رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

جمع من الجشعين الذين ضايقوني ولم يقنعوا بما نالوا ، وإقناعهم مستحيل ، ركبت متجها إلى المدينة لتوديع الخان. فوجدته منشغلا جدّا بإملاء كتاب على أحد الميرزاوات ـ الكتاب ـ وقد جثا أمام الخان يكتب ما يمليه عليه بالحرف الواحد. وإني على ثقة بأن الميرزا لو ترك وشأنه لكتب ما أملاه عليه الخان بأسلوب آخر (١).

استقبلني الخان بلطف وأدب على طريقته الغريبة. وكان أمامه ناظور مسرح صغير ، وقال لي إنه هدية من رئيس وزراء الشاه له ، وطلب مني أن أنظر فيه وسألني عن ثمنه. وقد استغرب لم لا يجسم هذا الناظور الأشباح بقدر ما يجسمها ناظور أكبر ، ثم قال ما داموا قد بذلوا هذا الجهد في صنعه فقد كان الأجدر بهم أن يجعلوه بقوة المرقب في التجسيم. ودخل سلطان (بانه) نور الله سلطان وجلس عن بعد ، فقدمه الخان إلي بقوله : ـ ياخشى أوغلان ، أي إنه ولد طيب ـ وكان لهذا الولد الطيب لحية كثة سوداء طولها قدم تقريبا ، وكان خوفه من مادحه ظاهرا عليه جليّا ـ «وإنه أهدى إليه ، أي إلى الخان قرية ـ وهي القرية التي اغتصبها الوالي أخيرا ـ وإنه يريد أن يقيم فيها جنينة تفوق جنينة (خسرو آباد) ، ويدعو الناس لمشاهدتها من الموصل ، وحلب ؛ والقاهرة». وقدمت الآن أطباق الحلوى ، وسألني الوالي عن الهدية التي أرغب في أن يرسلها لي ، فأجبته أن الكتاب الذي وعدني به ، سيكون عندي أثمن الهدايا كلها. فأكد لي بأنني سأحصل عليه ، وقال إنه لم يكذب مطلقا وعليه فهو يعترف بأن لديه نسختين منه ، ولكنه يرغب في مقارنتهما ، وأنه سيرسل لي بكل تأكيد نسخة منهما مع رسول سريع من (سنه) على أن أعطيه لقاء ذلك بضع علب من البارود ، وكرر السؤال عن الهدية التي

__________________

(١) يختلف أسلوب الكتابة في الشرق اختلافا كليّا عن أسلوب الكلام. ويبدو أن ما يعنيه المستر ريج هنا هو لو أن الخان سرد خلاصة الموضوع الذي يريد كتابته إلى ميرزاه لعبر هذا عنه بأسلوب يختلف عن أسلوب الخان ـ الناشرة.

٢٤١

أرغب فيها ، وألح عليّ في ذلك إلحاحا ، ولما رأيت إصراره أجبته بأنني سأكون ممتنا جدّا لو أرسل إليّ أي كتاب يعثر عليه ويعتقد بإعجابي به ، فلم يقنعه جوابي هذا وألح عليّ أن أعين الكتاب فقلت له بأنني بعد رجوعي إلى موطني سأبحث عن الكتب التي أحتاجها فأخبره بها فأجابني عند ذاك بأنه سيفتح معاملة معي ، أي أنه سيكتب إليّ عما يريده لأرسله له على أن أفعل مثله. وبعد مكوث قرابة ساعة ودعته ، فنهض وصافحني وأسمعني الكثير من كلمات المجاملة وأصر لأخبره عن رضائي التام عنه. سيرحل الخان اليوم من (بانه) في طريق عودته إلى (سنه) ، وهذا يبعث الفرح في نفوس سكان هذه الديار.

رحلنا من (بانه) بعد الظهر بنصف ساعة ، وبعد أن قطعنا السهل باتجاه شمالي غربي دخلنا واديا ضيقا ، تحيط به تلال مكسوة بأشجار البلوط ، واستمر سيرنا فيه حتى الثانية إلا ربعا ثم ارتقينا سلسلة تلال صغيرة حائدة عن الطريق ، وفي الثانية وصلنا قرية (سوويروه Swearwea (١) الصغيرة الحقيرة فوقفنا عندها. ووجدت أننا قطعنا الكفاية من المسافة في مرحلة اليوم الأول ، إذ بدأنا السير متأخرين. وهذا يوم عودة الحمى على الكثير من جماعتي. وكان يقصد عبد الله بك مرافقتي حتى هذا المكان ، ولكنه ارتأى بأنه يكون أعظم فائدة لنا إذا تخلّف عنا ليرسل الباقي من الأمتعة إلينا ويطلق بأمان وسلام المكاري المسكين الذي حميته ، ولذلك ودعته في (بانه) وهو الرجل الوحيد في هذه المنطقة الذي أسفت لفراقه ؛ إنه شاب طيب خدوم ، مرح.

سار فتى بجانب جوادي من (بانه) إلى هذه القرية ، وسألته عن مهنته فأجابني أنه إسكافي ، فوددت أن استطلع ما يدفعه سنويّا للحكومة فأجاب أنه يدفع تومانا واحدا ضريبة في كل خمسة عشر يوما ، ولكن منذ

__________________

(١) والصحيح سوير آوه ـ أو آواSo ? r ـ Awa أي «القرية ذات الماء المج» ـ المترجم.

٢٤٢

أن جاء الخان إلى (بانه) دفعت عائلته خمسة تومانات وكاد يموت جوعا من جراء ذلك ، لأن مهنته لا تدر عليه ما يكفي لأداء هذه الضريبة الباهظة.

