رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

والجدول ذاته يحتوي على الكثير من الأسماك ومن بينها سمك النقط (Trout) ، أقول ذلك استنادا على ما وصفه لنا من اصطاد السمك بالشص منا والذين شاهدوا الكثير منه وقد وجدوه يحجم عن التقرب إلى شصوصهم.

ولا يفصل بين (سه رجنار) (١) وبين (جاق جاق) سوى مرتفع صغير عليه مقبرة مهجورة منذ زمن طويل على ما يظهر. وقد تذكرت الوصف البديع للمقبرة القديمة التي جاء ذكرها في مستهل قصيدة «الفناء القديم» وأنا هائم بين أحجار هذه المقبرة الربداء الغليظة ، وكانت الأرض التي تتخللها مكسوة بالأوراد البرية. وهنالك ثلاث أو أربع شجرات تزين هذا المرتفع ، إذ كان فرحي عظيما عندما علمت أنها شجرات بلوط ، ولم تكن في الواقع من نوع أشجار البلوط الشهيرة في إنكلترا ، ولكنها شجرات لطيفة تكفي الكفاية كلها لإيحاء ذكريات طيبات عديدات ، فأوراقها أقل تسننا وأكثر نعومة وأعمق خضرة من أوراق البلوط التي اعتدت مشاهدتها في إنكلترا ، وهي لم تكن من أشجار البلوط القصيرة. وقد قيل لنا إن أنحاء (سه رجنار) كان فيها الكثير من هذه الأشجار ، ولكنها قطعت لبناء السليمانية.

درجة الحرارة في الخامسة ق. ظ ، و ٥٣ د في الثالثة ب. ظ ، و ٧٦ د وفي العاشرة ، ٦٤ د. نسيم شمالي عليل ، وجو رائق.

__________________

(١) وهناك جدول آخر في شرق (سه رجنار) يفصله عنه تل صغير كما ينفصل (جاق جاق) بتل آخر في الغرب ، وهذا الجدول أصغر من كلا الجدولين الآخرين. فهذا وجدول (جاق جاق) مسيلان فقط ، وهما يجفان في الخريف على ما أعتقد ، والجداول كلها تلتقي في السهل.

٨١

٨ أيار :

سرنا في الخامسة والدقيقة الأربعين بطريقنا متئدين ، طوار سفوح التلال نهبط تارة ونصعد أخرى ، فوصلنا إلى مضربنا بالقرب من السليمانية في السادسة والدقيقة الأربعين حيث استقبلني الكثير من السادة الكرد رجال محمود باشا. وبعد أن رحبوا بنا انصرفوا فورا ، إلا اثنان منهم استبقيا لملازمتنا للقيام على خدمتنا. وكنا نتوقع مكابدة بعض المتاعب من المتجمهرين ، وذلك لأن الكرد مشهورون بدقة الملاحظة وحب الاستطلاع ، ولأننا كنا أول جماعة أوروبية لم ير أكثرهم مثيلا لها من قبل ، غير أنه لم يقترب منا أحد إلا من كان واجبه يقضي عليه بذلك. وقد علمت أن ذلك كان نتيجة لأوامر محمود باشا التي نهت الكرد بشدة عن إزعاجنا. لم أهنأ بالراحة في هذا اليوم إلا قليلا ، وقد كانت نفسي ترزح تحت أعباء يصعب عليها تحملها. وما إن دخلت خيمتي وجلست فيها حتى وصل «تاتار» سريع (ساع) من استانبول (١) وكان بودي لو جاء في غير هذا الوقت ، ولأنه كان ينعى الملك أصبح لزاما علينا أن نبعث بالرسائل على الفور (٢). ولم أكد أستعيد هدوء بالي بعد مجيء التاتار حتى جاءني صديقي القديم كبير رجال عبد الله باشا ، وأعقبه محمود مصرف ، رئيس وزراء باشا السليمانية وهو شخصية معروفة في كردستان غالبا ما سمعت عنها في بغداد. وقد جاءني ليخبرني بأن سيده قادم عصرا

__________________

(١) ويعني التاتار : وكان الأتراك يستخدمون السعاة التاتار في نقل البريد. وهكذا استعملوا كلمة «تاتار» في التركية وصفا لساعي البريد ـ المترجم.

(٢) لإيضاح الشكوك والمخاوف التي توسوس في رأس حاكم شرقي ، يمكن لنا أن نذكر بأن داود باشا ، باشا بغداد ، كان قد ارتاع كثيرا لذهاب المستر ريج إلى كردستان.

ولم تقنعه الأسباب التي ذكرت له ، إذ لا يتصور التركي أو يعتقد بالسياحة للاستشفاء أو للتسلية ، والظاهر أنه توقع شرّا لشخصه. ويقال إن وصول الساعي من استانبول يوم وصول المستر ريج إلى كردستان قد قوّى فيه مخاوفه وأيدها ـ الناشرة.

٨٢

ليزورني الزيارة الأولى مرحبا بنفسه بقدومي إلى بلاده. وكان هذا تكريما غير متوقع ، وبرهانا عظيما على نزعته الودية الكريمة ، وفي الواقع إنني ما كنت أتأمل منه أن يرد على زيارتي ، ومن أجل هذا كان سبقه في المجيء من الأمور المفاجئة.

