رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

ويوجد في (بنجوين) بعض العوائل اليهودية تتاجر مع (سنه) و (همدان) بالعفص والجلود وغيرهما. ويصدّر الكثير من الجلود إلى (همدان). هذا وإن اليهود القرويين في كردستان يزاولون مهنة الصباغة.

وتعد (بنجوين) ميناء أو سوق العشائر الرحالة ، تصل منها القوافل إلى (همدان) في ثمانية أيام وإلى (سنه) في أربعة أيام.

إنني أندب حظي لجهلي التاريخ الطبيعي ، وذلك لأن مجال العمل للاستفادة منه في كردستان واسع جدّا ، فها أنا أميز من حولي حشيشة القراص وعنب الثعلب والخبيز وهي لا تزال مزدهرة بالأوراق وكذلك السماق.

ومن الطيور علاوة على (أبي الحناء) الذي ذكرته سابقا ، هنالك نوع جميل من نقار الخشب ذي اللونين الأحمر والأربد ، والقمري ومنه نوع لم أره من قبل وهو منقّط تنقيطا جميلا ، وعدد كثير من السمّن ، وعدد وافر من الحجل الأحمر القوائم.

١٨١
١٨٢

الفصل السابع

الدخول إلى إيران ـ بحيرة (زه ري بار) ـ كيخسرو بك ـ مضارب

الجاف ـ مباراة الجريد ـ عبور جبل (زغروس) ـ قرويو (كه رران) ـ

شتاء قارص ـ نزاع بين الجاف ـ سنه ـ فطور فخم ـ القصر ـ

استبداد والي سنه ـ الحداد العام ـ الثورة ـ وفاة ابن الوالي ـ

قنوط الوالي وقسوته ـ خوف رعيته ـ تغيير في خطتنا ـ فزع وزراء الوالي ـ

استعطاف المجلس ـ نجاح المجلس ـ فرحهم وامتنانهم ـ

الرحيل من سنه إلى مضرب الوالي

* * *

٢٠ آب :

إثر وصول الحيوانات لنقل الجنود والمرضى والأمتعة قررت مواصلة الرحلة إلى (سنه) ، وغرضي من ذلك استعادة صحتي ، ومشاهدة سلسلة (زغروس) بما فيها مضيق (كه رران) غير المعروف حتى الآن ، وتثبيت موقع عاصمة كردستان الإيرانية.

سرنا في الخامسة قبل الظهر ، ولما كنت راغبا في التأكد من طبيعة السهل الممتد حتى سفوح (زغروس) واتجاه التلال الثانوية سلكنا طريق

١٨٣

السهل وإن كان هنالك طريق مباشر من (بنجوين) عبر التلال ، يقصّر المسافة ساعة واحدة تقريبا ، ويمتد طريق السهل بمحاذاة حضيض التلال التي تحد سهل نهر (قزلجة) من الجنوب ، وينعطف مع انعطافها من الشرق إلى الجنوب. وتغطي الأشجار التلال من قممها حتى أسفلها. وإن سفوح هذه التلال ترتد أحيانا ارتدادا لطيفا على شكل أنصاف دوائر. وكان يشغل القسم الأعظم من الساحات المتكونة من هذه الارتدادات مضارب عشائرية صغيرة مرتبة ، لأولئك الذين كنا التقينا بجماعات كثيرة منهم أثناء مسيرهم. سرنا باتجاه الشمس تقريبا ، وهذا مما جعل الالتهاب في عيني شديد الألم ، وسلبني لذة التمتع بالسفرة ، ولو لا ذلك لكانت بهيجة جدّا.

دخلنا إيران في السادسة قبل الظهر ، وكانت حدودها تبدأ بجسر خشبي صغير فوق نهر يصب في (قزلجة) ؛ وكثيرا ما تنضب مياه هذا النهر. وما عتم أن اختفى نهر (قزلجة) نحو اليمين وراء التلال التي أخذت الآن تشطر السهل ، وقد أخذ يزداد انعطافا نحو الجنوب. التقينا برجل مسن محمول على ما يشبه النعش ورأسه إلى الأمام ، وكأنهم كانوا يسيرون به إلى القبر ، وهو منتصب في تلك المحفة ينظر إلى ما حوله. وقد حقق عمر آغا في أمره فعلم أن صخرة كسرت ساقه في محاولته سرقة قرية في ليلة سابقة.

وفي السابعة والنصف ونحن ننحدر من مرتفع صغير ، شاهدنا بحيرة (زه ري بار) الصغيرة الصافية الزرقة ، ومن ورائها إلى الجنوب جبال (آورامان) الصخرية الجرداء التي لا تخترقها إلا النياسم وحدها. لقد كان الجانب الأيسر من البحيرة جبليّا مشجرا ، أما جانبها الأيمن فسهل يبدو أنه كان جزءا من البحيرة ذاتها قبل زمن غير بعيد ، وقد انحسرت الآن إلى ما يقرب من ثلاثة أميال طولا وميلين عرضا تقريبا. ويحيط بالبحيرة ـ إلا جانبها الجبلي حيث لا يزال في حوضه الأصلي ـ

١٨٤

مستنقع مكتظ بالقصب عرضه ميل واحد تقريبا ، مزدحم بالطيور البرية ، والقنادس أيضا. ويقال إن أعمق محل في البحيرة هو قرب وسطها ، وهي تجمد في الشتاء. وقد قال لي عمر آغا إنه كثيرا ما اصطاد فوقها وهي جامدة (١). ويعتقد الأهلون أجمعهم أن هذه البحيرة كانت مدينة فيما مضى ، وقد أراد الله أن تغور الأرض بها بهزة أرضية لشرور حكامها وآثامهم. ويقول عمر آغا ، على ما يتذكر ، إن البحيرة قد تقلصت عن ذي قبل تقلصا محسوسا.