١١ أيلول :

سطا علينا ليلة الأمس بعض اللصوص ، فسرقوا من عدتي سرجين فضيين وبعض الأسلحة المطعمة بالفضة ، وحالما أعلموني بالأمر أوفدت علي آغا وهو من أتباعي والفقيه قادر وهو من أتباع عمر آغا إلى أمان الله خان لإخباره بما وقع طالبا منه العثور على اللصوص وإعادة المنهوبات إلينا.

وفي السابعة والنصف رحلنا من (سوير آوا) وبعد أن عدنا إلى طريقنا أمس سرنا باتجاه شمالي غربي في الوادي حتى التاسعة فوصلنا وهدا في الوادي ثم عرجنا عن طريقنا فوصلنا في التاسعة والنصف قرية (نويزكه) ، القائمة على تل يحد الوهد من الغرب. كان طريقنا اليوم منبسطا في الغالب مكتظا بالأشجار وأكثرها أشجار البلوط والكمثري البرية ، أما الأرض فكانت أردوازية وجبسية ، وأننا لا نزال في مقاطعة (بانه) ، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنها مشتهرة باللصوص. ولما كانت الدواب التي حصلنا عليها في (بانه) غير مكدة ـ وأغلبها من البراذين ـ لم نستطع اجتياز (نويزكه) (١) اليوم ، إذ لا توجد قرية أخرى بينها وبين (مه روه) وهي على بعد أربع ساعات في منطقة أصدقائنا البابانيين.

__________________

(١) معنى (نويزكه) ـ بالزاء والكاف الفارسيتين ـ المصلى وفارسيتها نمازكاه. ومعنى (نويز) في الكردية الصلاة ، والظاهر أن الكلمة ممسوخة من كلمة (نماز) الفارسية.

٢٤٣

١٢ أيلول :

إن أحمد بك رئيس القرية رجل لا جاذبية في محياه ، لقد كان ميالا إلى المشاكسة. وقد علمنا صباح اليوم أنه لا يريد أن يهيئ لنا الدواب أو يسمح لنا باستخدام دوابنا أيضا وقال إنه تلقى الأوامر بذلك من سلطان (بانه).

وهذا غير مستبعد كما يبدو ، إذ ظهر لي من مذكرة جاءتني من السلطان ـ الذي لي الحق كله أن لا أرتاح إلى سلوكه نحوي في حوادث أخرى ـ أنه كان يميل بها إلى الانحياز إلى رجل أوقفناه لما حامت حوله الشبهات القوية التي لها علاقتها باللصوص.

لقد أصبحنا في مأزق حرج ، فلقد سافر أمان الله خان ، ويبدو أن السلطة الوحيدة التي نستطيع الاعتماد على معاونتها لنا إزاء وقاحة هذا الرئيس ، ستنحاز إليه أكثر من مساندتها لنا. إن القرية في موقع حصين وتجمع ثلاثين أو أربعين حامل بندقية ، أما جماعتنا فقلائل بحد ذاتهم ، وكلهم من الخيالة وقد أنهكهم المرض ، وهذا مما يعيقنا عن الاستعداد لمجابهة الطوارىء. وأخذت أشعر الآن بالندم على إعادتي الجنود «السباهيين» إلى السليمانية ، إذ محض وجودهم معنا مما كان يعيد الأمور إلى مجراها الطبيعي ، وبعد المشاورة مع عمر آغا فيما يجب عمله في هذا الظرف الطارىء قررنا السير إلى حدود البابانيين تاركين وراءنا الأمتعة والخيام ، فنرسل جماعة مسلحة من الشينكيين ـ قبيلة جبلية باسلة ، على مقربة منا في المنطقة البابانية ـ لإنقاذ الأمتعة. وقد غادرت قرينتي آنذاك المحل بحماية المستر (به ل) ومحمد رضا جاووش ، وبعض الخدم ، وكلهم راكبون مسلحون. أما أنا وعمر آغا فتخلّفنا لنتعهد المرضى ونقاوم أي هجوم نتعرض له ، هذا ويبدو أن ما لاحظه أحمد بك من موقفنا ومشاورتنا لم يرق له فجاء من فوره وقال بأنه مستعد ليجهزنا بما نحتاجه

٢٤٤

من الحمير ، وتم الاتفاق ، وبعد مصاعب جمة ، وتأخير طويل وقسمهم اليمين وتهديدنا لهم أحضرت الدواب فحملنا أمتعتنا وأركبنا مرضانا ودفعنا بها جميعا على الطريق إلى مسافة لا يستهان بها قبل حركتنا. واستدلالا بسلوك هؤلاء وببعض ما بدا منهم عند رحيلنا خشي عمر آغا غارتهم علينا في طريقنا ، وكنا ولا ريب عازمين على المقاومة ، وقد شعرت بالثقة التامة بكفاءتنا في منازلتهم منازلة الند للند إذ كنا فرسانا ماهرين ومسلحين فنظمنا أنفسنا أحسن تنظيم مستطاع لحماية الأمتعة والمرضى والعاجزين منا ، واحتفظنا بتلك التنظيمات حتى اجتزنا الحدود بأمان.

ويظهر أن كبير (نويزكه) رأى من الحكمة أن يدعنا نرحل عن منطقته دون أن يمسّنا بضرر ، إذ لم نر له ولأعوانه أثرا بعد ذاك (١).

