رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

الفصل الخامس

الجندي الروسي الباسل ـ قسوة أمير كرمنشاه ـ التقي المسلم العظيم ـ

منتجات كردستان الطبيعية ـ تقوى محمود باشا ـ قصة ـ

توقيف عبد الله باشا ـ العيد ـ العشائر الكردية ـ قصة ـ

عشائر بلباس ـ العوائل الحاكمة في كردستان

* * *

٢٤ حزيران :

تزاورت والباشا وعثمان بك وصحبي الآخرون (وكانت كلها ليلية) في الفترة منذ أن دونت يومياتي الأخيرة ، إذ كنت منحرف الصحة فتجنبت الكتابة ، وإنني لا أذكر الكثير مما يستحق التدوين. لقد كانت أغلب أحاديث الباشا ، منذ حلول شهر رمضان تصطبغ بصبغة دينية ، وهو يظهر تمسكا بتقواه وبإيمانه تمسكا يفوق المعتاد ، دون أي تعصب أو كبرياء مما يظهرهما أي تركي أقل تعبدا منه.

قال لي الباشا : «إن أشجع رجل عرفته في حياتي كان جنديّا روسيّا مسكينا ، رأيته عندما رافقت الأمير محمد علي ميرزا في غزوه بلاد الكرج ، وكان هذا الرجل حامل رسائل ، أسره الإيرانيون واقتادوه إلى

١٤١

الأمير الذي استجوبه عن واجبه ، فأجابه الجندي : إن واجبي تتضمنه الرسائل التي أحملها وهي باللّغة الروسية ، فاقرأها إذا تمكنت. ولما رأى الأمير عدم إمكان الحصول على أية معلومات منه كلفه أن يعتنق الإسلام فرفض الجندي التكليف فهدده الأمير بأقسى أنواع التعذيب ، إلا أن عزم الرجل لم يهن مطلقا ، فأمر الأمير عندئذ بحفر قبر ، وفي مدة الحفر كان الجندي يضحك ويتكلم مع من كان حوله دون أي اكتراث. وبعد أن أعد القبر عاد الأمير فسأله عن رغبته في الإسلام ، وعلى إثر رفضه ذلك أمر الأمير أن يقبر حيّا فقبر على الرغم من مسعاي للحيلولة دون القيام بذلك العمل الوحشي. إنه من المؤسف مشاهدة امرئ طيب ، شجاع ، يضحي من أجل دينه. ترى ما دخل الأمير بمعتقد ذلك الرجل؟ ...».

وعلى أثر سماعي هذه القصة الفظيعة ، لم يسعني إلا أن أفكر بأنني لو كنت قائد جيش روسي وأتيح لي أسر الأمير لما ترددت لحظة في شنق سموّه على أول شجرة نمرّ بها.

قضيت مساء أمس أيضا مع الباشا ، نتحدث في مواضيع شتى. وقد أخبرني بأن الأهلين في كردستان معرضون إلى حمّى يسمونها (كه راني تي (Gheraniti ) ومعناها التوعك ، وهي تستمر ثلاثة أو أربعة أيام وتنتهي بعرق غزير تاركة المريض بعد ذلك في حالة هزال شديد. وتظهر هذه الحمى في الربيع عادة ، ويندر أن تقضي على من يصاب بها.

ويقطن السليمانية مسلم زاهد كبير ، اسمه الشيخ خالد ، إلا أن الكرد يعتقدون أن من الامتهان أن ينعت بغير (حضرة مولانا) وأنهم يعترون أقواله اعتبارهم «الأحاديث». وهو من عشيرة الجاف ، نقشبندي

__________________

(١) والأصح (كرانه ـ تي Grane ـ Ta) أو (كرانه ـ تاGrane ـ Ta ومعناها الحمى الثقيلة أو الشديدة ـ المترجم.

١٤٢

الطريقة ، انتسب إليها في (دلهي) بإرشاد الصوفي الشهير سلطان عبد الله ، وله من المريدين (١٢٠٠٠) مريد في مختلف أنحاء تركيا والبلاد العربية.

والكرد جميعهم يعتبرونه وليّا ، والكثير منهم يضعونه في صف نبيهم. وقد قال لي عثمان بك ، إنه هو والباشا وجميع زعماء الكرد تقريبا كلهم من مريديه ، فهو على الأقل في منزلة واحدة مع الولي المسلم الشيخ عبد القادر (١) الشهير.

٢٥ حزيران :

جرى حديث طويل بيني وبين عمر آغا في الليلة الماضية عن منتجات كردستان الطبيعية. إن مدينة كركوك هي السوق التي ترسل إليها جميع منتجات هذا القسم من كردستان ، لا من قبل الكرد أنفسهم بل من قبل الكركوكيين الذين يأتون السليمانية لهذا الغرض ، ويسلّفون المزارعين المال لقاء شلبهم وعسلهم وغيرهما. وكردستان تنتج مقدارا

__________________

(١) جاء في مذكرة سابقة للمستر ريج دوّنها في بغداد ، الوصف التالي لرجل آخر من طائفة من طوائف الدراويش المسلمين الغريبة «جاءني اليوم (٧ كانون الثاني ١٨١٧) أحد مريدي سلطان حسن وهو درويش مشهور. وقد تكلمنا عن شيخه الذي كال له المدح جزافا؟ وقال : «إن السلطان يا سيدي ـ ويعني الدرويش ـ يدرك كل شيء بالمعجزات فإذا كلمته بلغتك فهمك وإن لم يتكلم بها من قبل. وهو ملم بجميع العلوم دون درس ، بل إنه يعلم حتى ما يجول بخاطرك ، وإذا ما نويت استشارته أجابك على ما تضمر قبل أن تنبس ببنت شفة. وهو يعلم الآن بأننا نتكلم عنه في هذه اللحظة ، كما أنه يتمثل للناس في أحلامهم ، وحتى في اليقظة أيضا وإن كانوا في الهند أو في إيران ..» وقد أكد لي الرجل مخلصا اليوم (١٧ كانون الثاني) «بأنه شاهد وحادث خضر إلياس ـ الذي يعتقد المسلمون بأنه لا يزال حيّا وأنه يطوف الأرض ، ويظهر نفسه للدراويش أحيانا ، وهو راعيهم وحاميهم الخاص. وأكد لي صاحبي أن خضر إلياس استصحبه مدة يومين متواليين لإراءته الطريق».

