رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

ليرسلوا لنا اللقاح مع ساع سريع ، وإنني سأفرح الفرح كله إذا استطعت تخليص هذا الطفل الصغير الجميل من ذلك المرض القاسي القتال. إن الآلاف من البشر يذهبون ضحية هذا المرض في كردستان. ويحتمل أن الناس إذا علموا بأن الباشا لقح طفله الوحيد ضد الجدري فإنهم سيرغبون بالسماح لنا بتلقيح أطفالهم أيضا ، وعندئذ سوف لا تكون سياحتنا إلى كردستان بدون فائدة تذكر إذا وفقنا إلى تخفيف وطأة الجدري الفتاك ؛ وإن لم نوفق إلى القضاء عليه قضاء كاملا.

لقد قضت مضيفتي السنين الكثيرة في بغداد في عهد طفولتها ، وقد تعلمت التركية أيضا ولكن عدم ممارستها لها جعلها لا تتكلمها إلا بصعوبة ، وقد بذلت ما تستطيع لمحادثتي. قضيت والحق يقال يوما طيبا معها ، ومع جماعتها العديدات ورجعت إلى الدار في الخامسة وأنا أقل تعبا مما كنت أتوقع (١).

__________________

(١) هنا تنتهي مذكرات السيدة (ريج) ، ولم تتطرق إلى ما بعد ذلك من الرحلة ـ المترجم.

رجاء

راجع عنوان الملحق الثاني في الصفحة ٣٦٣

تكرر اسم (حوش كه ره ك) الوارد في الملحق الثاني كما تكرر في الفصل الأول من الرحلة ، وقد تحققنا أنه معروف الآن بين الأهلين باسم (حوش كه رو) ويقع المكان بجوار قرية بهذا الاسم بين مدينة (خانقين) وقرية (قوراتو) التي كان خط السكة الحديدية الممتد إلى (قوراتو) يمر بجوارها ، وهي إلى جنوب قرية باسم (علي آغا). ويطلق أحيانا على هذا الموقع الأثري اسم (قصر حوش كه ررو ـ بتشديد الراء). وجاء اسمه في الخرائط الحديثة ، تارة ب (Kori ـ كوري) وتارة ب (Kuru ـ كووروو) ، وقد أخبرني الأستاذ بشير فرنسيس في مديرية الآثار القديمة العامة أن جاء اسم المكان في (Mannuel Histoire D ,Architect) لمؤلفه (فرانسوا به نوا) بلفظة (ـ Kauri كوري) ، وقد اثبتناه في الملحق الثاني كما يلفظه الأهلون وهو (حوش كه رو) ـ المترجم.

٣٦١
٣٦٢

الملحق الثاني

رحلة إلى أطلال (زندان) و (قصر شيرين) و (حوش

كه ره ك) ... إلخ عند حدود كردستان الجنوبية

خلال شهري آذار ونيسان ١٨٢٠

وهي نبذ من كتب كتبها المستر (ريج) خلال رحلته هذه.

* * *

خان السيد في بعقوبة :

ليلة ١٨ آذار ١٨٢٠ :

هاأناذا هنا ، على الرغم من توصياتك الملحة لي بأن لا أبتعد عن (أورته خان) (١) فإنني في الواقع وجدت النهار من الصفاء ، والخان من القذارة ، ونفسي من القوة ، ما جعلني أفكر في أنه من الحيف أن أقضي وقتي في كهف مثل هذا ، فجازفت بالتقدم ولم أجدني أسوأ حالا مما كنت فيه ، بل إنني لأشعر بتحسن كبير عما كنت أعانيه خلال اليومين الأخيرين. فقد فارقتني أعراض الصداع ، وأصبحت من النشاط ما يمكنني من السفر فورا إذا اقتضى ذلك ، وإن كنت سأحتاط لنفسي كثيرا. إن الأرض الممتدة بين بغداد وهذا المكان من أكثر البراري التي شاهدتها انبساطا وقحولة. أما الأقسام الأخرى من الصحراء بجوار بغداد فتعد (بليون ـ Pelion) و (أوسسا ـ Ossa) و (تامبه Tempe) إذا قورنت بالصحراء

__________________

(١) خان النص (النصف) ، وشهرته في يومنا (خان بني سعد) ـ المترجم.

٣٦٣

التي أنا فيها. بلغنا في الساعة الثالثة والنصف قناة (النهروان) (١) وهي على الأقل بعرض نهر (ديالى) الذي بلغناه في الساعة الرابعة بعد الظهر.

وعندما علمت بأن صديقنا القديم حاجي عمر كان قد سافر إلى بغداد أول الأمس ، قررت البقاء في هذا الخان ، فوجدته جيدا. ويقع هذا الخان على جهة بغداد من نهر (ديالى) قبالة قرية (بعقوبة) مباشرة ، وقرية (الهويدر) (٢) التي لا أميل إلى مشاهدتها. وسوف أرحل في صباح الغد إلى (شهربان). لقد أتيح لي مذ قدمت إلى هنا أن أرصد القبة الزرقاء ، فرصدت ارتفاع الشمس تسع مرات والشعرى اليمانية ثماني عشرة مرة ورجل الجوزاء اليسرى ثماني مرات ، ثم انصرفنا لتناول طعام العشاء.

