رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

(تشيم بورازو ـ Chim ـ Borazo) أو (الجبل الأبيض ـ Mont Blanc) أو (هه مه لايا) ، أن يقدر جرأته وشجاعته مثلما شعرت أم ميناس عندما رأت نفسها آمنة مطمئنة فوق هذه الروابي الصخرية. امتطيت جوادي تخفيفا عن إتعاب بغال التخت روان ، ولتغيير وسيلة السفر ، أما حاشيتي فقد تبعتني على مسافة قصيرة لكي استطيع الركوب سافرة عن وجهي. وما كان بحراستي أحد إلا ميناس. وهكذا بدأت بالانحدار من التلال ...

... والمنظر من أعالي قمة الجبل ، وإن لم يضاه المنظر من أعالي (زورا) فإنه يبعث الرضى في نفس من يحب المناظر التي تقترب في جمالها من حد الإبداع ؛ في نفس من قد حرم من مثل تلك المشاهدة مدة طويلة. فالمروج الخضراء والقرى البعيدة ونهر ديالى الفياض المتمعج في السهل وحتى الجبال النائية كلها كانت بديعة سارة على الرغم من تواضع هذه المناظر التي أثرت في نفسي التأثير الكلي. وبعد انحداري من التلال وأنا على صهوة جوادي ، وبعد التمتع بقليل من الراحة ، دخلت محملي ثانية قبل العاشرة.

... و (قه ره ته به) قرية تركمانية ، فيها تكية للدراويش القادريين ، وقد تكون قديمة جدّا ؛ دفن فيها أحد سلاطين بخارى المشهورين ، وكان قد انزوى في هذه القرية في عهد الخلفاء العباسيين ...

وفي الجهة المقابلة من القرية ، يقوم طنف آخر اتضح أنه أنقاض حصن قديم. وسكان هذه المناطق مبتلون بأمراض العين كسكان بغداد ، وكانت النسوة يترددن بإلحاح على خادماتي ويضايقنهن بطلب السكر الإفرنجي ، أي السكر الأوروبي (١) وهو دواء مهم لأمراض العين في جميع أنحاء الشرق.

__________________

(١) المعروف في العراق ب (شكر كله) أو (قند) ويعلم المترجم أن الأهلين في بغداد

٣٤١

بلغت درجة الحرارة في التختروان في الساعة الثانية بعد الظهر ٩٠ د.

٢٥ نيسان :

نهضنا على عادتنا بعد الرابعة بقليل. وكان صباحا رائقا جميلا ، والنسيم شماليّا غربيّا عليلا ، وكنت جالسة على بساطي تحت شجرة بانتظار دعوتي لركوب التختروان ، وبعد أن رحل الرجال وجدت كثيرا من النسوة وقد اجتمعن حولي ، وكانت إحدى النساء المسكينات في حالة بؤس وشقاء شديدين لما أصاب عائلتها من القسوة المخيفة التي تعرضت إليها. لقد تزوجت ابنتها قبل مدة من ابن عمها الذي طلقها أخيرا برضاء الطرفين ـ والطلاق أمر شائع بين الطبقة العامة من المسلمين ـ وتزوج بعد مدة من امرأة أخرى ، فاقتدت المطلقة به وتزوجت من رجل آخر. ومن المؤلم أن نذكر بأن زوجها السابق قد قتلها إثر زواجها دون أن يكون لذلك سبب ، فأرادت الأم الشقية الذهاب إلى بغداد لترتمي عند أقدام الباشا شاكية ، لكنها لم تجرؤ إذ إن الجاني هددها بتعقّبها وقتلها إذا سارت خطوة واحدة في تحقيق هذا الغرض. فهي أرملة ولها ولد وحيد لا يزال صبيّا وهو يسعى لتسليتها ويعدها بأنه سينتقم لأخته عندما يبلغ أشده ...

وكاد يسقط التختروان من الضفة في الأوحال ، فارتجفت بل أصابتني رعدة إلا أنني لم أنزعج ، وسمعت صرخة من آمنة خاتون (أم ميناس) تعبّر عن خوفها من أن تراني وقد تحطمت على الأرض أوصالا. ولكن قوة المكارين ونشاطهم أنقذاني من التعرض للخطر.

__________________

وغيرها كانوا يرغبون في رأس (الكله) وهو قمة المخروط من قطعة السكر ، ويكون عادة مثقوبا فيميعونه على النار ويصبون المائع في العين المريضة ، وكلمة (كله) بتشديد اللام والهاء الساكنة ـ كلمة تركية معناها الرأس ـ المترجم.

٣٤٢

وفي الثانية عشرة وصلنا (كفري) فوجدنا مساكن مريحة قد خصصت لنا في دار مزارع تركي كريم ، كان من الأثرياء سابقا ، أما الآن فقد أنزلته مشاركة الحكومة التركية لثروته إلى الدرك الأسفل من الفقر. وقبيل رحيلنا من بغداد كان قد أخرجه المستر (ريج) من الحبس ، وأقنع الباشا بأن يعفيه من دين عليه للحكومة مقداره ألف قرش.

قبل مدة تزيد على الخمسة عشر عاما ، كانت قرية (قه ره ته به) تشمل على سبعمائة دار أما الآن فليس فيها إلا خمسة وخمسون دارا. فلقد اضطر أكثر الأهلون إلى الهجرة إلى بغداد تخلصا من مضايقة حكامهم لهم. وهذا ينطبق على جميع القرى في هذه الباشوية ، وغيرها من باشويات الإمبراطورية التركية.

٢٦ نيسان :

يوم استراحة للحاشية والبغال. امتطينا صهوات جيادنا بعد تناولنا الفطور لمشاهدة بعض الخرائب التي اكتشفها المستر (ريج) يوم أمس خلال تنزهه عصرا ، وكانت تبعد عن القرية بمسافة عشر دقائق وهي في مجرى السيل.

