : صلاح من جهل الكرامة هوانه.

وقال عليه‌السلام : الحلم يملك نفسك وتكظم غيظك مع القدرة.

وقال عليه‌السلام : الناس في الدنيا بالمال وفي الآخرة بالأعمال.

وقال عليه‌السلام : من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه.

وقال عليه‌السلام : تريك المقادير ما لا يخطر ببالك.

وقال عليه‌السلام : شرّ الرزيّة سوء الخلق.

وسئل عليه‌السلام عن الحزم ، فقال : هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك.

٢٩٢

وقال عليه‌السلام : الغنى قلّة ما تملك ، والرضى بما يكفيك ، والفقر شره النفس (غلبة الحرص) وشدّة القنوط ، والمذلّة اتّباع اليسير والنظر في الحقير.

وقال عليه‌السلام : راكب الحرون (هو الفرس الذي لا ينقاد) أسير نفسه ، والجاهل أسير لسانه.

وقال عليه‌السلام : المراء يفسد الصداقة القديمة ، ويحلل العقدة الوثيقة ، وأقلّ ما فيه أن تكون المغالبة ، والمغالبة أسّ أسباب القطيعة.

وقال عليه‌السلام : العتاب مفتاح التعالي ، والعتاب خير من الحقد.

وقال عليه‌السلام لبعض الثقات عنده وقد أكثر في تقريظه : أوّل على ما بك فإنّ كثرة الملق (١) يهجم على الفطنة ، فإذا أحللت من أخيك في الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النيّة.

وقال عليه‌السلام : المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنان.

وقال عليه‌السلام لرجل ذمّ إليه ولدا له : العقوق ثكل من لم يثكل.

وقال عليه‌السلام : الحسد ما حق الحسنات ، والزهو (٢) جالب المقت.

وقال عليه‌السلام : والعجب صارف عن طلب العلم ، داع إلى التخمّط (٣) في الجهل.

وقال عليه‌السلام : البخل أذمّ الأخلاق ، والطمع سجيّة سيّئة.

وقال عليه‌السلام : مخالطة الأشرار تدلّ على شرّ من يخالطهم ، والكفر للنعم أمارة البطر وسبب للتغيّر ، واللجاجة مسلبة للسلامة ومؤدّية للندامة ، والهمز فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال ، ومعصية الإخوان تورث النسيان.

وقال عليه‌السلام : العقوق يعقّب القلّة ويؤدّي إلى الذلّة.

__________________

(١) هو أن يعطي باللسان ما ليس في القلب.

(٢) الزهو الكبر والفخر والباطل.

(٣) الخمط شجر ذو شوك.

٢٩٣

وقال عليه‌السلام : السهر ألذّ للمنام ، والجوع يزيد في طيب الطعام.

وقال عليه‌السلام لبعض أصحابه : أذكر مصرعك بين يدي أهلك ؛ لا طبيب يمنعك ولا حبيب ينفعك.

وزاد الحسين بن محمّد بن الحسن تلميذ المفيد في كتاب نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ما يلي :

قال عليه‌السلام : أذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم.

وقال عليه‌السلام : ما استراح ذو الحرص ، والحكمة لا تنجع في الطبايع الفاسدة.

وقال عليه‌السلام : الأخلاق تتصفّحها المجالسة.

وقال عليه‌السلام : من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي.

وقال عليه‌السلام : شرّ من الشرّ جالبه ، وأهول من الهول راكبه.

وقال عليه‌السلام : إيّاك والحسد فإنّه يبيّن فيك ولا يعمل في عدوّك.

وقال عليه‌السلام : إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظنّ بأحد سوء حتّى يعلم ذلك منه ، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيرا ما لم يعلم ذلك منه.

وقال عليه‌السلام للمتوكّل في جواب كلام دار بينهما : لا تطلب الصفا ممّن كدرت عليه ، ولا الوفاء لمن عذرت به ، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه ، فإنّما قلب غيرك لك كقلبك له.