وعلى ذلك قمت بخير الاستعدادات التي استطعت القيام بها في موقفي هذا لاستقبال محمود باشا ، وبعد العصر بقليل أعلن عن قدومه ، وكان منظر موكبه بدائيّا مفرحا ، لقد كان وحده ممتطيا جوادا ، ولما كان رجلا صغير الجسم جدّا فقد كاد يخفى عن الأنظار بجمهور من الكرد الطويلي القامة وقد ارتدوا ملابس ألوانها ألوان قوس القزح كلها ، وردي وأصفر وقرمزي ، وكانت هذه الألوان هي الغالبة في أهداب (شراشيب) أغطية رؤوسهم ؛ وكان الموكب صامتا ، ووقع أقدامهم يسمع من بعيد. وعندما أدى حرسي التحية ردها الباشا بوضع يده فوق صدره بوقار عظيم. وقد أرسلت عرفائي للقياه ، وخرجت شخصيّا بعيدا عن باب الخيمة لاستقباله ، وما إن رآني حتى ترجّل بين هتاف عرفائه فصافحني بكلتا يديه ودخلنا الخيمة وجلسنا سوية على بساط أحضرته خصيصا لهذه المناسبة. وقد تمكنت بصعوبة من إقناعه على أن يتخذ جلسة مريحة ، ويقعد القرفصاء ، إذ كان مصرا على أن يتجشم صعوبة الجلوس ليظهر الاحترام الزائد ، بالركوع مستندا على كعبي قدميه. وقد رحب بي وبزيارتي لكردستان مرة بعد أخرى مؤكدا لي بأن بلاده بلادي ، ومكررا كلمات غيرها من كلمات المجاملات الشرقية. وقد تبادلنا طبعا ، الكثير من العبارات الرقيقة ، منها اعتذاره عن حالة بلاده ، وامتداحي لها. وعلى كل فقد كنت أعبر عن شعوري مخلصا ، إذ إنني في الحقيقة كنت مفتونا بالتلال الخضراء ومبتهجا لابتعادي عن بغداد. وبعد ذلك سلمته رسالة باشا بغداد ، ولما كانت رسالة رقيقة جدّا فقد عنيت العناية كلها بتسليمها على مشهد من حاشيته أو ملازميه ، وقد ظهر لي أنه أدرك اهتمامي. وقد

٨٣

تكلم عن حالة البلاد ، مبديا لي الصعوبات التي يكابدها بسبب وضعه على حدود سلطتين متنافستين لا تنفك الأولى عن اضطهاده في طلب الجزيات والضرائب ، والثانية وهي السلطة المنقاد إليها حكما ، أي سلطة الأتراك الذين كانوا يلحفون عليه أن لا يخدم الإيرانيين ، ولا يؤدي لهم المال ، ومع هذا فلم يتمكّن الأتراك من الدفاع ، ولم يرغبوا فيه عندما نفذ ما أراده شهزادة كرمنشاه بالقوة. وقد أشار إلى النتائج الوخيمة التي تورثها هذه الإدارة المزدوجة في خيرات البلاد وازدهارها ، مشيرا إلى كل ذلك بتواضع ودراية ، كما بين رغبته في الانقياد إلى أغراض باشا بغداد مخلصا. وفي الواقع إنني أعتقد بأنه يميل كل الميل إلى الأتراك بدوافع دينية ، ولكن من السهل أن نرى أن أغراضهم لم تكن مقبولة كل القبول وأن الأكثرية الساحقة في هذه البلاد لا تكنّ الاحترام للعثمانيين أو الثقة بهم ، وهم لا يستحقونهما. إن إدارتهم السياسية إدارة عمياء ، متعجرفة ، خداعة ، فبفطنة قليلة وباسترضاء يسير وباحترام كاف للشعور بالسنية بين الكرد المتعصبين الذين يمقتون طائفة الإيرانيين ، كان باستطاعة العثمانيين توثيق أواصر الولاء بينهم وبين شعب جسور كثير العدد ـ يقطن في أهم مناطق حدودهم ـ ويعطي الرجحان للكفة التي يختارها حين يحين الآوان. فهنالك الآن لعبة تلعب ، يصعب استكناه الغامض من حيلها. ولكن من الواضح أنها قضية «مقابلة الخدعة بالخدعة». وذلك أن باشا بغداد يسعى إلى خدع كل من باشا كردستان وشهزادة كرمنشاه في الوقت الذي يخدع فيه شهزادة كرمنشاه كلّا من باشا بغداد ، وباشا كردستان. وهم بمجموعهم وعلى انفراد يسعون بدورهم إلى غش الباب العالي ، الذي سيخرج ولا ريب متضررا من القضية أكثر من غيره ، والذي يسعى في كل الأمور ليجعل من نفسه العدو المشترك ؛ هذا ولا دخل لي بكل هذه الأمور. وإن الموقف الذي أنا فيه اضطرني أن أكون إلى جانب تركية ، ولو بصورة سلبية على الأقل ، وقد سعيت أن أبين ذلك بجوابي. وبعد

٨٤

فترة سكوت وجيزة اعتقدت خلالها بأن الباشا قد تأثر بما أبنت تأثرا حقيقيّا قال «إن والدي رحمه‌الله كان يودك كثيرا». ولو أنه شهد هذا اليوم الذي طالما توقعه لفرح كل الفرح. وإنني كنت أفضل أن يستقبلك هو ، عوضا عني. «فأجبته» إن عبد الرحمن باشا كان صديقا أكن له بالغ التبجيل ، وإني أحترم ذكراه الاحترام كله ، إلا أنه ترك خير خلف له». وبعد أن دخنت الغلايين وأديرت كؤوس الشراب وأحرق البخور ، ورش ماء الورد ، رجع الباشا محفوفا بأتباعه كما أتى. وقبل أن يترك الخيمة أخبرني بأنه يرغب فيما إذا راق لي ذلك ، أن أدخل السليمانية بعد غد في التاسعة صباحا ، فأدركت حالا بأنه يجب أن يكون السبب في ذلك خرافة تنجيمية ، ومن الطبيعي أنني سايرته في الأمر.

ولم يكن في محمود باشا ما يميزه في شخصيته وحديثه ، ذلك أنه رجل بسيط رشيد ، وهو في الوقت ذاته رقيق الحاشية دمث الطبع ، ويقال إن أخلاقه الفردية كاملة لا شائبة فيها ، وذلك أمر لم يكن من الأمور الاعتيادية بين الكرد.

وكان اليوم كله يوم امتحان كبير لأعصابي الخائرة ولكنه ما كان يوما مزعجا لو لا قدوم التاتار. كان المنظر طريفا لا عهد لي به وكان الكرد أبعد من أن يكونوا مثار قلق وإزعاج ، وقد التقطت بعض المعلومات من الكثير منهم. لقد أردف الباشا زيارته بهدية كبيرة من الأغنام ومن المؤن الأخرى لجميع حاشيتي ، وقرر أن لا يدعني أشتري أية حاجة ما دمت في منطقته ، إلا أنني معتزم أن أضع حدّا لذلك ، حالما ينتهي استقبالي الرسمي.

