رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

بأن هؤلاء قد تعلموا الغرض من «سر اللّيل» أيضا بعد أن عرفوا معناه في إيران.

أسست الدورية موضعها ، دون مراسم فوق إحدى الدور المجاورة ، وأخذ أفرادها يسيرون على سطوح البيوت ويتجولون بين العوائل القاطنة فيها كلّما حلا لهم ذلك. ولقد كان الاعتراض على مثل هذا الظلم الشنيع مما لا يجدي نفعا ، كما لا يدرك الظالم ولا المظلوم بواعث ذلك الاعتداء. ترى ألهذا الدرك المنحط يذل الإنسان بتمادي تعرضه إلى الظلم الجائر؟. لقد حدث أن سأل آغا ميناس أحد ضباط الشرطة الخفر في إمكان الحصول على سرير ما ، فكان الجواب إيجابيّا ، وبكل بساطة ذهب الضابط إلى أول خان قريب منه واستحوذ على ثلاثة أسرّة تعود إلى بعض التجار البغداديين من نزلاء ذلك الخان ، وأتى بها إلى الدار منتصرا ، ولا حاجة بنا أن نقول : إن الأسرة أرجعت إلى أصحابها حالا.

درجة الحرارة في الخامسة ق. ظ. ٦٦ د ، وفي الثانية والنصف ب. ظ. (٧٠) د ، وفي العاشرة ب. ظ. ٦٨ د ، الريح جنوبية شرقية ، بعض زخات من المطر مع قليل من البرق والرعد.

١٢ أيار :

ذهبت صباح اليوم إلى الحمام فألفيته جميلا جدّا. وكانت إضاءته جيدة ، والخدمة فيه حسنة أيضا ، كما وجدته أرقى من أي حمام آخر شاهدته حتى الآن في أي قسم من أنحاء المملكة التركية عدا حمامات الشام واستانبول والقاهرة ، بل ويمتاز عليها في بعض النواحي. وقد ملطت جدرانه بملاط خافقي وصبغ على الطراز العربي ، وزوق بالأحواض ذات النافورات. وشيده الباشا الحالي على نفقته ، مستخدما معمارين إيرانيين جلبهم خصّيصا لذلك ، ويقال إنه قلد في تشييده حمام

١٠١

(كرمنشاه) الحديث ، كما بنى حماما آخر على النمط ذاته في حرمه.

والمسلم ينفق المال بسخاء على الحمام ، إذ يعد ذلك نوعا من التقوى ، حتى أن الجيوش المتخاصمة لا تفكر مطلقا في إيقاع الضرر به ، هذا ويمكن حماية ذلك الملك بوقفه (١).

لقد وجدنا درجة الحرارة في السليمانية ملائمة ، فقد كانت في السادسة ق. ظ. ٦٦ د ، وفي الثانية والنصف ب. ظ. ٧٨ د ، وفي العاشرة ب. ظ. ٦٩ د ، هبات ريح من الغرب ، رعد وزخات مطر ، ثم مطر شديد وبرق ساطع في اللّيل.

١٣ أيار :

ذهبت لزيارة صديقي القديم عبد الله باشا ، وخلت أنه قد استعاد صحته قليلا ، ولكنه لا يزال واهنا غاية الوهن. وقد تكلم عن ذكريات بغداد دون شعور بالسرور. وعلى أثر ذكر اسم قريبه خالد باشا قال : «إنه قضى الزمن الطويل وهو لا يزال في بغداد فأضاع كل خصاله العشائرية ، ولقد أصبح كالتاجر لا أقل ولا أكثر». لم يكن عبد الله باشا ممن يمتاز بالحرص على تقصي الأخبار ، ولكنه وجه إلى هذا اليوم وللمرة الأولى الأسئلة العديدة مبتدئا بال «جين ماجين» على حد تعبير المسلمين عن الصين ، واستمر إلى أن أتى على ذكر موقف الدول الأوروبية وقوة كل منها. وكان من الواضح أنه لا بد وإن جرت بعض المداولات في تلك المواضيع بين أفراد العائلة البابانية ، وأن صديقي أراد أن يهيّئ نفسه للمناقشة الثانية.

