رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

بداية الرحلة

٢١
٢٢

الفصل الأول

الرحيل من دار الإقامة ـ كيفية السفر ـ وصف جماعتنا ـ الزوابع ـ

كفري ـ الخرائب الساسانية ـ ضيافة رئيس عشيرة البيات ـ

منابع النفط في (طوز خورماتو)

* * *

بغداد ١٦ نيسان ١٨٢٠ :

تخلصا من حر صيف من أصياف بغداد الشديد ، عزمت هذا العام على زيارة جبال كردستان ، إذ قيل لنا بأننا سنلاقي فيها مناخا يختلف اختلافا كليّا عمّا هو في بغداد (١) ، ولما كانت كردستان بلادا غير معروفة

__________________

(١) إنه لمن الصعب أن أتصور أن الحرّ الذي يعم بغداد لمدة خمسة أشهر على وجه التقريب ، يضاهيه أي حرّ آخر في أي جزء من العالم ، وقد ندرك ذلك بعض الإدراك إذا ذكرنا بأن الأهلين في الأشهر من نيسان إلى تشرين الأول يضطرون إلى الالتجاء خلال حر النهار ، إلى السراديب ، وإلى النوم ليلا فوق سطوح بيوتهم ، أما غرف البيوت في تلك المدة ، فلا يمكن سكناها. وترتفع درجة الحرارة عادة في شرفة مفيأة إلى ١١٥ درجة ، وقد شاهدت ارتفاعها حتى ١٢٠ درجة في وسط النهار ، وإلى ١١٠ درجات في العاشرة ليلا ، وقد أزعجتنا كثيرا رياح السموم الحارة المحرقة ، وأما رائحتها فكبريتية قوية ـ الناشرة.

٢٣

في أوروبا إلا قليلا ، وكان لي هناك الكثيرون من المعارف من مواطنيها الذين وصلتني منهم الكثير من الدعوات الملحّة لزيارتهم ، فقد سرني أن تتاح لي فرصة أخرى لإرواء غليلي الذي لا تنطفىء ناره ، لمشاهدتي بلادا جديدة.

وإنني لأشعر في هذه المرة ، أن من واجبي أن أسوح بصفتي الرسمية. وهذا مما جعل قرينتي السيدة (ريج) تتجشم متاعب السفرة المنهكة في محمل مستور أو ال «تختروان» (١) ترعاها الخادمات وحاشية الحرم (٢). ولتخفيف المتاعب عنها على قدر المستطاع ارتأيت أن يرسل معها جواد تمتطيه عندما لا تتعرض إلى الأنظار. واضطررت شخصيّا بحكم واجبي ومركزي إلى استصحاب الكثير من موظفي دار الإقامة وخدمها ، واستصحاب من طلب السماح له برفقتنا ، كي نؤلف جماعة كثيرة العدد. وتخلصا من النفقات الواجب صرفها على الجنود المحليين الذين يرافقوننا لحمايتنا في الطريق ، استصحبت حرسا مؤلفا من خمسة وعشرين سباهيّا وضابط صفهم (سوبيدار) ، وهم الذين خصصتهم حكومة (بومباي) كحرس خاص لدار الإقامة. ولهؤلاء الحراس حرمتهم ، وهم رهط من الرجال البواسل ، وكانوا جذلين برحلتهم هذه ، على ما لاح لي.

__________________

(١) هذا ما يعني كلمة (صب) في العبرية ، التي أضحت عندنا في التوراةLitter أي هودج ، كما جاء في الفقرة ٢٠ من الإصحاح ٦٦ ، اشعيا. وقد جاء في النسخة السبعينية (Septuagint) «هودج بغل». تلقت الناشرة هذه النبذة من صديق لها. (وقد جاء وصفه في رحلة ابن جبير في رحلته من بغداد إلى الموصل كما يلي : ـ «... في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين الواحدة أمام الأخرى ...» ـ (المترجم).

(٢) تعني كلمة «الحرم» القسم النسائي من عائلة تركية ، وتستعمل هذه الكلمة المنفردة عندما يتجنب المسلم ذكر أهل بيته من نسوته أو بناته. والكلمة تعني أيضا ذلك القسم من الدار الذي تسكنه الإناث. والأتراك حذرون جدّا في التكلم شخصيّا عن ـ أقاربهم من النساء بدرجة أنهم يضطرون أحيانا إلى الإشارة إليهن بقولهم «إن بيتي مريض» أو «إن بيتي يرسل تحياته إلى بيتك».

٢٤

وكان الباشا ذا لطف عميم في بذل كل ما في وسعه لتسهيل سفرتنا ، وتزويدنا بالفرامين والأوامر والرسائل إلى ذوي الشأن ضمن منطقته ، وبتوصيات حارة إلى باشا كردستان ورؤسائها.

اخترت قرية (الدوخلة) الخربة الواقعة على بعد واحد وعشرين ميلا شمالي بغداد ، كمثابة أو محل ملاقاة عام للحرم والأمتعة والحرس وغيرهم من الجماعة الذين لم يرافقوني شخصيّا إليها.

رحلت من بغداد في ساعة متأخرة من اليوم ، بالنظر إلى زيارة الكثيرين لي من المودعين راجين لي سفرة ميمونة. ولم يكن لهذا التأخير من أثر يذكر ، إذ كانت المرحلة الأولى لا تتجاوز الخمسة أميال في مداها ، وهي بستان صديقي القديم المضياف الحاج عبد الله بك ، الذي رجاني أن أجعل من داره هذه المراح الأول.