٩ أيار :

قضيت صباح اليوم بكتابة رسائل رسمية وشخصية ، وبإيفاد التاتار.

٨٥

وجاء بعد الظهر صديقي القديم عبد الله باشا (١) لمواجهتي ، وكان قد تمرّض مرضا موجعا طال أمده حتى كدت أن لا أعرفه من شدة تأثيره فيه ، لقد عانقني بسرعة وبلهفة ، وقد عجز من فرط تأثره عن التكلم لبضع ثوان. وهالني ما تركه المرض فيه من ضعف ونحول ، وهكذا كان تلاقينا كئيبا في بادىء الأمر ، وإن انبعث فينا الانتعاش عندما أخذنا نذكر الأيام الماضية. وكان من السهل الإدراك أن أعضاء حكومة بغداد ، ولا سيما داود باشا لم يكونوا عند حسن ظنه ، ولا أستغرب ذلك إذ إن الأتراك عاملوه معاملة قاسية ، ومما لا شك فيه أنه سينتهز بدوره الفرص ليكيل لهم صاعا بصاع بل أكثر من ذلك. لقد تكلم عن ابن أخيه باشا السليمانية الحالي بتعظيم ولطف ، وأحسب أنني استطعت أن ألحظ بعض التحرّج عنده. لقد قضى أكثر من ساعة معي وصافحني عند الوداع مصافحة حميمة.

درجة الحرارة في الخامسة ق. ظ ، ٥٦ د وفي الثانية والنصف ب. ظ. ٧٨ د وفي العاشرة ب. ظ. ٦١ د. الريح شرقية ولكنها معتدلة.

__________________

(١) عم من أعمام محمود باشا ، باشا السليمانية.

٨٦

الفصل الثالث

عثمان بك ـ الدخول إلى السليمانية ـ زيارة الباشا ـ وصف دارنا ـ

تعلق الكرد برؤسائهم ـ قصص ـ عراك الحجل ـ

أفغانيون في شهرزور ـ زه نيفون والعشرة آلاف

* * *

١٠ أيار :

كان هذا الصباح هو الذي أقر المنجمون ـ على ما يظهر ـ ملاءمته لدخولي عاصمة الباشا واستقباله لي استقبالا رسميّا ، فقبل الوقت المعين بنصف ساعة تقريبا جاءني عثمان بك الشهير الذي سمعت عنه الكثير وهو أصغر إخوان الباشا وأجرؤهم ليأخذني إلى المدينة ، وكان برفقته جميع أعضاء المجلس وهم على ظهور جيادهم ، وجماعة كبيرة من المشاة الكرد. وكان البك ممتطيا جوادا عربيّا كريما من جياد عرب عنزة ويقال إنه كلّفه ١٣ ألف قرش (١).

__________________

(١) أخبر الأستاذ يعقوب سركيس ، المترجم عن قيمة القرش ، قائلا : «كثيرا ما تغير حجم القرش العثماني ونقله وعياره خلال أكثر من ثلاثة قرون. ويظهر لي استنتاجا من حسابات لأحد التجار في بغداد في العقد الثالث من القرن التاسع عشر أن هذا القرش

٨٧

كانت ملابس القوم كلهم زاهية بهيجة ، وقد أثّر في منظر البك كثيرا ، فلم يكن ضخم الجثة بل مربوعا قوي البنية ، وكانت تقاطيع وجهه متناسقة غاية التناسق ، ولحيته سوداء مجعدة وعيناه زرقاوين غامقتين ، وحاجباه سوداوين وأهدابه سوداء ، وسحنته سحنة رجل خفيفة السمرة وردية جميلة نقية. لقد كان بوجه عام شابا وسيما جدّا ، ويقال عنه إنه لا يضاهيه من أبناء قومه أحد في الفروسية وفي التمارين العسكرية المفضلة لديهم وهو مشهور أيضا بشجاعته وكرمه ، ومن الناحية الأخرى يقال عنه أيضا إنه فاسق في أخلاقه مستبد في ميوله إلى حد ما.

لقد بادرني بحديث رقيق غير متكلف ينم عن بعض الإخلاص دون أن يكون أي أثر للخشونة والفظاظة فيه وقد ألفته مهذبا في سلوكه ، كما شعرت أنه كان مدرك لميزاته الشخصية. وكان يرتدي أفخر الملابس التي تتفق والذوق الكردي ، فرداؤه من القماش الهندي الفاخر المزوق بالأوراد الذهبية ، وغطاء رأسه من الشال الكشميري المزين بالأهداب الذهبية أيضا وقد وضعه وضعا مرتخيا غريبا ، أما رداؤه الخارجي فكان معطفا أو جبة من القماش القرمزي الفينيسي (البندقي) ذا أزرار ذهب ، وكان عمر عثمان بك اثنتين وثلاثين سنة ، أما عمر أخيه الباشا فخمس وثلاثون سنة. وأمهما أخت خالد باشا وهي كذلك من سلالة عائلة ال (به به) الرئيسة (١).

وكان عثمان بك يميل إلى التكلم عن شؤون البلاد الكردية بحرية جاوزت الحد الذي أردت تشجيعه عليه ، وكان من السهل الإدراك أنه لم يكن من الميالين إلى الأتراك. وكان ينظر مرارا عديدة إلى ساعته خلال

__________________

إذا ما قسناه بنقودنا العراقية الحالية يساوي (١١) فلسا باعتبار الدينار ذهبا. فال (١٣) ألف قرش تساوي نحو (١٤٣) دينارا ذهبيّا ، أو باونا استرلينيّا كذلك ذهبا ...».

وقد علم المترجم أن التاجر الذي يذكره الأستاذ المحترم هو جده.

(١) هذا اسم عشيرة باشا السليمانية ، وقد ورثوا ذلك من جدهم (به به سليمان).