١٤٣

كبيرا من أجود أنواع العسل ، ويحفظ النحل في خلايا من الطين. وتنتج كردستان الكثير من العفص لا سيما من غابات البلوط في (قه ره داغ) ، ويصدّر العفص إلى كركوك ومنها إلى الموصل. والأشجار التي يسيل منها الصمغ العربي ، تنبت برية في الجبال ، وأزهارها عنابية اللون تسمى (كه وه ن ـ Ghewun).

ويتكون المن على أشجار البلوط ، ويقال إن أشجارا عديدة أخرى تنتجه أيضا ، ولكن بمقدار غير وفير ومن نوع غير جيد ، ويجنى المن بجمع أوراق الشجر وتجفيفها ونفضها نفضا رفيقا ليتساقط منها على مفرش من القماش ، وهكذا يصدّر إلى الأسواق بكتل ممزوجة بالكثير من سقط الأوراق الذي ينقى منه بعد غليه. ويوجد نوع آخر من المن يعثر عليه فوق الصخور ، وهو نقي أبيض مرغوب أكثر من المن المتساقط على الشجر. ويبدأ موسم المن في أواخر حزيران ، ويقول الكرد إنه إذا بردت الليالي في موسمه أكثر من المعتاد نزل المن من السماء ، وهم يزعمون العثور عادة على أكبر مقدار منه في صباح كل ليلة من تلك الليالي. وقد ذكر لي عمر آغا أيضا أسماء عدة أشجار وحيوانات بالكردية وها إنني أدونها مع غيرها من الكلمات التي تعلمت معانيها ، ويظهر لي أن الكثير منها فارسي :

(الزعرور ، أو زعرور الأودية : كويزGoizh) و (اللوبانة المغربية ، أو القتاد : خوزيلك Khuzhilk) و (النسرين أو الجلنسرين : شيلان ـ Shilan) و (البرسيم أو الجت : سي به ر ه Seipara ـ) و (الخطمى : هيرو ـ Heiro) و (عباد الشمس : كول روزيان بره ست ـ Gul Rozhian Parast ـ والصحيح كوله به روزه : Gula Ba Rozha : المترجم) و (الشقائق : ديزيلك DizilK ـ) و (الحسك أو الفرقد (١) :

__________________

(١) يعطي الكرد هذا الحسك ، أو الفرقد علفا لخيلهم ، بعد سحقه سحقا تامّا وتنقيعه ،

١٤٤

كه وه رKiwar ـ والصحيح كنكه ر ، والكه وه ر هو الكراث ؛ ـ المترجم) و (اللفلاف : لولان ـ Lulan ـ والصحيح : لاولاو ـ المترجم). و (الحور أو الدلب : سبيدار ـ Spidar) و (الصفصاف المستحي : شوره بي ـ Shorabi) و (شجرة التربنتينا : داري به ن Dariben) ـ وقد تلتبس بشجرة البطم إلا أن البطم هو في الكردية «قه زوان» ، وشجرة التربنتينا أكث ولا تثمر ـ المترجم).

وتنمو أشجار التربنتينا في الجبال ، أما التربنتين فيجمع منها بجرح الشجرة في الربيع ، ووضع أكواز تحت شقوق الجروح لينسكب فيه سائله ، وهو من النوع الجيد جدّا. ويسمى عندهم أبو الحناء (عصفور أحمر الصدر) ب (فه نده كوله ـ Fandagula) ، والصحيح (فيرنه كوله ـ المترجم) ، والسلحفاة ب (كي سه ل) وسمك اللوت أو النقط ب (كاشي نه). ويوجد هذا الأخير بكثرة في أغلب الجداول الجبلية. ويسمى السماني ، أو السلوى ب (قاراواره ـ Karawara) ، وهنالك نوع من الحجل أصغر من الحجل ذي الأرجل الحمراء ، وهو ذو لون مائل إلى الزرقة ، أو أنه ذو لون أربد اسمه (So ? iske سوس كه ـ الأبلق) ، ويسمون العنب ب (ترى) ، والوادي ب (دول) والسيد ب (يايه) ، أما سيدات العوائل الحاكمة فيطلقن على أنفسهن لقب (خانم) وأما لقب السيدات الكرديات الأخريات فهو ال (يايه) ، والظاهر أن هذا هو التعبير الكردي الأصلي للسيدة ، وليس للرجال من نعوت في الأصل فكلهم بكوات أو خانات أو آغوات.

١ تموز :

زارني الباشا مساء هذا اليوم. وهو ولا شك ، وبدون استثناء ، أبعد المسلمين الذين عرفتهم عن التصنع ، وأتقاهم فعلا. وقد قص عليّ هذه

__________________

ـ وذلك عندما يشحّ لديهم الشعير ، وهم يقولون إنه يغذي الخيل تغذية حسنة.