امتطيت صهوة جوادي بعد الخامسة بعد الظهر توّا ووصلت البستان بين السادسة والسابعة ، فاستقبلني البك ببالغ الحفاوة ووجدت أنه قد أعد لي وليمة تركية فخمة جدّا ، كما واستقبلت صالحة خاتون السيدة ريج (١) صديقتها استقبالا مضاهيا ، وهي إحدى أرامل سليمان باشا الذي حكم بغداد مدة تنوف على العشرين عاما ، وتوفي في عام ١٨٠٤. ومع أن سليمان باشا كان مملوكا كرجيّا لسلفه ، فقد كان من ذوي الكفاءات المحمودة ، فبقوته وسرعة قراره وحكمته أخضع العشائر العديدة ضمن منطقته ، وخشيه الآخرون خارجها ، فتحسنت الزراعة والتجارة ، وازدهرت (بغداد) ازدهارا عظيما إبان عهده الأبوي الرشيد. وقد خلف ثلاثة أولاد كانت لهم مكانة ودية في قلوب أهل المدينة إكراما لوالدهم ، كما كان لهم مكانة عز لدى من خلف والدهم في الباشوية. وعاش الأخوان الآخران كل مع أمه عيشة مترفة ، بقدر ما يسمح رغد العيش

__________________

(١) راجع في الملحق «شذرات من مذكرات السيدة ريج».

٢٥

لأمثالهما من ذوي الشأن وهم في مكان تراقبهم فيه أعين الحساد من الحكومة ، سيما حين أصبح الأخ الثالث وهو الأكبر ذا منزلة يخشى منها كثيرا ، وقد نجح أخيرا في الحصول على الباشوية بالغش والخداع ، ونعم بعز مركزه أعواما قليلة إلى أن تغلب عليه قاتله صهره داود ، الذي تسلم بعد ذاك فرمانا من الباب العالي يؤيده في الحكم.

١٧ نيسان : استأذنت الحاج عبد الله بك ورحلت من داره الريفية في السابعة والربع صباحا وكان الطريق يمر بأرض لا تروق للمرء مطلقا ، فوصلت إلى مخيمنا في الواحدة إلا ربعا ، فوجدته قائما هي (الدوخلة). أما قرينتي فقد وصلت إليه بعد ساعة. وطفت بعد الظهر في المخيم للتأكد من تجمع الجماعة وراحة أفرادها. إن إسكان هذا العدد من الناس في القرى الواقعة على الطريق لم يكن أمرا ميسورا ، ولهذا اضطررت إلى استصحاب الخيم وإلى استصحاب رهط من العرب لنصبها وتقويضها مساء وصباحا. وكانت الخيم أربع عشرة أو خمس عشرة خيمة وهي أقل ما نكتفي به لإيواء جماعة يتراوح عددها بين الخمسين والستين (١). أما

__________________

(١) كان (آغا ميناس) الضابط الرئيس الأهلي لدار الإقامة قائد هذه الجماعة المؤلفة من مسيحيين ويهود وأتراك وأرمن وفرس وهنود وهو من عائلة أرمنية لها مكانتها خدمت الحكومة البريطانية مدة طويلة. إن المنصب الذي يشغله وكفاءته الشخصية جعلاه أن يكون مدير إدارة المستر ريج البيتية في بغداد وقد استمر خلال هذه الجولة على القيام بالواجب ذاته ، وكان أمين المال والمرافق ، وقام بخدمة أضيافنا العديدين في طريقنا ، وأدار شؤون المخيم ، وزبدة القول إنه كان الرجل الأوحد الذي ينتظر الكل صدور الأوامر وطلب المعونة منه ، ومع ذلك لم يستطع إرضاء أحد لأنه لم يستطع الإتيان بالمستحيلات. وكان يتحلى بالصبر الجميل ، وروح الدعابة ، اللذين يقتضيهما المنصب الذي يشغله. وما كان يتعب في مسعاه لإراحة الكل ، بل كان متحمسا لأداء واجبه كل التحمس ـ الناشرة.

٢٦

الضجيج والارتباك فلم يفارقا المخيم طيلة النهار حتى استقر كل من الجماعة في مكانه وحتى استقرت الأمور كما يجب. وأمطرت السماء في الليل مدرارا فتعرض لها البغالون والخيامون المساكين ، والحيوانات ، ذلك إذ لم يفكر أحد قط بحاجة هؤلاء إلى الخيام.

١٨ نيسان : ر

كبت والمستر (به لي نو) (١) في السادسة والربع وبرفقتنا عدد من الخيالة الخفيفة من حاشيتنا ، قبل أن يتهيأ الآخرون للرحيل من المخيم. شعرت بارتياح كلي لتخلصي من الارتباك ومن ضوضاء عدة لغات متباينة. فالضوضاء ، وصهيل الخيل ، ودقات أجراس البغال ونباح الكلاب كلها من متممات المخيمات الشرقية عادة.

وتبعتنا رفيقتي من بعد ، بتختروانها مع حاشيتها النسوية ، وهن في الكجاوات (نوع من المحامل تحمل على جانبي البغل) ومع بعض الخيالة للحراسة.