وقد آن لي أن أغتنم فرصة تدوين رسالتي هذه التي وعد المكاري بأن يحملها إليك. وأرجو أن تعطيه العطية المعتادة إذا وفى بوعده. إنني لم أكتب يومياتي بعد ولعلني سأكتبها قبل النوم.

شهربان ، في ١٩ آذار :

بارحنا الخان بعد شروق الشمس مباشرة ، واجتزنا نهر (ديالى) بعبارة قرية (الهويدر) وقد كانت جروف النهر عالية هدود ، وهي في

__________________

(١) «في عام ٥٩٠ م خرج (كسرى برويز) ملك الفرس من (طيسفون) لقتال (بهرام) القائد الثائر الذي ظهر أمام عاصمة الإمبراطورية بجيش لجب فنشبت بين الفريقين المعركة التي عرفت بمعركة (النهروان). ويذكر المؤرخ (ديربي لو) إن كسرى اندحر في هذه المعركة. ومن غريب ما يذكره المؤرخ أن هذا الملك اضطر إلى الفرار والالتجاء إلى دير قد لا يكون بعيدا عن (طيسفون) و (النهروان) وهناك انضم إليه فريق من أنصاره.

أما اليوم فإن هذه الأراضي جميعها خرائب متواصلة ولا أثر فيها للمؤسسات النصرانية. (راجع الصفحة ٩٩٦) من كتابه المكتبة الشرقية. وراجع الصفحة ١٨٧ من المجلد الثامن من انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية لمؤلفه (غيبن).

(٢) وجاءت في الأصل (هويده) غلطا ـ المترجم.

٣٦٤

بعض الأماكن أشبه بالجدار ، والأرض عند الشاطىء مشققة ، خددتها مياه المطر. وعمق النهر قرابة الثمانية عشر قدما. وقد أزفت الساعة الثامنة قبل أن عبرت جماعتنا النهر مع أننا سرنا عند مطلع النهار. ووجدت أشجار النخيل تكتنف القرى الواقعة في هذه النواحي من كل جانب.

وفي الساعة العاشرة مررنا بما يشبه قناة قديمة على جانبها تل مرتفع فوقه ركام من الطابوق وبعض قطع الرخام. ويسمى هذا على ما أذكر (ليسيه ـ Lissia) إذا صح الاعتماد على الشخص الذي ذكر لي هذا الاسم. لكن تسمية المواقع في هذه الأنحاء تختلف أحيانا اختلافا بينا. وفي هذه الأماكن أضرحة عديدة للأئمة منتشرة هنا وهناك ، ويقال إنها أضرحة أولئك الجنود من المسلمين الذين توفوا من جروحهم بعد عودتهم من معركة (قصر شيرين) ، فدفن كل منهم حيثما قضى وأصبح من الشهداء. وقد لاحظت على طول الطريق بقايا أطلال من مباني الطابوق كانت أحجارها مبعثرة في الأنحاء. ومررنا ببعض مروج جميلة وقنوات عديدة تتفرع من صدور الجداول الرئيسية ، وقد تركنا (خرنابات) وغيرها من القرى عن يسارنا ، وفي الساعة الثانية بلغنا قنطرة ذات قوس واحد فوق قناة (مهروت) التي تصب شمالا في نهر ديالى ، فتوقفنا حتى الساعة الثالثة عند مرقد الإمام السيد مقداد الكندي.

بلغنا شهربان في الساعة الرابعة ، وأنا الآن متمدد بقامتي فوق الأرض لا أستطيع أن أرى وأن أكتب. فقد كانت سفرتنا جد مزعجة من جراء ريح جنوبية قوية كانت تهب بشدة فتثير بوجهنا سحب الغبار الذي أرهق الإنسان والحيوان معا. وأرجو أن تخبري ميناس بأن البغال هنا رديئة جدّا. فقد كانت تكبو في كل ميل من الأميال ، ولم نستطع بلوغ نهاية مرحلتنا بها إلا بشق الأنفس ؛ ولقد وعدوني هنا باستبدالها. وتقدر المرحلة بين (بعقوبة) وهذا المكان بتسع ساعات. والأرض على طول الطريق جد منبسطة تقاطعها القنوات في كل مكان. ولما شرعنا بالمسير

٣٦٥

ثارت بوجهنا زوبعة مصحوبة بالرعد والمطر. فما إن هدأت حتى هبت علينا الرياح الجنوبية الشرقية التي ما زالت ترهقنا حتى هذه اللحظة. على أنني بتمام الصحة باستثناء عيني اللتين التهبتا بفعل الرياح والغبار.

قابلنا هنا (سعدون آغا) حاكم البلدة الذي كان من قبل يقطن دارنا القديمة ، فلم يسمح لي بالإقامة في الخان كما كنت أرغب وإنما أفرغ لنا أحد البيوت وأعده لإقامتنا. وقد وجدت هنا سليم بك أيضا ، بعد أن عزل من حاكمية خانقين. وحضر الاثنان معا لزيارتي بعد أن تأكدا من ارتياحي إلى مقامي ، ثم أرسل لي سليم آغا طعاما شهيّا أصبح من نصيب جماعتي ، لأنني كنت قد فرغت توّا من تناول وجبة من الدراج «والكاري» ـ البهار ، عند وصول ذلك الطعام. وكنت قد رجوت سعدون آغا رجاء خاصّا أن لا يكلف نفسه بإرسال أي طعام ، الأمر الذي لم يستحسنه أفراد جماعتي. وأرجو أن توفدي من يشكر زوجته على مزيد عناية زوجها بأمرنا ، مع أنني في الغالب سأقدم له هذا الكتاب ليرسل إليك بوساطته. وقد قيل لي إنني بعد مبارحتي المكان ، سوف لا تتاح لي الفرص المؤاتية للاتصال بغداد حتى وصولي إليها. لقد كان بالإمكان أن تعد سفرتنا مريحة لو لا هذه المطايا الرديئة. ففي آسيا الصغرى كلها لا يوجد شيء أردأ من البغال. الحر آخذ بالازدياد ، ومن الخير لنا أن نسرع بمغادرة بغداد للشروع في رحلتنا الكبرى إلى كردستان.