وجدنا الشمسية وقد نصبت لنا ، وبساطنا وقد فرش ، ومحمود جاد في الحفر ، فأرسلنا المستر (به ل لي نو) ليرى بعض الخرائب الأخرى التي لا تبعد كثيرا ، وليخبرنا فيما إذا كانت تستحق عناء الذهاب إليها لمشاهدتها. وبعد مدة قصيرة كشفنا عن غرفة صغيرة مبنية جدرانها بناء خشنا بالأحجار السائبة المرصوفة بعضها فوق بعض وقد جصصت جدرانها ونقشت بنقوش متقاطعة ، كان بعضها بديعا حقّا. ويبدو أن أرض الغرفة كانت مفروشة بالجص البسيط وكذلك السقف الذي صبغ بلون قرمزي غامق ونقش بالأزهار أو بالريازة العربية. وكانت الخطوط الأساسية لهذه النقوش باللون الأسود ، محاطة بلون أحمر لامع الأمر

٣٤٣

الذي حيرنا ، إذ لم نذكر بأننا سمعنا ببناء إيراني قديم بزخارف إغريقية.

ولجنا مدخل هذه الغرفة وكان سليما ، وكشفنا عن قسم من غرفة أخرى كانت أقل جودة من الأولى. ويبدو أن الغرفتين تؤلفان قسما من عدد غرف صغيرة جدّا يصح التعبير عنها بالسراديب أو الأقبية وهي تمتد نحو الغرب الجنوبي الغربي وإلى الشرق الشمالي الشرقي ، وشاهدنا آثار خمس أو ست منها. واتضح لنا أن الجانب الشمالي منها قد دعم أو أسند إلى دعائم صغيرة مستديرة. وقد كشفنا النقاب في الغرفة الأولى ، وهي أكثر الغرف غرابة ، عن قطع من مادة سوداء تشبه فحم الخشب. وعبثا حاولنا أن نعثر على كتابة أو قطع من المسكوكات ...

٢٧ نيسان :

أنا اليوم منحرفة الصحة انحرافا أستطيع معه أن أستأنف السفر أو أصحب الرجال ، في جولة بقصد البحث في الخرائب في مكان اسمه (اسكي كفري) ، على مسيرة ساعتين حيث أسعدهم الحظ باكتشاف أنقاض أغلى فائدة وأوسع ساحة من أنقاض أو خرائب أمس ، وإن كانت تختلف عنها من حيث الطراز والنوع. فأينما حفروا عثروا على عظام وأنقاض. فأية كثافة من النفوس كانت في هذه البلاد المقفرة من سكانها الآن؟

٣٤٤

لقد جاءنا الأهلون اليوم ببعض المسكوكات الأرساسية (١) والساسانية والكوفية وختم روماني وآخر ساساني وكانت الكتابة على الأخير واضحة كل الوضوح. وهذا مما قد يكشف عن غموض هذه الخرائب ويلقي ضوءا عليها.

كا اليوم قائضا مزعجا ، إذ كانت الرياح جنوبية شرقية. ومن المتوقع وصول والدة محمود ، باشا السليمانية غدا إلى هنا ، في طريقها إلى بغداد ، ويقال إنها ذاهبة إليها لمفاوضة داود باشا في أمر السلم بين الفريقين. لقد صحبها ابنها الأصغر عثمان بك ، حتى الحدود التركية (٢) إنهم سلكوا طريق (سه كيرمه) أو الطريق المستقيم مخترقين الجبال ، ومارين بإبراهيم خانجي. وقد علمنا أنهم استخدموا ما ينوف على الألف قروي لتمهيد السبيل أمامهم ، إذ لو لا ذلك لما أمكن طرقه وهذا ما لا يدعو إلى ندمنا على القرار الذي اتخذناه للسير بطريق أسهل ندخل به كردستان ، وإن كان أطول مدى.

٢٨ نيسان :

رحلنا من كفري في السادسة ، وأطفال القرية يتبعوننا ويغمروننا بالأزهار ...

وكان الرجال والنساء جادين في المزارع إلا أن الفتور كان ظاهرا في عملهم ، فقد كانوا يحصدون الزرع بمناجل صغيرة بالية كالمدى التي يستعملها البستانيون في إنكلترا في تشذيب حدائقهم ...

وفي الثانية بعد الظهر وصلنا السيل الذي يمر من جوار (طوز خور ماتو) واسمه (آق صو) وهو ينحدر من الجبال الكردية عند

__________________

(١) والأرساسيون ، سلالة انبعثت من الإيرانيين الفرثيين ـ المترجم.

(٢) تقصد حدود باشويتي بغداد والسليمانية ـ المترجم.

٣٤٥

(إبراهيم خانجي). وبعد أن استدرنا في طرق ضيقة جميلة تكتنف الجنائن جانبيها وتتدلى خلالها أشجار الزيتون والإجاص والبرتقال فوق رؤوسنا مثقلة بثمارها وأزهارها ، ويعلوها الآلاف من اليمام وهي تردد الأغاريد الخلابة ، وصلنا دار (عمر بك) الجميلة الجديدة في الثانية والنصف وقد أخذ السرور منا مأخذه ، إذ قد أخذ التعب مني نصيبا كبيرا ؛ وقد فرحت كثيرا بما هيأه لي (كلود) بنفسه من فراش وثير وفاكهة طيبة ...

٢٩ نيسان :

على أثر اعتزامنا البقاء هنا لمدة يوم أو يومين لإراحة الدواب ، ذهب الرجال لزيارة بعض المنابع النفطية الكائنة في الفتحة التي فتحها السيل بين التلال الواقعة إلى الجنوب الشرقي من القرية ...