١٤٥

الليلة قصة ، لا تبجحا منه ، بل ذاكرا واقعة حدثت له تبين فوائد الإيمان بالله وتمثله أصدق تمثيل. وإني سأسعى لرواية القصة كما رواها لي قدر المستطاع ؛ ولو ذكرتها بغير تعابيره البسيطة الدينية لفقدت الكثير من قيمتها. قال لي : «حين كنت رهينة في كرمنشاه عن ولاء والدي المرحوم ، اضطر والدي إلى تأييد المصالح التركية بحكم الظروف ، وهكذا أصبحت حياتي مهددة ، فأرسل الشهزادة بطلبي ليقتلني وكان الوقت ليلا ، فاقتدت إليه مكتوفا ، وكان الأمير جالسا في بهوه الذي تضيئه شموع وضعت في وسطه وكان الجلاد واقفا متأهبا لإنجاز واجبه. وأقول في هذا الصدد إن الكثير من الرجال الذين يجابهون الموت في ساحة الشرف ، قد يتملكهم الهلع إذا ما أخذوا إلى الجلاد مكتفين. لقد كان مشهدا مرعبا : «لا أراكه الله» وإنني أعترف بأن قواي قد خارت وخانني جلدي حينذاك. ولكنني وأنا في كربتي تلك حثّني وعي للاستنجاد باسم المولى جل شأنه ، فشعرت من فوري بالطمأنينة تغمر نفسي وكأن الكلمات التالية قد رن صداها في خلدي : «ألم أكن أنا الذي أخرجتك من بطن أمك ، ووقيتك من الأخطار حتى الساعة؟ ألست بالقادر على القضاء عليك في أية لحظة أشاء؟ إذن لم هذا الخوف؟ أيسع الرجل أن يسيء إليك إلا بإرادتي؟» وفي تلك اللحظة شعرت بالراحة ، وطرح الفؤاد عنه الوجل فوقفت أمام الأمير دون خوف أو هلع. وإني لأبتهل إلى الله الذي جعل الأمير المصر على قتلي عندما طلبني يعدل عن رأيه ويأمر بإرجاعي إلى السجن دون أن أصاب بسوء ...».

وبينما كنت جالسا في الليلة الماضية بين جماعة كبيرة في دار عمر الخازندار ، وقد مر المساء بهدوء ودفء ، وانهمك الجمع كله في الحديث ، هبت في اللحظة التي طلع فيها القمر في حوالي الساعة العاشرة ريح شديدة الحرارة من الشمال الشرقي ، فوجمت الجماعة من فورها كأنها شعرت بهزة أرضية على حين غرة ثم قال الكل بنبرة كئيبة

١٤٦

«لقد هب الشرقي ..» (١). حقّا لقد كانت تلك الريح ، هي الريح الشرقية المرعبة ، ولقد استمر هبوبها منذ تلك اللحظة بسرعة شديدة من الشرق والشمال الشرقي ، وكانت حارة حرارة سموم بغداد. إلا أنني أعتقد أنها أخف وطأة ، وأبعث إلى الكسل. وهذه الريح بلية هذه البقاع ، ولولاها لكان مناخ السليمانية مناخا لطيفا جدّا.

تقع مدينة السليمانية في منخفض يبعد مسافة ميلين تقريبا عن حضيض سلسلة التلال الشرقية التي تنحدر سفوحها الركمة نحو المدينة التي شيدت في سفح منها يكاد أن يكون وهدا. أما التلال المجاورة فجرداء شديدة الميل قد يبلغ ارتفاعها الثلاثمائة ياردة تقريبا ، وهي بمثابة مرايا عاكسة لأشعة الشمس التي تسطو عليها طيلة أيام الصيف من السابعة صباحا حتى الغروب ، وتنقل الريح التي تهب على سفوح تلك التلال حرارة تلك السفوح معها إلى المدينة عند هبوبها من الشرق والشمال الشرقي. وعند شرق المدينة تنعطف هذه التلال قليلا إلى الوراء فلا تجعل الريح الجنوبية الشرقية رديئة كالريح الشمالية الشرقية ، وهي شر البلايا. وتتميز الريح الشرقية هذه بكونها ساخنة تبعث الفتور على حد سواء في البقعة طوار خط التلال هذا. ولكن تأثيرها لا يصل غربا إلى أبعد من نهر (تانجرو). وإذا ما عبرت مرتفعات التلال انقطع عنك تأثيرها كليّا. وتسود هذه الظاهرة الطبيعية (كوى سنجاق) أيضا التي تقع في واد ضيق يضاهي وهد السليمانية مظهرا ، إلا أن التلال فيها أكثر ارتفاعا ، وريحها الشرقية أقوى وأكثر حرارة ، ويندر أن تهب هنا هبوبا شماليّا. أما الجهات الغربية فمناخها كلها ملائم. ويجب عليّ الآن أن أذكر حقيقة غريبة في بابها لم يهدأ لي بال حتى تأكدي منها باستقصاء طال أمده : يسود الهدوء الجو (٢)

__________________

(١) عند ما هبت الريح ارتفعت درجة الحرارة ١٠ درجات أي من ٨٠ د إلى ٩٠ د.

(٢) يقصد جو السليمانية ـ المترجم.

١٤٧

عند الفجر عادة ، وبارتفاع الشمس فوق التلال تهب من الشرق ريح خفيفة يستمر هبوبها حتى الزوال. وعند الظهر يهب عادة من الجنوب نسيم أو قل هبّة ريح قوية أو هبتان قويتان. وإذا ما مالت الشمس إلى الزوال انتقل الهبوب إلى الغرب. وقد وجدت الإصباح مما لا يرتاح إليها المرء ، أما الأعصر فبهيجة جدّا ، يهب عندها نسيم عليل من الغرب. وإنني لاحظت هذه الظاهرة الجوية في جميع الأيام التي لا تهب فيها الرياح الشرقية ، أما أشد ساعات النهار حرارة فتبدأ مع الظهر وتنتهي في الثالثة بعده.