٨٨

الحديث والظاهر أنه كان حريصا على عدم فوات الوقت المضروب لركوب الخيل ، وعندما أخبروه أخيرا بحلول الوقت نهضنا سوية وتقدمنا حسب الترتيب التالي :

دليل ، فبوقي ، فحامل الراية (١) ثم ثلاثة خيول مسحوبة يعقبها رئيس سواسي ثم عرفائي أو المشاة العداة وهم مدججون بالسلاح ومن ورائهم جنودي ومعهم طبولهم ومزاميرهم ، وأنا من وراء هؤلاء راكب «فينفار» وعلى كل من جانبي الجواد ماسك ركاب مسلح بالطبر والدرع ، ثم يأتي المستر (به ل لي نو) والدكتور (موران دو) فعثمان بك على جواده العربي الجميل يعقبه نسق مؤلف من زهاء ثلاثمائة من المشاة الكرد ، ويعقب البك وجماعته أعضاء مجلس الباشا ومأمور خزينتي ثم التوابع الراكبون حيث ينتهي الموكب. تقدمنا بنظام حسن جدّا نحو المدينة إذا جاز لنا تسميتها كذلك ، وهي ما كانت تبعد أكثر من ربع ميل ، وكان الجمهور المتجمع لمشاهدة الموكب غفيرا ، وما كنت أظن أن المدينة تضم ذلك العدد الكبير من الناس ، وبالرغم من ذلك ساد النظام التام ، وكان ضباط شرطة (داروغا) (٢) ينزلون ، دون أن أرى لذلك سببا ، الضربات المتوالية على من حولهم بهراواتهم الثقيلة التي يبدو أن الضربة الواحدة منها تكفي لطرح ثور ، ومع هذا بدا لي أنني كنت الوحيد المنزعج من هذا الأسلوب في فسح الطريق ، أما الكرد الذين كانت تنزل بهم الضربات المتلاحقة فكانوا يتلقونها على رؤوسهم ومناكبهم بأقل اكتراث كأنها نازلة على سندان. وهكذا وصلنا القصر وكان مدخله واطئا حقيرا ضيقا وسخا إلى درجة أظن أنها لا تليق بمسكن حاكم بل بمسكن

__________________

(١) لقد حمل راية الصليب تركي ، وعزف بوقي إيراني موسيقى المسير الإنكليزية ، وما كان العزف رديئا. (ويعني براية الصليب الراية البريطانية ـ المترجم).

(٢) رئيس الشرطة. (كلمة جغتائية يعبر بها عن منصب هو المشرف الإداري أو الجابي ـ المترجم).

٨٩

رجل من عامة الناس ، ولكنني علمت أن لهذه الحالة منافعها في مثل هذه الديار إذ إنها تجعل الدفاع عن كرسي الحكومة في الطوارىء ممكنا. والمدخل لا ينتهي إلى واجهة القصر بل ينعطف إلى جانبه (١) وهنا اضطررت إلى الترجل إذ استحال عليّ التقدم بعد ذلك راكبا. ثم ارتقينا درجات سلم جميل يؤدي إلى بهو الاستقبال الذي لو عمر لكان غرفة فاخرة حقّا وكانت واجهة البهو مكشوفة تستند على أعمدة (٢).

استقبلني الباشا عند الباب وأخذني إلى كرسي في صدر الغرفة وقعد كل من المستر (به ل لي نو) والدكتور على كرسيين أيضا دون الصدر بقليل ، وجلس أعضاء المجلس يرأسهم عثمان بك على (نيم مد) عريض (٣) أو سجادة شعر ثخينة في الجانب المقابل ، واختلط أفراد حاشيتي برجال الباشا الذين جلسوا في صفين على محاذاة جدران الغرفة وقد وقف في وسطها ال (أيشيق باشي) رئيس التشريفات وبيده عصا منصبه ، وملأ الممرات وردهة الدار تحت الغرفة جمع من الكرد مرتدين خير الثياب. وبعد تبادل الكلمات الترحيبية لاحظ الباشا أنني أعجبت بالغرفة فقال : «إن والده المرحوم هو الذي بناها وإنها تحتاج إلى الترميم» ثم أردف قائلا : «ومن الذي يرمم شيئا وهو غير متأكد من استمتاعه به؟

__________________

(١) وهنالك مدخل جيد آخر (وإن كان حقيرا أيضا) في واجهة القصر كانوا يرممونه آنذاك.

(٢) تسمى مثل هذه الحجر ب (تالار). انتهى ـ (وقد عرفت في اللّغة البغدادية ب (طرار) ـ المترجم).

(٣) كلمة فارسية معناها نصف مدة. ويصطلح عليها في القسم الجنوبي من العراق بالمدة وجمعها مدات وقد يعبر عنها بكلمة (يان) التركية ـ الجانب ـ في بعض الأحيان. (المترجم) وقد جاء في حاشية من الكتاب ما يلي : شقات ضيقة من اللباد الثخين الناعم المزين بألوان عديدة جميلة ، تفرش حول الغرفة في إيران وكردستان وتقوم مقام الأرائك والكراسي.

٩٠

وقد يقوضه الأتراك أو الإيرانيون بعد أيام معدودات» وأخبرني بأن الفضل في علو موقع القصر يعود إلى تشييده فوق رابية اصطناعية من الآثار القديمة جدّا (١) وكانت المناظر التي يشرف عليها القصر بهيجة تشرح الصدر. لقد حاولت تجنب الكلام في السياسة وحمل الباشا على البحث في اقتصاديات بلاده وعادياتها ، فأصبت الهدف بادىء الأمر إصابة موفقة. وقلت له بأنني سمعت أن والي (سنه) من عائلة كورانية (٨) وأن الكورانيين لم يكونوا موضع احترام كأفراد قبائل ، فسرت بين الحاضرين فورا دمدمة استحسان عمت الغرفة. وهنا تبين لي أنني نلت تقدير الكرد العشائريين ، فهب الباشا بحيوية أوفر من المعتاد وطفق يذكر تاريخ عائلته فقال في بادىء الأمر إن عائلة والي (سنه) عائلة عريقة جدّا ولكن الكورانيين ليسوا من العشائر ، ثم أخذ يمتدح نفسه ذاكرا أنه سليل عائلة عريقة وعشيرة كريمة ، وأردف قائلا إن اسم عشيرته في الأصل هو (كرمانج) أما كلمة (به به) فهي لقب عائلته التي يؤلف أعضاؤها رؤساء العشيرة الذين يتولون الرئاسة بالوراثة ، ولذلك تسمى الآن جميع المنطقة التي يقطنونها وسكانها معا بحكومة البه به أو بالحكومة البابانية. وقد تكونت العشيرة في الأصل في (بيشدر) في الجبال الشمالية بالقرب من (سي كه نه) على الحدود الإيرانية. وقال أيضا إن أحد أجداده قام بخدمة جليلة لأحد السلاطين العثمانيين في حربه مع الإيرانيين فجوزي على ذلك بتوليته على كل منطقة يتمكن من إخضاعها ، وهكذا استحوذ مع الزمن هو وبعض من خلفه من الرؤساء على المناطق التي يشغلونها الآن وغيرها من المناطق التي استرجعت من الإيرانيين منذ ذلك الحين. وانضوت كل هذه المناطق تحت لواء البابان أو البه به وعهد أمرها إلى باشوية (شهرزور) التي كانت كركوك عاصمتها. ولم يتمكن الباشا من ذكر أي