لقد علمنا بقرب وصول عدد من السعاة (التاتار) من استانبول ، وكلنا رجاء أن يصلوا قبل أن نبتعد عن طريق بغداد.

وقد بلغنا من أخبار بغداد ، أنّ من المتوقع أن يقبل كل من العاصيين الفارين جاسم بك ، وصادق بك العفو الذي صدر عنهما فيرجعا. أما الأخير فقد ألح في أن يكون المستر (ريج) كفيله ، فهو لا يعتمد على غيره ويقول إنه يعود إلى ولائه على الفور دون شك أو خوف ، إذا أعطاه ال (باليوز) بك ، المستر (ريج) ، وعدا بكفالته. لقد كان هذا أمرا خارجا عن نطاق الإمكان ، إذ إن الحكومة ستطلب ولا شك من المستر (ريج) أن يكون مسؤولا عن حسن سلوك هذا الرجل الشاب الذي وإن كان مستعدا لربط نفسه بأي يمين يطلبه منه المستر (ريج) ، وذلك لأن الفتى المسكين لا يركن على وعد أبناء بلاده ، كما أن المستر (ريج) لا يعتمد عليه مهما كانت الأيمان التي قسمها مغلظة. لقد مرت بنا تجارب محزنة في هذا الباب ، وهي قضية الأخ الأكبر لهذا الشاب ، وهو المرحوم سعيد باشا الذي اضطر المستر (ريج) أن يتعهد بكفالته لصيانة

٣٤٦

حياته ، وقد حلف بالقرآن بحضور الباشا ورئيس الوزراء والمستر ريج وغيرهم بأنه لا يتشبث بالهروب من بغداد ولكنه هرب فعلا بعد مدة قصيرة ، واتخذ الشقاوة مهنة وأصبح باشا وقتل نفس الرجل الذي حفظ له حياته وماله بتوسط من المستر (ريج) ...

٣٠ نيسان :

كلود منحرف المزاج كثيرا بتأثير حمى صفراوية شديدة اضطرته إلى الركون إلى الهدوء.

كان صباحا رائقا صحوا ، والنسيم شماليّا غربيّا عليلا ، ولكن الغيوم تلبدت بعد الظهر ، وأمطرت السماء قليلا أعقبها رعد يسمع من بعيد ، ويظهر أن الجو في بغداد لم يستقر بل هو عاصف أيضا مثل جونا. لقد أمطرت السماء بلا انقطاع نهارا وليلة فجعلت المرور في الأزقة مستحيلا.

بقي (كلود) مريضا طيلة اليوم ، وقد زادت وطأته عند المساء فرجوته أن يتخلى عن فكرة السفر غدا.

١ أيار :

قضى المستر ريج ليلة هادئة ، ولما كان اليوم جميلا جدّا فقد رغب كل الرغبة في عبور سيل (طاووق) قبل هطول أمطار أخرى تجعل عبوره مستحيلا ، ولذا رأى أفضلية الرحيل من (طوز خور ماتو).

وجريا على العادة ، لم أتحرك أنا وحاشيتي إلا بعد رحيل الرجال بنصف ساعة ، وقد تحركوا في السادسة. وكان النهار بديعا أنعش زوجي العزيز.

وعلى الرغم من لطافة قرية (طوز خور ماتو) فقد كنت مرتابة في

٣٤٧

كونها صحية لكثرة مشاتل الشلب فيها. و (كلود) لم يمرض هذا المرض الشديد ، إلا بعد وصولنا هذا المكان. لقد شعرت أنا أيضا بالانحراف وشكت حاشيتنا ذلك.

وبعد أن ودعنا (طوز خور ماتو) الخادعة اجتزنا جماعة تدعى بالتركية (ده لي دومه ن) (١) وهي جماعة متشردة ، مهرجة تحترف الغناء ، وكانت جماعة مضحكة جدّا ، وبظهورهم تعالى الفرح والطرب في نفوس أتباعنا. لقد كانت الجماعة مؤلفة من سبعة أو ثمانية أشخاص ممتطين الحمير الصغيرة الهزيلة ، وعليهم الأسمال البالية وهم نحاف هزيلون أيضا. وكان أحدهم ، ويظهر أنه المهرج الأول بينهم ، واضعا فوق قاووقا (٢) قديما قطن بطانته بارز من خروقه. لقد كان يمتطي حمارا قزما حتى ظهر كأنه يمشي على الأرض من فوقه إذ إن قدميه لم تكونا تعلوان عن الأرض إلا عقدتين تقريبا. لكز كل من علي آغا ، ورئيس الخدم جواديهما وأغارا عليه ليلعبا معه الجريد ، وطاردا حماره وهو عليه وأوقعا قاووقه على الأرض وصارا يداعبانه قفزا ونطّا ، لتسلية الناظرين ...

وكنا كلما تقدمنا في طريقنا نلاحظ قلة الأراضي المزروعة وكثرة المراعي الغنية ، ووجدنا جماعات من المسافرين رجالا ونساء وأطفالا أكثر مما شاهدناه منذ رحيلنا من بغداد.

وأخيرا عند منتصف النهار وصلنا (طاووق جاي) أو سيل طاووق العظيم الذي زاد في مخاوف أم ميناس وكربها ، وهي لم تذق الطعام ولم

__________________

(١) (ده لي دومه ن) يعبر بهذا التعبير التركي عن الرجل الفظ الطباع ، ولكن كما يظهر من النص أنها جماعة من الغجر ـ المترجم.

(٢) ال (قاووق) لباس رأس تركي قديم. ومعناه اللفظي (الشيء الفارغ الجوف) وقد جاء في حاشية الكاتبة ما يلي : ـ «لباس رأس مبطن بالقطن ، يلبسه جميع رجال الحكومة التركية وضباطها». والواقع أن القاووق نوع من ألبسة الرأس العديدة التي لبسها الأتراك وألبسوها. راجع حاشية الصفحة ١٤٣ للاستزادة ـ المترجم.