سرنا في السابعة والنصف ، واتجهنا ببطء نحو الطريق الذي تخلّينا عنه أمس فوصلناه في الثامنة. وبعد قليل بدأنا نرتقي الأرض بطريق جيد ، وسط غابة من أشجار البلوط الضخمة وأشجار الكمثرى البرية وأشجار تشبه الزعرور ذات ثمر مستساغ ، ووقفنا مرتين خلال تسلقنا الجبل الذي كنا نجتازه واسمه (بي لوو) وكان يتجه شماليّا جنوبيّا تقريبا ، ولكن ارتقاء الجبل من سهل (بانه) كان ارتقاء تدريجيّا بدرجة لا يظهر معها للجبل أثر في ذلك الجانب ، وعن يسارنا وعلى بعد قليل ، يرتفع جبل (سووركه ئوو ـ Soorkeoo) ) بسفوحه الهدود وهو يتجه اتجاها جنوبيّا شرقيّا ، ومنتهاه القريب منا مخدد بمياه (بانه) وبجداول أخرى وأنه من الجلي جزء من السلسلة التي كنا نسير عليها ، وهو على ما أعتقد نفس الجبل

__________________

(١) لقد أرسل سلطان (بانه) لي ، أحمد بك رئيس قرية (نويزكه) سجينا إلى السليمانية لإنزال ما يتراءى لي من العقاب به ، ولا ريب أنني عفوت عنه وأرجعته.

(٢) والصحيح و «سوور كيو ـ Soor ـ Kew» أي الجبل الأحمر ـ المترجم.

٢٤٥

الذي يحد سهل (أحمد كلوان) والذي اجتزناه في طريقنا من السليمانية إلى أحمد كلوان بالطريق المسمى (تاريله ر) (١) وبعد أن استرحنا وأرحنا الحيوانات فوق قمة جبل (بي لوو) استأنفنا السير في العاشرة والنصف. كنا نسير وكأننا في لجة من الجبال تحيط بنا من اليمين واليسار ، لقد كان البعض منها يمتد في خطوط مستقيمة والبعض الآخر متكسرا ، متشابكا تشابكا يستحيل على المرء تخطيطه ، ويبدو أن الأرض كانت مغمورة بصفيح الأردواز وبالجبس والصوان.

وبعد قليل وصلنا قمة المرتفع ، وبهبوطنا منه دخلنا حدود المنطقة البابانية ، وكان المنظر رائعا بهيجا ، وقد أخذ الطريق بالهبوط توّا إلى واد عميق ضيق لا يمكن للعين أن تدرك قعره ، ثم ترتفع الأرض ثانية في الجانب المقابل إلى ارتفاع أعلى من المستوى الذي نحن فيه ، تعلوه قمتان (٢) تصل بينهما صهوة ، الشمالية منهما على هيئة غريبة التكوين كنا شاهدناها من (سويرآوا). لقد كان منظر البلاد خلابا فهي غنية بأشجارها ووفرة قراها الخضراء الزمردية ، لقد كانت في مجموعها جميلة جذابة ، وسلاسل الجبال وهيئتها تتكسر تكسرا بديعا ، وكان اللون الغالب للتربة هو الأحمر الغامق ، يتخلله اللونان النحاسي والأخضر الزمردي عند جوانب التلال حيث حددتها سيول المياه وانهارت جروفها. لقد استغرق هبوطنا الساعتين ونحن نمر من بين الغابات الجميلة إلا في بعض الفترات القصيرة جدّا. وكان النزول هدودا ، وما كان الطريق رديئا كما يتوقعه المرء وهو في أرض جبلية كهذه ، ولا ريب أنه ليس هناك من أمر يبدو أكثر وضوحا من الفرق بين «كردستاننا» وإيران إذا ما تأمل فيهما المرء من هذه البقعة. إن ما نراه هو أن التربة ذاتها قد تغيرت في طبيعتها وفي

__________________

(١) والصحيح (تاريه ر) وهذا ما يعرف به اليوم ـ المترجم.

(٢) تقع هاتان القمتان في منطقة (سي وه يل).

٢٤٦

لونها ، فكل شيء كان مظهرا من مظاهر العظمة والجمال. وصلنا حضيض المهبط بعد الزوال بنصف ساعة فعبرنا جدول (به روزه) أو (بانه) حيث تتصل به جداول أخرى تنحدر من الجبال. وهذا النهر يفصل إيران عن تركيا ، وهو يسيل شمالا إلى الغرب قليلا ويصب في آلتون صو في أعالي مياه (قالاجوالان) (١).

شعرت بغبطة قلبية لنجاتي من أرض المشاكل والشحاذين ودخولي بلاد الضيافة الحقة ، وشعرت أيضا كأنني عدت إلى داري. ارتقينا المرتفع المقابل ومضينا نسير طوار سفحه ، وقد شاهدنا طبقات أحجار سمكها عقدتان أو ثلاث عقد عند الجروف التي كونتها المياه ، وهي ملتوية متشابكة تشابكا غريبا كأنها قطع من مصاغ مخرم ، صيغ على الطراز القديم.

وفي الثانية إلا ربعا وصلنا قرية (مه روي) في منطقة (آلان) وقد استقبلنا هنا الكرد الأقحاح ، وهنا يجوز لي أن أتوقع الآن الاستمتاع بالراحة. وتقع القرية في موقع لطيف على جانب الجبل وعلى ارتفاع غير كثير فوق النهر ، وقد شاهدنا في الجانب المقابل منه جبل (بي لوو) ممتدا شمالا وإلى الغرب قليلا وهو يكون هناك هوة ـ جرف سحيق ـ عظيمة من الصخر الأجرد تدعى (بري) ويشاهد المرء من فتحة أو فجوة في هذا الجرف شمال القرية منظرا صخريّا جميلا آخر ؛ ويزداد الجبل ارتفاعا وراء الفجوة. وترى مدينة (بي تووش) تحت الجبل باتجاه شمالي غربي وعلى مسافة ثلاث ساعات لا لبعد المسافة ، بل لصعوبة الطريق ، وعلى واجهة الجبل ، قبالة (بي تووش) تقع منطقة بيشدر. وعلى الغرب منا سلسلة من التلال تسمى (كوور كوور) والظاهر أنها تتصل بالجبل الذي وصفته الآن ، وتقع على جانبه القريب منا قرية (شينك) وهي على

__________________

(١) يصب ماء (قالا جوالان) في آلتون صو بالقرب من (شينك).

