رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

فيها مياه الأمطار بكثرة ، وذلك يدلنا على هطول الأمطار الغزيرة ليلة البارحة في هذه الأماكن. وفي التاسعة والنصف ارتقينا إلى أعالي الوهد ثم انحدرنا ثانية إلى الوادي فوصلنا قرية (كه له ك آوه) الكبيرة في منطقة (هوبه تووHobetoo) فشاهدنا أكواما كبيرة مكدسة من القش الخشن للاستهلاك الشتوي. وكان الأهلون يحصدون الحبوب ، أما الدخن فما زال أخضر يانعا وبعضا من الذرة الهندية ناضجا ، ويقال إن الشتاء في جميع هذه النواحي من البلاد قارص البرد. وكان الهواء باردا منعشا ، وكان في استطاعتنا استئناف السفر راكبين طيلة النهار دون أن تزعجنا الشمس.

اتجهنا إلى خيام القرية ، وقد نصبت في منتهى الوادي فوصلناها في العاشرة والدقيقة العاشرة (١) ، وكان موسم المضارب في العراء على وشك الانقضاء ، والأهلون أيضا على أهبة العودة إلى القرية. ولاحظنا أن درجة حرارة ينبوع ماء عذب قرب مخيمنا كانت (٥٠) درجة.

شاهدنا الكثير من الكركم (Crocus) الأبيض والأحمر ما زال موردا ، ثابتا في كل الأنحاء حتى في أواسط الطريق ، وطلبت من القرويين أن يأتوني ببعض جذوره لأخذها إلى بغداد فأتوني ببعض البصيلات من أنواعه المختلفة ، وأفادوا بأن البلاد كلها ترتدي حلة ورود في الربيع.

٢ أيلول :

مع أن الليلة كانت باردة جدّا فقد هاجمني البعوض ولم يدعني أتمتع بلحظة واحدة من الراحة. وكان الهواء صباح اليوم قارصا بدرجة ارتحت معها إلى لبس فروتي الصغيرة القديمة من جزة الخروف. امتطينا

__________________

(١) لا زال طريقنا هذا ، طريق (تبريز) الذي سننتهي منه غدا.

٢٢١

الجياد في السادسة وكان اتجاه الوادي ما زال شماليّا يخترقه طريق (ساقز) و (تبريز) غير أن طريقنا كان يمر من أعالي التلال المحيطة بالوادي ، وهو في اتجاه شمالي غربي ، وقد سلكنا هذا الطريق طيلة اليوم وإن التجأنا إلى بعض الاستدارات.

«بارك الله بالكرمانج» (١) هذا ما قاله إلى عمر آغا أحد القرويين الذي كان يصحبنا بعد أن التفت يمينا ويسارا ليتأكد من خلو المكان من إيراني يسمع قوله فسأله عمر آغا «وكيف ترى السنويين؟» فأجابه القروي «ألا لعنة الله عليهم أجمعين» فأسكته عمر آغا قائلا : «صه يا فتى ألا تعلم مصيرك لو سمعوك» وكان جواب القروي المسكين على ذلك «لن تكون معاملتهم لنا أقسى مما هي الآن».

كانت الأرض منذ أن تركنا مضارب القرية ترتفع ارتفاعا تدريجيّا ولكن محسوسا جدّا ، ولم يطل بنا الوقت حتى رأينا أنفسنا فوق نجد ومن حولنا القمم لشامخة وسلاسل تنتهي عند حدود النجد. ويتصل أحد التلال القائمة على يسارنا بجبل (حاجي أحمد) الذي يبعد عنا مسافة أربعة فراسخ ، كان يستره عن أنظارنا وكانت سلسلة تلك التلال تمتد باتجاه الشمال الشرقي والجنوب الغربي نحو (زغروس).

والشتاء هنا قارص جدّا وتنقطع السابلة عن اجتياز الطريق لوفرة الثلوج وتراكمها عليه. وقد شاهدنا آثار عواصف أمطار غزيرة هطلت أخيرا ، وهذه العواصف من الظواهر الطبيعية الاعتيادية في مثل هذا الموسم ، إذ إن المطر يبدأ في أوائل تشرين الأول ، ويعقبه تساقط الثلوج بعد زمن قصير. والأرض بكاملها بور غير مزروعة ، وقد اتخذت مراعي صيفية لعشائر السليمانية.

وفي الثامنة بدأنا نهبط هبوطا ناهدا استغرق مدة ربع ساعة انتهينا

__________________

(١) هو اسم قبيلة باشا السليمانية ، وينتمي إليها عمر آغا ـ الناشرة.

٢٢٢

منه إلى واد ضيق يتلوى بين التلال العالية ، ومضينا فيه نكمل ما تبقى من مسيرنا وأخيرا مررنا بقرية أو قريتين من القرى الحقيرة المنظر ، وببعض الرقع الصغيرة من المزارع التي كمل جمع غلتها في الأيام الأخيرة ، وشاهدنا بعض القطن المتوقف عن نموه الطبيعي وبعض أشجار الخروع وهي على تلك الحالة من النمو تقريبا.

تشرع قرينتي عادة في مسيرها اليومي قبلنا ، غير أن شروعها اليوم كان بطيئا ، ولما كنا على وشك اللحاق بها فقد ترجلنا في التاسعة والنصف عند منبع صغير لنفسح لها المجال لتسبقنا (١) ثم استأنفنا السير في العاشرة ونحن في ذلك الوادي الضيق نفسه ، وفي الحادية عشرة وصلنا قرية (سوورموسي ـ Soormoosi) الواقعة في منطقة (خورخوره) وقد دخلناها وهي في منتهى المنحدر الناهد أو عند رأس الوادي وشاهدنا في أعالي التلال المقابلة لنا حصنا مربعا صغيرا ، يتحصن فيه القرويون للاحتماء عند غارات البلباسيين ، على أن هذه الغارات قد تضاءلت أو انقطعت تماما ، إذ إن الأتراك والإيرانيين قد قضوا على نزعات البلباسيين وقوتهم.