٣٤٨

تنم ليلة أمس لمخاوفها منه. وهذا النهر ينبع من جبال كردستان القائمة على مسافة قليلة من يمين طريقنا ، وتستغل مياهه في الصيف في الإرواء ولا يزيد في الخريف عمق مياهه على القدم ونصف القدم ، وإننا نستند بقولنا هذا على خبرتنا السابقة إذ عبرناه في شهر تشرين الأول من سنة ١٨١٣ في طريقنا إلى استانبول. أما وقت فيضانه وخطورته فهو الشتاء والربيع حيث تهطل الأمطار الغزيرة على الجبال فجأة فيصبح متفرعا ، تملأ المياه مجراه كله وهو نصف الميل عرضا فيجري جريانا سريعا مخيفا جارفا معه الصخور العظيمة. وقد يباغت سيله وفيضانه المسافرين وهم وسط مجراه ، ومن هنا نشأت مخاوف آمنة خاتون ..

وقد ذكره بطليموس باسم (كوركووس ـ Gorgus) وزه نيفون باسم (فيسكووس ـ Phiscus) ودانفيل باسم (اودورنه ـ Odorneh).

وفي الثانية وصلنا (طاووق) ولجأنا إلى مكان مريح ، ولقد استغربت للأمر. فإن منظر القرية منظر قذر وهي تقع في سهل خصب ، غزير المياه. ومن بقايا الخرائب الكثيرة التي تحيط بالقرية من كل ناحية يبدو لنا أنها كانت فيما مضى مدينة واسعة الأرجاء. وكل ما بقي منها هو من عهد الخلفاء الذين يبدو والحق يقال ، إنهم كانوا حكاما مثقفين إنسانيين كغيرهم ممن سبقهم من الحكام ، وإن البلاد كانت غاصة بالنفوس في عهدهم كما كانت في عهود سميراميس وخسرو وغيرهما.

و (طاووق) أو (داقوق) في العصر الثالث عشر كانت مركز الأبريشية الكلدانية ، وكانت ولا ريب تشتمل على عدد كبير من المسيحيين ولا يزال يشاهد فيها أنقاض ما يسمونها بالكنيسة.

٢ أيار :

قضيت ليلة مزعجة لا راحة فيها ، ساورت النوم خلالها الأحلام المزعجة مما جعلني أفضل الأرق عليه. وغلبني النوم عند الفجر ، وعندما

٣٤٩

استيقظت استغربت إذ لم أسمع صوتا يدل على التهيؤ للرحيل ورأيت الناس أكثر ميلا إلى الفتور والكسل لقضاء اليوم هنا بحجة كون السماء ملبدة بالغيوم والمطر محتمل الهطول ، إلا أن شكيمتنا لم تلن ؛ فموسم الصيف آخذ بالتقدم وإذا ما تأخرنا كثيرا فقد نجد أنفسنا في غمرة الحر قبل أن نقطع السهول. إن السفر بعد الساعة الثامنة صباحا في الضواحي القريبة من بغداد المتأججة يعد من الأمور المستحيلة.

يؤسفني أن أقول إننا سنبتعد الآن عن طريق البريد كما سيتراءى لك إذا كنت تتذكر (١) شيئا يتعلق بسياحتنا السابقة إلى استانبول. وإننا الآن نضيع آخر فرصة لنا في مقابلة التاتار (ساعي البريد) الذي يقال إنه يقترب منا بخطوات حثيثة يحمل رزمة خاصة بنا.

يرغب المستر (ريج) في أن يوصي مأمور البريد في (طاووق) حتى يوفد الساعي إلى السليمانية مباشرة من (طاووق) عند وصوله إليها ولكنه علم أنه إذا لم تصدر الأوامر السريعة من حكومة بغداد فالقرى لا تعطي الجياد لهذا الغرض. وعدا ذلك قد يظن حاكمنا المتوجس المرتاب داود باشا أن لوصول الساعي من استانبول علاقة بسفرنا إلى كردستان ، هذا السفر الذي لم يرق له في الواقع وما كان راضيا عنه ، فالتركي لا يعتقد بالسفر ترويحا للنفس أو طلبا للاستشفاء ، وقد يتذرع أحيانا بهذه الأسباب لكنه لا يضع على الدوام أمام عينيه بعض الدوافع الخفية التي لا يعترف بها وهو لا يصدق أي شخص يرغب السفر طلبا للراحة فقط. ومهما كان داود باشا يعتمد مباشرة في شؤونه على قوته أو مقدرته في خداع الآخرين فإنه لا يرتاح لأية خطوة يتخذها الآخرون ، وإنه إذا لم يصدق الأسباب المنتحلة لهذا العمل ، فإنه يعتقد أن وراءها أمورا يقصد بها أذاه. فهو

__________________

(١) يظهر للمترجم أن السيدة أرسلت يومياتها إلى أهلها كرسائل وعندما نشرت رحلة زوجها ، جمعتها وألحقتها بها.

٣٥٠

يسيء الظن في كل أحد ولا يصدق أحدا. ويسوءني أن أقول بأن الناس جميعا يرتابون منه ، ولا يصدقه أحد.

إنني مضطرة ـ ويسوءني أن أعترف بذلك ـ إلى الانتظار مكرهة عدة أيام قبل أن أرى علامة بريد (مردخ) المحبوبة. فأي مكان هذا الذي سأتسلم فيه كتبا خطها أعز الناس وأكثرهم كمالا وأحبهم إلي ، كتبا ممن يقطنون الأنحاء الجميلة في أبدع وأسعد بلاد العالم. أواه لو كان باستطاعتي أن أعطيكم فكرة عن البلاد الوحشية المحرقة التي نحن فيها ؛ حقّا عليكم أن تحبوا إنكلترا وطنكم العزيز.