٦ تموز :

كنت في ليلة أمس مع عثمان بك وقد وجدته شارد البال ، منقبض النفس كثيرا بالرغم مما بذل من جهد كبير لمكالمتي وإيناسي. وقد لاحظت الحالة ذاتها عند الباشا الذي قضيت مساء اليوم السابق معه. وبعد أن غادرت مجلس عثمان بك بقليل وكانت الساعة حوالي الحادية عشرة قبل منتصف الليل ، أوقف عبد الله باشا ، وحجز في غرفة منعزلة عن حرم القصر ، وقد سارت في الوقت ذاته مفرزة بقيادة سليمان بك للقبض على إخوان عبد الله باشا الذين يقطنون في مقاطعتهم في منطقة غرب السليمانية. والدافع لهذا العمل كما علمت هو :

عندما قرر محمود باشا في نهاية الأمر ، وقبل زمن قصير ، الاستسلام للأتراك ، ذهب بصحبة عمه عبد الله باشا وأخويه عثمان وسليمان إلى الشيخ خالد رجل السليمانية التقي الكبير آنذاك. وأقسم هؤلاء الثلاثة يمين الولاء لمحمود باشا. ونظرا لتوقعهم محاولة أمير كرمنشاه استمالة أحدهم إلى جانبه وتحريضه على الباشا ومناوأة الأتراك ، أقسموا على السيف والقرآن وبالطلاق (١) بأنه إذا تلقى أي منهم كتابا من

__________________

(١) وهذا نص القسم «امرأتي طالق مني إذا حنثت بقسمي».

١٤٨

تركيا أو إيران فإنه يفتحه في دار الشيخ خالد وبحضور من اتفق على ذلك كلهم. وكان عثمان بك أول من اختبر في الأمر ، إذ تلقى بعد مدة قليلة كتابا من الشهزادة يدعوه به إلى كرمنشاه ويعده بتقليده منصب باشوية السليمانية. وقد أبلغ عثمان بك أخويه بهذا الكتاب من فوره وتسلم عبد الله باشا كتابا آخر بذات المعنى ، ولكنه أخفاه عن الآخرين خلافا للاتفاق الذي تم بينهم. ولم يعلم محمود باشا بحقيقة هذا الكتاب إلا بعد أن أنبأه به ساع سريع أرسله باشا بغداد الذي عرف بأمر الكتاب بطريقة ما ، والذي أوصى محمود باشا بإلقاء القبض على عمه. ما كان محمود باشا ليصدق الخبر في بادىء الأمر ، وقد رفض رفضا باتّا اتخاذ أية إجراءات إزاء عبد الله باشا ولكنه في الوقت ذاته قرر مراقبة حركاته عن كثب ، وأخيرا تأكد من «خزنة دار» عبد الله باشا بأن عمه كان يعد العدة للفرار إلى كرمنشاه ، فكانت نتيجة ذلك توقيفه.

وفي العام الماضي سلم باشا بغداد عبد الله باشا أو بالأحرى غدر به غدرا شنيعا بتسليمه إلى محمود باشا ، فأمسى عبد الله باشا تحت رحمة ابن أخيه الذي لو كان في موقف المنتقم منه لخف في القضاء عليه سرا أو علانية دون إبطاء ودون خشية حساب ، ولكن لم يخطر على بال محمود باشا شيء من هذا القبيل ، بل عامله بالحسنى ، ومنحه منطقة من أحسن مناطق كردستان ليستعين بمواردها على عيشه ، علاوة على تسويته جميع الديون التي أثقلت كاهله خلال مكوثه في بغداد ؛ وفي الحقيقة أنه منحه أكثر مما يستحق ، هذا إذا اعتبرنا احتياجات عبد الله باشا ذاته ومطالب أعضاء عائلته الآخرين. وعلى ذلك فإن مقابلة هذا المعروف ، تلك المقابلة المشينة ، لم تكن منبعثة إلا عن حالة سوداوية.

١٠ تموز :

مكث الباشا معي بعض الوقت هذه الليلة ، وكان منقبض النفس

١٤٩

كثيرا. وقد تكلم عن أعمال عمه بتأثر عميق ، وعن شعوره عند اكتشاف خيانته. وقد دلت المشاعر التي أفصح عنها (وكانت ولا ريب مشاعر صميمية) على درجة من الإحساس والإخلاص وحسن السريرة ، لا أتذكر أنني لمست مثيلتها في الشرق مطلقا ، كما أنني أخشى أن لا أجدها في البلاد الراقية كثيرا. وتكلم الباشا عن شؤونه الخاصة واستشارني في الكثير منها.

أشعل علم من النار على التلال المقابلة إعلانا برؤية الهلال في تلك الناحية ، إذن فيوم الغد هو يوم العيد.

١١ تموز :

تحادثت طويلا مع صديقي الفطن عمر آغا ، في أمور عديدة تتعلق بالكرد وبلادهم ، وها أنا أدونها كيفما اتفق.