لقد كان اتجاهنا حتى الآن جنوبيّا شرقيّا ب (٧٠) د ، ولكننا عند مضارب رئيس الجاف كيخسرو بك اتجهنا نحو الجنوب ، وإن مضينا في سيرنا نحاذي حضيض التلال والبحيرة على نحو ميلين عن يسارنا وقد استدار طريقنا نصف دائرة.

ولم نلبث أن التقينا بأربعة من عرفاء البك ؛ كانوا وسيمي الطلعة ، وفرسانا ماهرين ، وقد وضعوا في عمائمهم ريش البلشون (المالك الحزين) ، وعلقوا تحت بطون خيلهم سجاجيد تدلى منها الكثير من أشلة الصوف الصفراء.

وفي التاسعة والنصف وصلنا مضرب كيخسرو بك إلى جنوب البحيرة بميلين تقريبا. وقبيل وصولنا إليه استقبلنا البك بنفسه ممتطيا جواده الجميل ، لقد كان أجمل الخيل التي رأيتها منذ عدة سنوات مضت. وكان برفقته أولاده الثلاثة ، ومحمد بك وهو نجل أخيه قادر بك رئيس الجاف السابق. وكان كيخسرو بك في حالة نفسية مرحة أحسن من تلك التي سبق أن شاهدته فيها في السليمانية. وكان أنيق الملبس يرتدي

__________________

(١) وينمو الحندقوق (نيلوفر) بوفرة في بحيرة (زه ري بار). انتهت الحاشية. ذكر المؤلف كلمة (نيلوفر) مرادفة لكلمة حندقوق ، في حين أن الحندقوق غير مائي وهو اللوطس ـ كما جاء في نص الحاشية ـ ونرجح أنه يعني بالنيلوفر زنبق الماء ـ المترجم.

١٨٥

معطفا إستانبوليّا فاخرا بأزرار ذهبية ، أسبغ جمالا على مظهره. وكان ابنه الأكبر وهو شاب وسيم جدّا يرتدي لباسا مماثلا للباس أبيه فوق رداء فاخر من حرير أوروبي مشجر ، أما ابنه الأصغر وهو فتى أبيض الشعر فكان يرتدي القطيفة السوداء المطرزة بالفضة. وكانت بصحبة البك ثلة كبيرة من فرسان الجاف بمظهرهم الجميل. فبدؤوا بمباراة جريد استمرت طيلة الطريق حتى المضرب ، أظهر الشبان فيها مهارتهم. وكانت خيام البك من النسيج الأسود المعتاد (١) وهي واسعة عالية تحيط بها السياجات أو الحصران. وقد أعدوا لي خيمة ديوان من الجنفاص لأستقبل فيها زواري ، وسيباط مريح يعود إلى حرم البك ، تخلّوا عنه لسكناي وسكنى قرينتي التي كن نسوة البك ينتظرنها في السيباط لاستقبالها. وكان الاستقبال في غاية اللطف وحسن الضيافة.

وعليّ الآن أن أنهي مذكرات يومي هذا طاويا الكثير منها في الذاكرة ؛ فبعيني الملتهبتين وصدغي النابضين بالألم أصبحت غير قادر على الكتابة.

تقع على تل في جنوبنا (٢) قلعة (مه ريوان) وهي خربة الآن (٣) وإنني

__________________

(١) وهو نسيج من شعر الماعز ، يتخذ منه الرحل من العشائر خياما ، يطلق عليها «بيوت الشعر» ، ويتقن صناعته أغلب أفرادهم في الشمال والجنوب. وكثرة استعماله وفر له أناسا اختصوا بصناعته وعرضه في الأسواق. وينتشر هؤلاء الصناع اليدويون في المراكز القريبة من المواطن العشائرية ، كالموصل والسليمانية وبغداد والدليم وكربلاء والديوانية. وفي صوب الكرخ من بغداد في يومنا مصنعان يدويان لهذا النسيج يعتبران المنتجان الرئيسيان له وهما قرب (حمام أيوب) بجانب شارع السويدي أما سوقه ففي (المجصة) من الكرخ ـ المترجم.

(٢) يقع جبل (سورانه) باتجاه شمالي ، و (آردبابا) ـ القمة المسننة منه ـ فوق (بانه) باتجاه شمالي ب (١٠) درجات غربا.

(٣) (مه ريوان) اسم المنطقة التي نحل فيها الآن ، وهي تابعة إلى (سنه).

١٨٦

أعتقدها ساسانية. وعلى ذروة قمة تل آخر يؤلف الجانب الجنوبي لواد عرضه نحو ثلاثة أميال يمتد شرقا نحو سفح (زغروس) توجد خرائب قلعتين ساسانيتين باتجاه جنوبي شرقي ب (٥٥) د ، وجنوبي شرقي ب (٦٠) د بالتوالي على قرابة ميلين أو ثلاثة أميال من مضربنا.