شهربان ، ٢٠ آذار :

لقد قمت بعدة اكتشافات مهمة ، إن مغامراتي اليوم فاقت ما كنت آمله ، وما شاهدته هنا من الناحيتين الجغرافية والأثرية استحق عناء السفر من بغداد ، هذا وليس بإمكاني أن أحدثك الآن عما وجدته إلا قليلا. فلقد كان عمل اليوم شاقا ، زادت في مشقته ريح جنوبية حارة كانت تهب رهاء. لكنني ، ولله الحمد ، متعب فقط وليس بي أثر للصداع.

٣٦٦

خرجت صباح اليوم لمشاهدة الأطلال المسماة (زندان) (١) وهي تبعد مسافة خمسة أميال إلى الجنوب من المكان الذي نحن فيه. وفي منتصف الطريق إلى الأطلال حدث ما لم أكن أفكر به ، إذ طلب إليّ دليلي وهو معمار معروف من (شهربان) أن أعرج على جانب من الطريق لمشاهدة حصن قديم. وعلى هذا اجتزت قناة أو قناتين ، فإذا أنا أمام أطلال بلدة ساسانية لا تقل اتساعا عن (طيسفون) وكانت أسوارها على نفس النمط والطراز ، والمكان مملوء بالأنقاض والخرائب. إن هذا الموقع لا يبعد أكثر من مسيرة ربع ساعة عن (شهربان) ، بل إن حدود البلدة الشمالية أقرب من ذلك بكثير. وكانت أقسام السور الجنوبية والغربية ، وقد دخلنا المكان من هذا القسم الأخير ، بحالة جيدة ، وهي كبيرة الشبه بأسوار (سلوقية) و (طيسفون). ومع أن هذه الأطلال تعرف ببغداد القديمة (اسكى بغداد) فإن تاريخها يرجع إلى عصور ما قبل الإسلام. وتتذكرين بأنني قد عينت موقع (دستجرد) في (زندان) ، ولم أكن بعيدا عن الصواب في حدسي. فإنني أصبحت الآن أكثر اعتقادا بأن (اسكى بغداد) ما هي إلا أطلال تلك العاصمة الملكية (٢).

تقدمنا بالمسير وعثرنا على خرائب ساسانية أخرى. وفي منتصف الطريق إلى (زندان) بإزاء السيد (سلطان علي) لاحظت سورين ساسانيين متوازيين يمتدان إلى الشمال الشرقي والجنوب الغربي ، وهما على بعد ستمائة قدم من بعضهما ، ويبلغ طولهما مثل هذه المسافة تقريبا ، مثل أسوار سلوقية تماما ، ولاحظت آثار القصب بين كل طبقة من الطابوق.

__________________

(١) وتعرف بين الأهلين تارة ب (زندان كسرى) ، وتارة بقلعة (خسرو) وجاءت باسم (زندان كسرى) في رحلة المنشئ البغدادي لمترجمها الأستاذ عباس العزاوي ـ المترجم.

(٢) كانت (دستجرد) أحب قصور (كسرى برويز) ملك الفرس إليه ، أقام بها سنوات عديدة ، مؤثرا إياها على (طيسفون) عاصمة إمبراطوريته. والمؤرخ غيبن ـ بالكاف الفارسية ـ المعروف بدقة أوصافه الجغرافية التي تفوق أحيانا بوضوحها وصحتها

٣٦٧

وبعد أن جاوزنا هذه الأطلال بلغنا (زندان) وهي تبعد مسيرة خمس وأربعين دقيقة للراكب عن اسكى بغداد ، وهي أطلال على جانب عظيم من الغرابة والأهمية ، وتختلف الاختلاف كله عن كل ما شاهدته حتى الآن. فقد كانت مبانيها من الطابوق المفخور المتين ، وأغلب ظني أنها

__________________

رواية شاهد عيان ، عندما يأتي على ذكر الحملة الثالثة للإمبراطور (هرقل) ضد الدولة الفارسية سنة ٦٢٧ م. ، يعين تخمينا موقع (دستجرد) في هذا المكان في سياق وصفه زحف الجيوش الرومانية على (طيسفون) بعد معركة (نينوى) إذ يقول : «وإلى الشرق من دجلة ، عند نهاية جسر الموصل ، كانت مدينة (نينوى) عامرة في العصور السالفة. ولما كانت حتى أطلال هذه المدينة أثرا بعد عين منذ عهد طويل ، فقد أصبح موقعها ميدانا فسيحا قام في رحبته الجيشان بحركاتهما الحربية.