إن الخوشناويين والراوندوزيين متوحشون أغبياء غاية التوحش والغباء ، ولا يردهم عن قتل الإنسان وازع ، ولكن الصلاة لا تفوتهم مهما كلفهم الأمر وإن كان المعلوم عنهم أنهم يتقاتلون في الجوامع. حدث نزاع على كلب قبل عدة سنين بين رجال منطقتين أسفر عن قتل سبعين شخصا ، قتل منهم ثلاثون في الجامع بعد أن اشترك الفريقان في الصلاة سوية ، وهم لا يزالون يتناحرون بين وقت وآخر لأسباب تافهة مثل هذه. ولا ينتهي العراك بينهم إلا بعد أن يقتل بعضهم. هنالك رئيس خوشناوي غاب عني اسمه لا يزال حيّا يرزق ، حطت في يوم من الأيام ذبابة على عينه فأضجرته ، فأبعدها فعادت ثانية وثالثة حتى غضب فاستل خنجره وطعن به عينه فأعماها وكاد أن يموت.

ولكل رجل من عشيرة (بلباس) (١) مهما كانت منزلته الحق في إبداء

__________________

(١) هذه هي أسماء أربعة من عشائر البلباس وهي (ره مك) و (مه نزوور) و (بي ران) و (مامش).

١٥٠

الرأي في الشؤون العامة. فقد تتفق مع الرؤساء البلباسيين على صفقة تجارية ، فينهض فجأة أحد أفراد العشيرة ويقول : «لا أوافق على ذلك» وهذا القول وحده يكفي للقضاء حالا على الاتفاق بكامله. ومن ذلك أن عبد الرحمن باشا بعد أن انتهى من حرب اشتبك فيها مع البلباسيين عقد معاهدة تنص على زيارة كاكا حسن أو الأخ حسن رئيس البلباس السليمانية على أن يبقى سليم بك شقيق الباشا رهينة عند البلباسيين. وعندما شرع كاكا حسن بالرحيل وضع أحد أفراد العشيرة يده على قبضة خنجره وقال بكل هدوء «إذا قبض البابانيون على كاكا حسن فهم قاتلوه لا محالة ، وسيفخرون بعد ذلك بإراقة دم رئيس بلباسي ، وعلى هذا فمن الأفضل لي أن أقتله بنفسي هنا». وضاعت كل محاولة لرد ذلك الرجل عن غيه سدى ، وعلى ذلك امتطى سليم بك جواده وقرر الرجوع إلى منطقته ، دون أن يرى باعثا للتكلم مع كاكا حسن. وبعد أن ابتعد قليلا ، غيّر الوحش رأيه في الأمر فصار يصرخ من ورائه ويدعوه إلى العودة قائلا : «خذ كاكا حسن واذهب معه سوية ، فإننا لا نريد رهينة ، وإن كنتم رجالا فستعاملونه بالحسنى ..» (١) فاستحسن البلباسيون جميعهم هذا الرأي وسار البك وكاكا حسن إلى السليمانية سوية (٢).

__________________

(١) لا ندري أيصح أن نطلق كلمة «الوحش» على رجل هذا موقفه من كرامة عشيرته ، وهذا تفكيره في تقدير الأمور واحتمالاتها ، وهذا حله لها؟ ـ المترجم.

(٢) فيما يلي بعض المعلومات الإضافية الخاصة بالعشائر البلباسية مستقاة من أحد أفرادها وقد أضفناها هنا نقلا عن أوراق المستر ريج المتفرقة.

يتألف البلباسيون من العشائر التالية :

١ ـ (كابايزKabaiz) العائلة الحاكمة ، تتألف من مائتي شخص تقريبا. ٢ ـ (مه نزوور). ٣ ـ (مامش). ٤ ـ (بي ران). ٥ ـ (ره مك). ٦ ـ (سن) و (تافا) وهما يؤلفان عشيرة واحدة. ويسمى رئيس العشيرة ب (مه زن) ولكل رئيس بعض السراق الذين يسرقون له ، ويقدم له أفراد عشيرته الهدايا من الأرزاق من تلقاء أنفسهم وهذا كل

١٥١

وبين البلباسيين فئة من القرويين أو التوابع ليس لها الحق في إبداء رأيها في شؤون العشيرة ، والعشيرة تعدها فئة وضيعة جدّا. وإنك لتجد هؤلاء الناس في جميع أنحاء كردستان وهم ليسوا بعشائريين أو قبليين. ورجال العشائر ينعتونهم ب «كه له وسبي» (Kalawspi) أي ذوي القبعات البيضاء وكذلك ب (كوران). والاسم الأخير هو اللقب الصحيح لأهالي سنه ، ورجال القبائل يصطلحونه للإهانة خاصة عند الإشارة إلى الجبناء. ألم يكونوا هؤلاء سكان البلاد الأصليين الّذين تغلبت عليهم العشائر الجبلية الشديدة البأس؟ وهنالك بعض العشائر المتشردة تابعة إلى حكومة (سنه) ، أما الأهلون المستوطنون فهم كورانيون بكاملهم (١).

__________________

مورده. ودية الدم بين البلباسيين اثنان وعشرون ثورا ، وقد تتبدل هذه بغيرها من المتاع الذي يعطى له في الغالب قيمة اسمية تزيد على ضعفي القيمة الأصلية ، وذلك عندما يراد حسم القضية حسما وديّا. أما قوانينهم فهي عاداتهم العشائرية يمارسها الرئيس ويساعده في ذلك مجلس شيوخ. ولا يعاقب على الجرائم بالإعدام إلا في جريمتي الزنى والإغواء وما يشابه ذلك. ولا يزوج البلباسيون بناتهم برجال من غير عشيرتهم أو من الغرباء ، هذا والغزل موجود في حياتهم الاجتماعية ، وهروب المحب بحبيبته للزواج منها أمر شائع بينهم. وإذا مات الرئيس منهم استخلفه أفضل الرجال أو أشجعهم من العشيرة ، أما إذا كان ولده الأكبر غير كفء على النهوض بأعباء الرئاسة فيخلفه أكفأ إخوانه. وإذا ما نصّب الرئيس لا يمكن خلعه. هذا وسلطات الرئيس معينة لديهم تعيينا ثابتا لم يحدث أن حاول أحدهم تجاوزها ، والبلباسيون في بلادهم لا يعترفون طواعية بسيادة أحد عليهم سواء أكان تركيّا أو إيرانيّا. ولكنهم حينما يهبطون منطقة (قه ره جوق) ـ وقد كفوا عن ذلك منذ عدة سنين ـ يقدمون بعض الأغنام إلى البك جزية. وهم يحبون السلاح حبا جما ، والكثير من البارزين منهم يملكون المعدات الكاملة من الدروع.