وتقع سفوح جبال (آورامان) السحيقة الجرداء على تمام الجنوب منا ، وهي تمتد غربا مطلة على (شهرزور) التي تنفصل سهولها عنا بالتلال التي تنحدر من (أحمد كلوان) إلى (بنجوين) فالبحيرة. ويمر من بين جبال (آورامان) و (زغروس) واد ضيق يمر فيه طريق مباشر إلى (كرمنشاه) من السليمانية ، يسمى بطريق (شاميان). ويسيل في هذا الوادي نهر ينحدر من (كه رران) ويصبّ في (ديالى). إن سلسلة (زغروس) جرداء عالية (١) وهي ترى في فترات من (سورانه) و (آردبابا) وقد تأكدت الآن بأنهما من (زغروس) ذاته ، أما جبل (حاجي أحمد) ذلك القسم من (زغروس) الذي تصطاف فيه عشائر الجاف فيقع باتجاه شمالي شرقي ب (٦٠) د من مكاني ، ويظهر أن (زغروس) ينعطف شرقا من (آردبابا) في منطقة (بانه) إلى (كه رران) ومن ثم يبرز بانعطاف شديد غربا باتجاه الطريق الذي سنسلكه غدا. ويقع مضيق (كه رران) في اتجاه شمالي شرقي ب (٨٥) د.

أقام البكوات الشبان بعد ظهر اليوم مباراة جريد في حضور قرينتي إظهارا لمهارتهم ، وقضيت فترة من الليل مع كيخسرو بك فسمعنا بعض الأغاني الفارسية غناها لنا منلايان. وكان هناك بعض فقراء الهنود ، وامرأة عجوز عارية تماما لكنها هادئة مؤدبة ، وكان منظرها مأفونا ، فهي مبتلاة بالصرع ، وقد مستها الجنة فيما مضى فخلعت عنها لباسها وهامت على وجهها في الجبال حيث عاشت عدة سنوات في وحشة كاملة ، وأخيرا

__________________

(١) الاتجاه شمالي ب (١٠) درجات غربا ، إلى الجنوب ب (٣٠) درجة شرقا.

١٨٧

أعيدت من الجبال ورجع إليها الهدوء غير أنه لم يستطع أحد إقناعها على ارتداء الثياب ، وقد تذهب أحيانا إلى السليمانية فتسير في أزقتها عارية كما ولدت.

وفي هذا الكفاية مما أدونه عن رحلتي في مضارب الجاف ، هذا وقد كنت مضطرا ، للعناية بصحتي وراحتي ، على إيجاز مذكراتي قدر المستطاع والاقتصار على بيان الحوادث الرئيسية منها ، إذ بالإضافة إلى الالتهاب الذي أصاب عيني كنت أتألم ألما شديدا من الأوجاع التي أشعر بها في قفا رأسي منذ أن أصبت بالحمى ، وكثرة الكتابة تزيد في اضطرابي وأوجاعي على الدوام.

٢١ آب :

ودعت مضيفنا الكريم ـ الذي لا أنسى كرمه البريء مطلقا ـ في الخامسة والنصف ، وسرنا في الوادي المتكوّن من امتداد تل (مه ريوان) في الجنوب ، وتلال (زه ري بار) في الشمال باتجاه عام جاء ذكره في مذكرات أمس ، وهو شمالي شرقي ب (٨٥) درجة. وما كان طريقنا مستقيما بل استدار قليلا ، وعند نهايته اجتزنا سلسلة تلال صغيرة ووصلنا في السابعة والنصف إلى (كووزه خوره) «ومعنى ذلك شجرة الجوز المعطوبة» وهي قرية صغيرة في وهد ضيق. وفي الوادي الذي مررنا به وقعت المعركة ـ إذا صح التعبير عنها بذلك ، إذ استغرقت عشر دقائق ـ التي أسر فيها عبد الرحمن باشا الزعيم الكردي ، سليمان باشا كهية بغداد حينذاك مع القسم الأعظم من جيشه في الحملة الهوجاء التي شنّها ، باشا بغداد على الإيرانيين. لقد كانت سفرتي اليوم شاقة جدّا لاضطراب عيني ، إذ كان مسيرنا باتجاه الشمس تماما. إن البيوت أو بالأحرى الأكواخ في (كووزه خوره) مسقفة تسقيفا غير منسق بقصب طويل يستند على جسر محدب ويتدلى على الجانبين من البيت ، والسقف بكامله

١٨٨

مرتفع ضيق. لقد سكنا كوخا من أحسن الأكواخ التي وصفناها وأظنه كان مسجد القرية. والبيوت كلها مفصولة عن بعضها بسياجات من الأغصان المشبكة ؛ وإنها لقرية تعسة وإن سكنها الشيخ كريم أحد نائبي المنطقة الاثنين ، وهو رجل مؤدب يرتدي كسوة على الطراز الباباني ، لا الإيراني. وقد أودعت رجلين من رجالي تحت رعايته لعجزهما عن مواصلة السفر لشدة مرضهما ، ـ وقد مات أحدهما بعد ذلك بقليل والتحق بي الآخر في (بانه).

٢٢ آب :

تحركنا في الخامسة وسرنا في أرض تلية مكشوفة حتى السادسة ، فوصلنا مدخل واد ضيق بين جرفين هدودين جدّا وقد شمخا برأسيهما الأجردين من فوق أشجار البلوط النابتة على حدودهما. ويسيل نهر عصر آباد أو (كه رران) في المضيق ، يمتد فوقه جسر منتظم على ثلاث قناطر ، شيده أمان الله خان والي (سنه) الحالي. وكنا في طريقنا منذ مغادرتنا القرية في صعود هين فبدأنا الآن نرتقي ارتقاء محسوسا ، ونهر (عصر آباد) عن يسارنا على مسافة نحو ميل ، ويصب هذا في (ديالى). وكان اتجاهنا إلى الجسر شماليّا غربيّا بسبعين درجة ، ومنه جنوبيّا شرقيّا بسبعين درجة. وكان الطريق على غاية من الجمال يمر بين غابات السنديان والدردار والكمثري البرية والكروم والصنار ، وكانت تكسو التلال حتى قممها ، وقد شاهدنا من بينها أشجار الزعرور والأزهار البرية البالغة ، ومما زاد في روعة المنظر حيوية سير جماعة كبيرة من عشيرة الجاف نحو سهول (زه ري بار) بعوائلها وأغنامها وقد حملوا أمتعتهم على ظهور الثيران ، وكان الأطفال في مهود على ظهور النساء ، أما الصبيان فقد أركب كل اثنين أو ثلاثة منهم سويّا على ظهر فرس أو ثور. وكان هناك الكثير من النسوة المسترجلات ـ وهنّ في فرح ونشوة ـ يسرن سوية بين النساء