__________________

(١) نزولا عند العادات الشرقية ، كانت السيدة ريج تسافر مع جماعة منعزلة عن جماعة السيد ريج ، وقد مر ذكر ذلك. وكانا يسيران في ساعات متفاوتة ويعتنيان دوما ليكونا على مسافة من بعضهما وعلى الأخص عندما يكون المستر ريج مصحوبا برجال لهم منزلتهم في البلاد ، وكانت جماعته في هذه المرة مؤلفة من مرافقه ورائده وحاشيته علاوة على رجال دار المقيمية وضباطه وخدمه. أما السيدة ريج فتصحبها الخادمات وبعض الحرس وميناس آغا والطبيب (به ل) على الرغم من أن ذلك قد لا يتفق والعادات. هذا ويمكن لنا أن نبين هنا بأن المسلمين يستثنون فيجيزون للسيدة الأوروبية أن يرافقها الرجال من أبناء بلادها ومن دينها ، أما الذنب الذي لا يغتفر في نظرهم فهو أن يراها المسلم وهي غير محجبة ، أو أن تحتل موقعا بارزا في أية صورة كانت في الاجتماعات العامة سواء أتحجبت أو أسفرت ـ الناشرة.

٢٢٣

لقد كان الحر مزعجا في الوادي ، عند توقف هبوب الريح. وخلال مسيرتنا اليوم شاهدت كميات كثيرة غير اعتيادية من الجبس وكميات من الأردواز وبعض أملاح النترات والطباشير وأعتقد أنني شاهدت الأحجار الغرانيتية على بعض المرتفعات ، ولكني غير واثق من ذلك.

إن عدد الأهلين الذين يرتدون لباسا تختلط فيه البزتان التركية والكردية في هذه النواحي أكثر من عدد الذين يرتدون اللباس الإيراني منهم أما النساء فكلهن يلبسن على الطراز الإيراني.

٣ أيلول :

شرعنا بالمسير في السادسة وأخذنا نلتوي في مسيرنا التواء مستمرا في الوادي ببطء محسوس حتى وصلنا التلول التي تحد جانبه الجنوبي ، ثم قطعنا ما تبقى من الطريق بخطوات مريحة وإن كثرت استدارتنا فيه. ولدى ارتقاؤنا التل وجدنا بعض أشجار الكمثري البرية الضخمة التي ترتاح إلى منظرها النفوس بعد سفر طويل في أرض قاحلة جرداء لم نر فيها منذ مغادرتنا (سنه) فيما عدا البساتين ، أشجارا أكبر من عليق الأزهار النامية بكثرة في كل مكان ، أو أشجار الصفصاف القزمة.

درنا حول الجبال ، وكانت الأعشاب على بعض مرتفعاتها العالية لا تزال خضراء تتخللها الورود. وفي السابعة والنصف هبطنا وهدة ضيقة بدأنا منها بالارتقاء فورا وفي الثامنة والثلث انعطفنا غربا ودأبنا على اتجاهنا هذا في بقية الطريق وكانت التواءات السير كثيرة. وبعد قليل بلغنا جدولا صغيرا يدعى نهر (خوره خوره) وقد فاضت مياهه من جراء الأمطار التي هطلت أخيرا ولما هبطت المياه الفائضة تركت وراءها عددا من الأسماك ، ماتت على الأطيان (١).

__________________

(١) يصب هذا الجدول في (قيزيل أوزان) وهو ينبع عند سفح جبل مرتفع عن يسارنا ـ ـ يدعى (جال جه مه ـ Tchaltchama) وهو من سلسلة جبال (خسرو خان) وإلى جانبه تحت القمة منه قرية (قه ره بوكرا ـ Kara Bokra) وهي التي نقصدها. وتقع (ساقز) إلى الشمال الغربي منا ، وعلى الجانب الآخر من (خسرو خان). أما اتجاه الجبال بكاملها فهو من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي حيث يتلاشى أغلبها في النجد الذي قطعناه.

٢٢٤

ومن ثم ارتقينا جوانب وهدة صخرية. وفي العاشرة وصلنا قرية (قه ره بوكرا) التي تقع في أعالي الوهدة تقريبا ، حيث تشرف عليها قمة الجبل. لقد جعلت بعض أشجار الحور والفواكه منظر القرية جميلا وإن لم تقلل من قذارتها. وعلى المرتفع المقابل للوهدة وجدنا أنقاض حصن شيد للالتجاء إليه من البلباسيين.

وقد شاهدنا اليوم قرية أو قريتين من القرى الحقيرة ، وكانت المناطق التي مررنا بها اليوم قفراء خالية ، لقد سمعنا قصصا محزنة عن الجاف الذين يرعون مواشيهم في جميع أنحاء هذه المنطقة ويسلكون سلوكا كيفيّا لا يقرّه القانون ، ومما لا شك فيه أن لإدارة الوالي السيئة التأثير الكلي في إقفار هذه البلاد من السكان علاوة على ما لغارات القبائل الهمجية من تأثير.

شاهدت اليوم أكثر مما مضى صفائح الأحجار المركبة (Schistus) في طبقات أفقية تتخللها عروق الجبس التي كان لون بعضها ضاربا إلى حمرة لطيفة ، كما شاهدت الكثير من الطلق أيضا ، وعلى الأخص في أواخر مرحلة يومنا هذا.

كنا نرغب في السير أكثر من سيرنا اليوم لنصل (بانه) في اليوم التالي إلا أن الكرد الذين أرادوا استمرارنا على السير لم يكونوا على بينة من المسافة ولما كان طريقنا جبليّا متعبا قررت أن لا أجازف بمسيرة طويلة ومعي من جماعتي الكثير من المرضى ، فقر الرأي أخيرا على المكوث اليوم في (قه ره بوكرا) وكان اليوم شديد الحر في هذا الوادي الضيق.

__________________

يدعى (جال جه مه ـ Tchaltchama) وهو من سلسلة جبال (خسرو خان) وإلى جانبه تحت القمة منه قرية (قه ره بوكرا ـ Kara Bokra) وهي التي نقصدها. وتقع (ساقز) إلى الشمال الغربي منا ، وعلى الجانب الآخر من (خسرو خان). أما اتجاه الجبال بكاملها فهو من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي حيث يتلاشى أغلبها في النجد الذي قطعناه.