وقال عليه‌السلام : ألقوا النعم بحسن مجاورتها ، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها ، واعلموا أنّ النفس أقبل شيء لما أعطيت ، وأمنع شيء لما منعت ، فاحملوها على مطيّة لا تبطئ.

روى المجلسيّ في المجلّد الأوّل من البحار ، قال : قال أبو الحسن الثالث عليّ بن محمّد عليهما‌السلام : الجهل والبخل أذمّ الأخلاق.

٢٩٤

وقال عليه‌السلام : حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن.

أقول : لمّا كان مبحث العقل أفيد المباحث وأهمّها فلنذكر هنا طائفة من الأخبار الواردة فيه عن الأئمّة الطاهرة تهذيبا للأفكار ، نقلا من المجلّد المذكور من البحار :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ حسب المرء دينه ، ومروّته خلقه ، وأصله عقله.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، ولا بعث الله رسولا ولا نبيّا حتّى يستكمل عقله ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمّته.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله خلق العقل فقال له أقبل فأقبل ، ثمّ قال له أدبر فأدبر ، فقال : وعزّتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك وأحبّ إليّ منك ، بك آخذ وبك أعطي ، لك الثواب وعليك العقاب.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أساس الدين بني على العقل ، وفرضت الفرائض على العقل ، وربّنا يعرف بالعقل ، ويتوسّل إليه بالعقل ، والعاقل أقرب إلى ربّه من جميع المجتهدين بغير عقل ، ومثقال ذرّة من برّ العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لكلّ شيء آلة وعدة ، وآلة المؤمن وعدته العقل ، ولكلّ شيء مطيّة ومطيّة المرء العقل ، ولكلّ شيء غاية وغاية العبادة العقل ، ولكلّ قوم راع وراع العابدين العقل ، ولكلّ تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ، ولكلّ خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ، ولكلّ مسافر فسطاط يلجئون إليه وفسطاط المسلمين العقل.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : استرشدوا العقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سيّد الأعمال في الدارين العقل ، ولكلّ شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله ، فبقدر عقله تكون عبادته لربّه.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا غناء كالعقل ، ولا فقر كالجهل ، ولا ميراث كالأدب ، ولا ظهير كالمشاورة.

٢٩٥

وقال عليه‌السلام : أغنى الغنى العقل ، وأكبر الفقر الحمق.

وقال عليه‌السلام : الحلم غطاء ساتر ، والعقل حسام باتر ، فاستر خلل خلقك بحلمك ، وقاتل هواك بعقلك.

وقال عليه‌السلام : أربع خصال يسود بها المرأ : العفّة والأدب والجود والعقل.

وقال عليه‌السلام : لا مال أعود من العقل ، ولا مصيبة أعظم من الجهل ، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة ، ولا ورع كالكفّ عن المحارم ، ولا عبادة كالتفكّر ، ولا قائد خير من التوفيق ، ولا قرين خير من حسن الخلق ، ولا ميراث خير من الأدب.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : العقول أئمّة الأفكار ، والأفكار أئمّة القلوب ، والقلوب أئمّة الحواس ، والحواسّ أئمّة الأعضاء.

وقيل لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا ، فقال عليه‌السلام : كيف عقله؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ الثواب على قدر العقل.

وقال عليه‌السلام : من كمل عقله حسن عمله ، صديق كلّ امرء عقله وعدوّه جهله.

وقال عليه‌السلام : من كان عاقلا كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنّة.

اعلم أنّ المجلسيّ بعد نقل كثير من أمثال هذه الأخبار ، قال : إنّ العقل هو تعقّل الأشياء وفهمها في أصل اللغة واصطلح إطلاقه على أمور :

الأوّل : هو إدراك الخير والشرّ والتميّز بينهما والتمكّن من معرفة أسباب الأمور من ذوات الأسباب وما يؤدّي إليها وما يمنع منها ، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.