١٨٩

الأخريات ، ويستبان أن لهن سلطة عظيمة في إدارة الجماعات. أما الرجال فكانوا متئدين في سيرهم وقد وضعوا (المقمعات) الدبابيس الكبيرة في أحزمتهم ، والسيوف على جوانبهم والتروس فوق مناكبهم ، وبعضهم يسوق قطعان الغنم والماعز والخيل ؛ وطبقة الوجوه منهم يمتطون الجياد. وكان أمر الاعتناء بالأولاد والأثقال منوطا بالنساء. والجاف أناس ذوو ملامح شديدة ، صعبوا المراس.

لقد كان الطريق جيدا جدّا ، والخانق الذي نرتقيه ضيقا بالغ الضيق. وفي الثامنة إلا عشر دقائق وجدنا أنفسنا أمام مرتقى هدود في اتجاهنا ذاته ، ولم يكن المسلك كثير المنعطفات. لقد استغرق صعودنا ونحن نسير سيرا بطيئا مدة خمس وأربعين دقيقة ، أما الجبال فكانت من الجبس والأردواز ، وفي الثامنة والنصف وصلنا أعلى الرقبة من الخانق فشاهدنا على الجانبين قمما جرداء أعلى ، ثم بدأنا بالنزول توّا على نيسم شديد الانحدار ، وقد قلّت الأشجار ، وصرنا لا نرى منها إلا أشجار البلوط القزمة. وكانت الجبال في كل الجهات ، على مدى البصر عارية جرداء ، وكأن الإنسان في وسطها وسط بحر من التلال الربداء ؛ لقد أصبح المنظر حزينا كئيبا ، بعد ما كان بهيجا مفرحا. وفي التاسعة وخمس دقائق أدركنا أسفل المضيق ، فجلسنا للفطور ، الذي وجدناه معدا لنا تحت بضع أشجار من الصفصاف عند ساقية صغيرة.

يطلق على هذا المضيق في (زغروس) اسم (كه رران) ، وهو اسم أحد الشيوخ أو الأولياء كما قيل لي ، ومن المؤكد أن هذا الاسم لم يكن من الأسماء الإسلامية. ويعتبر مضيق (آردبابا) المؤدي إلى (بانه) أسهل ممرّا ، ولم يكن هذا المدخل إلى إيران مدخلا مبهجا قط ، إذ كانت تبدو لنا الأشياء وكأنها عارية لفحتها النار. ويقال إنه لا توجد أشجار شرقا ، حتى حدود الهند.

وفي الثانية والنصف استأنفنا مسيرنا من هنا وكان طريقنا يتعرج

١٩٠

خلال تلال عالية جرداء نابية المنظر متكوّنة من صفائح أحجار متكسرة ، تغطيها تربة تضرب إلى الحمرة قليلا ، ولم نر فيها أثرا للضرع والزرع ؛ أما اتجاهنا فكان جنوبيّا شرقيّا بسبعين درجة. وفي الثانية عشرة إلا ربعا وصلنا إلى نهر (والظاهر أنه يصبح أحيانا سيلا جارفا) اسمه (كاكور زكريا) (١) فعبرناه مرتين قبل أن نبتعد عنه ، وهو عن يسارنا. وفي الواحدة إلا خمس دقائق حدنا عن الطريق العام إلى واد ضيق جدّا ، وفي الواحدة وخمس دقائق وصلنا قرية (جه ناويره) الحقيرة ، ونحن لا نزال في منطقة (مه ريوان) أكبر ملحقات (سنه) ؛ وما كانت وجوه القرويين الكورانيين وسيمة كوجوه من كان منهم في كردستان التركية.

٢٣ آب :

سرنا في الخامسة والربع من صباح اليوم. وكان اتجاهنا جنوبيّا شرقيّا بخمسين درجة لمدة مسير نصف ساعة حتى بلغنا الطريق العام ، ثم أصبح طيلة اليوم جنوبيّا شرقيّا بثمانين درجة ، وكان الطريق يتلوى بين منعطفات الوديان الضيقة ويمر أحيانا من فوق التلال التي تفصلها عن بعضها وكان الارتقاء بوجه عام أكثر من الهبوط والأرض بمناظرها قفراء كئيبة كيوم أمس. ولاحظنا أن المياه في بعض الأماكن تجري في مجار ترابية اصطناعية لإرواء الزرع ، وقد أخبرني عمر آغا بأن التربة هنا أضعف من أن يستفاد منها في الإنتاج الزراعي ما لم ترو إرواء اصطناعيّا ؛ فالشتاء قارص جدّا والثلوج الكثيفة تتراكم عليها زمنا طويلا. وفي السابعة إلا عشر دقائق مررنا بطنف اصطناعي ذي قمة مستوية ، كطنف (جه م جه مال) ، عن يسارنا في واد ضيق بالقرب من حضيض تل من

__________________

(١) يتجه (كاكور زكريا) غربا إلى (شاميان) ثم ينعطف إلى اتجاه (كافرو) ـ بالفاء الفارسية ـ ويصب في (ديالى).