٢٢٥

تقع (ساقز) ـ حاضرة المنطقة ـ على شمالنا تماما ، وتستغرق المسافة إليها ست ساعات بطريق رديء جدّا ، وسبع ساعات بطريق أجود منه نوعا ما. وهي على الجانب الثاني من جبال خسرو خان (١).

٤ أيلول :

رحلنا من قرية (قه ره بوكرا) في السادسة والربع ، وبعد أن اجتزنا الوهدة وارتقينا التل الذي يحدها من الشمال اتجهنا نحو الحصن فوصلناه بعشر دقائق بطريق ناهد رديء ، ثم أخذنا ندور بين قمم التلال ، وتكثر الدببة في هذه التلال وكلها من النوع الأربد الاعتيادي.

وفي التاسعة والدقيقة الخامسة بدأنا بطريق جيد ، وعند وصولنا منتهاه وجدنا أنفسنا في واد حجري ضيق ، أو بالأحرى وهدة محاطة بالتلال فدأبنا على السير فيها بقية النهار بمشقة لا حد لها. وكان الطريق يتراوح بين انخفاض وارتفاع مستمرين على جوانب عمودية من الأردواز المفتت ، وكان الممر ضيقا مائلا ، لم يكن في الحقيقة إلا نيسم على يساره هاوية سحيقة.

واعترف الكرد أنفسهم بأن هذا الطريق اسوأ الطرق التي مروا بها حتى الآن ، وقد رأيتهم للمرة الأولى يترجلون عن خيولهم في الممرات الوعرة ، وقد كبا جواد عمر آغا مرة على جرف الهاوية ولكنه رمى بنفسه حالا عن ظهر الجواد برشاقة ، دون أن يفلت العنان من يده ، ولو لم يفعل ذلك لقتل الرجل والجواد معا. لقد أصابني دوار شديد اضطررت معه على المشي بموازاة حضيض الجبل حتى نهاية المسيرة ، وكان ذلك مجهودا شاقا حتى بالنسبة لرجل يتمتع بتمام الصحة اعتاد المشي ، وكان

__________________

(١) إن المسافة من (قه ره بوكرا) إلى (سه رخواني شه لال) حاضرة مقاطعة (ته راتوول) أربع ساعات ومن هناك إلى (بيستان) أربع ساعات أخرى.

٢٢٦

اليوم حارّا مزعجا ، ولم تكافأ العين بأي منظر لطيف أو مشهد جذاب.

ومن فوق الجبل شاهدنا جبل (كه للي خان) وجبل (زاغروس) أو بالأحرى قسما منه ، ووصلنا أسفله في السابعة والدقيقة الخامسة والثلاثين وبعد قليل بلغنا قرية حقيرة صغيرة اسمها (حاجي محمد) وبعد أن ارتقينا قليلا هبطنا توّا إلى قرية (سووتا) في منحدر ناهد مخيف تقع على يساره هوة. وقفنا عند هذه القرية في الثامنة والنصف وأنعشنا نفوسنا بكوب من القهوة. لقد خلنا أن مصاعبنا قد انتهت إلا أننا وجدنا بعد ذلك أن أشدها لا يزال أمامنا. وقد استأنفنا المسير في التاسعة والربع وبعد مدة وجيزة انحدرنا مجتازين الجدول الصغير الجاري في منخفض الوادي ، ثم وصلنا قرية (سه وي تاله) الصغيرة ومعناها التفاحة المرة ، فوقفنا فيها أيضا للاستراحة ثانية ، فمد أمامنا رجل من رجال الدين ـ وهو على ما يظهر صاحب القرية ـ سماطا غنيّا بالعسل والزبدة الطرية (١) واللبن الرائب والخيار والشنين.

وقد التهم كل من عمر آغا والبك من هذه الطيبات الريفية بشراهة ، إلا أن الحمى الشديدة منعتني من أن أتناول من بينها سوى ملعقة أو ملعقتين من اللبن الرائب.

وفي الحادية عشرة والنصف عاودنا مسيرنا في نفس ذلك الطريق المرعب ونحن نشاهد أشجار الصفصاف تزين ضفتي (خور خوره) وهو يجري في قرارة الوادي وقد جئنا الآن إلى مخارف (٢) لطيفة بين أشجار الدردار والحور والكظيظ من عليقات الزهر البري.

__________________

(١) يأكل أهل هذه الأقطار من الشرق العسل والزبدة سوية وقد تكون هذه عادة شائعة في الأقسام الأخرى منه بدلالة ما جاء في التوراة «زبدا وعسلا يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير» (سفر أشعيا ، الإصحاح ٧ ـ ١٥).

(٢) المخرفة بالفتح ، الطريق بين صفين من الأشجار ـ المترجم.

٢٢٧

وفي الواحدة والنصف أنهكني التعب فاضطررت معه إلى الاضطجاع تحت ظلال الصفصاف عند جدول تسبح فيه الأسماك الكثيرة الأليفة. ولم يكن الأهلون في هذه الأنحاء شغوفين بأكل السمك وفي الثانية عدنا وامتطينا جيادنا ، وبالأحرى إننا سرنا إذ إنني لم أمتط جوادي طيلة الطريق وعلى طواره الهاويات التي لم أقدر على السير معها لما أنا عليه من ضعف وصداع ، وفي الثالثة إلا ثلثا وصلنا قرية (ميك ـ Meek) وأنا منهوك القوى. وهنا لاقيت علاوة على ما أنا فيه ، خيبة أقلقت مني النفس. إذ علمت بأن قرينتي ومعها الأمتعة قد أخذت إلى قرية (بايه نده ره) في أعلى الوادي ، عوضا من الانعطاف إلى اليمين والوقوف في (ميك). وبعد أن تأكدت من المكان الذي أخذت إليه أيقنت بأنني لا أطيق الحركة للحاق بها ، ولا بمقدورها العودة للحاق بي بعد سفرة كسفرتنا هذا اليوم ، وأن انتظاري الطويل على أمل وصولها إلينا وقت العشاء قد سدت شهيتي للطعام فساورتني نوبة خفيفة من الحمى. فبلل العرق كل ملابسي ولم يكن معي ما استبدل به لباسي الداخلي ، وقد أظهر عمر آغا نحوي في هذه الحالة الحرجة منتهى اللطف ، واعتنى بي الحاج قاسم (١) عناية فائقة وسهر عند فراشي طيلة الليلة. هذه هي المرة الأولى في هذه السنين العديدة يقدم لي خادم أو أجنبي هذه الخدمة ، ولم أتمكن من التصور إلا وإنني غير مرتاح.