وبعد رجوعي إلى الدار وقبل دخولي الحرم ، استقبلت بعض

__________________

(١) الوقف حبس الملك الأغراض الدينية والخيرية ، وفي هذه الحالة يكون الوقف صوريّا.

١٠٢

الأصدقاء الكرد. قال محمد آغا : «إن افتقارنا للأمن في ممتلكاتنا هو أصل دمار المملكة ، ونحن أبناء العشائر إذا لم نتأكد من تملكنا مقاطعاتنا ، لا نكرس أنفسنا مطلقا إلى الزراعة ، ولا يكون للمملكة نصيب من الازدهار. ومثال ذلك لم أبذر طغارا من البذور وأنا غير متأكد من أن رئيسي سيبقى في سدّة الحكم ، وأني مالك مقاطعتي حتى موسم الحصاد على الأقل؟ فبدلا من أن أفعل ذلك أسمح للقرويين أن يفلحوا مقاطعتي كما يروق لهم فاستوفي منهم حصتي وهي «الزكاة» ، أو العشر علاوة على ما أتمكن من الحصول عليه منهم بأي وسيلة وأي حجة كانت ...».

كان عبد الرحمن باشا يصبو في وقت ما إلى أن يجعل جراية بلاده إلى الباب العالي ، على أن يكون مستقلا عن أي باشا مجاور ، وكان راغبا في أن يدفع إلى العاصمة نقدا وبصورة منتظمة أي جراية سنوية قد يطلبها الباب العالي ، على أن يتبع أوامر السلطان دون غيره ، وأن لا يكون عرضة للعزل أو الإقصاء أو التدخل بالشؤون الداخلية لمنطقته إلا في حالة العصيان ؛ ولكن هذه أمور لم يتمكن الباشا من القيام بها قط. فعند عصيان سليمان الصغير ، باشا بغداد ، على الباب العالي عرض رئيس أفندي المرسل من استانبول لإقصائه ، على عبد الرحمن باشا حكم بغداد ولكن الرجل رفض شرف توليه المنصب بإباء رفض الرشيد الحكيم قائلا : «حقّا إنني بذلك ، سأصبح وزيرا من الدرجة الأولى ، غير أن جرعة واحدة من ماء ثلوج جبال بلادي تساوي في قيمتها عندي رتب الإمبراطورية بكاملها. هذا وبانتقالي إلى بغداد سيزداد نصيبي من نعم الحياة ، ولكنها ستؤدي أخيرا إلى دمار العائلة البابانية».

وذهبت بعد الظهر لزيارة عثمان بك ، وكانت هيئة خدمه ممتازة حقّا. وكانت داره كدارنا إلا أنها أفضل ترتيبا ومشيدة فوق سهوة أعلى نسبيّا. وما كان عثمان بك ليقل منزلة بتوالي المقابلات ، وقد وجدته رجلا طيب المعشر إلى حد بعيد. لقد سألني أسئلة معقولة ، كما أجاب