١٩١

التلال ، ويسميه الأهلون (قالا) أي القلعة ، وإن كان لا يجوز مطلقا أن تكون القلعة في موقع يمكن فيه مهاجمتها حتى بالأحجار من التلال المجاورة.

وبعد أن مضينا في الصعود طيلة طريقنا تقريبا منذ أن غادرنا (جه ناويره) هبطنا قرابة ربع ساعة ، فوصلنا آخر منحدر في الساعة الثامنة ، على أننا أخذنا توّا بالصعود على مرتفع هدود وانتهينا إلى قمته في الثامنة والنصف ، حيث بدا لنا منظر جبل (زغروس) البديع ؛ وما كان الهبوط بشيء يذكر.

وفي التاسعة وعشر دقائق وصلنا خيام قرويي (به رروده) في واد ضيق ، والقرية فوق التلال عن يسارنا على بعد نحو ميل واحد. ويقيم قرويو (به رروده) مضاربهم في الصيف في هذا المكان على الدوام ؛ إنهم فرغوا من حصاد زرعهم وهم الآن يدرسونه ببغالهم وثيرانهم (١). ووصلني هنا رسول من السليمانية ، ومع أنه جاءني راجلا فإنه لم يمر على مغادرته لها إلا ثلاثة أيام.

غطّست المحرار في منبع عذب بالقرب من الخيام فعجبت لدرجته إذ كانت ٦١ د.

ووجدت بين التبن حشرة كبيرة تشبه الجراد ، طولها نحو أربع عقد وكانت غير مجنحة ويبرز من ذيلها شيء يشبه السيف. وهي تعض عضّا مؤلما ، ولا تؤذي الزرع ، ويسميها الكرد (شيره كولله ـ أو الجراد الأسد) (٢) ووجدنا أيضا خلدا يسميه الكرد (موشه كوره) أو الفأر الأعمى.

__________________

(١) إن درس الغلة بهذه الطريقة الابتدائية يعد أسلوبا عامّا في جميع أنحاء العراق ، وهي لا تزال متبعة ـ المترجم.

(٢) تقابلها لفظة (حر كول) الواردة في التلمود ، أو (كازام) وهو نوع من الجراد يوجد

١٩٢

٢٤ آب :

تنازع قبل خمسة عشر يوما تقريبا بعض رجال الجاف مع البعض من مجاوريهم فجرحوا أحدهم بالسيف جرحا بليغا. وفي الليلة الماضية بينما كان ثلاثة من الجاف يمرون بقطعانهم ، تجمهر عليهم ستة أو سبعة فرسان من الأهلين المجاورين فطردوهم وسلبوهم قطعانهم. ولما بلغ الخبر أسماع عمر آغا أرسل من فوره أربعة من فرسانه فرجعوا بعد نصف ساعة إلى المضرب ومعهم الأغنام وأسيرين ، وفي الليل جاء رفقاء الأسيرين وحسموا قضيتهم ، فأطلق سراحهما وأرجعت الأغنام إلى أصحابها.

سرنا في الخامسة والنصف وكان الصبح قارصا ، وبعد أن تركنا القرية بقليل اجتزنا تلّا عاليا ناهدا واستمر طريقنا ملتويا طيلة مسيرتنا اليوم بين تلال الأردواز في الوديان التي يسيل فيها شرقا جدول صغير يتجه نحو (كافرو) ويصب في (ديالى) ، وهو يمر في قاع مكتظة بالقصب والصفصاف وخضرتهما المبهجة تناقض مظهر تلال الأردواز الداكن. وقد شاهدنا الكثير من عليقات الزهور البرية وشجرة اسمها بالفارسية (سنجد) وبالكردية (سه ن جوف) وبالتركية (ايده) وهي تحمل ثمرا صغيرا يشبه العناب (١).

وفي الثامنة ترجلنا عند ضفاف النهر للاستجمام ، وبعد وقفة قصيرة ، استأنفنا السير في التاسعة إلا ثلثا ، وفي التاسعة والنصف وصلنا إلى (دووي سه) وهي قرية كبيرة قذرة ، تتألف من أكواخ حقيرة ذات

__________________

ـ في رأس الرجاء الصالح. راجع الصحيفتين ١٣ و ١٤ من كتاب «في الجراد» لمؤلفه (لوودولف). انتهت الحاشية. وجاءت كلمة (كازام) العبرية في نص الحاشية (كارام) خطأ كما أخبرت ـ المترجم.

(١) وفي العربية (الغبيراء) ، واسمها الدارج في العراق (نبق العجم) ـ المترجم.

١٩٣

سقوف مسطحة مبنية على جانب من تل أردوازي أجرد ، غير أننا شاهدنا الكثير من البساتين والكروم في الوادي وعلى جوانب بعض التلال المجاورة ، وذلك مما أسبغ على المكان منظرا أجمل من أي منظر آخر رأيناه منذ اجتيازنا (كه رران).

ويرتدي وجوه هذه القرية اللباس الإيراني ، ويقلدهم في ذلك النساء. لقد استغرقت سفرتنا اليوم ثلاث ساعات وثلث الساعة ، وكان اتجاهنا شماليّا شرقيّا. ولم أكن منتعشا اليوم ، لملاحظة الاتجاهات بالبوصلة باستمرار.

وتقع (دووي سه) التي نزلناها اليوم في منطقة (حسن آباد) ، وكذلك مدينة (سنه) عاصمة الإيالة وهي على بعد ثلاثة فراسخ إلى الشرق الجنوبي من هذه القرية (١).