٢٤٧

بعد خمس ساعات ، وتقع (كلاله) بجوار (شينك) إلى اليمين أي إلى الشمال ، كما تقع (مه ركه) وعلى الجانب الآخر من السلسلة يفصلها نهر عن (بيتوين) ؛ وهي على مسافة عشر ساعات.

ويزرع الكثير من التبغ في جوار (مه روي) ، والقرويون الآن يجففون أوراقه بنشرها على الحبال والقضبان. دخنت من التبغ على سبيل الاختبار فوجدته معتدلا في نكهته. ويزرع الماش بكثرة في هذه النواحي ، ولمزارعه الخضراء منظر جميل بين التلال. وتكثر الأدغال البرية خاصة في هذه البقاع وهي على وجه الأرض كالديباج.

١٣ أيلول :

سرنا في السابعة فأخذنا توّا نصعد التل ، نحو القمة الغريبة الشكل التي ذكرناها واسمها (كمو ـ Gmo). وتكثر الينابيع في هذه الجبال ، يستغل أغلبها المزارعون ، بفتحهم السواقي لمياهها حول التلال لتسيل على المنحدرات كلما اقتضى الأمر.

وفي الثامنة والربع وصلنا قرية (ديرى) الجميلة وقد اكتنفتها غابة من أبدع أشجار الحور التي شاهدتها حتى الآن ، وكانت ذات أغصان مديدة ، وظل وارف. وكانت الجنائن والكروم تحيط بالقرية في كل بقعة من جوانب الجبل ، وقد تسلقت الكروم ، في أماكن عديدة على الأشجار وتدلت منها وامتدت من الواحدة إلى الأخرى ، كجدائل زهور وضفائر أغصان. وهنالك عدد وافر من الينابيع تتدفق من جوانب التلال فتسيل مياهها على جذور الأشجار بشلالات صغيرة لا حصر لها ؛ وما كنا نسمع إلا خرير المياه.

ليس من السهل على المرء أن يمر ببقعة بهيجة كهذه دون أن يقف عندها ويتمتع بجلالها ، لقد ترجل عمر آغا وترجلت معه تحت ظل شجرة جوز عند ساقية صغيرة ، فمد القرويون أمامنا من فورهم فطورا من العسل

٢٤٨

في أقراصه ، والزبدة الطرية ، والشنين ، والإجاص والعنب. بقينا هنا حتى التاسعة والدقيقة العاشرة ، ثم غادرنا المكان الجميل آسفين. ووصلنا بعد نصف ساعة تقريبا وكنا لا نزال نرتقي في طريقنا ، أعلى جزء من المرتفع وقد كان له مظهر مهيب ، لقد كان العدد الوفير من الينابيع تتدفق من الأرض فتسيل مياه جانب منها باتجاه شمالي نحو مياه (بروزه) وتنساب مياه الجانب الآخر على بعد قليل إلى الجنوب فتصب في مياه (شينك).

لم نر أشجارا ولكن الأرض كانت خضراء نضرة لوفرة المياه ، ويعرف هذا المكان ب (هزار كانيان) أو الألف ينبوع. وهنا وصلنا إلى أعلى قسم من طريقنا ولكن على ارتفاع أعلى منا تستوي قمة (كمو ـ Gmo) وصنوها ، وهما صخريتان جرداوان. سرنا مدة والقمتان تشرفان علينا ؛ لا يمكن اختيار طريق أحسن من هذا الطريق يتاح لي فيه تكوين فكرة صحيحة عن سلاسل الجبال واتصالاتها. لقد كانت سلسلة (سووركيو) على موازاة مع مسيرنا وهي كما توقعت سابقا تؤلف جبل (قزلجة) أو (تاريه ر) ، وتتشعب من هذه السلسلة شعبة تنعطف مستديرة من جبل (سه رسير) ثم تؤلف الجبل الذي نسير عليه الآن أو تتصل به ويقع إلى ما وراء هذا الجبل ، أو إلى جنوبه جبل (كورره كازاو) الذي يمتد باتجاه جنوبي شرقي تقريبا نحو (تاريه ر). وفي الأرض التي تتخللهما تلال متكسرة ترتفع إلى كل من السلسلتين بالتعاقب ، وتقع القرى والبقاع الخضراء على مسطحات سفوح الجبل حينا وعلى منحدراته حينا آخر وكل ذلك يؤلف تباينا جميل المنظر. فكلما سرنا مائة ياردة جئنا ينبوعا بارد المياه إذا شربت منها آلمتك أسنانك. وكان للأرض لون نحاسي كبريتي ، وكان الطريق مشجرا كالمعتاد وهو وإن كان رخوا صخريّا فما كان رديئا كنيسم جبلي.

وبعد مدة قصيرة سقط نعل جوادي ، ولم أستطع الاستمرار على السير على طريق حجري كهذا وأنا على حيوان ثمين كجوادي قبل إعادة

٢٤٩

تنعيله ، ولم تمض إلا برهة منذ أن أجزنا للنعال ـ البيطر ـ بالذهاب لزيارة حبيبته الساكنة في قرية مجاورة ، وقد أركبناه وجهزناه تجهيزا شيقا لهذه الزيارة ، ولكن عمر آغا حصل على أدوات التنعيل اللازمة ، ونعّل الحصان بنفسه قائلا «إنني لا أسوم الجندي الذي لا يحسن تنعيل جواده بفلس واحد» لقد أعاقنا هذا الحادث زمنا ولم نصل قرية (كه ناروو) في منطقة (سي وه يل) قبل الساعة الثانية (١).