تقضي علينا العادات ، أو المراسيم التركية أن نفترق بجماعتنا تمام الافتراق. تركت الخيار للقوم ليتبعوا عاداتهم ، وينظمونا وفق تقديرهم للمراتب والعادات. فإنني عودت النفس على الدوام على اتباع التقاليد

__________________

(١) المستر (به لي نو) ألماني من (توين غه ن Tubingen). من مقاطعة (سوآب ياSuabia) وقد تعرف عليه المستر ريج في (فينا) حيث كان في الكلية. إن شغفه بالأدب الشرقي ، ورغبته في زيارة الشرق جعلاه يقترح على المستر ريج بوساطة (فون هام مه ر) مؤرخ تركيا ، وهو صديق معروف ، أن يستصحبه معه في عودته إلى بغداد. وقد سرّ ريج لتمكّنه من إسعاف رغبته بمنحه منصب السكرتير الخاص له.

لقد كان شابّا محبوبا ، مثقفا ثقافة عالية ، يميزه الحماس الذي عرف به مواطنوه ، ومواظبتهم ، واستقامتهم. وكان ذا قسط وافر من العلم ، مولعا بدراسة الأجرومية واللّغة ، متحمسا لتتبعاته ، ومكرسا وقته لها بروح ألمانية حقة.

٢٧

المحلية على قدر ما يرتاح له ضميري ويقتضيه شرف بلادي. فالأتراك متمسكون بالمراسيم ، وهم قوم يحرصون كل الحرص على المظاهر والأبهة ويؤمنون بضرورتها ، وينظرون إلى كل من يتهاون في أمرها كما لو كان وضيعا وجاهلا ، وغير معتاد على آداب المجتمع الراقي. وفوق كل ذلك فإنهم يستنكرون تعرض النسوة للأنظار ، والأسماع. وإنني لأميل إلى الاعتقاد بأن التركي الذي يتغلب على اشمئزازه من مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون ممن أضاع البعض من خصاله الطيبة. ومهما كان الأمر لقد ثبت ذلك لي فيمن تعرفت عليهم. وإني لمتأكد التأكد كلّه بأننا لم نحظ بالحرمة التي لاقيناها واللطف الذي شملنا من المسلمين إلا لاحترامنا عاداتهم في هذه النواحي وعدم مسّنا أحاسيسهم بإنكارنا عليهم معتقدات لا تضر ، ولا ينتظر منا أن نقلعهم عنها على كل حال.

أصابنا التعب الشديد في مسيرة يومنا هذا من جراء الأوحال. وبين الثامنة والتاسعة ترجلنا لتناول كوب من القهوة في مكان اسمه (محسن باك) (١) وهو ضريح إمام صغير كائن على قناة متشعبة من الخالص (٢) وقد وصلنا إلى موقفنا في الثانية عشرة إلا ربعا ، وكان في قاع قنال مندثر.

١٩ نيسان :

هبت بعد ظهر البارحة العواصف من الشرق والشمال الشرقي ، وفي السابعة والنصف هطلت أمطار شديدة ، وأبرقت السماء وأرعدت. ثم خفّت العاصفة ليلا ، وتبددت الغيوم بعض التبدد ، إلا أنها أعادت الكرة علينا بعد منتصف الليل بعاصفة أقوى شدة ، وبمطر غزير وبرق

__________________

(١) جاءت تهجئة مثل هذه الكلمات في الأصل بطريقة غريبة عن التهجئة المتبعة في الإنكليزية في الوقت الراهن. ويشعر الإنسان عند تلفظها بعجمة محسوسة ، ففي (Mukhsen Pauk) (مخسن بوك) (الخاء) Kh (حاء) h ، و (الواو) au (ألف) ـ المترجم.

(٢) الخالص ، قنال يتشعب من ديالى ويصب في دجلة.

٢٨

ورعد دام حتى الصباح ، فثقلت الخيام حتى أمسى من المحال تقريبا تقويضها ولفها وتحميلها ، كما غمرت مياه الأمطار وجه الأرض فجعلتنا نقلع عن فكرة استئناف السفر في هذا اليوم. وكانت الأرض التي ضربنا بها خيمنا في القنال المندثر ملأى بالعقارب. فإن بيطرنا عندما كان يمهد مكانا منزويا في ضفة القنال ، حسبه ملائما لنومه فيه عثر على أربع عقارب كما عثرت الجماعة على عدد وفير منها حول الخيم. وهذا أمر مألوف في جميع الطنوف والأركام في هذه البلاد ، فهناك طنف بالقرب من (شهربان) يعج بالعقارب. وهبت في الرابعة بعد الظهر ريح غربية تغلبت على الريح الجنوبية الشرقية.

درجة الحرارة : ٦٦ د في السابعة ق. ظ و ٧٦ د في الثالثة ب. ظ و ٦٦ د في العاشرة ب. ظ.

٢٠ نيسان :

استمر هطول الأمطار الشديدة طوال الليل مما أدى إلى إزعاج جماعتنا المساكين إزعاجا شديدا ، وأمسى الرحيل في هذا اليوم أيضا من الأمور المتعذرة. وبدأ الرعد والمطر عند الظهر ولكنه لم يدم كثيرا ، إلا أن الرعد دام من الاتجاه الشمالي الغربي من الواحدة حتى الثالثة. وهبت أغلب العواصف من شمال مخيمنا. ثم تشتتت الغيوم وانجلت السماء مع هبوب ريح خفيفة من شمال الشمال الشرقي. وإنني لا أتذكر مطلقا موسما عجيبا كهذا ، أما تأثيره فينا نحن المسافرين فكان مزعجا. وكانت درجة الحرارة أثناء العاصفة ٦٦ د.