وقد صمدت خيالة الفرس حتى السابعة من الليل. وفي حوالي الساعة الثامنة انسحبت إلى معسكرها الذي ظل سالما. فحملت أمتعتها وتفرقت إلى كل جانب ، لا لقلة ثباتها ، وإنما لأن القيادة كانت تعوزها. على أن (هرقل) بنشاطه المعهود لم يتردد في استغلال ظفره. فقد احتلت طلائع جيشه بعد أن قطعت ثمانية وأربعين ميلا بأربع وعشرين ساعة ، كافة الجسور الممتدة على الزابين الأعلى والأسفل وأصبحت مدن آشور وقصورها مفتوحة أمام الجيوش الرومانية للمرة الأولى. وقد ظلت المناظر الخلابة تستهويهم حتى دخلوا (دستجرد) العاصمة الملكية. وعلى الرغم من

٣٦٨

كانت ضريحا ملكيّا. ويبلغ طول هذا الطلل اثنين وثلاثين سلسلة من السلاسل الصغيرة ذات الخمسين قدما وعرضها عند القمة ستة وأربعون قدما وست عقد وارتفاعها ستة عشر قدما وعشر عقد ، وفي بعض أطرافها أعلى من ذلك. وللبناية اثنا عشر برجا أو دعامة ما زالت قائمة ، وأربعة أخرى في الناحية الشمالية متهدمة.

ويبلغ قطر كل من هذه الأبراج البارزة عن البناء ثلاثة وثلاثين قدما وخمس عقد وعرضها من جانب السور تسعة أو ثلاثين قدما وثماني عقد ، وتبلغ المسافة التي تفصل بين البرج والآخر ثمانية وخمسين قدما وست عقد ويوجد بين البرج والآخر ثلاثة أزواج من المزاغل. هذا في الواجهة الشرقية من البناء ، أما في الواجهة الغربية فيوجد سور متين لا أبراج فيه ، باستثناء كوة تقابل البرج القائم في الجهة الأخرى. وكانت الكوة الأخيرة منها بحالة جيدة يعلوها قوس محدودب. ويبلغ ارتفاع الكوة عشرة أقدام وست عقد وعرضها قدمين وعشر عقد ، أما عمقها إلى الداخل فعلى ما قدرته يبلغ واحدا وأربعين قدما ونصف القدم ، وتنتهي بممر ضيق يقابله جدار متين ؛ أما قمم الأبنية الباقية وسقوفها فقد تهدمت جميعها.

وقد نقبنا في داخل البناية الواقعة إلى جانب البرج من هذا الطلل ، فوجدنا بأن المزاغل التي مرّ ذكرها تفضي إلى ممر أو مضيق ربما يوصل إلى البرج الواقع إلى الجهة المقابلة.

__________________

أن معظم كنوزها كانت قد نقلت أو أنفقت ، فإن الغنائم التي أصابها الرومان قد فاقت ما كانوا يؤملونه بل إنها أشبعت جشعهم. ثم إن (هرقل) واصل زحفه من قصر (دستجرد) حتى أصبح على بعد أميال قليلة من (المدائن) أو (طيسفون) حيث أعاقته شواطىء نهر (أربا ـ Arba) لصعوبة اجتيازها ، وقسوة الطقس ، وقد وقفت بوجهه حصون العاصمة المنيعة».

راجع الصفحات ٢٤٨ ـ ٢٥١ من المجلد ٨ من انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية.

٣٦٩

وكان سقف البناية كله يتألف من طبقات عديدة من الطابوق بوضع مسطح كما يستبان من الجزء الظاهر في الجهة الشرقية ، حيث كان محطما ومهدما على طول البناء ، وفي الجانب الغربي يصل السقف إلى حافة البناء الذي يبلغ في هذا الاتجاه ارتفاعا أعلى من الجانب الشرقي الذي ضبطنا قياسه.

٣٧٠

وعند الكوة الخامسة من الجهة الجنوبية الغربية وجدنا بقايا طلل يستند إلى السور كأنه بقايا دعامة أو نتوء ربما كان مرقاة ، أما الناحية الشمالية من الأطلال فكانت خربة تماما. وقد بنيت دور عديدة في (شهربان) وغيرها من الأنقاض التي نقلت من (زندان).

وكانت الصحراء من الجهة الغربية تظهر مرتفعة على طول الجبهة إلى مسافات قليلة. كان فيها آثار مبان أخرى ، لأن سطح الأرض كان مغطى بكسر الطابوق.

إن هذه البناية العجيبة مشيدة بالطابوق و «المونة» الجيدة ، وعلى جانب عظيم من المتانة ، ولم أعثر على أية كتابة في الطابوق الذي شاهدته كما أنني لم أجد هناك لبنا غير مفخور أو طينا أو قصبا. وفي عدد من الأماكن وجدنا تجاويف عديدة أصبحت الآن مملوءة بالتراب والأنقاض ومن غريب ما عثرنا عليه في هذه الأطلال قطعة نقد صينية من نحاس.

على أن هناك أمورا أخرى تتعلق بما اكتشفته اليوم سأحتفظ بها حتى نتلاقى لأنني لم أباشر بعد الأرصاد الفلكية في هذا المكان.