١٤ أيلول :

التحق من السليمانية ليلة أمس بعمر آغا الكثير من أعوانه ، وقد أخبرني بأن عنده ما ينوف على أربعين خادما وكلهم من القبليين إلا ثلاثة أو أربعة ، وأضاف قائلا : بأن ليس من صالحه أن يحتفظ بخدم من أهل المدن أو القرى ثم أردف : ـ «إنهم لا يرتبطون بك ارتباطا قويّا ، ولا يقفون بجانبك عند الشدائد ، أما القبائليون فعلى النقيض من ذلك فهم وإن لم يكونوا من قبيلتك أو عشيرتك يتعلقون بك تعلقا شديدا ، ولا يفصلهم عنك الجوع أو العطش أو الفقر أو التعب ، كلا ولا الخطر». وسرني كثيرا أن أعلم من رجال عمر آغا نقاهة المرضى من جماعتي في السليمانية.

وفي السادسة والنصف امتطينا الجياد وسرنا ، وكان اتجاه طريقنا جنوبيّا فأخذنا نهبط وهدا حتى حضيض (سه رسير) ثم افترقنا عن الوهد وعبرنا امتداد السلسلة التي قطعناها أمس حيث تتصل بجبل (سه رسير) ثم انحدرنا إلى نهر (سي وه يل) (٢) وهو يسيل على طوار (سه رسير) ثم

__________________

(١) كان جبل (سه رسير) في تمام الجنوب منا وعلى بعد ميل واحد تقريبا. وكان بطريقنا اليوم بمحاذاة سلسلة جبل (سي وه يل).

(٢) يتألف نهر (سي وه يل) من جدول (قزلجة) و (بيستان) ويجري بمحاذاة سفوح (سه رسير) الشمالية.

٢٥٠

ينعطف شمالا وقليلا نحو الغرب ويتصل بنهر (قالا جوالان) عند (ماوه ت) فيتجه النهران إلى (آلتون صو). وكانت مياهه في محل عبورنا على ارتفاع مع ركاب الخيال ، لبضع خطوات ثم يصبح ضحضاحا ، عرضه حوالي اثنتي عشرة ، أو خمس عشرة ياردة ، ولكن مسيله أوسع من ذلك وكثيرا ما يصعب عبوره في الشتاء إلا بالرماث «الأكلاك».

لقد أصبحت الأرض الآن طباشيرية ، وانحدرنا إلى سهل (شار بازير) وبعد مدة قليلة ميزنا أليفنا القديم جبل (غودرون) وتلال (كويزه) ، وهي جرداء متناسقة ممتدة ما امتد البصر كالأسوار ذات الأبراج. لقد أصبحنا الآن في بقاع الأحجار الرملية ، والتكتلات الصخرية ، وقد تضاءلت الأشجار بل وانعدمت إلا في أماكن وأماكن. وفي التاسعة إلا ثلثا هبطنا واديا ضيقا كونه نهر (قالا جوالان) (١) وسرنا إلى حيث مدينة (قالا جوالان) ، العاصمة القديمة لهذا الجزء من كردستان. بنيت المدينة في هذا المضيق ، لأنه تبدو أن الكرد يفضلون هذه المواقع المنخفضة المستورة ليشيدوا فيها مدنهم وقراهم ـ لم يبق من المدينة أثرا ، إلا بعض الأكواخ الحقيرة للقرويين الذين يقطنون المكان ـ ترجلنا في (سليمان آوه) أو (سليمان آباد) وهي حديقة مندرسة كان قد غرسها (سليمان به به) جد العائلة البابانية الشهير. وهذا الوادي مشهور بفواكهه الطيبة وخاصة الأعناب والرقي منها ، وتصدر منه فواكه السليمانية كلها.

__________________

(١) إن نهر (قالا جوالان). هو نهر (تان كووزي) ـ راجع حواشي الصفحة ١٦٥ بذاته الذي يتجمع باتجاه (دوله دريز) ويمر بين جبال (كورره كازاو) ويبلغ عرض مجرى (قالا جوالان) نصف الميل تقريبا غير أن مياهه في هذا الموسم منخفضة ، إذ تستغل في مزارع الرقى والحقول الأخرى. وتصب فيه قبالة مدينة (قالا جوالان) مياه (جون كوره) المنحدرة من (سروجك) ويتعاظم نهر (قالاجوالان) في الشتاء والربيع وكثيرا ما يملأ مجراه بكامله. ويوجد على مسافة أخرى باتجاه مجراه جسر مشيد من أغصان الصفصاف ملقاة على أعمدة حجرية ، وقد جرفته المياه في الشتاء الماضي.

٢٥١

١٥ أيلول :

سرنا في السادسة والدقيقة العاشرة وقد عم الجذل والفرح رجالنا لتوقعهم الوصول إلى السليمانية بعد بضع ساعات. وقد شعرت شخصيّا بارتياح نفسي بمثل ما يتحسس به المرء عند عودته إلى بيته ، والحق يقال إن اللطف وحسن الضيافة اللذين لمستهما في السليمانية هما من العوامل القوية التي تجعلني أن أعتبرها موطنا ثانيا لي. وكان طريقنا كله يرتقي بعد الوادي ، أو منخفض مجرى نهر (قالا جوالان) ارتقاء هينا ، وكان يعارضه خانق عميق حفره سيل جف الآن ، وقد انهارت التربة وتقوضت الأحجار الرملية وتدهورت وتراكمت فوق بعضها أكواما كالأنقاض متبعثرة على غير انتظام (١).