١٠٣

على أسئلتي أجوبة تنم عن ذكاء جم ، وقد اعتذر عن رغبته في الاستطلاع بقوله : «وقد أكون فظّا ، ولكن تذكر ما يشعر به الكردي من غرابة في التحدث مع أحد الانكليز ، ومن رغبة لا بد أن تجيش في صدره لاستغلال ذلك الحديث ومعرفة الأمور التي لا يمكن له الوقوف عليها بطريقة أخرى تلك الأمور التي لا بد أن تعود عليه بالنفع». وكنت أود أن يستمر في السؤال ، وأكدت له بأنني سأكون مثله في حرية الإجابة. لقد كان كثير السؤال عن إنكلترا وفرنسا وروسيا وعن حكومتنا ومراسيم بلاطنا ، وعن تشكيلات وأسس جيشنا الذي وجه الأسئلة الفضولية العديدة عنه ، الأمر الذي يدل على اهتمامه في الموضوع وإدراكه له. وكان على نقيض الأتراك لا يعلق أهمية بالغة على شؤون السلطان واستانبول والأتراك. وقد سألني عن تفاصيل معركة (واترلو) التي يحتمل أنه سمع عنها من الإيرانيين دون أن يتذكر اسمها. وقد سمع عن (بونابارت) أو «الإمبراطور» كما نعته ، ثم أتى على ذكر الصين ووجه تقريبا ذات الأسئلة التي وجهها عبد الله باشا إلي صباح اليوم ، الأمر الذي أكد ظني بأن الموضوع لا بد وأن جرى بحثه بينهم. وسألني خصيصا عما إذا يسمح للأجانب بزيارة حاضرة الصين ، وقد بدا أدنى إلى الاستغراب عندما أخبرته بأن سفيرا من بلاطنا كان في الصين أخيرا. وبناء على اقتراح أبداه له أحد الحاضرين انتقل في بحثه بحذر ظاهر إلى الهند البريطانية مبتدئا بملحوظة مفادها أن من الطبيعي أن يكون الملك الذي له جيش قوي كجيشنا الرغبة في استخدامه ، وأنه لم يستغرب كوننا ننشد على الدوام فرص الفتوحات. لقد أدركت ما كان يود التوصل إليه فقلت له : «إن جيشنا العظيم لم يؤلف برغبة من الملك ، وهو لم يكن إلا على قوة كافية للدفاع عنا ، ومن الضروري أن ننشئ جيشا كبيرا إذا أنشأت الدول الأخرى جيوشا كبيرة ، وإننا لا نرغب في التدخل بشؤون الغير كما أننا لا نسمح لأحد أن يتدخل بشؤوننا ، وإن لنا في الوقت الحاضر ممتلكات

١٠٤

تزيد فعلا عن مقتضيات رفاهيتنا ، وإننا نحتفظ ببعضها لأننا لا نستطيع التخلي عنها دون وقوعها تحت سيطرة الآخرين فيستغلونها لما فيه ضررنا». وعلى ذلك قال لي : «إذا كان الأمر على ما تقول ، فكيف إذن تتوسعون في فتوحاتكم سنة بعد أخرى في هندوستان؟» ثم أردف قائلا : «وأرجو أن لا تأخذ سؤالي هذا مأخذ سوء». فأجبته : «إن فتوحاتنا في الهند إنما ترجع إلى ذات المبدأ الذي ذكرته الآن ، وإننا لم نكن أول الأوروبيين الذين فتحوا بعض أصقاع الهند ، فبعض هذه الأصقاع التي نحتلها الآن انتزعناها من هؤلاء الأوروبيين نتيجة لتغلبنا عليهم في حروبنا معهم في أوروبا ، والبعض الآخر سلم إلينا من قبلهم ، كما اشترينا بعض الأقسام ، وظفرنا بأقسام أخرى بمعاهدات عقدناها مع أهل البلاد لقاء خدماتنا لهم أو لمنافع وفوائد أخرى. وهكذا تكونت إمبراطورية عظمى من نواة صغيرة ، إمبراطورية تتاخم أقاليم الكثير من الأمراء الأقوياء ، ولقد استفاد البعض من هؤلاء منا وكانوا أصدقاء لنا ، أما البعض الآخر فيغار من قوتنا ويحسدنا على نعمنا وهم لم يكونوا على ثقافة تؤهلهم على نوالها. وإذا تجاور الناس لا بد من تصادم المنافع بينهم في الغالب ، ولا بد من تعرضهم إلى أسباب النزاع ، ومع أن الإنكليز مسالمون بالطبع حيال من هم على غرارهم فإنهم ليسوا شعبا يخنع لإرادة الغير. إن ضرورة الدفاع عن حقوقنا ، وصيانة شرفنا كثيرا ما أدت بنا إلى الحروب ، وكان الله ، وله الحمد ، في عوننا في الغالب ، ولم نكن في أي من هذه الفتوحات البادين في العدوان البتة».