٢١ نيسان :

عمّ البرق الأفق طوال الليل ، والرعد بعيد عنا ، الأمر الذي أقلقنا كثيرا وكانت الريح عند الصباح شرقية وجنوبية شرقية.

٢٩

استأنفنا المسير في السادسة والنصف تحت رذاذ من المطر ، أتت به ريح جنوبية شرقية. ورافقتنا غيوم المطر ردحا من الزمن ، ولم تبخل علينا بتفريغات بين آونة وأخرى. وكان معنا في رحلتنا اليوم عشرة أو خمسة عشر قرويّا لترميم الجسور أو تمهيد الطرق الرديئة للتختروان. وكان مسيرنا صعبا ، خضنا فيه المياه والأوحال في أغلب أقسام الطريق حتى وصلنا إلى (جوبوق) في العاشرة قبل الظهر ، فنزلنا بأرض مضربنا القديم (١) وقد وجدناها جافة. وسبقنا التختروان في المسير بنصف ساعة ، لكنه وصل بعدنا بعشر دقائق. ومن محاذير السفر مع جماعة كبيرة هو أن القرويين يخفون كل ذخيرة جيدة نسبة قد تكون في حوزتهم حذر سلبها منهم ، وعلى الأخص إذا علموا أن بين الجماعة من هم من موظفي الحكومة.

عادت السماء فتلبدت بالغيوم مساء ، وبدأ البرق بعد الغروب في الشمال والشمال الغربي ، وسرعان ما هب نسيم عليل من ذينك الاتجاهين ولكنه ما إن هب إلا وتغلبت عليه ريح قوية من الجنوب الشرقي ، ثم غدا الأفق أسود يحاكي جناح الغراب في لونه وعاد البرق يومض في جميع الآفاق وميضا متتابعا لا أذكر له مثيلا. ولكن الرعد لم يزل بعيدا عنا ، أما الأفق في الغرب فكان حالكا ، وانعدام الضوء كان يضاهي ما تخيله اللورد (بايرون) في حلمه الرهيب عن انطفاء نور الشمس. ما كنا نشعر برهبة ذلك الظلام إلا عند الفترات القصيرة بين ومضات البرق ، حيث كان يظهر لنا ساطعا بنوره في ذياك المكان الحالك ، وكنا نرى أسهم النور تصيب الأرض بين آونة وأخرى. وكان وهج البرق كلما أنار الأصقاع ، أظهر لنا حارسا هنديّا متكئا على بندقيته ، وخيمة احتمت بها جماعة من البغالين ، أو رهطا من المسافرين المتعبين

__________________

(١) يشير المستر (ريج) بذلك إلى سفرة قام بها سابقا إلى جنوب كردستان ليبحث في خرائب (قصر شيرين) و (حوش كه ره ك) ، وفي الملحق نجد مذكراته فيها.

٣٠

يشقّون طريقهم عبر الصحراء الموحشة. لقد كان المنظر من المناظر التي يعتز بها الشعراء الاعتزاز كله. إلا أنه جعلنا في حال مؤلمة من ترقب ما سنلاقيه من العواصف أو السيول التي لن تقو على مقاومتها خيامنا الرقيقة الممزقة بعض التمزيق. وأخيرا لاح أن العاصفة انطلقت نحو الجنوب الغربي منا بعد أن ناوأتها تيارات معاكسة عليا صفعتها من كل الجهات ، ولم يصبنا منها إلا جزء من زخة مطر شديدة استمرت ثلاث ساعات (من التاسعة حتى الثانية عشرة) ثم أعقبتها هبات ريح جنوبية شرقية قوية. أما البراغيث والبعوض ، وذكراي لمتاعبي في بغداد فقد حرمتني لذة النوم حتى الصباح تقريبا حيث استسلمت إليه آنذاك.

٢٢ نيسان :

عندما نهضت في الخامسة والنصف من صباح اليوم وجدت السماء قد ارتدت رداء رصاصيّا غامقا ، ينذر بيوم ممطر على وجه التأكيد فتخليت عن فكرة استئناف السفر. وقد بدأ المطر يتساقط في جو بارد منذ السادسة والنصف تقريبا فاستمر طيلة النهار مما خيب آمالنا الخيبة كلها. ثم صحت السماء عند الغروب وهبت ريح جنوبية شرقية.

درجة الحرارة ٦٣ د في السابعة ق. ظ ، و ٦٧ د في الثالثة ب. ظ ، و ٦٢ د في العاشرة ب. ظ.

٢٣ نيسان :

ليلة صافية بديعة ، ونسيم عليل من الجنوب الشرقي. هبت عند الصباح ريح شمالية غربية ، ولكن ما كادت تهب إلا وتغلبت عليها ريح جنوبية شرقية أقوى.

امتطينا صهوات الجياد في السادسة والربع ، فشاهدنا تلال خرائب بالقرب من (جوبوق) ، إلا أن المجال لم يكن فسيحا لنا للتلبث

٣١

ومعاينتها. واضطررنا إلى العدول عن طريقنا وإلى التوجه نحو (ديالى) تجنبا من البرك التي كونتها مياه الأمطار يوم أمس. وكانت سلسلة جبال (زاغروس) الممتدة إلى (طاووق) تؤلف الحدود النهائية لمجال رؤيتنا حالما تركنا قرية (جوبوق) الكائنة في أرض منخفضة بعض الانخفاض.