وفي السابعة والنصف وصلنا حضيض جبل (أزمر) ، وبعد برهة بدأنا نرتقي ناهدا جزء منه بطريق جد معتدل متمعج على سفح الجبل دون أن يكون هدودا ، وفي الثامنة وصلنا القمة ، وبعد أن سرنا جنوبا مدة خمس دقائق بمحاذاة رأس الجبل بدأنا بالهبوط. وما كان القسم الأول من الهبوط رديئا إلا أن الطريق أخذ بعد ذلك يمر لمسافة قصيرة على حافات مهاوي الجبل وقد أمسى خطرا في مكان أهملت تسويته لنتوء صخرة عظيمة في وسطه ، فاضطررنا إلى الزحف من فوقها ، بعد أن ترجل كل منا وترك جواده ليشق له طريقا ، فشقت الحيوانات طريقها ببطء وتؤدة وحذر ؛ ولقد مر ذلك بسلام. وفي الثامنة والنصف وصلنا أسفل المنحدر الرئيسي ، وما زلنا في اتجاهنا الجنوبي ونحن ننحدر انحدارا تدريجيّا في واد ضيق تكون من الجانب الواحد من سفح الجبل ذاته ومن الجانب الآخر من هضبة متفرعة منه وعلى امتداد مواز له. وفي التاسعة إلا عشر دقائق مررنا من فجوة في تلك الهضبة إلى وهد السليمانية وقد ألفناه في

__________________

(١) وقد شاهدت الطباشير ، خلال رحلة اليوم.

٢٥٢

التاسعة وقد أصبح اتجاه المدينة جنوبيّا غربيّا بعشرين درجة. وفي العاشرة وصلنا خيامنا في حديقة الباشا في (جوارباغ) (١).

وهكذا أتممت السياحة ، وما كانت سارة لمرض أعواني ، فإنها ولله الحمد كانت أقل عناء مما كان متوقعا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الحمى التي تعرضنا لها ، وضعف بنية البغداديين على تحمل المشاق وتهيبهم ، وهم يؤلفون معظم رجال حاشيتي المسؤولين عن إدارتي. وكانت السياحة ذات فوائد جمة ، لقد زرت أهم جزء من كردستان وأعجبه ، وما أندر الأماكن المعروفة فيها قبل زيارتي لها ، تلك الأماكن التي لا يحتمل أن يزورها سائح آخر في القريب العاجل. إن الطرق التي اتبعتها بحكم الصدف على الأغلب ، أو نتيجة لقرارات كانت بنت ساعتها كانت لحسن الحظ أحسن الطرق التي مكنتني من الحصول على فكرة عامة عن البلاد وهي الطرق ذاتها التي كنت أحاول مسحها ، لو كان لي العلم الكافي بتعميم الخطة العامة لإنجازه.

__________________

(١) وقد أصبحت محلة من محلات مدينة السليمانية الحالية ـ المترجم.

٢٥٣
٢٥٤

الفصل العاشر

فشل التطعيم ضد الجدري ـ وفاة ابن عثمان بك ـ حزن الباشا ـ

المواقع الأثرية في شهرزور ـ الإسكندر الكبير والأميرة الهندية ـ

أسماء المناطق ـ عمر آغا ـ اضطهاده وحبسه ـ تعلق أتباعه به ـ نزاهته ـ

كراهيته لعثمان بك ـ رحمة الله التاتار ـ رحلته في الجبال المنيعة

المنقطعة التي تسكنها عشائر الكلدانيين المسيحيين ـ العمادية ـ نصيحة

الباشا إلى التاتار ـ مصاعبه ومخاطره ـ المضارب الكلدانية ـ

خبز الرز ـ دهشة الكلدانيين لرؤيتهم رحمة الله بينهم ـ

اليزيديون ـ مدينة وان ـ أسماء القبائل الكردية ـ حفلة عرس ـ

السيدات يرقصن ـ مقام المرأة الكردية ـ لباس الرجال ـ

قصة داره شمانه ـ شيخ باباني جليل

* * *

٢٣ أيلول :

عند وصولي إلى السليمانية أصبت بخيبة أمل مريرة لعلمي بفشل خطة قرينتي في التطعيم ضد الجدري ، لجهل الرجل الذي تعهد بتنفيذها وعجرفته. ويبدو أن اللقاح كان فاسدا ، والطفح ناقصا. لقد أصيب به كل

٢٥٥

من لقح من الأطفال عدا واحدا أو اثنين منهم. وكان نجل عثمان بك الثاني ، وهو طفل جميل يبلغ من العمر سنة ونصف سنة ، ضمن من أصيبوا ، وتوفي أمس.

ذهبت صباح اليوم لتعزية الباشا وعثمان بك ، فوجدت الباشا بالغ التأثر ، إذ كان يحبس دموعه بصعوبة ، وقد أجابني على تعزيتي بصوت خافت متهدج وردد ذكر ابن أخيه الصغير مرة أو مرتين بعبارات ملؤها الحسرة والحنان. وانتقلنا رويدا رويدا إلى بحوث أخرى وعدنا إلى موضوعنا القديم المتعلق بعاديات هذه البلاد. إن تحرياتي عن موقع مدينة (شهرزور) دفع الكثير من الكرد إلى التفكير في الأمر. وأفاد الباشا اليوم بأنه يعتقد شخصيّا بأن المدينة القديمة تقع عند (قيز قلعه سي ـ حصن الفتاة) بالقرب من (بستان سوور) في منطقة شهرزور. ولا يزال هناك خرائب كثيرة ، أو بالأحرى أنقاض خرائب عند (قيز قلعه سي) الواقعة على بعد ساعتين من (آربه د) وخمس ساعات من السليمانية ، وأن الأهليين لا يزالون يجلبون النورة من تلك الأنقاض. ويدّعي الأهلون بأن (قيز قلعه سي) قد بناها الإسكندر الكبير لأميرة هندية جاء بها من الهند عند رجوعه من حملته عليها ، وعلى إثر إصابتها بمرض نصح لها أطباؤها بأن تقطن في مكان مناخه يضاهي مناخ بلادها ، فوقع الاختيار على سهل شهرزور لهذا الغرض. و (ياسين ته به) و (كه وره قالا ـ القلعة الكبيرة) خربتان أخريتان في تلك المنطقة ، ومحل آخر اسمه (دزكه ره). وخلاصة القول إن منطقة (شهرزور) ، أو في الحقيقة هذا الجزء من كردستان كله ، زاخر ببقايا الآثار القديمة ، وإن كان لا يمكن اعتبار أي واحدة منها خرائب بحد ذاتها.