رحلنا في السادسة والثلث ، ومضينا نسير حتى الثامنة في أوحال كثيرة ومزارع حبوب جميلة حتى وصلنا قرية في نهاية سلسلة طويلة من تلال واطئة ، تنعت في هذا المكان (مطارا) ولكنني أعتقد أنها لم تكن إلا امتدادا من تلال كفري. استدرنا كثيرا في مضيق تكسو أرضه الأحجار الرملية ، ويجري فيه جدول ماء لطيف والصخور الكبيرة منتشرة في جميع أنحائه. وقد جابهنا المصاعب الكثيرة في سحب التختروان في بعض الممرات الضيقة الزلقة. والبغال المسكينة كانت تنزلق انزلاقا رديئا ، ولم تنج من السقوط على الأرض أحيانا إلا ببذل جهد جهيد. وبعد أن جاوزنا الممر جوبهنا ببحر مرعب من تلال الأحجار الرملية الجرداء ، ممتد إلى أبعد ما يدركه البصر ، لا خضرة فيها إلا بعض مزارع حبوب قائمة في القليل من أنحائها ....

... وبعد الحادية عشرة بقليل وصلنا قرية (ليلان) وهي على بعد خمس ساعات من كركوك ، فوجدنا فيها كوخا أخلي من قاطنيه لسكنانا. تعود هذه القرية إلى عبد الله أفندي متولي الإمام الأعظم ، وقد تعرفت على عائلته في بغداد معرفة جيدة. وهو الآن هنا ، وقد أرسل إلينا هدية مؤلفة من خمس قطع من الجبن الطري اللذيذ ، وبعض الزبدة الباهرة واللبن الرائب ، إنني لا أستطيع وصفه ، لكنه من أجود مستحضرات

٣٥١

الحليب التي عرفتها حتى الآن. لقد أكلنا أكلة مترفة قد يعبر عنها بالغذاء في مثل هذه الساعة من النهار بفضل ضيافة الأفندي الكريم ...

٣ أيار :

سررنا كل السرور لتخلصنا من ملجأنا القذر ، وسررت كل السرور لركوبي تخترواني ونجاتي من النسوة الصاخبات اللواتي كان لهن مظهر الرجال واللواتي أحطن بي في اللحظة التي ركب زوجي العزيز فيها جواده وتركني ، فإنهن لم يجرؤن على الاقتراب مني طالما كان بجواري ، كن يكدن يمتن تلهفا لاستراق نظرة إلي ...

... وبعد التاسعة بقليل وصلنا مضرب يوسف آغا في وادي (ليلان) ، وهو عبد كرجي من عبيد باشا بغداد وحاكم هذه المنطقة المسماة (قه ره حسن) ، وهو صديق قديم للمستر (ريج) وقد أظهر كرما كبيرا عندما أصر على تضييفنا جميعا على وفرة عددنا. لقد نصبت خيمة لنا فوق مرتفع صغير يعلو النهر الذي أحببته ...

وكان كل ما حولنا منعشا ، الأمر الذي جعلني عاطفية على حد تعبير (كلود) ، على الرغم من أنه كان يشاركني هذا الشعور وإن بذل جهده لإخفائه. ويظهر أن حرماننا منذ أمد بعيد من مشاهدة مثل هذه المناظر هو الذي جعلها تسحرنا وتخلب نفوسنا أكثر من غيرها من الأماكن الشهيرة التي رأيناها في إنكلترا ، أو سويسرا أو إيطاليا. تمشينا في الوادي بين الأنجم وجمعنا الأزهار والأوراد البرية ثم فوجئنا بعليقة زهر بري ، فنسينا كل شيء غير هذا الزهر. وكدنا نعيد منفانا الموحش إذ شعرنا بأننا أصبحنا في إنكلترا.

وعند المساء زارتني عقيلة يوسف آغا ، وكانت متحجبة حجابا متقنا ، فدخلت خيمتي زاحفة من تحت سجوف الخيمة لكي لا يشاهدها أحد. لقد تملكها هذا الحرص على ما أعتقد ، إثر زواجها من التركي ،

٣٥٢

وهي عربية ، وليس فعلها ذاك من عادات العرب. وعندما بارحتني زائرتي ، قمنا للنزهة ثانية ، وأخذ منا الأسف مأخذه عندما أجبرنا الظلام والتعب على العودة إلى خيمتنا.

٥ أيار :

ترويحا للبغال وتخلصا من رجات التختروان في سيرة فوق الطريق المعروف عنه متعبا ، ركبت في الخامسة والنصف جوادي غير آسفة ....

وبعد الحادية عشرة بقليل وصلنا قرية (ده ركه زين) القائمة عند مدخل سهل جميل جدّا ، ويقال إنه كثير الأفاعي. وكانت هذه أخبارا غير سارة بالنسبة لنا ، إذ نصبت خيمنا في وسط عشب مرتفع.

لقد لاحظنا في هذا المحل ، طنفا آخر يشبه الطنف الذي خيمنا فيه أمس واسمه (كوبارا) (١).

أجفلت جفلة عنيفة مساء اليوم ، حين شاهدت أم سبع وسبعين كبيرة تدبّ بسرعة فوق البساط التي كنا جالسين عليه. ولو كان فراشي مطروحا على الأرض لما استطعت النوم بعد الذي رأيت ، إلا أنني أشكر سريري السفري الإنكليزي الصغير فقد ارتميت عليه لتعبي الزائد ، ونمت نومة هادئة دون أن تزعجني الأفاعي أو أمهات السبع والسبعين.