لقد بان لي بأنه قد تأثر تأثرا عميقا بوجهة النظر هذه ، واعترف لي بأنه كان يظن فيما مضى بأن الإنكليز كانوا قد أرسلوا على غرة جيشا كبيرا لفتح الهند ، وقاموا بفتوحاتهم كلما تولدت الرغبة في نفوسهم دون سبب أو حجة. ثم استفسر عن المناطيد قائلا : إن قد نمي إليه أنها وسائل في وسعها نقل مفارز الجنود إلى أي محل مقصود. ثم انتقلنا بالحديث

١٠٥

إلى إنكلترا ثانية. وما سره شيء مثل علمه بأن لدينا بعض العشائر ، وكان دقيقا جدّا في أسئلته عن أطوار عشائرنا ولغتهم وأخلاقهم ورجاني أن أذكر له بعض أسماء تلك لعشائر ، وقد فتنته فكرة الكتائب العشائرية بأزيائها الخاصة وضباطها ، إلا أنه استغرب من أن تكون الطبقة الحاكمة من الإنكليز أبناء المدن ، غير العشائريين ؛ وكان استغرابه أشد عند علمه بأن أبناء المدن جنود بواسل هم الآخرون. وقد أثار سؤاله عن الأماكن التي نستورد منها الرز ذكر العالم الجديد ، فسألني من فوره عن كيفية اكتشاف تلك القارة فأجبته أن قد أثبت علما الفلك والهندسة بأن الأرض كروية كالبرتقالة. وقد مثلت هذا الشطر من تفسيري برفع قبضة يدي قائلا «هنا فرنكستان ، وهنا الهند ، وهو ذا الطريق المؤدي إلى الهند من فرنكستان ، إلا أن بعض الناس صاروا يتساءلون لم لا نستطيع طرق الاتجاه الآخر المفضي إلى الهند ؛ فرأى البعض ذلك وأنكره البعض الآخر. وقال شخص أجرأ من الآخرين أنه سيحاول ذلك ، ووجد أميرا زوده بالسفن وبالوسائل التي تمكنه من القيام بمحاولته فاكتشف القارة الجديدة بسلوكه ذلك الطريق غير المطروق إلى الهند». ففهم هذا الأمر كل الفهم. وعند إيضاحي له نوع الجمهورية الأمريكية قال : «إن شأنها شأن عشائر ال (خوش ناو) (١) حيث يترأس كل قرية رئيس ، وهم يجتمعون سوية للتشاور في صالح العشيرة بكاملها».

__________________

(١) عشائر ال (خوش ناو) ثلاث هي : مير مه حمه لي ومير يوسفي وبيشده ري. وبين الأوليتين ثار قديم يجعلهما في حرب مستمرة لصالح الباشا الباباني الذي لا يتمكن من إدامة سيطرته عليهما إلا باستغلال مهارته للاستفادة من انشقاقهم على أنفسهم ، كما يديم الأتراك والإيرانيون سيطرتهم عليه تماما. وهنالك جدول صغير يفصل بين العشيرتين ، ولهم جامع واحد مشترك يجتمعون فيه أيام الجمعة للصلاة ثم يفترقون من بعدها ، فيرجعون على الأغلب إلى أماكنهم عند النهر ويشرعون بتبادل الرمي. وقد شرعوا مرة بالخصام في الجامع فقتل عشرون أو ثلاثون منهم.

١٠٦

وعندما أخبرته بأن لا يجرؤ أحد منا على الجلوس في حضرة ملكنا ، قال : «ماذا؟ حتى ولا أرباب الدين منكم؟» فأجبته بالنفي فقال بلهجة الرضى مديرا وجهه إلى البعض من الحاضرين من قومه : «أرأيتم ذلك ، ليس للملالي من سطوة في بلاده». وقد تكلم كثيرا عن الحالة في كردستان قائلا : «إن بلادي في حالة تعسة ، فإذا خدمت الأتراك حقروك وخلعوك متى شاؤوا ، وإذا خدمت الإيرانيين أضجروك على الدوام بطلب المال ...» إنه كردي حق ، ولكنه يفضل الإيرانيين على ما يظهر من تينك القوتين المتنافستين. وقد وجدته عنه مغادرتي له ودودا إذ قال لي : إنّه يعتبرني من عشيرته ، وإنه يرجو دوام الصداقة الحميمة بيني وبينه.