وعلى بعد ساعة ونصف ساعة من السليمانية ، وتحت خط التلال المقابلة يقع (هه زار ميرد) وهو موقع تذكر عنه الأساطير ، إن عبدة النار أو المجوس ، كما ينعتهم الكرد ، دافعوا عنه دفاعا مديدا إزاء الغزاة الأول

٢٥٦

من الإسلام ، وكان مسرحا لاصطدام عنيف. ويقال إنه يمكن مشاهدة بقايا التحصينات على محاذاة قمم هذه التلال ، بين مسافة وأخرى.

أنوي زيارة (شهرزور) حالما يعتدل الطقس. لقد بدا لي اليوم برهان قاطع على صعوبة الحصول على المعلومات الصحيحة من الشرقيين ، حتى من المتصفين بالذكاء المفرط وبالصدق منهم ، وكان عندي دليل آخر عن كيفية وقوع السواح في أفظع الأخطاء وأشنعها على غير قصد منهم. فقد أخبرني الباشا نفسه مرة أخبارا لا يقبل الشك بأن اسم قبيلته هو (كرمانج) ، أما الآن فقد قال إن الأمر ليس كذلك ، بل إن (كرمانج) هو الاسم الذي يطلق على جميع الكرد البابنيين أما قبيلته بالذات فهي القبيلة البابانية ، ولم يستطع هو أو غيره من الحاضرين إخباري عن معنى (كرمانج) ، ومن أين اشتقت هذه الكلمة. وقد قال أحد السادة من الرجال الحاضرين ـ وأعتقد أنه كان من العائلة ذاتها ـ بأن العائلة البابانية هي فرع من قبيلة (سه ككير) وأن قبيلتي (شينكي) و (كه لالي) تمتان إليهم بصلة القربى ، وأن العائلة البابانية قد برزت وذاع صيتها منذ أن انقرض بيت (سوران) القديم ، ولم يكن ذلك قبل مائتين من السنين كما ذكرت من قبل. لقد انحدرت العائلة البابانية أولا من جبل (بيشدر) واستولت على (مه ركه) و (ماوه ت) و (قيزلجة) من الإيرانيين ، و (زه نكه نه) من بيت من البيوتات ، ولا يزال يسكن قسم من هذه العائلة (كرمنشاه) وهي وإن تتكلم الكردية فلا تعتبر من الكرد الأقحاح ويحتمل أنها كانت من القرويين أو الفلاحين.

وبعد أن فارقت الباشا ، ذهبت لمقابلة عثمان بك ، وقد أجابني على تعزيتي له بموت ولده بالجمل القصيرة المعتادة «هذا أمر الله ، ولا مرد لأمره ، أطال الله في عمر الباشا وفي عمرك» وبعد برهة قصيرة بدأ يتحدث ويضحك كعادته ، ثم فحص بعض الجياد ، وجيء له ببعض أحجار الرخام ليختار منها قطعا يزين بها جوسقه الجديد وجلب انتباهي إلى أنها أحجار من (قه ره داغ).

٢٥٧

يشكو أهل السليمانية كلهم من هبوب الريح الشرقية هبوبا غير اعتيادي في هذه السنة مما جعل الموسم شديد الحرارة شدة لا تطاق وباعثا على الخمول ، ولم ينجوا منه ثلاثة أيام متواليات منذ بداية الصيف وإننا منذ رجوعنا من الجبال ونحن نتلظى بحرارته وببواعث كسله ، على الرغم من أن حرارته غير الاعتيادية قد خفت بعض الشيء. وفي خلال هذه الأيام القلائل راقبت طبيعة هذه الريح العنود ، فوجدتها تهب هبوبا عاصفا على شكل تيار مستقيم فوق المدينة ، في الوقت الذي لا يهب عند خيامنا التي لا تبعد إلا بضع مئات من الياردات إلا نسيما خفيفا ، ولم أجد هذا وحده ، بل وجدت أنها تهب حول خيمتي ، والخيمة ساكنة سكونا تامّا لا حراك فيها. وقبل بضع ليال ، بينما كانت هذه الريح الشرقية تهب بشدتها عندنا ، تمكن ميناس آغا من قطع السهل والذهاب إلى الجبال المقابلة لنا. وفي اللحظة التي عبر بها نهر (تانجرو) ، لم يجد لهذه الريح أثرا ولكنها داهمته في المكان ذاته عند عودته.

٢٨ أيلول :

حصلت من عمر آغا على القائمة التالية في مناطق هذا الجزء من كردستان كلها ، ابتداء من حدود بغداد (١).

__________________

(١) (داووده) ، تبتدئ على مسافة أربع ساعات من كفري. و (ده لو) و (زه نكه نه) و (كوم) و (زه ن) أو (زه ند) وسميت هكذا على اسم قاطنيها ، و (شيخان) ونوره) و (جه م جه مال) و (جياسه وز) أي الجبل الأخضر و (كيوه جماله) و (شووان) و (جوبوق قلعه) و (عسكر) و (قالاسيوكه) و (كيردخه به ر) و (بازيان). وهنا تنتهي الحدود الخارجية للسليمانية.