__________________

(١) وقد تكون هذه الرابية من نوع الطنوف التي ذكرتها في بحوث (جمجمال) و (ده ركه زين) و (طاس لوجه).

٩١

من التواريخ لي ، وكان كل ما يعرفه هو أن أجداده كانوا أرباب اللواء لزمن طويل ثم خصصت إليهم باشوية منطقتين قبل مدة ثقل عن القرن. وقد أخبرني أنه من السهل تمييز الكورانيين من سيمائهم ومن لهجتهم الكردية. لقد تحدثنا كثيرا في مثل هذه المواضيع وتفارقنا ونحن صديقان حميمان ، وبدا لي أن أبناء عم الباشا كلهم ، أي أبناء عشيرته صاروا ينظرون إلي بعين الرضا.

وعند مغادرتي القصر وجدت جوادا جميلا عليه عدة مزركشة جيدة مهيّئا كهدية لي لم أستطع إلا قبولها ، فقيد أمامي. والآن ذهبنا لمعاينة الدار التي هيّئت لسكناي وهي قريبة من القصر وقد وجدناها دارا تكتئب لها النفس ، وهي وإن كانت فسيحة إلا أنها خربة قذرة. وكانت على حالها تلك مسكن أحد رجال أو ضباط الباشا ، وقد أخرج منها لنقطنها ، وكان نفوري منها وعزوفي عن السكنى فيها ظاهرين علي كما أعتقد. وبعد أن دار بعض الهمس بين الكرد وبين حاشيتي أوفد الباشا رئيس وزرائه راجيا أن أسمح لمأمور خزينتي بالذهاب مع أحد رجاله لاختيار أية دار في المدينة ليفرغها لي صاحبها فورا فأشغلها بيد أنني لم أستسغ هذه الفكرة علاوة على عدم رغبتي في إزعاج الغير إزعاجا آخر. هذا ومن رأيي أن الفرق بين المساكن في المدينة لا بد أن يكون ضئيلا على كل حال ، ولا بد من أن الباشا قد بذل كل ما في وسعه في بادىء الأمر لتأمين راحتنا قدر المستطاع فقررت الانصياع إلى الواقع وإشغال الدار المخصصة لنا ، وشعرت فورا بأن قراري هذا قوبل بارتياح عام. وعلى ذلك أرسلت ميناس ليستصحب زوجتي إلى المدينة إذ إن الكرد لا يستحسنون مطلقا رجوعي إلى مضربي اليوم ، وكان من السهل إدراك رأيهم الخرافي في النحس الذي قد يصيب أمورهم فيما إذا تركت المدينة ، ولذلك وحتى قدوم قرينتي قضيت من الوقت مدة ساعتين أو ثلاث ساعات في التمشي مكتئبا متكاسلا الأمر الذي زاد في الصداع العصبي الذي شعرت بنذيره منذ الصباح.

٩٢

وأرى أن وصف هذه الدار مما يساعد على معرفة غيرها من الدور الجيدة في السليمانية ، فهي بناء مربع ذو طابق واحد مبني على دكة مشيدة من اللبن ـ الطابوق المجفف بحرارة الشمس ـ ارتفاعها ثلاثة أقدام تقريبا مملوطة جدرانها بالطين الممزوج بالتبن. وقد طليت جدران غرفة واحدة أو غرفتين منها بالنورة فوق طبقة الطين ، وسقفها مسطح مؤلف من جسور وعوارض تعلوها طبقة من التراب. والبناء كله قائم في وسط حريم واسع أو كما يعبّر عنه في الهند في وسط محيط ، وينقسم هذا الحريم إلى فناءين بجدار يتصل بجانبي البناء بالقرب من منتصفه جاعلا القسم الأمامي منه حريما والقسم الخلفي منه حريما آخر وهكذا يتفرع إلى فرعي الحرم (١) والديوان (ديوانخانة) (٢) ، وليس ثمة باب يصل بين الفناءين من داخل بناية الدار ذاتها كما هي الحالة في جميع البيوت التركية ، بل يجب أن ندخل من باب في الجدار الذي يقسم الحريم إلى فناءين ، وذلك مما لا يرتاح له المرء في الحالات الجوية الرديئة بوجه خاص. كانت ساحة كل من الفناءين معشوشبة وقد غرزت فيهما أشجار الصفصاف والحور والتوت وأنجم الأزهار في أخاديد ولوحات صغيرة. ويجري في أفنية بيوت السليمانية جدول ماء صغير يسيل من الجبال في الكهاريز. والظاهر أن تقسيم الغرف لا يستند على تصميم ، وعلى كل حال لم أتمكن شخصيّا من الوقوف على أي نظام أو طراز في بناء الدور ما عدا وجود طرار في فرعي الحرم والديوان. والطرارات غرف مكشوفة أمامية مخصصة لاستقبال الزائرين وللنوم في الصيف فيها بوجه عام ، ولا ينام أحد فوق السطوح إلا الفقراء الذين لا طرارات في بيوتهم. هذا وفي أيام الحر الشديد التي لا تستمر إلا مدة شهر واحد ، يستعمل البعض دكات أو مصطبات واطئة لذلك الغرض ، وفي الصيف يشيد الكثيرون

__________________

(١) مقصورة النساء من البيت.