سنرحل غدا عند مطلع الشمس إلى (قزيل رباط) وهي على مرحلة هينة. ولقد عزمت على إرسال هذا الكتاب صحبة البغالة العائدين ، لأنني سأعيد من هنا كافة البغال الرديئة محتفظا بالجيدة منها ، وسوف أتزود بما أحتاجه منها من القرية.

إن رسول الحاكم قد خرج الآن من زيارتي وعرض عليّ أن يضطلع بمهمة إرسال هذا الكتاب. ولكم تمنيت أن أتلقى هنا أخبارا منك ، لأنني عازم على أن أضرب في طول هذه الأماكن وعرضها ، وسوف لا يتاح لي أن أتسلم كتابا منك قبل وصولي إلى ضواحي بغداد. ولقد استعلمت توّا عن وجود طريق أخرى أغلب ظني أنني سأتبعها ، لأنها ستمر بي خلال

٣٧١

أماكن غريبة إلى (كفري) ، وهذا هو الطريق الذي كنت آمل من أمد بعيد أن أتأكد منه ، والذي ما كنت أظن أنني سأستطيع التأكد منه يوما ما.

لقد أقام لي سليم آغا حفلة لهو وقد كان يبذل قصارى جهده لتسليتي. فأحضر لهذا الغرض الجوق الموسيقي من القرية ، الأمر الذي ازعج (به ل لي نو) كثيرا. وقد أخذ الجوق يعزف أغنية «بريازي يازدم» ـ ومعناها : ـ كتبت كتابة ـ ويقول سليم آغا أن سيدات بغداد شغوفات بهذه الأغنية.

تأكدي ، واكتبي لي إلى (كفري) ، وإني سأكون فيها بعد خمسة أيام بعون الله. فإذا كنت لا تجدين من يسافر إلى (كفري) مباشرة فلا بأس من إيفاد رسول خاص ، وعلى كل حال إني أرى ذلك خير طريقة.

درجة الحرارة في هذا اليوم ٦٦ ، والجو رائق جميل.

٢١ آذار : غادرنا (شهربان) في حوالي الدقيقة العاشرة قبل الساعة السابعة ، وسرعان ما سررنا لبلوغنا أول أرض مرتفعة منذ بارحنا بغداد ، فكانت المناظر أشبه بالمروج الإنكليزية ، وبعد فترة وجيزة بلغنا جدول (بلدروز) الجميل فاجتزناه فوق قنطرة جيدة ذات قوس واحد.

وفي الساعة الثامنة والنصف بلغنا (تلال حمرين) وهي لا ترتفع في أي مكان أكثر من مائتي قدم. والسلسلة الأولى أو الجنوبية منها مؤلفة من أحجار رملية جرداء بطبقات منحنية ومن ورائها فجوة ملأى بالأطناف كأنها تلال محطمة ، ومن بعدها تأتي السلسلة الشمالية وهي من تراب وأحجار ، وفي أسفل التلال جدول صغير يصب في نهر ديالى.

انحدرنا من تلال حمرين بمنحدر هين إلى سهل يدعى دشته (١)

__________________

(١) «دشت» كلمة فارسية ومعناها السهل ـ المترجم.

٣٧٢

تنتشر فيه بعض الأكواخ العائدة إلى كرد (سوره مه ني) (١) الذين يفدون إلى هنا في هذا الموسم لزراعة التبغ. وقد كانت قبائل (الخزرج) (٢) و (بني ربيعة) و (بني ويس) العربية تقيم هنا قديما للزراعة ، لكنها قد تفرقت في الأيام الأخيرة.

ولقد سألنا مسافرا صادفناه عن بعد (قزيل رباط) عن ديالى ، فأعجبني جوابه «بر جوبوق ايجمه» أي «أمد وقت يستغرقه تدخين غليون» (٣).

وكان مسيرنا في طريق سبخة موحلة ، ولكن وجدنا زرعا كثيرا على كلا جانبيها.

وكانت سلسلة تلال أخرى ظاهرة وراء (قزيل رباط) موازية لتلك التي غادرناها توّا ، تلك هي تلال (خانقين) التي تبدأ عند كركوك وتتجه نحو (لورستان).

وعندما كنا نقترب من (قزيل رباط) التي بلغناها وقت الظهيرة شاهدت تلالا صغيرة من الأنقاض على يسارنا وهي لا تستحق الذكر. وهناك طنف اصطناعي في قرية (بارادان) ذو مظهر غريب. وعند مغرب الشمس خرجت إلى شرفة الدار التي حللنا بها ، ومنها استطعت رؤية نهر ديالى الذي يبعد عنا زهاء الميلين.

وبفضل مساعي محمود جاووش (٤) علمت بوجود بعض الأطلال

__________________

(١) جاءت في الأصل (سوره مه ني) غلطا من (سوره ميري) أي طائفة الرجل الأحمر ـ المترجم.

(٢) الخزرج ، قبيلة قديمة كانت سيدة (المدينة) عند هجرة (محمد) إليها وكان (أبو أصيبعة) ينتمي إليها. وقبيلة ربيعة ، التي كان لها الحول في البلاد العربية ما هي الآن إلا عشيرة لا يعتد بها. وإن عرب (عنزة) ينحدرون من هذا الأصل.

(٣) ويعبر العوام في يومنا هذا عن ذلك ب «شربة جكاره» ـ المترجم.

(٤) أحد خدم المستر ريج ـ الناشرة.