تقع قرية (ميك) في منطقة (ساقز) التي تبدأ عند الجدول الصغير وقبل وصولنا إلى (سه وي تاله) بقليل. إن لعسل هذه النواحي من البلاد شهرة واسعة لكثرة النباتات العطرة التي تنمو فيها. وعلى الرغم مما أنا فيه من التعب ، ذهبت لمشاهدة خلية نحل في بستان قريب ، زرع زرعا منسقا بالورود والأعشاب العطرية ، وفيه كوخ من الأغصان المجدولة

__________________

(١) خادم من خدم المستر ريج.

٢٢٨

وفي جانب منه أنابيب من الفخار أو على الأصح الطين المجفف مفتوحة من طرف واحد وفي طرفها الثاني منفذ ضيق ، فإذا أرادوا جمع العسل كشفوا عن جانب الكوخ المقابل للجانب الذي فيه الخلايا ، وأشعلوا النار في كومة من القش ، فيفر النحل حالا من الفتحات الصغيرة إلى الخارج تاركا العسل وراءه إلى مالكيه. وقد أخرج القرويون خلية من الخلايا وأروني النحل وهو يعمل في عدة أقراص منها. لقد كان النحل منهمكا في عمله انهماكا جعله لا يعبأ بالمتطفلين ولا يهاجمهم.

سمعنا اليوم أصوات أسراب لا حصر لها من الحجل ، ويقال إنه أوفر عددا في (آورامان) ويصطاد الصيادون المئات منه ، وذلك بأن يقفوا على تلين متقابلين فيخيفون أسرابه المتوجهة نحوهم بالصراخ والصياح عندما تقترب منهم ، فتفزع الطيور وترتبك وتتساقط فيسهل عليهم عند ذلك التقاطها. لقد أكد لي عبد الله بك بأنه كان مرة بمعية الوالي في (آورامان) في صيد من هذا النوع فاصطادوا ما ينوف على الألف من الحجل.

والغزلان على اختلاف أنواعها ، والماعز الجبلي والأيائل ، على ما أعتقد ، ـ لأنهم يسمونه بالثور الجبلي كما يسمون الظبي بالخروف الجبلي ـ كثيرة في هذه الأصقاع ، وهم يصيدونها في موسم الشتاء أما الريم فيوجد في منطقة (اسفند آباد).

٥ أيلول :

كنت مريضا جدّا طيلة الليل وكانت مشكلتي هذا الصباح هي هل في مقدوري السفر اليوم؟ لكنني قررت محاولته ، فرحلنا من (ميك) في السابعة وبعد أن ارتقينا تلّا بنيسم ناهد جدّا درنا حول قمته إلى المكان الذي يبدأ منه الهبوط إلى قرية (بايه ن ده ره) وهنا شعرت بالضعف الشديد يدب في أوصالي بحيث لم أستطع الاستمرار على السفر أكثر من

٢٢٩

ذلك وبينما أنا أحاول الجلوس غبت عن رشدي فسقطت ومن حسن حظي أن كان (كورد أوغلي) (١) ورائي فاحتضنني بين ذراعيه. وقد أدركت الآن ، وبالأحرى أن ضعفي هذا جعلني أن أدرك ، بأنني لا أطيق السفر أبعد من (بايه ن ده ره) حيث قضيت قرينتي ليلة البارحة ، على أن حظي العاثر لم يتخلّ عن متابعتي إذ وجدت أن قرينتي ـ لخطأ ما ـ قد تقدمت مرحلة أخرى. وعندما علم عمر آغا بذلك وقد ذهب إلى (بايه ن ده ره) أوفد خيالا للرجوع بالجماعة وإيقافها في أقرب قرية إلى (بايه ده ره) ثم رجع ليخبرني بما فعل. وعلى ذلك استأنفت المسير أو بالأحرى حملني كل من كورد أوغلي والبيطر ـ النعال ـ إلى أسفل المنحدر فاضطجعت ناشدا الراحة ثانية تحت ظل صفصافة عند جدول جميل. فاحتسيت في هذا المكان كوبا من القهوة أنعشني ، وأصر عمر آغا الحنون علي بأن أشرب ملء ملعقتين من دواء الكرد العام وهو الشنين ، وقد جلبه لي من (بايه ن ده ره) ؛ والحق يقال إنه أنعشني كثيرا. وفي العاشرة والنصف شعرت بقدرتي على قطع ما تبقى من الطريق ، وكان لحسن الحظ سهلا.

سرنا راكبين بخطوات معتدلة في واد متمعج ، ولكنه أكثر انبساطا ، ينساب فيه جدول تنبت على ضفتيه أشجار الصفصاف بنسق جميل. وفي الثانية عشرة إلا ربعا ، ودون أن نرتقي كثيرا وصلنا قمة مهبط منحدر ، وأعتقد أنه أكثر انحدارا من المنحدرات التي جئناها حتى الآن ، وقد استغرق هبوطنا فيه قرابة نصف ساعة واسمه (كه لله بالين ـ Kelleh Balin). لقد اتفق كل من عمر آغا وعبد الله بك في القول بأنه أحد مضايق (زاغروس). والجبلان هنا يؤلفان واديا يصل (بانه) وكلاهما مكسو بأشجار البلوط.

ومن أسفل المنحدر سرنا في مخرف بين أشجار البلوط والدردار والصفصاف والحور ووصلنا في الواحدة والنصف قرية (سووره نه) في

__________________

(١) رئيس سواس المستر ريج ، وهو من (بايزيد) في أرمينيا ـ الناشرة.