وصلنا في التاسعة إلى (ده لي عباس) فوجدنا أن الخراب قد حل بالمنزل ـ الخان ـ (Post ـ House) تماما فهجر ، فنصبنا خيمنا بين المنزل وبين قنال (الخالص) حيث كان يوصل ضفتيه جسر ذو قوسين وقوس إضافي عند كل من رأسيه احتياطا لطوارىء الفيضان ، وكان اتجاه مسيرنا العام شمالا. أما التختروان والأمتعة فقد سارت في السادسة والنصف فوصلتنا في العاشرة. لقد أخبرنا القرويون بأن الأمطار هطلت عندهم مدة ثمانية أيام متوالية فغمرت الأرض بتمامها. وفي ليلة الثلاثاء شوهد من هذه القرية سقوط ثلاث صواعق ، أو شهب تخر بسرعة متناهية من الغرب نحو تلول حمرين. وفي الحقيقة إن كثرة التفريغات الكهربائية كانت هائلة. ولم يسبق لي أن شاهدت برقا متواصلا ، ساطعا طوال الأيام منذ أن ساءت الأحوال الجوية. وما كدنا نصل مضربنا إلا وهبت الرياح الشديدة من الجنوب ثم تبدلت إلى الغرب الجنوبي عند المغيب. ودام البرق على شدته طوال الليل من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي دون رعد. وكان الليل هادئا ، والغيوم خفيفة.

الحرارة ٦٠ د في السادسة ق. ظ ، و ٧٤ د في الثالثة ب. ظ و ٦٤ د في العاشرة ب. ظ.

٢٤ نيسان :

لم نتمكّن من طرق الممر المباشر في تلال حمرين ، إذ كانت جميع السبل بين التلول و (ده لي عباس) مغمورة بالمياه في الغالب ، وكان مستنقع (البو فرج) المليء بالمياه عن يسارنا يمتد حتى (دلتاوه) ، فانتهجنا

٣٢

ممرنا القديم الذي سرنا به في رحلتنا السابقة. ركبنا في الخامسة والنصف فخضنا البرك العديدة والأوحال الكثيرة نحو الممر فوصلناه في السادسة والنصف ، وهذا الخانق (القطع في الجبل) الذي ذكرناه فيما مضى ، فتحه جد فيض الله آغا (صديق لي في بغداد) في عهد عمر باشا ، واسمه (صاقال طوتان) ومعناه القابض على اللحية. وفي السابعة والنصف اجتزنا الطريق إلى (بارادان) وهنا يتفرع إلى اليمين حيث يوصلنا إلى القرية التي نقصدها ، إلا أننا علمنا أنه أمسى من الصعب جدّا خوض (نارين) لارتفاع مياهه من جراء الأمطار الهاطلة أخيرا. وفي الثامنة والربع اجتزنا الجبال فتركناها على يسارنا حتى وصلنا جسر (نارين) في العاشرة والثلث. فرأينا أن مياه هذا النهر كانت قد ارتفعت إلى ما يقارب العشرة أقدام ، ولكنها انخفضت ثانية انخفاضا كليّا تقريبا. فشربنا القهوة هنا ثم استأنفنا السير في الحادية عشرة ، بمحاذاة النهر لا على الطريق المباشر تجنبا من أوحال عميقة لتربة نطرونية ـ نايتروس آزوتيه ـ تركناها عن يميننا.

وفي الواحدة إلا ثلثا وصلنا إلى (التلة السوداء) (قه ره ته به). أما التختروان فتحرك في السادسة والتحق بنا في الثانية والنصف. وسبب تأخره سيره من (نارين) باتجاه مستقيم موحل عوضا عن استدارته متجنبا الأوحال كما تجنبناها.

ففي الناحية الجنوبية من القرية وعلى اتصال بها ، وبالقرب من مخيمنا ، طنف مرتفع تعلوه مقبرة صغيرة ، يسميه الأهلون (نماز قيلان ته به) أو تل المصلى ، وهو المصلى الذي يؤمّونه للصلاة في العيدين. صعدت الطنف لتسجيل بعض الاتجاهات بالقنباص (البوصلة) فلاحظت من فوري بأن الطنف اصطناعي ، الأمر الذي جعل (آغا سيد) (١). ينقب

__________________

(١) السكرتير الإيراني للمستر (ريج).

٣٣

فيه ، وما شرع بالتنقيب إلا وعثر على فخارة رميم وفيها بعض العظام وهي كالفخارات المعثور عليها في (بابل) و (سلوقية ـ (Seleucia وعلى أثر استمرارنا في التنقيب عثرنا على عدد آخر منها ، إلا أنها كانت هشة لا يمكن إخراجها من الأرض إلا مهشمة. وكانت فتات الفخارات متناثرة على وجه الأديم ، وسطح الطنف مليئا بها وإني أعتقد والحالة هذه بأن هذا الطنف ما كان إلا دخمة (Dakhma) أو مرقدا يلقي الفرس عبدة النار موتاهم عليه ، ثم أصبح مدفنا ، ومصلى للمسلمين. وأخبرني الأهلون بأنهم كانوا يعثرون في هذا الطنف أحيانا على بعض الحلى الفضة الصغيرة ولكن لم يكن لديهم نماذج منها. ويقع هذا الطنف في أقصى القرية من الجنوب ويتراوح ارتفاع أعلى قمة منه بين ١٥ و ٢٠ قدما عن سطح الأرض.