٣٧٣

بالقرب من (قصر شيرين) وهي خرائب لم يسبق لأوروبي أن زارها. فاستأجرت دليلا يقودنا إليها.

ولقد سمرت ليلا في حفلة كان القرويون يقيمونها بمناسبة عرس عندهم. وكان منظرا قشيبا لعبت فيه السيوف ودارت حلقات الرقص على ضوء المشاعل.

والناس هنا يتكلمون بالتركية والكردية ، واللّغة الفارسية شائعة في هذا المكان أما العربية فلا. ويقال إن دخل خزينة (قزيل رباط) يبلغ حوالي ٠٠٠ ، ٧٠ قرش.

درجة الحرارة بين الساعة الثانية والثالثة ب. ظ. ٧٣ ، والريح جنوبية ، والأفق مغبر.

٢٢ آذار :

امتطينا جيادنا في السابعة إلا ثلثا هذا الصباح ، وفي موقع يدعى (كه رميه) ـ بالكاف الفارسية ـ شاهدت تلّين لا أهمية لهما ، والظاهر أنهما اصطناعيان. وفي الساعة السابعة بلغنا جدول (قزيل رباط) ، وكانت الأرض صخرية وعشبها قليل يكفي لرعي الأغنام ، وقد شاهدنا قطعانا كبيرة من الغنم والماعز.

وفي الثامنة إلا ربعا بلغنا التلال ، وكانت السلسلة الأولى منها ترابية خددتها الأمطار وشققتها كثيرا ثم جاءت سلسلة من الأحجار والحصى مندمجة بتربة خفيفة ، وكانت تظهر بعض الأحجار الرملية في أنحائها. ومررنا بمضيق قليل العرض يدعى (صاقال طوتان) أي «ماسك اللحية» كناية عن اللصوص العابثين في هذه المنطقة ، ومنه انحدرنا إلى سهل وبعبارة أخرى إلى واد مملوء ببقايا تلال ركمة مغطاة بالتربة التي انحدرت إليها من التلال التي تعلوها.

٣٧٤

وفي التاسعة بلغنا (يه ني جه ري ته به ـ تل الينكشاري) الذي يعد منتصف الطريق بين (قزيل رباط) و (خانقين) وقد أخذ طريقنا يتلوى بين التلال ، وبعد أن اجتزنا سلسلة ثانية منها شرعنا ننحدر انحدارا تدريجيّا باتجاه خانقين ، وكانت التلال التي مررنا بها أعلى بقليل من تلك التي اجتزناها نهار الأمس ، وكلها حصوية ترابية ، وكانت الصخور الرملية تظهر هنا وهناك بطبقات مائلة نحو وسط التلال.

وسهل خانقين معشوشب جميل ، تقاطعه في الأنحاء بعض خطوط التلال ، والأرض مملوءة بالحجارة. وكانت الحبوب الهندية والتبوغ مزروعة فيها. وفي أعالي (ألوان) (١) يزرع الرز أيضا الأمر الذي يجعل الجو في موسم الخريف مزعجا جدّا. وقد قيل لي بأن كمية الغلة الاعتيادية في هذه الأراضي تبلغ عشرة أضعاف البذور. وقد وجدنا عشائر كردية منتشرة في كل مكان من هذا السهل المعشوشب لترعى مواشيها.

توقفنا في السهل نصف ساعة أوفدت خلالها مأمور منازلنا (قوناقجي) وكانت الجبال تمتد إلى يميننا وهي تشرف على إقليم (كيلان) ـ الكاف فارسية ـ وأمامنا جبال إيران ظاهرة وراء زهاو الكردية. وبعد أن اجتزنا ربوة صغيرة انحدرنا إلى البلدة الصغيرة أو قرية (خانقين) فبلغناها في الثانية عشرة والربع ، حيث وجدنا خانا أنيقا من بناء الفرس ، لكننا بدلا من الوقوف هنا عبرنا نهر (الوند) وهو جدول جبلي سريع يجري من الجنوب إلى الشمال ويصب في ديالى على بعد قليل من (قزيل رباط) فوق قنطرة جميلة ذات ثلاثة عشر قوسا بناها محمد علي مرزا (٢) ، واتخذنا مقرنا في (حاجي قه ره) على الضفة المقابلة.

__________________

(١) يقصد نهر (الوند) ـ حلوان ـ المترجم.

(٢) هو الابن الأكبر لشاه إيران وحاكم كرمنشاه. وقد كلف بناء القنطرة ٠٠٠ ، ٢٠٠ قرش. وكان في هذا المكان جسران آخران جرفتهما المياه.

٣٧٥

٢٣ آذار :

مرت بنا ليلة عاصفة. ورياح هذا الصباح شمالية غربية. وقد علمت توّا بوجود طريق تؤدي من هنا إلى (قه ره ته به) ، أطنني سأتبعها.

وكنت اليوم أتلهى بالنزهة في الأماكن المجاورة والجلوس في بستان حيث استمعت إلى موسيقى كردي عجوز من قبيلة (سووزمه ني) (١) التي اشتهر أفرادها بالموسيقى والرقص. وكان هذا العجوز يعزف عزفا لا بأس به على «كمان» محلية أو رباب ذي وترين بأنغام مطربة. وقد عاد مرة أخرى في المساء ليطربني فأنشد عدة أغاني بدائية باللّغة الكردية.