٢٣٠

واد بين هضبتين من جبال (زغروس) (١) وهي قرية كئيبة لا ينطبق حالها على ما سميت به ولكنني التحقت عندها بقرينتي وتمتعت بطعام الفطور الذي هيأته لي ، لأنني لم أتناول قوتا بعد طعام العشاء قبل يومين.

جاءني في هذا المكان رجل أوفده إليّ الوالي من (بانه) ومعه بعض الأحمال من الفواكه ورسالة رقيقة.

٦ أيلول :

رحلنا في السادسة من (سووره نه) وسرنا في الوادي الجميل ، ومررنا في السابعة بقرية (بجه ئي ـ (Bjae أو (بزه ئي ـ Bzae) وهي على يميننا. وبعد مسافة قليلة بدأ الوادي والجبلان بالانعطاف كثيرا إلى الجنوب ، والآن شاهدنا النقاط أو القمم الثلاث التي تكرر ذكرها ، وبعد قليل تعود الجبال من مضيق بين الجبلين يؤدي إلى (قزلجة) إلى ما كانت عليه. وفي التاسعة والنصف وصلنا منزلنا في (أحمد آباد) أو (أحمد آوه) كما يلفظها الكرد ، وهي قرية بجوار (بانه) وكان منزلنا في موقع جميل على تلال (آردبابا) وهي قسم من سلسلة زغروس (٢) الغربية أو الجنوبية ، وهو يبعد عن (بانه) مسيرة عشر دقائق للراكب. وكان هناك بعض الكروم

__________________

(١) يظهر أن الهضبة الغربية هي التل الذي عبرناه جانبيّا ونحن نتقدم نحو وهدة (بايه ن ده ره) والاتجاه من المضيق إلى القرية شماليّا غربيّا بنحو (٧٠) درجة ثم ينعطف كثيرا إلى الجنوب ، لنرجع ثانية إلى (بانه) ، إن القمم الثلاث التي شاهدناها من أحمد كلوان و (زه ري بار) تقع باتجاه شمالي غربي بخمسين درجة من (سووره نه) ، أما (بانه) فهي باتجاه (٨٣) درجة شمالية غربية.

(٢) يبدو أن الجبل الواقع على الجانب الشمالي من وادي (بانه) هو جبل زغروس الأصلي ، أما الجبل الواقع على الجانب الجنوبي ، وغيره من الجبال فما هي إلا شعب منه ـ وهو ينعطف ـ ب ٢٥ درجة شمالية غربية حيث يظهر أنه يؤلف رأسا هاويا ثم يختفي وهذا الرأس هو (بتوين) وهو على بعد ١٣ ساعة تقريبا.

٢٣١

وشرفة جميلة ، ينصب عليها أحيانا سلطان (بانه) خيمته قصد النزهة ، وصفصافة جد جميلة قرب ينبوع بارد (حرارته ٥٣ درجة) ، كانت حقّا أجمل أشجار الصفصاف التي شاهدتها حتى الآن وأعظمها. لقد نصب الوالي بعض الخيام لاستقبالنا ، ووجدنا رئيس خدمه وبعض الطباخين بانتظارنا لخدمتنا.

جاءني بعد الظهر أحد أنجاله ، حسين قولي خان ليرحب به وبصحبته الوزير وثلاثة آخرين من أعضاء المجلس ، وأحدهم وهو شيخ طاعن اسمه ميرزا عبد الكريم على ما أظن. وكان هو المحدث أو المتكلم الرئيس فيهم. أما الخان الصغير فكان صبيّا نبيها في الثانية عشرة من عمره تقريبا وهو في ملامحه يشبه أمير (سنه) الصغير ولكنه يبدو أكثر نشاطا وأمضى ذكاء. وكان سلوكه على جانب عظيم من الكياسة والأدب وقد رحب بي بلطف فائق باللّغة الفارسية وافتتح الحديث بالسؤال عن المسافة بين بلاده وبين إنكلترا ، وكيف وجدت كردستان ، وهل إننا ندخن الغلايين في بلادنا ، وغير ذلك من الأسئلة. ثم تولى الرجل العجوز الحديث ، ولما كان الحديث قد انحصر على الأكثر في المجاملات الإيرانية فلا أراه يستحق التدوين.

وصلتني مساء من الخان هدية كبيرة من الفواكه بعضها إجاص من (ميان دو آو) ، وهي وإن لم تكن جيدة جدّا فإنها مرضية لأنها كانت باكورة الموسم. وفي مراسيم تقديم الهدايا تمثلت أمامي الصور التي شاهدتها منحوتة في (به رسه بولس) خير تمثيل ، إذ يتقدم رئيس الجماعة وبيده عكاز طويل ومن وراءه رتل من الخدم يحمل كل منهم شيئا وهكذا تجزأ الهدية إلى أكبر عدد ممكن قصد التفخيم. لقد أصر الخان على أن يطبخ طعام إفطارنا وعشائنا في مطبخه الخاص ؛ إنه ولا ريب وفق الذوق الإيراني أو على ما أعتقد أحسن طهيا وترتيبا من طعام (سنه) ، وإنهم راعوا أوقات راحتنا.

٢٣٢

الفصل التاسع

زيارتنا لوالي سنه ـ قلعة بانه ـ حديث الوالي ـ زواج ابنه ـ الوالي يرد

زيارتي ـ قسوته في بانه ـ التهيؤ للرحيل ـ عوائق غير منتظرة ـ صعوبة

الحصول على دواب الحمل ـ اعتذار الوالي ـ سلطان بانه ـ بدء مسيرنا ـ

رئيس القرية ـ رفضه السماح لنا باستمرارنا على المسير ـ موقف سيئ ـ

القرار لشق طريقنا قتالا ـ خوف رئيس القرية ـ سماحه لنا بالمسير ـ

جبال ـ دخول منطقة البابانيين ـ أتباع عمر آغا ـ خرائب قالاجوالان ـ

تلال هدود ـ الوصول إلى السليمانية

* * *

٧ أيلول :