٢٥ آب :

وصل القرية ليلة أمس ميرزا فيض الله أحد كاتمي سر والي (سنه) ويظهر أن الوالي وهو الآن في سياحة في مقاطعاته الشمالية ، قد علم بوصولنا منطقته فأرسل الأوامر إلى (سنه) لإنزالنا في قصره ، واستقبالنا بنفس الاحترام الذي يقابل به هو ، وعلى هذا أخذ ابنه الثاني وهو الآن حاكم المدينة الفخري يستعد لاستقبالي ومعه كل القطعات العسكرية الأمر الذي أرغب في تجنبه ، ولذا فإني رفضت أن تقام هذه المراسيم رفضا باتا. ولكن أوامر الخان كانت حاسمة ، وهو لم يكن من الرجال

__________________

(١) بالنظر إلى قول الميجر (ره تل) ، إن الفرسخ يقل عن ثلاثة أميال ونصف الميل البريطاني ، راجع الصفحة (٤) من كتاب «في انسحاب العشرة آلاف». أما المستر (فريزه ر) فيقول في الصفحة ٣٦٧ من كتابه (رحلة في خراسان) بأن الفرسخ الخراساني يزيد قليلا على الفرسخ العراقي ، وهو أقل من أربعة أميال بريطانية.

١٩٤

الذين يخالف لهم أمرا مهمّا كان طفيفا ، فجابهت الصعاب في التملص من هذا الاحتفال ، ولم أفلح في طلبي إلا بعد أن بينت لهم جازما بأنني سأرجع من حيث أتيت إذا ما أصروا على رغبتهم ، كما وعدت ببيان الأسباب للخان ، وأخيرا انتهينا إلى حل وسط وهو أن يستقبلني اثنان أو ثلاثة من الأعيان في حديقة الوالي ، حيث كنت أنوي الإقامة في الوقت الحاضر.

وجاءني الميرزا برسالة من محمد خان الأمير الصغير ، وهدية من الفواكه محملة على ستة بغال وحمل بغل واحد من الثلج.

أعاقتني المفاوضة عن الحركة حتى السادسة والنصف. وكان وجه الأرض على ما هو ، لم يتغير سوى أنه كان أكثر انكشافا. وشاهدنا في بعض الوديان البساتين والكروم والقرى الصغيرة. ومستوى الأرض يأخذ بالانخفاض كلما اقتربنا من المدينة ثم يرتفع ثانية من ورائها ، ومن بعد عدة منخفضات وتلال ينتهي بسلسلة تلال (بازرخاني) العالية الممتدة شمالا وجنوبا. وتمتد فوق هذه السلسلة القصيرة الطرق إلى (همدان) و (طهران) (١).

سرنا ببطء وعلى الأخص في القسم الأخير من الطريق ، إذ شعرت بتوعك شديد ، وأخذ يضايقني الدوار الذي اعتراني من قبل.

ولمدينة (سنه) منظر خلاب أكثر جمالا مما كنت أتوقعه ، بقصرها المحاط بالأبراج والمشيد على مرتفع. وببعض الأبنية الجميلة القائمة حول سفوحه. وباقترابنا من المدينة انعطفنا إلى اليمين إلى بستان (خسرو آباد) وهي على بعد يقل عن ربع الميل من الجنوب الغربي منها ، وعلى منحدر يبدأ من قاعدة تل مرتفع جميل ينتهي عندها. والبستان يبدو

__________________

(١) تنتهي تلال (بازرخاني) في نجد هو مرتفع (همدان) ، وبعد الوصول إلى أعالي هذه التلال يندر أن يكون منها نزولا ـ الناشرة.

١٩٥

عن بعد وكأنه مشتل أشجار من الحور ، إذ لا يحيط به جدار أو سياج سوى تلك الأشجار المتراصفة. وقبل العاشرة بعشر دقائق وصلنا المدخل ففاجأتنا المناظر الجميلة مفاجأة سارة ، وولجنا ممرات تكتنفها أشجار الحور الباسقة الجميلة من الجانبين إلى قصر فخم ، سامق تحيط به الحدائق ، وأحواض مربعة جميلة تعلوها النافورات وهي أمام القصر وخلفه ، وكانت النافورات دافقة ، وقد وضعت سلال الفواكه الزاهية من حول الأحواض. وكان الصيوان أي القصر شامخا وقد زين بالنقوش المذهبة على الطراز الإيراني. وفي الحديقة مجموعات نفيسة من أشجار الفواكه صفت بذوق لطيف وكنا نطل من الصيوان على طريق الحديقة الرئيسي المعرش بالأشجار ـ المخرفة (١) ـ وقد كان منظرا خلابا حقّا. نظم هذه الجنينة أمان الله خان الوالي الحالي قبل أربعة عشر عاما وسماها ب (خسرو آباد) تخليدا لذكرى والده ، خسرو خان الوالي السابق. وهي على رقعة أرض مساحتها ستمائة (كز) شاهي مربع (٢) مقسمة إلى مربعات

__________________

(١) راجع الحاشية (٢) من الصفحة ٢٢٧ ـ المترجم.

(٢) أو الذراع الشاهي وهو ما يقارب عشر الياردة الإنكليزية. انتهت الحاشية. وهذا لا يعقل ، ولا بد أن يكون سقطا مطبعيّا. والأصح هو ما يقارب الياردة وعشر الياردة. إن طول الذراع الشاه ـ أو الشاهي ـ المعروف في بغداد يعادل المتر الواحد.