وعند رجوعي حضرت مشهد عراك الكلاب الطريف (١) ، وكان من المبهج مشاهدة فرح الكرد الشديد وهم يشجعون ويصرخون ويتراوحون بأرجلهم ، وقد ملؤوا المكان بالضجيج أكثر من الكلاب أنفسهم. كان أحد الكلاب يعود إلى صديقي الرياضي محمود مصرف ، الذي ما إن علم بوجود كلب شهير في (جوى سنجاق) حتى أرسل أحد الرجال خصيصا إلى هناك في طلبه كي ينازله مع أحد الكلاب هنا ، وهو يكاد أن يكون أقوى من جميع كلاب المنطقة في الوقت الحاضر.

كان الكثير من السادة الكرد يشاهدون العراك ، وقد خاطبني أحدهم بقوله : «إنك أول إنكليزي رأيناه هنا ، وإنك ستكون مدار حديث أحفادنا ، وإننا لمغتبطون بوجودك بيننا». وقد رددت الجماعة بكاملها ، هذا الإحساس.

__________________

وهم في لباسهم ككرد العمادية. وترد لغتهم إلى اللهجتين البابانية والبهدينانية.

وتنطبق نفس الملحوظة على كرد (راوندوز) الذين لم أتمكن من معرفة اسم عشيرتهم الرئيسية ، وإنني أعتقد بأنه لا يوجد بين ال (خوش ناو) والراوندزيين قرويون أو فلاحون.

(١) كانت من جنس كلاب الرعاة الفظة.

١٠٧

درجة الحرارة في الخامسة ق. ظ. ٦٢ د ، وفي الثانية والنصف ب. ظ ٧٦ د. نسيم غربي عليل ، ونهار جميل.

١٤ أيار :

زارني الباشا صباح اليوم وجلس معي مدة ساعة تقريبا ، فوجدته رجلا يعلو قدرا كلما ازددت التعرّف به ، وفي أطواره ما ينم عن الجد واللين والوداعة ، وكل ذلك مما ينشرح له الصدر ، وقد سألني كثيرا عن الدول الأوروبية مثلما سألني عنها أخوه يوم أمس ، وقد بدأ حديثه بالسؤال عن الصين إذ كان قد دار بينهم بحث عنها أثار اهتمامهم البالغ على ما يظهر. لقد تكلم بتواضع ولباقة في جميع الأبحاث التي تطرق إليها ، ثم وجهت البحث إلى التلقيح ضد الجدري الذي أودّ كثيرا إدخاله إلى كردستان التي يفتك بها هذا المرض فتكا ذريعا ، وقد أبدى رغبة شديدة بتعميمه بين أبناء جلدته فوعدته بالكتابة فورا إلى بغداد للحصول على بعض اللقاح.

جاءني صديقي الرياضي مصرف على عادته عصرا ، فبدأ بحديث المساء بالسؤال عن الصين أيضا.

والكرد هم الشرقيون الوحيدون الذين أعرف أنهم يسهرون إلى ساعة متأخرة من اللّيل ، وينهضون في ساعة متأخرة صباحا ، وقليل من سادة السليمانية من يأوي إلى فراشه قبل الثانية أو الثالثة بعد منتصف اللّيل ومن يخرج من داره قبل التاسعة أو العاشرة صباحا ، وتكون زياراتهم عادة في الليل فإذا خيم الظلام بدأوا يتزاورون في دور بعضهم البعض حيث يستأنسون بالسمر والتدخين والموسيقى ، وقد يقومون بزيارتين أو ثلاث زيارات من هذا النوع في الليلة الواحدة. وقبل الغروب بساعة واحدة ينعقد مجلس على غرار النوادي أمام دار مصرف في محل رحب من المدينة يعرف بالميدان ، حيث يجتمع الأصدقاء فيبحثون في

١٠٨

مواضيع شتى أو تقام معارض الخيل أو السلاح. وقد تجري هناك أحيانا مباريات المصارعة أو عراك الحجل أو الكلاب. ويظهر لي أن الكرد أناس فرحون اجتماعيون إلى حد بعيد ، لا يتنافسون ولا يتحاسدون ، ولم أسمعهم يتشاتمون أو يتقاذفون بالكلام البذيء مهما اختلفت نزعاتهم وتضاربت منافعهم.