الثاني : ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنافع واجتناب الشرور والمضارّ ، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة والوساوس الشيطانيّة ، وهل هذا هو الكامل من الأوّل أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى يحتملهما ، وما يشاهد في أكثر الناس حكمهم بخيريّة بعض الأمور مع عدم ثباتهم

٢٩٦

بها ، وبشرّيّة بعض الأمور مع كونهم مولعين بها يدلّ على أنّ هذه الحالة غير العلم بالخير والشر ، والذي ظهر لنا من تتبّع الأخبار هو أنّ الله خلق في كلّ شخص من أشخاص المكلّفين قوّة واستعداد لإدراك الأمور من المصادر والمنافع وغيرها على اختلاف كثير بينهم فيها وأقلّ درجاتها مناط التكليف وبها يتميّز عن المجانين ، وباختلاف درجاتها يتفاوت التكاليف ، فكلّما كانت هذه القوّة أكمل كانت التكاليف أشقّ وأكثر ، وتكمل هذه القوّة في كلّ شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل ، فكلّما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقّة وعمل بها تقوى تلك القوّة.

ثمّ العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال ، وكلّما ازدادت تكثر آثارها وتحثّ صاحبها بحسب قوّتها على العمل بها ، فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وساير أركان الإيمان علم تصوّريّ يسمّونه تصديقا ، وفي بعضهم تصديق ظنّيّ ، وفي بعضهم تصديق اضطراريّ فلذا لا يعملون بما يعملون ، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كلّ حين.

الثالث : القوّة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم ، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمّى بعقل معاش وهو ممدوح في الأخبار ومغايرته لما قد مرّ بنوع من الاعتبار ، وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمّى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع ، ومنهم من أثبتوه لذلك قوّة أخرى وهو غير معلوم.

الرابع : مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريّات وقربها وبعدها عن ذلك وأثبتوا لها مراتب أربعة سمّوها بالعقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد ، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب وتفصيلها مذكور في مظانّها ، ويرجع إلى ما ذكرناه أوّلا فإنّ الظاهر أنّها قوّة واحدة تختلف

٢٩٧

أسمائها بحسب متعلّقاتها وما تستعمل فيه.

الخامس : النفس الناطقة الإنسانيّة التي بها يتميّز عن سائر البهائم.

السادس : ما ذهب إليه الفلاسفة وأثبتوه بزعمهم جوهرا مجرّدا قديما لا تعلّق له بالمادّة ذاتا ولا فعلا ، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريّات الدين وحدوث العالم وغيره ممّا لا يسعه المقام ذكره ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

ثمّ اعلم أنّ الأخبار الواردة في هذا الباب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأوّلين اللّذين مآلهما إلى واحد ، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر ، وبعض الأخبار يحتمل معاني الأخر وهذا باب واسع يفتح منه أبواب كثيرة فليطلبها الطالب من مظانّها.

نبذة من درر كلماته ورواياته عليه‌السلام في معان شتّى أيضا

روى الشيخ في الأمالي بسنده عن الفحّام عن المنصوري عن عمّ أبيه عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال الصادق عليه‌السلام : من صفت له دنياه فاتّهمه في دينه.

وعن كتاب الحسين بن سعيد بسنده عنه عليه‌السلام قال : قال عيسى عليه‌السلام للحواريّين : يا بني إسرائيل ، لا تأسوا على ما فاتكم من دنياكم كما يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من آخرتهم إذا أصابوا دنياهم.

وروى الراوندي في قصص الأنبياء بالإسناد عن عبد العظيم الحسني عن عليّ بن محمّد العسكري قال : جاء إبليس إلى نوح عليه‌السلام فقال : إنّ لك عندي يدا عظيمة فانتصحني فإنّي لا أخونك ، فتأثّم نوح بكلامه ومسائلته ، فأوحى الله إليه أن كلّمه وسله فإنّي سأنطقه بحجّة عليه ، فقال نوح عليه‌السلام : تكلّم ، فقال إبليس : إذا وجدنا ابن آدم شحيحا أو حريصا أو حسودا أو جبّارا أو عجولا تلقّفناه تلقّف الكرة ، فإن

٢٩٨

اجتمعت لنا هذه الأخلاق سمّيناه شيطانا مريدا.