عين صباح اليوم موعد لزيارتي الخان ، وقد وعد بأن يستقبلني في وقت مبكّر قبل اشتداد الحر الذي كنت أفزع من التعرض له ، ولكن لم يأتوا ليخبروني باستعداده لمقابلتي قبل العاشرة والنصف. وعندئذ امتطينا جيادنا وذهبنا إلى المدينة فاستقبلنا في مدخلها ميرزا عناية الله ورهط من الخيالة ، وقد زاد حشدهم في الحرارة وإثارة الغبار الذي اكتنفنا. وعند ارتقائنا تل القلعة وجدنا جماعة من حملة البندقيات من (سه قز) وغيرها

٢٣٣

من المناطق الجبلية الأخرى قد ألفوا ممرّا اصطفوا على طرفيه ، وكذلك السربازيون ، أو الجنود النظاميون وقد حيوني التحية العسكرية بالسلاح ، وما كانوا بأحسن من رفاقهم الذين شاهدناهم في (سنه) ، وكان عددهم قرابة المائة والخمسين جنديّا. وكانت القلعة أو القصر ، أو مهما أطلق عليها من اسم ، محلّا بشع المنظر. وجدت الخان جالسا في إيوان غير مملوج بالجص ، تحيط به كمية من البطيخ ، فنهض ليستقبلني ، مادا يده إليّ وإلى المستر (به ل). لقد خبت فيما كنت أظنه فيه من السلوك والمظهر. وكنت أتوقع أن أرى فيه أنفة وأناقة داود باشا بغداد ولكنني وجدته إيرانيّا اعتياديّا خشن المظهر أو بالأحرى مستهجنا ، أو شبيها لما نعبر عنه بالرجل الطيب ، المتواضع الذي لا تلمس الطلاوة في حديثه الذي يقتصر على توجيه بعض الأسئلة المقتضبة وإبداء الملاحظات القصيرة. وكانت قامته أطول من المتوسط ، وله وجه قصير مكتنز ولحية خطها الشيب ، وحاجبين أسودين كثين كانت استقامتهما وتقطبهما تغطيان أعلى وجهه سحنة لا ترتاح إليها النفس.

ولا بد لي من الإشارة هنا ، إلى أنني لم أر مطلقا إيرانيّا جليلا ظريف الشمائل ، ولعل لباسهم هو الذي يحرمهم من مظاهر الظرف ، إن أطوارهم الخشنة الفظة ، وتكلمهم بصوت جهوري أصبحت من الأساليب المعتادة لديهم تقليدا لرجال القبائل ، وبطانات القصور ؛ وما هم عندي إلا أوباش متأنقون. وكان يجلس مع الخان ، موسى خان حاكم (سه ردشت) الذي كان يزور الوالي وسلطان (ساقز) ، وهو من المقربين إليه وسلطان (بانه). وجلس عمر آغا إلى جانبهم ؛ وكان في جلوسه غير متكلف قليل الاكتراث وكان أوفرهم حرية وأكثرهم جرأة الأمر الذي جعله يظهر كالأمير بينهم. وقف نجلا الخان وراء النافذة وهما على رأس جماعة من الخدم المسلحين ، فنجله المقرب إليه محمد علي خان وهو الذي سيقترن بابنة الشاه في عيد النوروز المقبل ، كان ولدا غليظا أسمر

٢٣٤

اللون شبيها بوالده ، أما الأنجال الآخرون الذين رأيتهم فلا يشبهونه. وكان لباس الوالي الخارجي يتألف من شال كشميري أسود ، وملابسه الأخرى كانت اعتيادية وما كان يحمل سلاحا جميلا أو خنجرا ثمينا. وكل ما كان يزين صدر ديوانه أو عرشه (كذا) ناظور باخرة وعصا مصبوغة باللك ذات قبضة من فضة وإناء فيه ساعة اعتيادية وختمين أو ثلاثة أختام وعلبة آفيون من صنع برمنكهام.

خاطبني بالتركية وقد أصبحت لغة الطبقة الراقية الآن في إيران ، وإنني كما ذكرت آنفا ، لا أتذكر إلا القليل مما يستحق التدوين من حديثه لأنه لم يسأل إلا أسئلة قصيرة ، وكان يتعمد لتحايل الممقوت في تكرار الأمور التافهة فيجعلك تكررها أنت أيضا. سألني عن عمري فأجبته أنه ثلاثة وثلاثون عاما ، فأبدى ملاحظة باللّغة الكردية قائلا بأنني أظهر وكأنني ابن الأربعين. ثم سألني عن مرضي بسيل من المصطلحات الطبية الشرقية التي بدا لي منها بأنه ذو إلمام فيها ، وتكلم عن (مالكولم) وامتدحه كثيرا ، وأخبرني بأن (مالكولم) كان قد أهداه الهدايا اللطيفة ، ثم سألني عما تكون واجبات المقيم البريطاني في بغداد ، وتمادى فسألني عن راتبي ، ثم جيء إليه بخمسين بطيخة تقريبا وضعت أمامه فاستل مدية صغيرة برمنكهامية من جيبه وذاق كل واحدة من البطيخ ، وقدمت أطباق الحلوى ، فأكل وأكلت من الطبق ذاته ، واستمر مصرّا على كسر قطع صغيرة منها بيده وتقديمها إلي. أما الغلايين فكانت تتوارد الواحد بعد الآخر. وسأل كثيرا عن (بونابرت) واستفسر عما إذا كان يشيد الخانات ، وقال عنه إنه أصبح من المشاهير. جلست معه قرابة ساعتين ، وعند مغادرتي له نهض ورحب بي ثانية ، وقال بأنه سيرد زيارتي في القريب العاجل. وقد سألني بوجه خاص عن أتباعه في (سنه) وعما إذا ارتحت إلى معاملتهم ، وعما إذا شذ أحدهم في سلوكه نحوي. إن الغضب الذي يبدو على ملامحه ، والرعب الذي يستولي على خدمه عندما يظهر ذلك

٢٣٥

الغضب جعلاني أعتقد أنه كان رئيسا مخيفا ، وإن لم أسمع ما سمعت عنه من قبل. وفي الواقع إن كل ما سمعته عنه ليؤيد لي بأنه رجل غاشم حقود ظالم ، فقد كان الجلد من الأعمال اليومية في (بانه) ، وقد ابتزت المقادير الكبيرة من الأموال فيها. لقد نشبت ثورة هنا في الشتاء الماضي يقال إن سببها كانت هذه الأعمال القاسية. ومدينة (بانه) حقيرة قذرة ، تكاد لا تستحق أن يطلق عليها اسم مدينة (١) وإنها لم تكن بأحسن حال من القرى التي مررنا بها سوى أنها أوسع منها قليلا. «والبناية» أو القلعة تقوم على طنف اصطناعي صغير. والأصح أن اسم (بانه) هو اسم المنطقة ، أما المدينة فاسمها (به روزه ـ Berozeh) ولكنه غير شائع ؛ ويقطنها الكثير من اليهود.