(٢) قسم من البيت يستقبل به رب الدار ضيوفه ويسكنه الرجال من الخدم.

٩٣

سرادق من القش ـ جارداق ـ أو من الأغصان فوق حوض صغير في ساحة الدار ، أو ينصبون خيمة تخلصا من البراغيث وهي من المزعجات الفظيعة في جميع أنحاء الشرق ، ويقال إنها لا تطاق في هذه الربوع خاصة.

وهناك في الديوان ردهة أو بهو واسع خال يستند على أعمدة يكاد أن يكون مظلما ، ويقال عنه إنّه ملجأ بارد في الصيف ، لكنه لا بد أن يكون بؤرة تعج بالبراغيث. وهنالك بلية أعظم هي بلية العقارب التي يقال إنها كثيرة وكبيرة وسامة ، وتوجد هنا أيضا أمهات الأربع والأربعين ، إلا أنني أعتقد أنها لا تثير الكثير من الرعب في القلوب ، وكذلك الأفاعي وهي كبيرة وعديدة ويقال عنها إنها سامة أيضا.

أما غرف الدار الشتوية فيدخل إليها من مجازات طويلة معتمة ومنظرها مما لا يثير الرغبة في مشاهدتها من قريب. وفي الحقيقة إنني كنت أتجنب البقاء في داخل الدار وأفضل أن أكون خارجها على قدر المستطاع.

أما البيوت الاعتيادية الأخرى فهي زرائب من الطين ، ويظهر أن المكان بكامله يحاكي قرية عربية كبيرة ، وهي مكشوفة تماما ، ويلوح أن الناس لا يهتمون لذلك إذ وجدنا النساء يخرجن مع الرجال سوية لإنجاز واجباتهن البيتية دون أن يتحجبن. ومع ذلك تحتوي هذه المدينة الحقيرة المظهر على خمسة خانات وجامعين معمورين وحمام واحد جد أنيق. وقد قدر خير المقدرين من الكرد نفوس السليمانية بعشرة آلاف نسمة بما فيهم موظفو الحكومة وتوابع الأمراء ، أما المواطنون الاعتياديون فهم من القرويين المزارعين.

وحالما وصلت الأمتعة نصبت خيمة بعمودين فجعلتها ديوانا أو غرفة استقبال ، وبعد أن زوقتها بأسلحتي وفرشتها بسجادة جميلة ومدات تلطف الباشا فأرسلها إلي ، أصبحت غرفة استقبال غربية لا يزدرى بمظهرها ، ومما لا شك فيه أنها أصبحت أبهج وأحسن من أي غرفة في

٩٤

المدينة. ونصب السباهيون ـ الجنود الهنود ـ خيامهم في ساحة الدار كذلك وحذا حذوهم البعض من جماعتي من الذين لم ترق لهم حالة ملاجئهم.

ولم تصب استعداداتنا في الحرم في الليلة الأولى النجاح المطلوب ، وقد جربنا أحسن الغرف تهوية ولكن مما يؤسف له أن الحر والروائح الخانقة وأسراب البرغش أبانت سخف مساعينا فسحبنا سررنا إلى «الطرار» وخبنا هنا أيضا فبقينا مسهدين حتى الفجر من جراء هذه المزعجات الكردية. ولو تمكنت من الرقاد بضع ساعات لكان ذلك من النعم الكبرى علي ، وأنا على ما عليه من الإرهاق العصبي.

درجة الحرارة في الخامسة قبل الظهر ٦٢ د ، وفي الثالثة والنصف بعد الظهر ٧٥ د ، وفي العاشرة بعد الظهر ٦٨ د ، هبات ريح جنوبية ، يوم مزعج ومطر قليل.

١١ أيار :

زارني الكثير من السادة الكرد ، واقتطفت منهم شتى المعلومات عن بلادهم. لقد طلب أمان الله خان والي (سنه) ذات مرة من عبد الرحمن ، باشا السليمانية أن يخبره عن الدواعي التي تمنع خدمه من مرافقته إلى منفاه بالرغم من معاملته إياهم معاملة حسنة ، وعدم إظهارهم تعلقهم به في أوقات المحن والحرمان كما أظهر ذلك الكرد البابانيون حيال أمرائهم على الدوام. وكان جواب عبد الرحمن باشا الكبير على ذلك جوابا فذّا في بابه إذ قال «إنك لست رئيس عشيرة وليس رجالك رجال عشيرتك ، وقد تلبسهم وتطعمهم وتغنيهم إلا أنهم ليسوا أبناء عمومتك ، بل هم خدم ليس إلا».

وفي الواقع إن تعلق الكرد برؤسائهم شديد جدّا ، فهم يعيشون في بغداد مع أسيادهم في حالة نفي منكرة يكافحون فيها شظف العيش وكل