فقال نوح : ما اليد العظيمة التي صنعت؟ قال : إنّك دعوت الله على أهل الأرض فألحقتهم بالنار فصرت فارغا ، ولو لا دعوتك لشغلت بهم دهرا طويلا.

وفيه أيضا بالإسناد عن ابن عبّاس ، قال إبليس لنوح : لك عندي يدا سأعلّمك خصالا.

قال نوح : وما يدي عندك؟

قال : دعوتك على قومك حتّى أهلكهم الله جميعا فإيّاك والكبر ، وإيّاك والحرص ، وإيّاك والحسد ، فإنّ الكبر هو الذي حملني على أن تركت السجود لآدم فأكفرني وجعلني شيطانا رجيما ، وإيّاك والحرص فإنّ آدم أبيح له الجنّة ونهي عن شجرة واحدة فحمله الحرص على أن أكل منها ، وإيّاك والحسد فإنّ ابن آدم حسد أخاه فقتله.

فقال نوح : فأخبرني متى تكون أقدر على ابن آدم؟

قال : عند الغضب.

وروى المجلسيّ في الجزء السابع من البحار في باب تأويل الوالدين بهم ، عن تفسير الإمام عليه‌السلام قال : قال أبو الحسن عليّ بن محمّد : من لم يكن والدا دينه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام أكرم عليه من والدي نسبه فليس من الله في حلّ ولا حرام ، ولا قليل ولا كثير.

وقال عليه‌السلام : إنّ من إعظام جلال الله تعالى إيثار قرابة أبوي دينك محمّد وعليّ عليهما‌السلام على قرابات أبوي نسبك ، وإنّ من التهاون بجلال الله إيثار قرابة أبوي نسبك على قرابة أبوي دينك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام.

أقول : ولقد استوفينا الكلام في برّ الوالدين وعقوقهما في كتابنا «قرّة العين في برّ الوالدين».

٢٩٩

وروى السيّد بن طاوس في أمان الأخطار بسنده عن محمّد بن هارون الجلّاب قال : قلت لسيّدي عليّ بن محمّد الهادي : إنّا روينا من آبائك أنّه يأتي على الناس زمان لا يكون شيء أعزّ من أخ أنيس أو كسب درهم من حلال ، فقال لي : يا محمّد ، إنّ أخ الأنيس موجود ولكنّك في زمان ليس شيء أعزّ من درهم حلال وأخ في الله عزوجل.

وروى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الفحّام عن المنصوري عن عمّ أبيه عيسى بن أحمد ، عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه قال : أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبّوني لحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي لحبّي.

وفيه أيضا بهذا الإسناد عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام عن آبائه عن النبيّ قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة : المحبّ لأهل بيتي ، والموالي لهم ، والمعادي فيهم ، والقاضي لهم حوائجهم ، والساعي لهم فيما ينوبهم من أمورهم.

وفيه أيضا بسنده عن الفحّام عن المنصوري عن عمّ أبيه عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عن موسى بن جعفر عليهم‌السلام قال : إنّ رجلا جاء إلى سيّدنا الصادق فشكا إليه الفقر ، فقال : ليس الأمر كما ذكرت ولا أعرفك فقيرا. قال : والله يا سيّدي ما حقّقت حالي حيث لم تعرفني فقيرا ثمّ ذكر من الفقر قطعة والصادق يكذّبه ، إلى أن قال عليه‌السلام : خبّروني لو أعطيت بالبرائة منّا مائة دينار كنت تأخذ؟ قال : لا ، إلى أن ذكر ألوف دنانير والرجل يحلف أنّه لا يفعل ، فقال : من معه سلعة يعطى بها هذا المال ولا يبيعها فكيف هو فقير؟

وذكره المجلسيّ في الجزء الخامس عشر من البحار في باب الرضا بموهبة الإيمان.

وفيه أيضا عن الفحّام عن المنصوريّ عن عمّ أبيه عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام عن آبائه قال : قال أمير المؤمنين : سألت النبيّ عن الإيمان ، قال : تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

٣٠٠