درجة الحرارة ٦٠ د في السادسة ق. ظ ، و ٧٤ د في الثالثة ب. ظ ، و ٦٤ د في العاشرة ب. ظ.

٢٥ نيسان :

سرنا في الخامسة والنصف فوق تلول حصوية ، تقع (قه ره ته به) على منحدرها الغربي وكان المنحدر وهو ضلع من التلول ذاتها بسيط الميل جدّا ، ينتهي عند واد صغير. ومن هذا الضلع يبدأ النزول بمنحدر طويل إلى جسر (جمن) الذي وصلناه في السابعة والربع. وبعد اجتيازنا مسيلا عريضا في التاسعة والدقيقة العاشرة صباحا ترجلنا لشرب القهوة بعيد ارتقائنا مرتفعا بسيط الميل أيضا. وفي العاشرة والثلث استأنفنا المسير فوصلنا (كفري) في الحادية عشرة.

وفي (كفري) لم نجد الضابط ـ رئيس القرية ـ وقد خرج لاستقبالي مع خمسة عشر خيالا عند المسيل ، إلا أننا أضعنا بعضنا البعض في شعاب منحدرات التلول ، أما التختروان فسار في السادسة ، والتحق بنا في الثانية

٣٤

عشرة. وكان عبور (كورده ره) أو واديها صعبا شاقا. واستغربت الاستغراب كله من وجود جالية يهودية صغيرة وكنيس لها في (كفري). والناس هنا يأكلون بصلات نبات يجمعونها بكثرة من جميع الأنحاء ، وحجمها كحجم بصيلات ال (Shallot) تسمى بال (جه زه دوم ـ (Chezedum وهي تؤكل بعد شيّها قليلا وطعمها طعم الكستناء (١).

درجة الحرارة ٨٢ د في الثالثة ب. ظ ، و ٦٤ د في العاشرة ب. ظ.

٢٦ نيسان :

خلال مسيرتي مساء البارحة ، إلى الجرف الواقع وراء (كفري) ، سمعت صدفة بخرائب تدعى (قه ره أوغلان) فاتجهت إليها من فوري لمشاهدتها. وفي صباح اليوم رجعنا إليها ومعنا جماعة من القرويين يحملون المعاول والمجارف فمكثوا عندها مدة أربع ساعات يحفرون وينقبون حولنا ، وفيما يلي وصف مختصر لتلك الخرائب :

على بعد نصف ميل إلى الجنوب الشرقي من (كفري) وفي قاع المسيل ، معالم جدران واطئة أو أسس جدران كشفت عنها الأمطار التي هطلت أخيرا. وجدت في أحد الجدران قطعة من الخافقي (معجون المرمر المطلي) المنقوش. وكنت حريصا لأحفر كثيرا في هذه الخرائب لأقف على حقيقة الأثر وتاريخه. وبنتيجة الحفر كشفنا عن غرفة صغيرة ، أو بالأحرى عن بقاياها وهي جدار ارتفاعه أربعة أقدام تقريبا ومدخل. فالغرفة صغيرة لا تتجاوز سعتها الاثني عشر قدما مربعا ، والجدار مبنى من أحجار جبسية غير منحوتة ـ كأحجار قصر شيرين ـ مملوطة بالجبس ، وقد نقش الملاط بمجاميع. واستخرجنا بعض القطع من الجبس وعليها نقوش ورود أو نقوش عربية الطراز ، وكان لون النقوش أحمر براقا أما لون

__________________

(١) تسمى في هذه الأنحاء في يومنا هذا ، ب (جه ده نه) ـ المترجم.

٣٥

خطوطها الأساسية فأسود ، ولون سطحها لون الجبس نفسه. وكانت هذه الألوان جميعها كأنها حديثة العهد نضرة. ولما كانت الجوانب خالية من أي أثر من النقوش ، يخيّل إليّ بأن تلك القطع إنما هي من شظايا السقف. وعثرنا على بعض القطع من الفحم النباتي أيضا. وكشفنا عن هذه الغرفة وعن قسم من غرفة أخرى. ويظهر أن هذه تؤلف قسما من سلسلة من حجرات تمتد قليلا إلى غرب الجنوبي الغربي وإلى شرق الشمال الشرقي ، وقد ظهر أن هنالك أثرا لخمس أو ست حجر منها وأنها في صف منفرد ، وأن الجانب الشمالي منها قد أسند بدعائم صغيرة مدورة.

وإلى شرقي ذلك ، تحت التلول الكائنة على حافة المسيل (وقد تآكل الوجه الغربي منه) رابية مرتفعة وسيعة جدّا ، بهيئة مربعة استخرج العمال منها عددا من الفخارات وجاؤوا إليّ بقطع منها. وكانت من خزف خشن طلي داخلها بطلاء أسود تشبه ما عثر عليه في (سلوقية) و (بابل) تمام الشبه. ولديّ سراج خزفي صغير عثر عليه هنالك ، وهو يشبه الأسرجة التي يستعملها القرويون في هذه الأيام.