٩٥

أنواع المحن والعوز دون أن ينبسوا ببنت شفة ، وقد ترى في بغداد سادة في أسمال بالية يملك كل منهم في بلاده جوادا مرختا وخادما ولكن المعروف عنهم أنهم غالبا ما يتكسبون المال من الحمالة والسقاية ليقدموه إلى أسيادهم ليعينوهم على العيش. فعند موت شقيق عبد الرحمن باشا في بغداد كان أحد الكرد من أتباعه واقفا في شرفة الدار أو على سطحه ، وفي الدقيقة التي أسلم فيها سيده النفس الأخير صاح قائلا «ماذا؟ أمات البك؟ إذن يجب أن لا أعيش لحظة واحدة من بعده» ثم قذف بنفسه من أعلى الدار ومات مهشّما. وكثيرا ما رويت لي هذه القصة في بغداد ، ومع هذا فالنفي في بغداد أمر يخشاه الكرد كل الخشية ، إلى درجة أن تعلقهم الشديد برؤسائهم ذاته لا يدرء عنهم أهوال ذلك النفي دوما ؛ فإنهم يتحملون الفقر والعوز دون تأفف إلا أن قفار البلاد العربية المحرقة فظيعة حقّا لا يطيقون العيش فيها على ما يدعون. وعندما بلغ بسليمان باشا الكردي الغباء حد السماح لنفسه أن تجذبه بغداد إليها مرة أخرى بعد أن جرب مرارا غش باشا بغداد وخيانته له تقدم إليه أحد البكزادات أو أحد السادة البارزين المتقدمين فخاطبه قائلا : إنهم على أهبة الاستعداد للقيام بأي أمر من أجله إلّا تحمل أهوال النفي في بغداد مدة طويلة ، وإنهم يرغبون في أن يسمح لهم بالنزوح مع أمراء العائلة الآخرين سعيا وراء نصيبهم من الرزق في كردستان. وعندما يتولى الرؤساء الحكم يشرعون بتوزيع أخصب الأراضي على أولئك الأتباع المخلصين ، علاوة على إهدائهم لهم الخيل والسلاح باستمرار. لقد أخبرني خالد باشا بأنه عندما أقصي من حكم كوى سنجاق جاءه رجاله بمعدات خيلهم وسروجها وشفوفها الفضية فألقوها بين يديه قائلين له : إنّه سينزح إلى بغداد منفيّا ، وإنهم سيلتحقون به هناك حيث لا حاجة بهم إلى مثل تلك الكماليات ، واستعطفوه ليجعل من الفضة مالا يستعين به.

لقد تأكد لي من خير المصادر الموثوق بها ما كنت أتوقعه منذ زمن

٩٦

بعيد من أن القرويين في كردستان يؤلفون جماعة تختلف الاختلاف الكلي عن رجال العشائر ، وهم نادرا ما يفلحون الأرض أو أنهم لا يفلحونها البتة ، ومن الجهة الأخرى فإنهم لم يكونوا جنودا ، ويسمي الكرد العشائريون أنفسهم بال (سباه) أو الكرد المحاربين تمييزا لأنفسهم من الكرد القرويين. أما القرويون فلا اسم مميز آخر لهم في هذه الأصقاع من كردستان غير (رعية) أو (كويلي). ولقد اعترف لي أحد أبناء العشائر ذات مرة قائلا : إن العشائر ينظرون إلى القرويين على أنهم خلقوا لخدمتهم. وإن حالة هؤلاء الفلاحين الكرد تعسة حقّا تشابه حالة الرقيق الأسود في الهند الغربية إلى حد كبير ، والأنكى من ذلك أنني لم أجد في الإمكان حمل هؤلاء الأسياد الكرد على الخجل من قسوتهم على أتباعهم المساكين (١) والكل يتفق على أن الفلاح يتميز بسهولة من ابن العشيرة القح في الملامح والكلام ؛ وليس له أن يظهر نفسه كالنبلاء من أبناء وطنه.

__________________

(١) إن ما التفت إليه المؤلف من وجود مميزات هامة ما بين العشائر الكردية والقرويين الكرد كان في محله ، لأن المعروف عامة أن العشائر الكردية إن هي إلا وحدات اجتماعية أو رمز خلص من الأقوام (الأيندوآرية) التي نزحت إلى منطقة كردستان إبان عهد الهجرة الكبرى أي قبل ميلاد المسيح بنحو ألف وخمسمائة عام. أما القرويون فالمفهوم أنهم بقايا سكان المنطقة الأصليين يمت أصلهم بأقوام (زغروس) ولكنهم اندمجوا مع مرور الزمن بالعشائر النازحة مع احتفاظ كل من الوحدتين ببعض سجاياها ومميزاتها وإن كانت تلك الميزات أخذت تتلاشى. وهنالك تعبيران يطلقان على القرويين وما زالا مستعملين حتى الآن تمييزا لهم عن زمرة العشائر. وهما «ديكاني» أي أهل القرى والثاني «مسكين ـ» Misken أي الفلاح ، وفي التعبير الثاني شيء من الازدراء.

وهناك حقوق يتمتع بها رؤساء العشائر على القرويين والفلاحين تجعلهم في الحقيقة (مساكين) بالمفهوم المتعارف به. راجع الملحوظة (٩) للوقوف على بعض الحقوق التي كانت لرؤساء عشائر (بيشدر) والمسماة بال (آغايبتي) أي حقوق الأغاوية.

٩٧

قال لي محمود آغا «إن الأتراك يسموننا كلنا كردا ، وهم لا يدركون الفروق بيننا ، فإننا أناس نختلف الاختلاف الكلي عن القرويين ، وعند هؤلاء البلادة التي يسر الأتراك أن يلصقوها بنا» (١). والمقصود من المعاملة التي يعامل بها القروي هو تبليده ، ولكن الاستبداد مما يحط من منزلة السيد والعبد ويبلدهما على حد سواء ؛ وعلى هذا الأساس ما كان يستغرب أن يغدو كل من الكردي العشائري والكردي القروي بليدا لا إحساس له.

وفي خلال محادثة تتعلق بالعوائل الكردية البارزة قال أحد الحاضرين «أليس من العار أن يرضى أمراؤنا بالذهاب إلى بغداد حيث يكرهون على الإذعان إلى تركي ابتيع قبل مدة كما تبتاع الأنعام ببضع مئات من القروش ، وهو أن انفعل خاطب أيامنا بقوله ـ «أيها الكردي الحمار» ثم انبرى آخر من الحضور قائلا «إن في تحاسد أمرائنا دمارهم ، فليس للأتراك ولا للإيرانيين حول في إيذائنا إلا باستغلالهم انشقاقنا والمنافسة العائلية القائمة بين رؤسائنا. إننا نعلم هذا ، وبالرغم من ذلك ينجح الأتراك على الدوام بطريقة أو بأخرى في التغلب علينا ، ولا ريب في أننا كرد ذوو عقول متبلدة». وعند ذكر الحالة القذرة للدار المتهدمة التي أسكنها قال الرجل ذاته «هذا هو الحق ، ولكن لم نشيد البيوت العامرة أو نرممها ونديمها ونحن غير موقنين من أننا سننعم بها في أيام حياتنا بله أبناؤنا ؛ يذهب باشا ويخلفه آخر من العائلة ذاتها (٢) فيأتي بأصدقائه والمقربين إليه فيطردوننا من بيوتنا ومقاطعاتنا. إن سر خراب هذه البلاد هو انعدام ما تتطلبه من استقرار ومن دوام حكامها ؛ فمهما كانت ميول الأمير فمن الخير أن يتمسك بها طيلة الحياة».