٨ أيلول :

زارني صباح اليوم موسى خان حاكم (سه رده شت) ، وقد تكلم كثيرا عن الإنكليز في (تبريز) ، وإنه مما يثلج الصدر ويملؤه فرحا ما يتحدث به الكل عن حسن سلوك أبناء بلادي في إيران.

وفي المساء جاء الوالي ليعيد الزيارة ، وقد تقدمه جنوده النظاميون ، ومن ورائه عدد كبير من الفرسان. وما كان الموكب ذا روعة كالمواكب التركية فقد كانت تظهر عليه مسحة الحطة والكآبة بالقيافة الإيرانية وعلى الأخص إذا كان جمعهم كبيرا. لقد كان الخان في لباس أبسط من لباسه أمس ، إذ كان يرتدي ثوبا خشنا من الصوف مما يلبسه الدراويش. واستقبله السربازيون عند مدخل الخيمة فحيوه بالسلاح وعزفت له الجوقة النشيد الملكي بالطبول والمزامير. وكان بصحبته خان (سه رده شت) وسلطانا (بانه) و (سه قز). إنه أراني عدة أسلحة وسألني عما إذا كانت

__________________

(١) ويقال إن (سه قز) أوسع منها وأحسن عمرانا.

٢٣٦

إنكليزية أو فرنسية ، وعن قيمتها المالية وغير ذلك ، وقال لي بأن شاه إيران وعده بثلاثة مدافع صحراء وطائفة من المدفعيين لتدريب جماعة من أتباعه عليها وأردف قائلا : «وأنا شخصيّا سأتعلم وأصبح كما سترى مدفعيّا جيدا كمدفعي إنكليزي. أما رأيت حصون القصر في (سونه)؟ إنني سأضع فيها مدفعا ، وأضع بعض الجاموس والأغنام على التل المقابل لها ، وسترى كم سأقتل منها يوميّا» لقد أصبح موقفه الآن وديّا ، والحديث معه وإن لم يكن مفيدا مما حواه من المعلومات إلا أنه كان مسترسلا لا تكلف فيه. ثم التفت إلى موسى خان وخاطبه بالكردية قائلا : «لقد جذبني والله هذا الرجل إليه» ، ثم قال لي : «أترغب في مؤاخاتي؟ إنه من الخير أن يكون للمرء صديق مثلي ، فأنا رجل غني». وقد جاء ذكر مكتبتي ، فانتهز عمر آغا الفرصة بلباقة وأخبره بأنني أرغب في الحصول على نسخة من كتاب تاريخ كردستان الشهير المسمى بتاريخ الكرد ، وكان عند ذاك في أوج بشاشته فقال : «أتريد تاريخ الكرد؟ إنك والله ستحصل عليه» ؛ لقد كنت في بحث مستمر عن هذا الكتاب منذ عدة أعوام.

وكان يستحق أن يتحمل المرء عناء السفر إلى (سنه) بغية الحصول على هذا الكتاب وحده (١) ويبدو أنه أخذته مؤخرا سورة دينية فراح يذكر ويسبّح ، وقال بأنه ينوي الحج إلى مكة ، ثم سأل بعض الحاضرين عن الوقت ، ولما أخبروه به تناول حبة صغيرة من الأفيون وأردفها بقطعة من السكر ، ودخنت الغلايين العديدة. ذكرت له رغبتي في الرحيل غدا ،

__________________

(١) توفق المستر ريج في الحصول على نسخة من تاريخ الكرد هذا ، ولكنني لا أتذكر الشخص الذي حصل عليه منه. والنسخة الآن في المتحف البريطاني مع بقية مكتبته الخاصة بالكتب الشرقية ـ الناشرة.

ملحوظة : ـ المقصود بهذا التاريخ هو الشرفنامة ، للأمير شرف خان البدليسي ، راجع الحاشية (١) من الصفحة ١٢ من مقدمة وتمهيد محمد علي عوني ، في الطبعة التي نشرها فرج الله زكي الكردي ـ ، طبعة القاهرة ـ المترجم.

٢٣٧

فرجاني أن أؤجل ذلك إلى ما بعد الغد كي يقابلني ثانية. إنه جاءني في الساعة الرابعة ومكث عندي حتى قرابة الغروب ثم استأذن في الانصراف بلطف وظرف ، لقد كان يركب جوادا أو بالأحرى برذونا ضخما على برذعة مكسوة بالمخمل ، وكان خدمه يجفلون كلما التفت إليهم بغتة أو كلم أحدا منهم.

٩ أيلول :

كان عليّ أن أزور الوالي اليوم استئذانا بالرحيل ، وكنت قد طلبت إليه أن يضرب موعدا في وقت يكون فيه غير مشغول لأن الأوقات عندي سواسية فأجاب بأنه سيخبرني بذلك. لقد قضى الصبح بطوله في تصفية الحساب مع (بانه). إنه فقأ أعين ثلاثة رجال من أعيان هذا الجزء من المملكة ، ونفى نساءهم وبناتهم مع عدد غير يسير من الناس إلى (سنه). لقد شاهدنا رتلا طويلا من النساء فوق الخيول يقطعن السهل بحراسة بعض أتباع الخان وهم يسيرون راكبين بين النساء ؛ وكانت هذه مشاغل الخان صباح اليوم ومن حسن الحظ أنها لا تبدأ إلا في الحادية عشرة. وكلما كثرت أخبارنا عنه ازددنا كرها لوحشيته الطاغية. لقد ذهب بعد الظهر لمعاينة قرية كان قد استلبها وقبل ذهابه إليها بعث إليّ بخبر مفاده أنه قضى اليوم يعالج أمورا لم يستطع التخلي عنها ويرجو أن يزورني غدا فيودعني فيسير في اتجاه ونسير نحن في اتجاه آخر. وهذا التأخير في السفر أزعجني كثيرا ، فأوفدت إليه استمحيه العذر عن التأخر إلى الغد ، ولكنه كان قد غادر مكانه ، ولم يعد إلا في ساعة متأخرة من الليل.