وكثيرا ما يعثر على المسكوكات الذهب والفضة هنا ، والقرويون يميعونها من فورهم. وإني لأشعر بأسف شديد لعدم تمكّني من مشاهدة أية قطعة منها ، ولو شاهدت واحدة منها لكونت فكرة أفضل وأعم عن أزمنة تلك الخرائب. هذا وإن الجرار وفخارات الرميم تغريني على أن أنسبها إلى عهد الساسانيين.

ويوجد على قمة هذه الرابية آثار أبنية ، ومن قمة الرابية على طوار سفوحها حتى حضيضها ومن ثم حتى قبالة (كفري) توجد آثار أبنية قديمة أيضا ، الكثير منها يحتوي على سهاء ـ طوابق أرضية ـ (Basement) مربعة ـ كسهاء خرائب (قصر شيرين) و (حوش كه ره ك) ـ وإن لم تكن مرتفعة عن سطح الأرض كثيرا. وسعة الخرائب هذه تقارب الميل طولا وربع الميل عرضا. قمنا بالحفر في أماكن عديدة من هذا المحل ولم نعثر على شيء.

٣٦

وهنالك أيضا آثار جدار عند الضفة الغربية من المسيل ، وكذلك إذا عبرنا المسيل عبورا مائلا نحو (كفري) وجدنا أنقاض أبنية صلبة ضخمة قوضتها السيول. ويظن القرويون أنها بقايا سد أنشئ عبر المسيل ، إلا أنني أعتقد شخصيّا أنها أنقاض سور المدينة. أما طرازه فيضاهي طراز الأقسام الأخرى من الخرائب شيد من حجر غير منحوت وبني بناء قويّا بالنورة. فبقاياه الموجودة في وسط المسيل تظهر لنا بوضوح أن المسيل ما كان في مجراه الحالي عندما كانت المدينة قائمة. ويحتمل حقّا أن السيول قد استغلت للزراعة حينذاك.

وينسب الأهلون تلك الآثار إلى ال (كاوور) أو الكفار. إن اطلاعنا الناقص عن الإمبراطورية الساسانية لا يمكننا في الحقيقة من أن نقول عن هذا المحل شيئا. وإني لا أشك في أن تكون له أية صلة بحروب الرومانيين مع تلك الإمبراطورية ، تلك الصلة التي بها وحدها نتمكّن من الوقوف على بعض الأمور المتعلقة بهذا المحل.

وفي شمال الشمال الغربي من أعالي المسيل يوجد بعض آثار تنقيب في صخرة تسمى (بيوت الكفار). فذهب المستر (به ل لي نو) لرؤية البعض من تلك الآثار في التلول وهي على بعد ١٠ دقائق للراكب من أقصى الجنوب من الخرائب ، فوجد بعض غرف مدافن كشف عنها ولها أبواب منخفضة جدّا ، وفي داخلها ثلاثة أماكن للجثث ، ذات سعة صغيرة طولها خمسة أقدام تقريبا. إن أسس هذه الحفريات تشبه أسس مدافن الأخمنيين (AchAEmenian) في (نقش رستم) ، ولكن لا أثر عليها أو كتابة أو نقش. وتوجد إلى مسافة ثلاثة أميال تقريبا من الخرائب وعلى قمة تل ، آثار بناء ينعته الأهلون ب (قيز قلعه سي) أي حصن الفتاة ، وجد فيه بعض الفخارات والعظام. وقد شاهد المستر (به ل لي نو) إحدى الفخارات أيضا. وليس في هذا المكان عدا ذلك ما يستحق الذكر ، وهو يقع تقريبا قبالة (اون ايكي إمام) الأئمة الاثنا عشر.

٣٧

عند رجوعنا إلى مضربنا ، وجدنا رسولا من محمود باشا (١) بانتظارنا. وقد جاءنا مساء الأمس مراسل منه يستفسر عن وصولنا ، وليقف على الطريق التي نزمع سلوكها. وقد سافر كلاهما صباح اليوم قاصدين السليمانية ، حيث سيرسل منها الباشا رائدا «مهماندار» ، يستقبلنا في (قه ره حسن) ، وطريق (قه ره حسن) هو الذي استقر رأينا على سلوكه أخيرا لسهولة سير التختروان عليه.

وفي كفري بعض النخيل ، يقال إن التمر لا ينضج فيها بخلاف (طوز خور ماتو). وخلال مكوثنا في كفري أهارت المياه جوانب عظيمة من الجروف.

درجة الحرارة ٨٢ د في الثالثة ب. ظ ، والريح شمالية غربية.

٢٧ نيسان :

ركبنا صباح اليوم لمشاهدة خرائب (اسكي كفري) الواقعة في الجنوب الغربي من (كفري) ، وعلى مسافة ساعتين في السهل. كنت أظن على الدوام أن خرائب (اسكي كفري) هي في الحقيقة المحل الذي كانت مدينة (كفري) قائمة فيه فيما مضى ، ولكنني وجدت الآن أن (كفري) كانت ولا تزال في مكانها الراهن ، وأن هذه الخرائب إنما هي تراث أزمنة الكاوور. ومررنا ونحن في طريقنا نحو هذه الخرائب بالكثير من الطواحين وهي كأبراج صغيرة في وسط جنائن كفري ، تديرها سواق اصطناعية صغيرة.

وتقوم على مقربة من (اسكي كفري) رابية اصطناعية جسيمة ، كرابية (مجيليبه) (٢) ، وهي ذات سفوح شاقولية تقريبا إلا حيث التآكلات

__________________

(١) باشا السليمانية.