(١) يتبع البلباسيون طريق غريبة في معالجة الجروح إذ يضعون الجريح داخل جلد بقرة إثر سلخها ويخيطونه عليه مستبقين رأسه خارجا ، حتى يبدأ الجلد بالتعفن. ويقولون إن هذه الطريقة لا تفشل مطلقا في دمل أبلغ جروح الرماح والسيوف.

١٥٢

ومن بين العوائل الحاكمة في كردستان عائلة (بهدينان) وعاصمتهم العمادية (١) وهي من أشرف العوائل ، بل وينظر إليها نظرة تقديس لانتساب أفرادها إلى الخلفاء ، ولكن نظرا إلى قدم اسم العائلة فقد تكون أقدم من الخلفاء عهدا (٢) ولا يجرأ أحد على استعمال أي آنية أو غليون يشبه ما يستعمله أمير تلك العائلة ، حتى ولا حامل غليونه حين يطلب إليه أن يولعه أو يختبره قبل تقديمه إلى سيده. ولشخص الأمير من القدسية ما يحمل العشائر في أشد المعارك أن يسقطوا السلاح من أيديهم إذا ما اقترب منهم ، ومع ذلك فإن سلطته معدومة ، أو قليلة جدّا على القبائل المحاربة الشديدة المراس التي تتألف منها رعيته. وهو لا يجبي أي مورد من موارد مقاطعاته ، ولكنه إذا أراد مبلغا من المال لأي غرض طارىء امتطى بغله وطاف على رؤساء القبائل ونزل عند كل منهم ليلة ، وعند ذلك لا يسعهم استجابة لحقوق الضيافة أن يرفضوا له طلبا ، وفي الصباح عندما يغادر مضيفه يتقدم رئيس القبيلة التي قضى عنده الأمير ليلته بمبلغ من المال كهدية له.

وهو يتمثل بأطوار الخلفاء العباسيين المتأخرين ، إذ يقضي يومه في عزلة ، فيقدم له خادم طعامه ويتركه حتى ينتهي منه. وبعد أن يتناول كفايته من الطعام يسوي ما تبقى في الماعون منه كي لا يلحظ أحد من أي جانب تناول طعامه ، ثم يدعو أحد الخدم ليرفع المائدة وليأتي له بالإبريق والطشت ليغسل يديه ، ثم يجيئه بغليون وينصرف عنه. والباشا أنيق في ملبسه ، وهو على الطراز الموصلي تقريبا. ويضع على رأسه شالا كشميريّا

__________________

(١) يسمي الأهلون العمادية (ئه ك بادان) أو (ئه ك به د ه ن) وهي على جبل وتضم (١٠٠٠) بيت تقريبا للمسلمين و (٢٠٠) دار لليهود و (٥٠) دارا للنسطوريين وبعض عوائل اليعاقبة والأرمن ـ راجع الملحق. (أما اليوم فيطلق الكرد اسم «آميدي» على العمادية كما يطلقون اسم «آكري» على عقرة ـ المترجم.

(٢) إنني أعتقد أن (زورو آتر) كان من بلاد العمادية.

١٥٣

يلفه حول طاقية حمراء منكسة إلى الوراء ، وتسمى هذه بالفيس (الطربوش). وإذا أراد أن ينعقد ديوانه دخل عليه الكهيا (١) أو رئيس الوزراء فيحييه بإحناءة على الطريقة الإيرانية ويتخذ مجلسه على مسافة احتراما له ، ويليه في الدخول عليه رئيس عشيرة (مه روري) ـ كذا ـ فيجلس إلى جانب الكهيا ثم يدخل رؤساء القبائل الآخرون المقيمون في حاضرة سلطانه (٢) وفق مكانة قبائلهم ، ويأمر الباشا عند ذاك بإحضار الغلايين ، ولا يدخل الديوان إلا خادم واحد ليوزعها. وإذا أراد الباشا انفضاض الديوان أمر بالقهوة. أما القهواتي فيسترق النظر من خلال النافذة ليقف على عدد الحاضرين كي يصب القهوة في فناجين وفق عددهم ويضعها في صينية ثم يدخل الديوان ويوزعها بالتتابع ، فينفضّ الجمع إلا إذا أراد الباشا أن يبقي من يريد في حضرته للبحث معه في بعض الأمور. ويظهر أن من مظاهر العظمة عند الأمراء البهدانيين الانزواء والاختفاء قدر المستطاع ، أما الرئيس الباباني فعلى عكس ذلك ، إذ إن من المفروض فيه أن يظهر أمام الملأ ما وجد إلى ذلك سبيلا ، وأظن أنه نادرا ما يتسنى له ساعة يختلسها ليتمتع بها.

والبعض من الأمراء البهدنانيين ومنهم والد الأمير الحالي مثلا ، قد غالوا في التخفي حتى أنهم حجبوا وجوههم أيضا بنقاب كلما خرجوا في سفر ، كي لا تقع النظرات الخبيثة على محياهم (٣) وتلك عادة جرى عليها

__________________

(١) إن الكهيا الحالي هو رئيس عشيرة (ني رووي). (والصحيح نه روه ـ المترجم).