٦ أيار :

نهضنا في الرابعة صباحا ، واستمتعت ثانية بركوبي حصاني المريح ، ركبنا في الخامسة والنصف وقطرات الطل الوفيرة تبلل الأعشاب ، وسرنا في سهل جميل محاط من جميع الجهات بالتلال الواطئة الجرداء والقرى

__________________

(١) والصحيح (كوباله).

٣٥٣

وبقاع المزارع الصغيرة منتشرة فيه هنا وهناك ، مع ما كان يكتنفه من المراعي.

لقد ولجنا الآن كردستان بعض الشيء فأحاطت بنا جبالها. أما اللّغة المعروفة فيها فهي الكردية فقط. لقد بدأنا توّا بملاحظة الفرق في ملامح الكرد من أبناء العشائر والقرويين ، فالعينان عند أبناء العشائر متباعدتين والأنف أقنى والجبين واسع والأبدان ضخمة ، والأعضاء متناسقة وهم ذوو هيئات عسكرية. أما سيماء القرويين ، فإنها منتظمة ، وعيونهم ناعسة ، وملامحهم ألطف من ملامح أبناء العشائر. لكن القروي لم يكن طويل القامة أو حر السلوك والاستقامة كأخيه العشائري. وهذا الأمر ليس من الأمور العسيرة الفهم ، فأبناء العشائر هم الأسياد وأبناء القرى هم العبيد ....

٨ أيار :

خيمنا اليوم في بستان من بساتين الباشا متصلة بالمدينة تماما ، إذ إن دخولنا البلدة في هذا اليوم لم يكن ليتفق والترتيبات التي اتخذها أصدقاؤنا الكوردكيون ، ولذلك اضطررت إلى التخلي عن الركوب كما اضطررت على إخفاء نفسي إخفاء تامّا في التختروان ، إذ كان من المتوقع أن تتجمهر الجماعات المتزاحمة من الناس للتطلع إلى وجوه الأوروبيين الذين يدخلون بلادهم لأول مرة ، وأن ملابسهم الخاصة والجنود والهنود الذين يرافقونهم سيثيرون فضولهم ذلك لأنهم أولا شغوفون بكل ما له علاقة بالحرب ، وثانيا وبوجه خاص لانتهازهم فرصة مشاهدة جنود يظهر عليهم للوهلة الأولى أنهم مسلمون ، وكذلك الهنود والأوروبيون ...

عندما نزلت من التختروان ، عجبت كل العجب حين لم أر غريبا حول مخيمنا على الإطلاق فكان يضاهي سكون مخيمنا على ضفاف دجلة. لقد خرج رجال المدينة البارزين لاستقبال (كلود). إنهم شربوا

٣٥٤

القهوة وجلسوا قليلا دون أن يظهر منهم ما يشير إلى تطفلهم في النفوس أو إلى أية بادرة مخالفة للسلوك بل كانوا أناسا مهذبين التهذيب العالي ؛ وقد انصرفوا بعد ذلك.

لقد صدرت الأوامر المشددة من الباشا بإنزال العقاب الصارم في من يقترب من مخيمنا ، مهما كانت منزلته إلا إذا أوفده هو ، الأمر الذي لم يهدف منه إلا تأمين راحتنا. وإلا كما يقولون ، وإنني أصدق حقيقة قولهم ، لأحاط بنا الرجال والنساء والأولاد طيلة النهار من الصباح حتى المساء ليتطلعوا إلى هذا المنظر الجديد عليهم.

بعد وصولنا بقليل ، وصل تاتار ، من استانبول ، قصد بغداد أولا هو لا يعلم برحيلنا منها في سفرنا هذا. والرزمة التي أتانا بها الساعي كانت تحوي نعي الملك في ٢٩ كانون الثاني ، ووفاة (دوق كه نت) في ٢٤ من الشهر ذاته. فتحت البريد وأنا ارتجف وقد استولى علي ، كما هي عادتي شعور الفرح الذي يمازجه الخوف ، وإنني جابهت الخيبة الكبرى إذ لم أعثر على الكتابات اليدوية المحبوبة ، بل حتى ولا على سطر واحد من خط (مردخ). لقد ضاق صدري للأمر إلى أن رأيت اسم والدي في أحد الجرائد اليومية الصادرة في أواسط شباط فارتحت قليلا.

ونظرا لوصول أخبار وفاة الملك ، كان يجب إعادة التاتار فورا. كما يجب علينا أن نتخلى عن لذة مطالعة الجرائد. لكن ذلك لم يمنعنا من إلقاء نظرة خاطفة على حقول أعداد جريدة (ايفنينك مه لس ـ Evening Mails) الصادرة حتى الرابع عشر من شباط ، وهذا ولا شك تاريخ متأخر إذا ما لاحظنا وصول البريد إلى بغداد ، وإرساله منها إلينا. لقد قطع التاتار المسافة بين بغداد وبين مكاننا الآن بأربعة أيام بطريق (سه كيرمه) وهو أقصر طريق ، وفي بلاد مجهولة تقريبا ووحشية. قرأنا الخطب القيمة التي ألقاها والدي العزيز في تأييد لائحة قانون الرقع والطوابع التي نرجو أن يكون قد نجح فيها لتحقيق المصادقة على هذه

٣٥٥

الأمور الخطيرة ، إذ كانت هنالك قوة توقف سيرة وزرائنا الإنكليز الحاليين الجائرة عند حدها. يبدو أن قتل (دوق دوبه رري ـ Due de (Berri كان السبب في إثارة شعور رهيب في فرنسا ، وهو شعور عدائي لم يسبق له مثيل نحو عائلة (بووربون) التعسة التي تستدعي الإشفاق بالرغم من الجنايات التي اقترفتها. فما هي الفضيلة التي باستطاعتنا رجاؤها من أوروبا إذا كانت إنكلترا نفسها التي اعتادت أن تنظر الشعوب إليها نظرة احترام قد انحطت إلى الحضيض.