(٢) إحدى خرائب (بابل) راجع الصفحة ٢٨ من «مذكرات في خرائب بابل» بقلم كلوديوس جيمس ريج.

٣٨

العميقة أو الأخاديد التي أحدثتها الأمطار. واكتشف أخيرا في أحد هذه الأخاديد قبو صغير مشيد بالطابوق الخشن الشواء فيه فخارات رميم عديدة عثروا في بعضها على مسكوكات ذهب لم أوفق في الحصول على واحدة منها. وقد انطمر القبو تقريبا بانهيار الأتربة أو الأركام التي تتألف منها الرابية. وطول هذه الرابية من الشمال إلى الجنوب تسعمائة وستون قدما ، أما عرضها من الشرق إلى الغرب فأقل من ذلك بقليل ، وارتفاعها سبعة وخمسون قدما. وهذه الأبعاد وإن كانت تقريبية ، فباستطاعتنا اعتبارها مقاربة للحقيقة ، وقد قاسها النجار وساعده في ذلك آغا سيد. وإنني ذهبت في خلال المسح للاستراحة في ظل أخدود أحدثته الأمطار ، إذ كانت الريح جنوبية شرقية والجو شديد الحرارة. وقد نلت قسطا من الراحة ، فنسيت تعبي واستعدت قواي. وفي الواقع إن هذا الأخدود كان أحسن الأماكن التي يمكن البحث فيها عن الآثار القديمة ، كونه ما زال أخدودا حديثا فتحته الأمطار أخيرا. فحفرنا عنده وعثرنا على الكثير من العظام البشرية الصغيرة وعلى قطع من فخارات الرميم وكلها مطلية من الداخل بطلاء أسود. ولكن الخزف كان يختلف عما سبق لنا وصفه ، فالبعض منه خشن لا نقوش عليه ، والبعض الآخر من نوع دقيق جميل ، والأجمل من كل هذه أخزاف عليها رسوم غزلان وأبقار في مجاميع دائرية صغيرة ، وحملنا معنا كل ما عثرنا عليه منها. وقد بذلنا ما في طاقتنا لاستخراج فخارة صحيحة لكننا لم نفلح ، وإن كان ذلك ما يعثر عليه في الأغلب وعلى الأخص عندما تجرف مياه الأمطار الشديدة التراب عنها. أمرت الجماعة أن تستمر على الحفر في جميع الأنحاء ولكنهم لم يعوضوا عن تعبهم إلا بما عثروا عليه من بعض الشظايا المعدنية الصدئة ، وبعض قطع نحاس وزجاج وخرزة بلورية صغيرة. هذا وقد اتخذت التدابير للحصول على فخارة رميم سالمة.

وكلما تعمقنا في حفر هذا الأخدود كشفنا عن تربة سوداء عفنة

٣٩

جدّا ، وأنقاض أكواز وشظايا عظام صغيرة. وفي وسط الرابية مقبرة عربية صغيرة. وهكذا نرى الآن أن رميم المسلم يختلط برميم الفارسي عابد النار. هذا ولا أرى إلا أن هذه الرابية كانت رابية ساسانية خصصت لإلقاء جثث الموتى عليها ، ولا شك لي في ذلك من حيث مظهرها وطبيعتها ، وشكل الشظايا التي عثرنا عليها فيها.

تمتد إلى الشمال وإلى الغرب من هذه الرابية ، أركام خرائب صغيرة ، تظهر أن المكان هذا كان واسعا رحبا. وتوجد في الغرب ربوة أكبر من الروابي الأخرى تدعى (آش طوقان). وعند رجوعنا إلى مضربنا ، وبعد مسير ربع ساعة للراكب ، وصلنا إلى بعض بقايا سور صغير ربما كان سور المدينة نفسها ، وإن كان القرويون يعتقدون بأنه بقايا سد أقيم لدرء الفيضان من مسيل (كفري) ، ولم يبق منه إلا قسم لا يتجاوز ارتفاعه بضعة أقدام ، وطوله ثلاثمائة يردة ، وهو مشيّد من أحجار كروية ذات تجاويف صغيرة في القسم الخارجي منها. والأرض من الطرف الداخلي من الجدار باتجاه الخرائب أعلى مما هي عليه في الشمال أو في الطرف الخارجي منه وهي تشبه دكة أو مصطبة أدعمت بهذا الحائط. ولا أشك في أن الحائط ذاته يعود تاريخه إلى عهد آثار (قصر شيرين) و (حوش كه ره ك). وإلى مسافة أبعد نحو الشمال وباتجاه (كفري) إلى ما وراء الحائط ، لا نجد أثرا للخرائب. لقد بارحنا (اسكي كفري) في الساعة العاشرة والربع ، ووصلنا (كفري) قبل الثانية عشرة بعشر دقائق.

كنت قد أوعزت بجلب أية قطعة من المسكوكات أو العاديات الأخرى التي يعثر عليها عند القرويين. وقد جاءني (روبين) في هذا اليوم بثلاث قطع من المسكوكات وبقطعة حجر منحوت حصل عليها من أصدقائه اليهود ، إلا أنها كانت بعيدة كل البعد عن أن تلقي ضوءا على تاريخ الخرائب المجاورة وكأنها صنعت خصيصا لتحير الإنسان وتزيد غموضه في الأمر ، وكانت إحدى المسكوكات أرساسية (Arsacian)

٤٠