والآن لنرجع إلى (قه ره داغ) التي تحدها (ده لو) و (زه نكه نه) من الغرب والشمال أما من الجنوب فتمتد إلى ديالى. ويعود مضيق (باني خيلان) الواقع على ديالى إلى (قه ره داغ). و (قه ره داغ) إيالة كبيرة تنقسم إلى مناطق عديدة ، وتسمى المنطقة التي

٢٥٨

٢٩ أيلول : أخبرني صديقي الحميم عمر بك في سياق كلامه عن تاريخ حياته وما لحقه أخيرا من الاضطهاد فقال بأن أربعة أو خمسة من أخص رجاله كانوا قد سجنوا معه ، وكان السجن رطبا خاليا من وسائل التدفئة ، وموسم الشتاء في عنفوانه. وكانوا يأخذون في كل يوم واحدا أو اثنين من رجاله إلى خارج السجن حيث يجلدون جلدا مبرحا لإكراههم على القول والإرشاد على مخبأ دراهم سيدهم وأمواله وربما كان يجلد الواحد منهم مرتين في اليوم ، وبالرغم من ذلك لم يبد الضجر على أحدهم أو اعترف.

واجتمع رجاله في أحد الأيام وتوصلوا إلى إخبار سيدهم بأنهم دبروا خطة لاقتحام السجن في تلك الليلة وذبح الحراس والفرار بسيدهم إلى كركوك ، ولكنه منعهم منعا باتّا عن هذه المحاولة ، وكاد رجاله يموتون جوعا خلال مدة سجنه إلا أنه لم يظهر أي منهم رغبته في تغيير ما هو عليه

__________________

يقع فيها (باني خيلان) ديزيائيش (Dizziaieesh) وتقع فيها (كه وره قالا) أيضا.

(وارماوا) و (سه رجنار) وتقع السليمانية فيها. و (سورداش) ويقع جبل (غودرون) فيها ، و (مه ركه) و (بيشدر) ومن بين (مه ركه) و (بيشدر) يمر نهر آلتون كوبري الذي ينبع من (لاجان) إلى مسافة خمس أو ست ساعات غربي (صاووق بولاق) ـ صابلاخ ـ و (كه لا له) و (شينيك)(*) و (ماوه ت) و (آلان). و (سي وه يل) و (سه رآوميراوه) التي تحدها (ماوه ت) و (سي وه يل) و (آلان). و (بالوخ كابيرون)(* *) و (شاربازير) و (به ركه ئوو)(+) و (سه روجك) و (كل عنبر) و (حلبجة) ، التي تحدها (كل عنبر) و (جوانرو) و (وارماوه) و (زهاو). (شه ميران) وهي منطقة جبلية صحراوية تقع على الضفة الأخرى من ديالى. (جه وتان) وتكتب (جفتان) وهي تحادد (قزلجة).

و (قزلجة) و (نه رراتوول)(++) ، و (قه ره حسن) وهي منطقة تلحق أحيانا ببغداد وأحيانا بكردستان وتحدها (كركوك). و (ليلان) و (جه م جه مال) و (شووآن).

__________________

والصحيح ـ (*) شينكايه تي (* *) بالخ وكابيلون. (+) به ركه لوو. (++) ته ره تولوو ـ المترجم.

٢٥٩

من الحال أو ترجيح خدمة أخرى على خدمته. إن أكثر رجال عمر آغا بالإضافة إلى أنهم قبليين ، فإنهم سليلو أناس كانوا في خدمة والده ، فوالده الفقيه قادر وسكرتيره وزوجته وأخواته وإخوانه الصغار كلهم يعيشون في حرم عمر بك ، ويعتبرون جزءا من العائلة ذاتها ، ويشاركه رجاله كلهم السراء والضراء ، ويفعلون ما يفعل ويجوعون أو يلبسون الأسمال البالية عندما يجور عليه الزمن ، ويكسبون المال عندما يعود إلى منصبه ، كل ذلك دون تضجر ، أو تأفف ، بل إنهم يتلقون كل هذه كأمور اعتيادية لا مفر منها. وعمر آغا نفسه لا يعدو عن كونه مثلا لهذه الأخلاق وهذا الوداد. فالباشا وإن كان في الحقيقة يوده ودّا أكيدا إلّا أنه غلب على أمره بتحريض من عثمان بك الذي يكره عمر آغا فعامله معاملة قاسية جدّا. ولاقتناع عمر آغا بأن الباشا يوده وللاحترام العظيم الذي يكنه لعبد الرحمن والد الباشا فإنه لم يفكر مطلقا في التخلي عنه ، كما لم يبد تذمره منه إلا عند التحدث إلى من يعتمد عليه من الأصدقاء. وفي هذه الحالة لم يكن كلامه لينم عن تذمر أو تبرم بل إنه صوت توجع أليم ليس إلا. وعندما رثيت لضعف الباشا ، أجابني عمر آغا من فوره وبصدق واضح قائلا : «أؤكد لك يا سيدي بأنه ليس كذلك إنما هذا شأنه إزائي فقط» وما كان قوله هذا تصنعا بل كان منبعثا من الصميم ، وقد قاله حذرا من أن أجور فأظن في سيده. لقد انحط مستوى عمر آغا المالي لدرجة الفقر المدقع لسوء المعاملة التي يلقاها من جراء عداء عثمان بك له ، كما سبق أن ذكرت ، وهو لا يخفي سخطه عليه ، ومع هذا فهو لا يتشكى بل يبذل أعظم الجهد لكي لا يشعر بضيق ذات يده وحاجته. وبالرغم من مصاحبتي له منذ بضعة أشهر ، لم يظهر مثقال ذرة من التلميح أو الرغبة في الحصول على شيء مني ، ولو كان أغنى الأتراك في مكانه لما تردد في الاستجداء مني بصراحة خلال نصف تلك المدة. وعندما أوفدت قبل بضعة أيام تاتارا إلى استانبول تلك العاصمة التي أصبحت الآن تحوي كل

٢٦٠