أويت إلى مضجعي في الحادية عشرة ولم أستقر فيه إلا قليلا حتى جاء رئيس الفراشين ، وهو رئيس ناصبي الخيم ، قائلا بأنه تلقى الأوامر لتقويض الخيام حالا ، فاستغربت من هذه الخشونة المفاجئة وبقيت أنا وعمر آغا الذي حمل النبأ نجهل كيفية تعليله ، غير أني قررت الحيلولة

٢٣٨

دون ذلك إلا إذا استخدمت قوة متفوقة إزاءنا في تقويض هذه الخيام ، وبالرغم من تأخر الوقت طلبت من عمر آغا أن يركب إلى المدينة لمقابلة الوالي واستطلاع خبر هذا الأمر الشاذ فلبى عمر آغا الطلب وبعد نصف ساعة رجع ملاه ـ كاتبه ـ ب «الفقيه قادر». (وهو رجل من أطيب الناس ، والكلام في سرك) ليخبرني بأن القضية محض خطأ وإن الميرزاوات طلبوا متوسلين به بأن لا يشتكى لدى الخان ، وقد أمسى رئيس الفراشين لفي رعب شديد وقال لو علم الخان بالأمر لفقأ عينيه. وأخبرني عمر آغا بأنه لم ير الوالي ونتيجة لذلك فإنه يفضل البقاء في المدينة ليؤتى بالبغال ـ التي كان على الوالي أن يهيئها لنا ، إذ لا يمكن الحصول عليها دون أمر منه ـ لنستطيع الرحيل في ساعة مبكرة من صباح الغد. ولقد استصوبت السكوت عن القضية لأنني لم أجد فيها أي إهانة مقصودة ، واستنتجت بأن الأمر لم يصدر إلا في نوبة سكر شديد لأن الوالي علاوة على تناوله الأفيون يحتسي النبيذ بوفرة ، ومن السهل جدّا تصور استحالته إلى وحش ضار في مثل تلك الحالات. وهذا الحادث المزعج تركني ساهرا حتى الثانية بعد منتصف الليل (١).

١٠ أيلول :

نهضنا مع الشمس ، ولم نجد البغال. وقد أخبرني عمر آغا الذي عاد من المدينة بأنها آتية ولكن تسعة منها فصلت من قافلة من بغداد مرت ببانه بطريقها إلى بلاد الكرج ، تلك القافلة التي أنقذتها أمس من دفع الضرائب المضاعفة وبعض التكاليف الثقيلة الأخرى التي أراد أعوان الخان فرضها عليها.

__________________

(١) مات سائسي حسين المسكين ليلة أمس ، ولقد استسلم إلى اليأس منذ أن هاجمه المرض بعد أن تركنا (سنه) مباشرة ، وكان شابّا طيبا. ومات حسن أحد ناصبي الخيام في إحدى القرى فاضطررت إلى تركه فيها ، وقد مات سائس آخر في السليمانية.

٢٣٩

كان طعام الفطور المعتاد يهيأ لنا ، وبعد تناوله كان الخان يرغب في مواجهتي ليودعني لقد أخبرني كل من «وكيل الخرج» رئيس خدم الخان ، وعبد الله بك ، بكل ذلك. فغضبت وقلت لهما بأنني لا أريد بغال القافلة ـ التي أمرت بإعادتها إلى أصحابها ، وتأكدت تنفيذ الأمر بعدئذ ـ وإنني سأسافر لوحدي تاركا الأمتعة مطروحة في محلها ، ولا أريد مواجهة الخان مطلقا ، وعلى ذلك ركب عبد الله بك وبعض أتباع الخان حالا مسرعين إلى المدينة خببا ، أما صاحب البغال فبقي بجانبي مع بغاله التي جيء بها إلى مضربنا في تلك الآونة. وأسرع «وكيل الخرج» في تقديم الطعام استرضاء لي وما كنت حاقدا عليه إذ كان رجلا خدوما مؤدبا ، وهيأ عمر آغا ثلاثا أو أربعا من دواب حمل جمعها من محلات مختلفة لتحميل أهم الأشياء وألزمها والمضي بها. وقد اهتم قبل كل شيء بحقائب سرجي والمزولة ، وكان الجمع في هرج ومرج. وبعد أن سارت قافلة الأثقال التي تمكنا من تحميلها ركبت السيدة ريج والمستر (به ل) يرافقهما مريض واحد أو مريضان من جماعتي ورجل يعتمد عليه من رجال العشائر من أتباع عمر آغا وهو ابن عم له ، وقد تسلح بندقيتي واتشح بسيف عريض لي اتشاحا مضحكا إذ رمى بمنطقته الجلدية العريضة وألواحها المعدنية اللامعة فوق كتفه. لقد أصبح قائد القافلة ، وهو بهذه القيافة في وضع يصلح معه أن يترأس عصابة من قطاع الطرق.

وبعد أن سارت القافلة مدة نصف ساعة رجع عبد الله بك مسرعا ليخبرني بأن الوالي قد استيقظ الآن من نومه وسمع بتأخري عن الشروع بالسفر لقلة الدواب فأمر بأن يؤتى إلي بجواده ، وهو مهتم اهتماما فائقا بأن لا يكون قد وقع ما يزعجني ، ويرجو أن أتناول كأسا من القهوة معه في طريقي الذي يمر بالمدينة ، وأنه يرى بأنني أزيده شرفا لو تقبلت منه برذونا رهوانا كدليل على رضائي عنه. لقد سررت لهذا التصرف لأن الأمور أخذت تسير سيرا وديّا ، وعليه بعد أن وزعت بعض الدراهم على

٢٤٠