وجاء في قاموس P.Stemgass الفارسي ـ الإنكليزي أن الكز ـ الذراع ـ طول قوامه عرض ٢٤ أصبعا أو عرض ستة جموع ، أما الذراع الشاهي فجاء في حاشية من كتاب (نادر شاه) لمؤلفه (ل. لوكهارت ـ ١٩٣٨ م ـ لوزاك ، لندن) وباسم «كه زي شايكان» أنه مقياس طوله نصف قامة الرجل المعتدل الطول ويستعمل عادة في (خراسان).

وقبل تعمم الياردة في أسواق بغداد ، ومقاييس المتر العشرية كانت المقاييس الرئيسية المستعملة في بغداد هي :

ذراع بغداد ، وهو يساوي ٥ ، ١٧ عقدا. والعقد البغدادي يعادل ١٦ ، ٤ سانتيم.

وذراع حلب وهو ١٦ عقدا بغداديّا.

وذراع الشاه ـ وموضوعنا يدور حوله ـ وهو يساوي ذراعا ونصف ذراع حلب ، وإذا ما ـ

١٩٦

تتخللها ممرات من أشجار الحور يتوسطها ممر رئيسي. وقد غرست المربعات بأشجار الفواكه النضرة على اختلاف الأجناس التي تنمو في هذا الإقليم ، وزرعت بالقرب من الصيوان والممر الرئيسي عليقات الورد وأنجمه.

واستقبلني عند مدخل الجنينة ميرزا فرج الله عم الأمير الصغير الذي اتفق أن كان في (سنه) وعناية الله بك أحد رجال المدينة البارزين وسادة آخرون لا تحضرني أسماؤهم.

ووصلني بعد الظهر ساع سريع من الوالي ذاته ، يلتمسني بعد بقائي واستجمامي في (سنه) أن أعود إلى السليمانية بالطريق الذي هو عليه الآن. ولما كان هذا الطريق لا يعيقني كثيرا فضلا عن كونه يتيح لي فرصة رؤية بعض الأماكن الجديدة المهمة ، وطدت العزم على إجابة طلبه (١) ولقد أعجبت الإعجاب كله بالحديقة والصيوان اللذين لم أشاهد حتى الآن مثيلا لهما في الشرق. والصيوان كغيره من الأبنية المشيدة على طرازه تقليدا لنمط جوسق (جارباغ) في أصفهان ، وغيره من الأماكن المماثلة له التي ترجع إلى عهد الدولة الصفوية.

وبعد انتظار طويل خارت بعده قوانا من الجوع ، دعينا إلى فطور فخم ، أو بالأحرى إلى طعام عشاء غني ، خصصت فيه لكل منا صينية واحدة ؛ ودعينا ثانية في العاشرة مساء إلى طعام مثله.

__________________

أرجعناه إلى العقود البغدادية والسنتيمات قارب المتر الواحد.

ثم الذراع العادي ، ويطلق عليه أحيانا ذراع البنا ، وطوله طول ذراع الرجل المعتدل الطول ، من المرفق حتى طرف الأصبع الوسطى ، وهذا يعادل نصف المتر تقريبا أو ١٢ عقدا بغداديّا ـ المترجم.

(١) ذكر الوالي في كتابه أنه سمع بأخبار المستر (ريج) وهو يرغب في لقياه منذ زمن بعيد ـ الناشرة.

١٩٧

والرجال الذين قابلتهم هنا ـ وكلهم كورانيون ـ يتخاطبون بالكردية الكورانية ، ولكنهم كانوا يكلموني بالفارسية ، وكانوا جميعهم يرتدون اللباس الإيراني الأمر الذي لا ينشرح له الصدر ؛ وهم لم يتصفوا بأي حال من الأحوال بالصراحة والرجولة اللتين يتحلى بهما أصدقائي البابانيون. ولا شك في أن اللباس الإيراني ، والعادات الإيرانية كانت نابية عنهم ، هذا وإنني أعتقد بأنهم يعتبرون في هذا الباب أحط منزلة من الكرد ، فهم في مظاهر تبدو عليها الذلة. وقد قال عمر آغا فيهم «إنهم ليسوا من القبليين» ولا بد لي أن أعترف بأن عمر آغا كان في مظهره على النقيض منهم تماما ، فهو بمظهره العسكري البين وبلباسه الفضفاض وعمامته المرقطة المنحسرة إلى الوراء والتي تكشف عن ناصية جميلة تنم عن كل معاني الرجولة ، كان كالأمير بينهم ؛ وقد وجدته واسع الشهرة عظيم الاحترام في هذه الأوساط.

٢٦ آب :

يختلف الإيرانيون عن الأتراك في ناحية واحدة وذلك في أنهم لا يتركونك وشأنك ، فقد ينزلك الرئيس التركي في داره مرحبا بك ثم ينصرف عنك ، إلا إذا رغبت فيه ، وعلى الأخص إذا كنت مصحوبا بسيدة ، أما الإيرانيون فيتجمهرون حولك ليلا ونهارا ، ولا سبيل للتخلص منهم ، وإن كنت خارج المدينة. لم تستطع قرينتي أن تغادر غرفتها لنزهة في الجنينة ، وعلمت أننا نتمكن من فضهم من حولنا إذا سكنا المدينة. ولما كان المضيفون يرغبون في سكنانا في الجناح المعد لنا في القصر وكنت أيضا من الراغبين في مشاهدة شيء من المدينة ، وافقت على الاقتراح وغادرت الحديقة صباح اليوم. وبعد أن هبطنا راكبين المنحدر الذي شيدت عليه الجنينة إلى وهد قذر ، وصلنا بعد بضع دقائق إلى سور المدينة الخارجي وهو من «الطوف» ومن هنا ارتقينا شارعا وعرا رديئا