(٢) يقطن البعض من رؤساء القبائل (العمادية) دائما أو أنهم يسكنون حيث يسكن الباشا. أما القبائل الأخرى فقد يوفدون رؤساءهم إلى الباشا مع بعض الهدايا بين آن وآخر وهذا لا يكون إلا ممن يكن للباشا احتراما شخصيّا.

(٣) بل على عكس ذلك يقال إنهم يحجبون وجوههم كي لا تقع أنظارهم على الخبائث والمحرمات ، وقد اتبع هذه البدعة بعض المتصوفة ، أو بالأحرى بعض المغالين في عهد قريب ـ المترجم.

١٥٤

المتأخرون من الخلفاء العباسيين كما روى (بنيامين التطيلي). وتتألف بزة ضباط الباشا وخدمه من دراعة سوداء من قماش العباء المصنوع في الموصل ، مزينة بعرى ذهبية ومن سراويل مخططة بخطوط عديدة الألوان وهذا هو الزي الشائع في (العمادية) و (جو له مه رك). وعندما يخرج الباشا إلى الصيد يغير ملابسه في منطقة الصيد قرب العمادية بملابس الجبليين من العوام ، يتسلق بها المرتفعات وينبطح أرضا في انتظار ظهور الماعز الجبلي مانعا نفسه عن رمي ما قل عمره عن أربع سنوات. ويسهل على أعين الخبراء معرفة أعمار هذا الماعز من بعد من قرونها. وهذا النوع من الصيد ، والصيد بالإشراك ، والفخاخ ، وبالرمي ، وصيد الحجل بالباز ، هي الرياضة الوحيدة في منطقة العمادية لكونها جبلية لا يمكن مزاولة القنص فيها على ظهور الجياد.

إن هواء العمادية في الصيف حار لا يلائم الصحة ولذلك ينزح السكان منها إلى مصايفهم على بعد ساعتين ونصف ساعة من المدينة ، في مرتفع تكسوه الثلوج طيلة الصيف. وللباشا في هذا الموقع دار صيفية ، أما الأهلون فيشيدون السيباطات فيه. ويخصص خلال الاصطياف حرس قوي لصد عدوان التياريين ، وهم عشيرة مسيحية مستقلة من الكلدانيين (١) يخشاهم المسلمون جميعا (٢). وهناك عدا البهدنانيين عوائل

__________________

(١) تسكن هذه العشائر المسيحية من الناحية الجغرافية حدود منطقة (حكاري).

(٢) لقد انبأني المطران حنا ، المطران الآشوري في الموصل ، بأسماء العشائر التالية منهم ، وهو يسميهم بالمسيحيين النسطوريين ـ تياري ، تكووب ، جه لو دي ، لي وي ني ، به رواري ، نه رووي. وتتألف عشيرتا (نه رووي) و (به رواري) من المسلمين والمسيحيين. أما الآخرون فكلهم نسطوريون ، وهنالك أربع قرى قرب العمادية يسكنها النسطوريون الذين يدعون بال (كران مووسى) وهم يلبسون قبعات من لباد. انتهت الحاشية : أما الأسماء الصحيحة لبعض هذه العشائر فهي :

(تخوما) لا (تكووب) ، و (جي لوو) لا (جه لودي). و (لي ون) لا (لي وي ني) ،

١٥٥

قديمة أخرى كانت لها القوة والنفوذ فيما مضى ، وقد حكمت أقساما مختلفة من كردستان. وعائلة (بوتان) التي تسيطر على منطقة تسمى بالاسم نفسه ، عائلة محترمة الجانب ، تضاءل نفوذها وشهرتها كثيرا.

والجزيرة عاصمة هذه العائلة ويقال إنها خربة الآن. وتقع منطقة (طور) بين (الجزيرة) و (ماردين) وهي منفصلة أو مستقلة عنهما. وعائلة (سوران) من العوائل العريقة في القدم أيضا كانت في يوم من الأيام أقوى عوائل كردستان ، بل كانت تسيطر على جميع منطقة (سوران). وكانت عاصمتها (حرير) التي يمكن مشاهدة الكثير من آثار تلك العائلة فيها قائمة على طراز معماري يفوق كل طراز آخر في كردستان في أي عهد من العهود. لقد انقرضت هذه العائلة وقامت على أنقاضها العائلة البابانية وغيرها من العوائل العديدة الأخرى التي كان رؤسائها جميعا من الإقطاعيين الذين يأتمرون بإمرة السورانيين. ومن تلك العوائل عائلة كوى سنجاق ، التي كانت لواء (سنجاقا) سورانيّا ، وقد أخرجت تلك العائلة منذ ذلك الحين من (كوى سنجاق) فدخلت ولا تزال تحت الحكم الباباني.

وكان البابانيون رؤساء بيشدر الإقطاعيين يأتمرون بأمرة السورانيين ، وكانت عاصمتهم في ذلك الحين (داره شمانه) ؛ وهي الآن قرية حقيرة لا تتجاوز بيوتها الثمانية عشر بيتا. لقد كانت العائلة البابانية عظيمة الشأن فيما مضى أكثر مما هي عليه الآن ، وعلى الأخص قبل تولي سليمان باشا حكومة بغداد حين كانت أكثر بقاع البلاد حتى (زه ن كه باد) و (مندلي) و (بدران حصان) تابعة إلى كبير البابانيين ، كما كانت (آلتون كوبري) و (أربيل) تحت سيطرته ، بل و (سنه) أيضا ، وهي إيالة كردية تكون تحت نفوذ الإيرانيين في الغالب.