وصلنا مع هذا البريد متاع وافر للقراءة من (جورنو ديه سافان ـ Journaux des Savans) و (جورنو ديه دام ـ Journaux des Dames) و (أدنبره اند كورته رلي رفيو) وقد وصلتنا كل هذه الجرائد والمجلات في الوقت الملائم بعد سياحتنا المديدة هذه. إنني أخشى أن لا يكون (زه نيفون) ومن كان معه من اليونان عند زحفهم في (كاردوكيا) ، قد ذاقوا لذة تسلم الرسائل من اليونان ، أو لذة تسلم (مورنينك كرونيكه ل) من إسبارطة ، أو آخر عدد من مجلة (آثينس رفيو ـ Athen ,s Review).

وبينما نحن منهمكون في لذتنا هذه التي جعلتنا ننسى مكاننا وما يحيط بنا كل النسيان ، جاءتنا رسالة من محمود باشا حاكم السليمانية الحالي يخبر (كلود) بها أنه يرغب في زيارته بعد صلاة العصر الأمر الذي جعلنا في حاجة إلى ترتيب وضعنا والتهيؤ لاستقباله ....

وعلى أثر تحية الجنود له ظهر أنه أدرك معنى الاحترام الذي قوبل به ، إذ إنه رد التحية بإحناء رأسه إلى صدره. وفيما أتذكر وقد كنت أختلس النظرات لمشاهدته عن بعد من وراء سجوف خيمتي أنه كان رجلا صغير البدن قصير القامة ، لم يكن فيه ما يسترعي الانتباه أو يميزه عن غيره في مظهره. وإنه على تناقض غريب مع رجاله الذين كانوا جميعا ذوي أبدان ضخمة وهيئات عسكرية. إنه أكبر الأنجال الخمسة للمرحوم عبد الرحمن باشا الشهير ، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره تقريبا ،

٣٥٦

ذو طبع رقيق إنساني وإن كان يفتقر إلى العزم والحزم. وكان على جانب عظيم من التقوى الأمر الذي جعله ينقاد إلى أرباب الدين والعلماء ، وما كان هؤلاء من أثقف الناس في أي قسم من الإمبراطورية الإسلامية ؛ والمعروف عن طبقتهم هنا أنها طبقة متعصبة عنيدة. لكن الباشا كان ذا حلم ولين ولم يخضع إلى تعصبهم ، لكونه سوداوي الطبع فقد كان يميل بطبيعة الحال إلى النظر إلى الأمور التي تكتنفه نظرة قاتمة.

وعند المساء تمشينا داخل الجنينة ، وكان الهواء معطرا بشذى الورود. إنني أشعر بالنفور الشديد من الرحيل من هذا المكان المبهج إلى المدينة التي لم تظهر لنا جاذبيتها والتي يقال إن بيوتها خربة. إنني أفضل البقاء حيث أنا ، ولكن قد أظهر الباشا الكريم الطبع ، الخلوق ، رغبته في انتقالنا إلى المدينة فلم يعد لي إلا أن أضحي برغبتي إرضاء له.

١٠ أيار :

وكان للموكب عند دخوله المدينة استعراض باهر لكثرة المشتركين فيه وتنوع أزيائهم. لقد تألف الموكب من الكرد والأوروبيين وهم جميعا في بزاتهم الرسمية المبهجة ، فالجنود الهنود بطبولهم ومزاميرهم والخيالة الروس بأبواقهم (١) ، والضباط من الأتراك المسيحيين وحتى اليهود والخدم التابعون لدار المقيمية كل هؤلاء كوّنوا شارة للعظمة البدائية الخليطة ، وكان الأوروبيون في مظهرهم الموحد المنسق يسترعي الأنظار بوجه بارز ، والموكب بكامله لم يكن إلا رمزا ناطقا عن أوروبا وآسيا.

يبدو أن الباشا قد أظهر رغبته القوية في سكنانا المدينة ، وهو يرى أن رجوع المستر (ريج) إلى مخيمه لم يكن فألا حسنا. وأخيرا رضخ

__________________

(١) لم يذكر المستر (ريج) في مذكراته هذه الخيالة ـ المترجم.

٣٥٧

المستر (ريج) لهذه الرغبة معتقدا أنه من الأفضل أن ينزعج ولا يرتاح عوضا من أن يمس شعور هؤلاء الناس اللطفاء الكرماء أو أن يخالف معتقداتهم. لذلك جمعنا أثقالنا وركبت تخترواني أيضا فأسدلت ستائره القرمزية وشدت شدا محكما من جميع أطرافها لكي لا يرى أحد قلامة ظفر مني ، بالرغم من ارتدائي المئزر (١) وإسدالي البرقع ، وفي مثل هذه الحالات التي أنا فيها حيث تضطر حرم رجل له منزلته إلى المرور علانية بين حشد من الناس ، يجب أن لا يظهر منها حتى أطراف حجابها. هكذا وصلت الدار التي خصصت لإقامتنا ، ومن الصعب أن أسميها دارا قبل أن أرى شيئا من السليمانية أو من سكانها. وكانت الأصوات المستمرة الواطئة ـ التي كنت أسمعها من حولي وأنا أمر في محملي المغلق علي ، الدليل الوحيد لدخولنا المدينة. وإن إعجابي وحبي للعاصمة والبلاد وأهلها انقلب الآن إلى كره ونفور نحوها جميعا لرداءة المكان الذي خصص لإقامتي ، ومن الأمور التي كانت تتطلب شجاعة عظمى أن أخاطر بدخول كومة من الخرائب كانت ماثلة أمامي في ساحة الدار الخارجية. وقد استجمعت قواي وولجت الدار وورائي كل من المستر (به ل لي نو) والطبيب الإيطالي الصغير ، وأخذ أولهما ينفخ مزيلا الغبار بفطنة وأخذ الثاني ينفض ما علق بكتفه منه باستهجان مقلدا ...