درجة الحرارة في الثالثة ب. ظ. اليوم ٦٦.

كفري ، ٢٧ آذار ١٨٢٠ :

ها أنا ذا هنا بعد أن قمت برحلة أكثر ما تكون غرابة وأهمية. وقد كانت من الغرابة والتوفيق بنتائجها مما تعد من المشروعات التي نصممها أحيانا من غير ما تتاح لنا إمكانية تطبيقها. فقد غادرنا خانقين في الرابع والعشرين منه برفقة سليم آغا الذي أصر على مصاحبتي في سفرتي ، ومعه جماعة قوية من حرسه الخيالة ، وذلك تفاديا للخطر الذي قد نتعرض له من مؤخرة حرس جيش أمان الله خان (٢) عدا قطاع الطريق الذسين يقال بأنهم يحتلون المضائق في هذه المنطقة وأن عددهم يبلغ ٥٠٠ خيال. وكنا نبعث بعض الحرس في الطليعة والجناحين ، كما كان (به ل لي نو) والسيد المعروفين بقوة بصرهما قد انفصلا عنا وسارا أمامنا يتطلعان إلى الطريق. والأراضي هنا جبلية ، والركوب لمدة خمس ساعات مريح جدّا.

__________________

(١) وصحيحها (سووره ميري).

(٢) هو حاكم إيالة (سه) في كردستان الإيرانية.

٣٧٦

وفي الساعة التاسعة بلغنا (قالاي سه لزي) (١) ـ قلعة سه لز ـ وهي حظيرة تشبه حظائر الغنم شيدها على هيئة «ده ربه ند» ـ مخفر حرس ـ عبد الله باشا جد فتاح باشا الزهاوي ، لكنها هجرت منذ مدة طويلة.

وفي الحادية عشرة والنصف لما بلغنا خان (قصر شيرين) وجدنا الكل في ارتباك من جراء غزوة أمان الله خان الأخيرة. وأخذ القرويون المساكين وهم من التركمان ال (ده ركه زين) ، يقصون علينا قصصا محزنة عما أصابهم. وقد علمنا بأن الخان أصبح على بعد أربع ساعات منا ، في منطقة الباشوية الكردية بزهاو (٢) حيث باشر أعمال العدوانية ضدها.

ضربت خيمتي فوق أكمة معشوشبة جميلة تشرف على نهر (الوان). أما المستر (به ل لي نو) فقد أقام في خيمة صغيرة اتخذها مرصدا على مقربة منا ، وأشغل في مؤخرتنا سليم آغا ورجاله مكانا أقل ملائمة. وقد ألف الحرس من بنادقهم نوعا من البطريات ، كما أقام السيد (٣) ومحمود والخيالة وغيرهم جماعتين من الحرس. وأخذوا يرددون بصوت مرتفع كلمة مرور هي : «كل شيء على ما يرام» وكان البوق ينظم تبديل النوبة للحرس فكان صوته يجلجل بين الجبال ، فأخذ معسكرنا هيئة عسكرية مهيبة لكنه لحسن الحظ لم يحدث ما يستوجب إظهار بطولتنا.

سلخت ثلاث ساعات تجولت خلالها بين أطلال قصر خسرو (كسرى) (٤) وقد خبت فيما كنت أتوقعه. والحقيقة أنني منذ قيامي بزيارة طاق كسرى مؤخرا لم أشهد حتى الآن بناء يعادله عظمة. فالأطلال التي أزورها الآن على جانب كبير من الخشونة ، لا روعة في تصميمها أو

__________________

(١) جاءت في الخرائط الحديثة (سه بزي) ـ المترجم.

(٢) إن باشوية زهاو تابعة لباشوية بغداد وهي تنقسم إلى قسمين ، (ده رنه) أو (زهاو). والجبال في تلك المنطقة ، وسهل (باجه للان).

(٣) يقصد به آغا سيد ، أي المنشئ البغدادي ـ المترجم.

(٤) هو (خسرو به رويز) ملك الفرس (من آل ساسان) وحفيد كسرى أنو شيروان ، تزوج

٣٧٧

سعتها. وليس من المعقول أن تكون مدينة كانت قائمة في هذا المحل.

وعلى كل حال ليست هذه (دستجرد) وإنما هي أحد قصور الصيد التي كان ملوك ساسان يترددون إليها.

وعلى ناحية التل وراء الخان وجدت سياجا مربعا أشبه بالحصن محاطا بأبنية مكورة ، إذا صح التعبير ، كان داخلها سالما من العطب وهي صغيرة المساحة تشبه قمعا مقلوبا. وكان طرازها المعماري من أخشن ما رأيته. ويظهر أن بناءها مؤلف من حصاة كبيرة مستديرة مكومة فوق بعضها دون اهتمام أو ترتيب ، فوق طبقة كثيفة من «المونة» الخشنة.

وعند الزاوية الجنوبية الغربية فوق مسيل وجدت بقايا قنطرة من الطراز الخشن نفسه ، تقع على مسيرة عشر دقائق مما نسميه المدينة.

وقبل بلوغها مررنا بتلال مؤلفة من طبقات عمودية متوازية من الصخور الرملية ، وقد حاول رفاقي إقناعي بأنها آثار أبنية. ومن الغريب أن هؤلاء كانوا على استعداد للاندهاش من أي شيء يرونه. إذ كانوا يهتفون بكلمة «عجائب ..» كلما وقعت أبصارهم على طلل لا أهمية له ، وكانوا أحيانا يعلقون بقولهم إن من المستحيل أن تقام بناية على هذا الطراز في الوقت الحاضر.