__________________

(١) يشير بذلك إلى قول دارج بين الأتراك «أحمق كالكردي».

(٢) وجدير بالذكر هنا القول بأن باشوات السليمانية كلهم يجب أن يكونوا من البيت الباباني.

٩٨

وبعد الظهر جاءني محمود مصرف ليسليني بمشاهدة عراك الحجل ، وهذه مسلاة مفضلة لدى الكرد. وعندما علم مصرف وهو رياضي مشهور بأنني لم أشاهد قبلا معركة حجل سر كثيرا للفرصة التي أتيحت له ليريني مجموعة حجل العراك التي يقتنيها ، وهي مجموعة فاخرة جدّا. جاء مصرف يتقدم القوم ومعه أربعة من أولاده وكلهم فتيان رشيقون طويلو القامة ، وكان لمنظر صاحبنا هيبة بين أولاده. ولقد انشرح صدره كثيرا عندما أبديت له رأيي هذا في أولاده فقال : «أجل لدي يا سيدي ثلاثة أو أربعة أبناء آخرين في الدار وسيكون لهم شرف لثم يدك في يوم من الأيام» وقد أخذني العجب عند ملاحظتي حرية هؤلاء الشبان غير الشرقية في حضرة والدهم ، فلم يكن ثمة تكلف في تصرفهم ، وأخذ كل منهم يدخن غليونه. إن ما خبرته إلى الآن من عادات الأتراك والعرب ما كان ليجعلني أتوقع منهم حتى الجلوس في حضور أبيهم. وبعد أن أديرت كؤوس القهوة ، ودخنت الغلايين أعلن تقدم «الجيش» ـ كما اصطلح صاحبنا على تسميته ـ بكتكتة الحجل التي كانت تسمع من مسافة بعيدة ، وتقدمت بعد برهة جماعة من الكرد الأقوياء تحمل على أكتافها اثنين وثلاثين قفصا في كل قفص حجل فحل ، وقد أثارت كتكتة هذه الطيور الإجماعية المتواصلة ضجة غريبة أشبه بأصوات دقات ألف ساعة جسيمة ، ولم يخلدوا إلى الصمت لحظة إلا عند العراك ، وأعقب الأقفاص جماعة من المتهوسين وكلهم شوق لمشاهدة المنظر. ولو لم أوعز بغلق الأبواب لأوفر الأذى على من لا يقف عند حده إلا بضربه بالهراوات والعصي ، ولا ندفع إلى داخل الدار كثير غيرهم ، ثم صفت الأقفاص على شكل دائرة ، ووقف المشاهدون من ورائها وأنا ومصرف وأولاده نتمم المحيط عند الخيمة. وكان المنظر جديرا بالرسم إلا أن ذلك كان مستحيلا علي ، إن لم أره عدة مرات لتتكون عندي فكرة لوضع خطوط الرسم الأساسية.

فتح أحد المعاونين باب أحد الأقفاص وأطلق أحد الطيور فانتفض

٩٩

هذا في الهواء كالمتحدي ، ثم شرع يتبختر في انتظار غريمه. وبعد أن أفرج عن الطير الثاني بدأ العراك ، وكان المنظر مؤنسا ، لم يكن فيه أي قسوة مطلقا. وكان من المبهج جدّا رؤية هذه الطيور الصغيرة تتبختر على رؤوس أصابعها متحدية ، تقفز وتنقر بعضها البعض ، وتتحايل لتنال ممسكا ملائما ، وتتحاذر الوقوع بما لا تريد. وقد لاحظت أن البراعة كلها كانت في نوال الغريم من قفا رقبته ، فإذا ما نال الطير غريمه على ذلك النحو تمسك به كالكلب الأفطس «بوول دوك» ، وقد يدور به أحيانا مرتين أو ثلاث مرات حول الدائرة ، وقد يرتاع أحد الغريمين أحيانا فيهرب خارج ساحة العراك ، وعندئذ ترجح الكفة وينتهي النضال بينهما حقّا ، أما الطير المغلوب فلا يعود ميالا إلى عراك آخر قبل مضي شهرين أو ثلاثة أشهر. ولكل طير من الطيور اسمه ، أما أجنحتها فلا تقص. وهذه الطيور مروضة إلى حد لا تمانع في مسكها ، وإذا ما انتهى العراك تراها ترجع إلى أقفاصها من تلقاء نفسها ، وهي لا تتناقر مطلقا ولا تهجم إلا للسعي وراء مسك الغريم. وكان الكرد يشاهدن العراك بشوق عظيم. وبعد أن انتهت هذه البدعة بدا لي أنها لم تكن إلا مسلاة أو ملهاة صبيانية. إن الكرد قوم رياضيون متحمسون لسباق الخيل ، وعراك الحجل والكباش والكلاب. وقد سمح (محمد) كعربي صميم بالمراهنة على سباق الخيل ، ولكن الكرد استغلوا هذا السماح استغلالا بعيدا عن حدوده فأجازوا الرهان في عراك حجلهم وكلابهم.

وبعد انتهاء العرض ، جاءني ضابطان أخبراني بأن داروغا أمرهما أن يترأسا دورية من خمسة عشر جنديّا لتدور خارج نطاق الدار طيلة اللّيل. ولتمكين الدورية من اجتياز جماعات حرسي تعلم أفرادها عبارتي «من المتقدم؟» «وصديق» الإنكليزيتين ، إنه لأمر غريب أن نسمع الكرد في السليمانية يحاولون تلفظ تلك الكلمات باللّغة الإنكليزية ، وقد تعلموها من الجنود الهنود المسلمين ومن رعايا بريطانيا العظمى الذين أخبروني

١٠٠