ليس لي أية علاقة بالديوان خانه ـ ولا يحتمل أن يكتب لي نصيب مشاهدتها ، فترتيباتها تضاهي ترتيبات الحرم تماما ، أما حالتها فأردأ منها. إنني أشفق على المستر (به ل لي نو) ورجالنا الذين سيمكثون فيها.

__________________

(١) وقد جاءت في النص (جرجف) وهو قطعة من القماش الحريري المحقق بمربعات بيضاء وزرقاء وحافاتها موشاة بالقصب المذهب تلف الجسم بكامله إلا الوجه الذي يستر ببرقع مصنوع من شعر ذيول الخيل (وكان يسمى هذا النوع من البرقع ولا يزال في بعض أنحاء العراق بالخيلية ـ المترجم). وهكذا تتحجب لابستها ، وهي تتمكن من الرؤية من خلال البرقع بوضوح.

٣٥٨

٢٠ أيار :

مرت فترة طويلة لم أدون مذكراتي فيها ، ومنذ دخولي السليمانية بلغت حياتي من العزلة بحيث لم أر إلا القليل الذي يستحق التدوين ، ولكنني كنت كثيرة الكتابة عن طريق الرسائل. فمنذ دخولي الدار لم أبرح الحرم إلا مرة واحدة للذهاب إلى الحمام ...

٦ حزيران :

علي أن أقضي اليوم بصحبة عائلة الباشا ، ولما كانت العادة في الشرق توجب على الزوار أن يقضوا يومهم ـ بالمعنى اللفظي ـ في الزيارة ، أكملت استعدادي في العاشرة ، فجاءتني امرأة من القصر لتدلني على الطريق إلى الحرم. لقد صحبتني أم ميناس وخادماتي ، وسرنا متحجبات تحجبا كاملا ولم يكن علينا أن نمشي كثيرا لأن بيتنا كان قريبا من القصر ، إن مدخل الحرم لا يمر من ساحة القصر الخارجية ، بل كان من وراء الحرم ذاته وكانت بابه صغيرة جدّا اضطررت على الانحناء كثيرا لأستطيع المرور منها.

استقبلتني هنا الكيوانيات ـ القهرمانات ـ ومن ورائهن رهط من الجواري وقد سارت قهرمانه عن يميني وأخرى عن يساري وقادتاني إلى السلم فصعدناه ، وعند باب غرفة واسعة استقبلتني زوجة الباشا نفسها ، ومن ورائها إحدى شقيقات الباشا وعدة سيدات من العائلة. أديرت القهوة (١) والحلوى و (الشرابت) والغلايين كما هو المتبع ، وقد ضاق صدري وانهدّت قواي لمراسيم المجاملات المعتادة هذه. ولكنني رأيتهن بعد انتهاء هذا الفصل من المجاملة الضرورية قد تخلين عن كل

__________________

(١) لم يأت ذكر الشاي حتى الآن في مذكرات الزوجين ، ويظهر أنه ما كان معروفا في العراق في ذلك العهد ـ المترجم.

٣٥٩

المراسيم ، ورجعن إلى دماثة أخلاقهن وبشاشتهن وعدم تكلفهن وهن يسعين سعيا حثيثا لإراحتي.

إن عادلة خانم ، زوجة الباشا هي بنت عثمان بك ، وعلى هذا فإنها من أقرباء زوجها. وفي الحقيقة أن جميع أعضاء هذه العائلة العديدين قد تناسبوا وتزاوجوا فيما بينهم ؛ وهم لا يتزاوجون مع الغرباء. وعادلة خانم في السبعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من عمرها ، وهي طول من غيرها من نسوة العائلة ، حنطاوية اللون سوداء الشعر ، ذات عينين ناعستين ، ومظهر جميل لا غموض فيه ، وملامح رقيقة ، جذابة في سيمائها. وقد دل مظهرها على أنها حزنت كثيرا في أيامها ، فقد رأيت في تصرفها الاستسلام الجليل والتؤدة الرزينة الأمر الذي أثر فيّ التأثير كله. وهي زوجة الباشا الوحيدة وهما مرتبطان ببعضهما كل الارتباط ، وقد زادهما حزنهما المشترك لموت الكثير من أولادهما الذين أودى الجدري بهم ، حبا وتعلقا. ولم يكن عندهما الآن إلا طفل واحد (١) وهي وإن كانت تحن إليه حنانا رقيقا فإنها تتحدث عنه وكأنها لا تتوقع بقاءه لها ولزوجها. فكانت إذا نظرت إليه ترقرقت عيناها بالدموع وقالت : «إنه ليس لي ، إنه لله ، ولا مرد لأمره». حدثتها عن ضرورة تلقيحه ضد الجدري فأصغت بعناية إلى ما حدثتها عنه من فوائد التلقيح ، لكن اليأس كان لا يزال باديا عليها في توقع عدم جني أية فائدة منه.

لقد شجعتني وأحيت أملي ، في قبولها العمل بما قلت لها إذا جلبت لها اللقاح ، ولكنها أنهت قولها بالكلمات التالية : «لا بد من الانصياع إلى إرادة الله ، فالله أعلم ، وعلينا أن نثق به» لقد عزمت على الكتابة فورا

__________________

(١) كنت مخطئة في ذلك ، إذ كان لها ولدان ، كان أكبرهما رهينة في كرمنشاه ، ويحتمل أن قد أصيب بالجدري سابقا ، وإن قلق أمه لم يكن كالقلق الذي تشعر به نحو طفلها الأصغر الذي لا يزال معرضا لخطر الإصابة بالجدري والذي تتكلم عنه وحده.

٣٦٠