__________________

من ابنة الإمبراطور (موريس) التي يغلب الظن بأنها بطلة القصة الشرقية المعروفة «خسرو وشيرين» و «فرهاد وشيرين» وهذه البطلة قد تشرفت بأن وضع أنشودتها باللّغة الألمانية جوزيف فون هامه ر في قصيدته «شيرين» وإن من أراد الإطلاع على تفاصيل أكثر عن حياة هذه البطلة والقصائد التي نظمت فيها ليجدها مسهبة في الكتاب الذي صدر أخيرا بقلم أحد المستشرقين البارزين العاملين بعنوان «تاريخ الشعر العثماني».

أما البلدة التي يقال إن (كسرى به رويز) كان قد بناها إكراما لشيرين فاطلق عليها اسمها وصف أن موقعها بين بلدتي (حلوان) و (خانقين) ويروى أن كسرى قال لشيرين «إن الملك أمر جليل لو دام إلى الأبد» فأجابته بقولها «لو كان الملك مما يخلد لما وصل إلينا» ـ الناشرة.

٣٧٨

أما البلدة ففي محيط غير منتظم لا تزيد مساحته على الميل الواحد. ولها أربعة مداخل كان الغربي منها أفضل حالا. وأنا الآن أشرع بوصف هذه الأطلال حسب الترتيب التي شاهدتها به ، فقد كان أول ما شاهدناه بعد اجتيازنا السور ، وإلى الشمال الغربي مما أسميه القلعة ب (١٥) درجة ، بناء مربع الأركان يتجه إلى

الجهات الأربع الأصلية ، وكان ذرع طول كل ضلع منها ثلاثة وخمسين قدما ، أما ارتفاعه فلم أضبط قياسه وقد يكون أربعين قدما. وفي كل ضلع من البناء بوابة مقوسة فوقها نافذة ضيقة. أما السقف ، ويظهر أنه كان معقودا فقد تهدم. والبناية كما ذكرت خشنة الإنشاء يكسوها الطابوق الأحمر الغليظ ، وكانت تقسيمات النوافذ والأبواب من هذا الطابوق أيضا ، وكان قسم منه ظاهرا في مكانه. ووجدت إلى الجانبين الشمالي والجنوبي ساحات صغيرة مربعة على جوانبها حجرات صغيرة منهدمة وإلى الجانب الشرقي منها آثار بناء طويل يحتوي على شقة ضيقة ، يظهر أنها كانت معقودة السقف.

أما الخرائب الرئيسية في واجهة هذا البناء الذي كان يذكرني بأطلال دارا ، فقائمة في قلب المدينة. والظاهر أنه كان دكة واسعة تعلوها

٣٧٩

القباب ، مقسمة إلى ممرات ضيقة وحجرات. وفي الناحية الغربية من الجهة الجنوبية يقوم شبه مجاز ينتهي بباب عند كلا طرفيه. وكان هذا المجاز مفتوحا من جهته الشمالية ويفضي إلى حجرات وغرف قائمة بمفردها ، وأغلب ظني أنها كانت في السابق جزءا من الدكة أو الرصيف. وإلى الجهتين الشرقية والشمالية والجانب الشرقي من الواجهة الغربية كان البناء كاملا. وعلى كلا جانبيه مرقاة مزدوجة قائمة على العقود التي تسند الرصيف وهي واضحة كل الوضوح. ولا يزيد طول كل واجهة حسب اعتقادي على مائتي قدم وارتفاعها من ثمانية إلى عشرة أقدام ، وهذا أعلى قسم في بقايا هذه الأطلال. وبناء الأقسام جميعها متشابهة من حيث الطراز.

وهناك أمام المدخل الشرقي وعلى امتداده ، وجدت سياجا مستطيلا يتألف من أحجار مستديرة مكومة فوق بعضها ، والساحة التي تتخللها مزروعة في الوقت الحاضر. وقد شعرت ببعض الشك في أول الأمر في كون هذه الحظيرة قديمة أم حديثة. لكن جميع الحاضرين في هذا المكان أكدوا لي بأنها قديمة فأصبحت أميل إلى الاعتقاد بأنها كذلك ولعلها كانت صهريج ماء قائما أمام القصر. وكان السور من الجهة الشرقية بحالة جيدة. ولكنني لم أجد أثرا للأبراج في أية جهة منه. ويظهر أن هذه كانت حظيرة بسيطة بدون دفاع. أما المدخل الخارجي فكان مؤلفا من بابين مزدوجين فوقهما قبة معقودة في الأزمنة السالفة ، وإلى كل من جانبيهما غرفة كانت معقودة أيضا. والسور كله مشيد بالصخور الرملية المستطيلة الشكل. أما أقواسه فمؤلفة من قطع كبيرة من الصخور الرملية. ويبلغ عرض البوابة الواحدة خمسة عشر قدما وثلاث عقد ، ولعلها كانت بارتفاع يناهز العشرين قدما في الأقسام التي لا تغطيه الأنقاض.

رسمت مخططين لهذه الأطلال. ويقع خط العرض في (قصر

٣٨٠