١٩٨

حتى مدخل القلعة أو القصر ، فوجدنا الحرس في انتظارنا لتحيينا. ويتألف هذا الحرس من قرابة مائة آورامي مسلح بالبندقيات ، أنيط بهم شرف حراسة القصر ، وكانوا رجالا غريبي المظهر ـ لا تبدو عليهم السحنة القبلية ـ يرتدون ملابس صوفية خشنة بيضاء على طراز يشبه الطراز الإيراني بعض الشبه وعلى رؤوسهم قبعات غريبة الشكل من اللبد الأسود مدببة القمة ، تنتهي عند الأسفل بذوائب طويلة دقيقة أشبه شيء بالعناكب (١) ، وكانوا متكئين على بندقياتهم الطويلة وهم يتفرسون فينا ونحن نمر بهم.

أدخلنا من فناء إلى غرفة واسعة على شرفة تطل على المدينة ، وبعد مرور بضع دقائق جاء الخان الصغير وهو طفل جميل في التاسعة أو العاشرة من عمره ، إلا أن رزانته ووقار مظهره كانا أكثر مما يتحلى به طفل في سنه ؛ ويبدو أنه قد تظاهر بذلك بهذه المناسبة. وقام عناية الله بك ، الذي لف شالا حول قبعته على الطريقة المتبعة في القصر بدور رئيس التشريفات والناطق بلسان الخان ، أما ميرزا فرج الله فقد وقف إلى جانب ابن أخته وكان كل من يدخل الغرفة من الخدم أو غيرهم يحييّ الأمير الصغير بانحناءة لا رشاقة فيها ، ولكنه لم يهتم بأي منهم.

هيئت القهوة والشرابات وأطباق الحلوى ، وقدم لي الخان الصغير بيده القهوة والشرابات. وقد لاحظت أن الإيرانيين كافة يأكلون الحلوى

__________________

(١) راجع اللوح ، ـ انتهت الحاشية. ولم تكن هذه القبعات بغريبة على الجيوش الشرقية السالفة ، لقد تفنن الإنكشاريون في الجيش العثماني تفننا طريفا في لباس الرأس ، والقيافة ، وقد أصبح لكل ذي رتبة أو منصب أو صنف من صنوف الجيش قبعة خاصة وقبعة جنود مدفعية القوس في الجيش الإنكشاري الذين كانوا يسمونهم «خمبره جي» ـ أي رماة القنابر ـ تشابه هذه القبعة ، وإليك الرسم ـ المترجم.

١٩٩

أكلا لا اعتدال فيه. ولم نتبادل أي حديث ذي بال ، سوى الإطناب بعبارات الترحيب والمجاملة. وبعد أن اعتذر الخان الصغير وتركنا ، تجولنا في أنحاء القصر.

هناك صيوان (Pavilion) جديد مشيّد في مؤخرة الشرفة عند المدخل سميّ بالخسروية على اسم أكبر أولاد الخان من الأحياء ، واسمه خسرو خان لكن اسمه أبدل مؤخرا ب (محمد علي) تيمنا. وكان بالقرب من الغرفة المعدة لي بهو الاستقبال القديم الذي شيده خسرو خان والد أمان الله خان بعد ولادة ابنه الوالي الحالي وذلك قبل سبعة وأربعين عاما ، فالنقوش والزخارف المذهبة التي كانت يوما ما جميلة ، أصبحت لا يمكن ترميمها الآن. لقد أكسيت جدران البهو بالخشب على ارتفاع أربعة أقدام تقريبا ، ورسمت عليه الأزهار. ورسمت على الأقسام العليا من الجدران رسوم مختلفة تمثل معركة (جالديران) ، والمعركة التي دارت بين (تيمورلنك) و (بايزيد) ، ورسوم بعض ملوك إيران الصفويين ورسم الشاه الحالي بلحيته الخارقة (١) ، ورسم إسكندر الكبير ، وإلى جانبه ساعة وهو

__________________

(١) فتح علي شاه ، الشاه الثاني من العائلة القاجارية ، خلف عمه آغا محمد خان على أثر وفاته. وقد اعتلى العرش بعد اضطرابات داخلية عمت الجيش ، وكان إذ ذاك حاكم إيالة (فارس) وهو ولي العهد فتقدم من (شيراز) إلى العاصمة وسيطر على الموقف بمساندة رئيس الوزراء الحاج إبراهيم له وكان هذا عام ١٢١٢ ه‍ ـ ١٧٨٩ م ، ولم يتوج إلا بعد مضي سنة على ذلك. وبقي في دست الحكم (٣٧) عاما وتوفي عام ١٢٥٠ ه‍ ـ ١٨٢٦ م. ومن الوقائع التي حدثت في عهده تجريده القوات لإخضاع رؤساء (خراسان) ، وبسط سلطانه على القسم الأكبر من تلك الإيالة ، وحربه مع الأفغان ، ثم مع الروس وقد أسفر ذلك عن ضياعه بلاد الكرج. وقد امتاز بكفاءته في درء أطماع نابوليون في إيران الأمر الذي حمل الإنكليز على التحالف معه فور اعتلائه العرش وكان ذلك من الأسباب التي حولت وجهة الأفغان من تحرشهم بالهند وازدهار التجارة بين الهند وإيران ، إن زيارة السير جون مالكولم لإيران كوزير فوق العادة لدى البلاط الإيراني كانت في عهده. راجع حاشية الصفحة ٢٠٩ ـ المترجم.

٢٠٠