__________________

ـ و (نه روه) لا (نه رووي) ، و (كرامون) لا (كران مووسى) المترجم.

١٥٦

أما عائلة (زهاو) فما كانت موضع احترام جم ، ولم يكن لها شأن عظيم في منطقتها ذاتها.

١٦ تموز :

بعد استشارات عديدة اخترنا أخيرا منطقة (قزلجه) على اعتبار أنها خير مكان لسكنانا خلال أيام الحر الشديد الذي بدأنا فعلا نشعر باشتداد وطأته في السليمانية ، فقررنا الرحيل إليها غدا. قضينا اليوم بالتهيؤ للسفر وبتوديع الباشا وعثمان بك وسليم بك وغيرهم من الأصدقاء. ولقد تبادلت والباشا حديثا شيقا استمر مدة تزيد على الساعتين وكان جلّه حول شؤونه الخاصة. وإني لأرجو من الصميم أن يزول الكرب عنه وأن يتمتع بهناء وسرور ، لكونه رجلا محبوبا كل الحب. لقد شق على أصدقائنا السليمانيين فراقنا عنهم هذه المدة القصيرة. وقد بذلوا كل ما في وسعهم لإقناعنا على البقاء في السليمانية. حقّا لم أعهد من قبل طيلة حياتي مثل حسن ضيافتهم وكرمهم.

عاد ده للي (سمعان) مساء اليوم من الموصل ومعه بعض العاديات (١).

__________________

(١) ده للي (سمعان) أو شمعون المجنون مسيحي آثوري استخدمه المستر ريج عدة أعوام ليطوف في البلدان لشراء المسكوكات والعاديات له ـ الناشرة.

١٥٧
١٥٨

الفصل السادس

الرحيل من السليمانية إلى الجبال ـ مضيق كويزه ـ الخيام تنصب في

كه ره دي ـ لطافة الموقع ـ الجلبة والضوضاء عند التحميل ـ

جبال شامخة ـ الكروم ـ الحبوب ـ بلاد جميلة ـ ضابط كبير

منطقة قزلجة ـ مغالطات مضحكة ـ صعود شاق ـ أولاد خالد بك ـ

معسكر في أحمد كلوان ـ الحاصدون يتغنون بفرهاد وشيرين ـ الجراد ـ

درجة حرارة الينابيع ـ الضفادع الخضر ـ لعبة غريبة ـ

الرحيل من أحمد كلوان ـ السفر إلى بيستان ـ الطنوف الاصطناعية ـ

بيستان غير صحية ـ مرض جماعتي كلهم ـ الرحيل من بيستان ـ بنجوين ـ

مضارب الجاف ـ الجماعات الرحالة ـ سيدة وخدمها ـ اليهود

* * *

١٧ تموز :

غادرنا السليمانية صباحا في الرابعة إلا ثلثا وسرنا على طريق (كويزه) ، لأنه أسهلها لاجتياز السلسلة ، أو بالأحرى لعبور التلال الجرداء التي تحد السليمانية من الشرق. و (كويزه) هو المضيق الجنوبي الأقصى الذي يفضي مباشرة إلى أعلى التلال ، ويليه في الشمال طريق (أزمر)

١٥٩

الذي يتجه نحو المدينة ، أو بالأحرى إلى موقع مدينة (قه لا جوالان) (١) القديمة ، ويليه شمالا طريق آخر يسمى طريق (قه يوان).

وصلنا إلى حضيض التلال بعد الرابعة بقليل ونحن نصعد صعودا هنا طيلة الطريق منذ رحيلنا من السليمانية ، ثم بدأ الارتقاء فورا في قاع مسيل جاف في بادىء الأمر ، ومن ثم على سفوح التل الشديدة الانحدار بنيسم سحيق جد ضيق. وفي الخامسة تقريبا بلغنا القمة وهي في ذلك المكان عبارة عن ضفة من الحجر الرملي تتصل بكتفين أخريين مرتفعتين من التل هما أكثر تكتلا ، ولم يزد ارتفاع القمة عنهما إلا بضع أقدام. والمنظر هنا منظر جميل ، فأمامنا سهل (سروجك) و (شاربازير) ـ أقول سهل لتمييزه عن التلال إذ في الحقيقة ليس في هذا السهل أي بقعة منبسطة ـ وينتهي السهل في اليمين أو في الجنوب بمضيق تحده من الشرق جبال عالية ، كانت الشمس تبزغ حينذاك من ورائها. ويلوح أن السهل كان يضيق في القسم الشمالي منه أو من ناحية (شاربازير) ، والمنطقة بكاملها محددة ومقسمة إلى طنوف ووديان ومضايق لا تعد ، كونتها سلسلة التلال المحيطة بها ، وكان بعضها كبيرا جدّا. وكانت السلسلة التي نسير عليها مكونة من الحجر الرملي تنحدر طبقاتها نحو الشرق وعلى سفوحها الشرقية الكثير من عليقات البلوط ، أما الأراضي التي كنا نشرف عليها فكانت على ما بدا لنا بقاعا من الأحراش والمزارع انتشرت على نحو جميل ترتاح النفس إليه. ثم أخذنا في الانحدار شمالا على سفوح الجبل الشرقية ، ولم يكن الطريق في انحدارنا سحيقا كما كان في الصعود. وصلنا في السادسة إلى أسفل الجبل وبذلك استغرق الصعود خمسا وثلاثين دقيقة ، والانحدار ساعة وعشر دقائق. وكان اتجاه مسيرنا

__________________

(١) جاءت في الأصل (قه ره جولان) وصحيحها (قه لا جوالان) يرجى الانتباه إلى ذلك كلما جاءت ـ المترجم.

١٦٠