وعند ما كانت الباشا في زيارتي اليوم ، انتهزت الفرصة لإنهاء شأن من الشؤون أوصاني به صديق يستحيل علي رفض طلبه. فقد استولى الكرد في الأيام الأخيرة على كمية كبيرة من خشب يعود إلى مضارب بغدادي اعتاد قصه من الجبال الكردية ، وبناء على رجائي أمر الباشا بإعادة الخشب إلى صاحبه ، وإن لم يعثر عليه فيجب قطع نفس الكمية وتسليمها إلى المضارب. وبنتيجة هذا الحادث وقفت على تجارة قطع الخشب التي من خصائصها ما هو خليق بالاطلاع عليه على ما أرى. تقطع أفلاق الخشب من شجر الدلب أو الصنار (جنار) الشرقي ـ نبت شجرة جميلة ذكية الرائحة ـ في منطقة الجبال التي تفصل (سنه) من كردستان التركية ، وخاصة في منطقتي (جوان رو) و (دولي هاوار) ، وهي في واد في جبال (حلبجة). والغابات في الشرق ملك الشعب ، إلا أن الرؤساء المجاورين يتحايلون عادة لجر بعض المغانم من المضاربين باسم الهدايا وذلك بتعريضهم إلى شتى الأخطار والعراقيل. يقطع الخشب ويقشر ويترك ليجف وبعد عام أو عامين ، ينقل عند فيضان المياه ، إلى أقرب موقع يمكن تطويفه منه حتى نهر (ديالى) تحت رقابة أناس على الساحلين يلاحظون طوافه بالاتجاه المقصود ، وعندما يصل (ديالى) يترك وشأنه حيث ينحدر عائما على وجه الماء حتى الجسر بين بغداد وطاق كسرى فيلتقطه من الماء أناس ينتظرون وصوله. ولا شك أن مقدارا كبيرا منه يضيع بطريقة النقل هذه. هذا وإن الخشب في بغداد غالي الثمن غلاء لا بد وأن يدر ربحا طيبا. وتقطع أشجار التوت والجوز أيضا في

١٠٩

كردستان ، إلا أن هذه تشترى من البساتين ، أما شجر الحور ـ قاواق أو ال (سبندار) (١) فيجلب من الجزيرة (٢) والعمادية ، وأما الصفصاف أو ال (سكوود) فمن الفرات من أعالي (عنه).

لقد أخذ الخشب الآن يندر يوما بعد يوم في جبال (سنه) من جراء قطعه من قبل الناس جزافا ، وقال لي مخبري بأن الأماكن التي اعتيد أن يقطع منها الخشب قد خلت الآن حتى من الأعواد الصغيرة ، وقد ساهم أخيرا رجل من (كرمنشاه) ، يتعاطى الصب والسبك وسك النقود ، في تدمير غابات الدلب أو الصنار ، متصورا أن لا شيء يطمنه سوى الفحم المصنوع من الصنار ، وهذا أضر بالغابات من قطع الجذوع منها.

إن عمال أو وكلاء قطع الخشب لا يجرؤون قط على حمل الدراهم معهم عند توغلهم في الأحراش ، أما الأجور فتدفع للعمال في (حلبجة) (٣) وهي أقرب مدينة من المنطقة ، ويقال إن أهالي هذه الجبال ،

__________________

(١) (سبيدار) كلمة كردية تعني الحور في العربية ، ومعناها الشجرة البيضاء وقد تطلق أحيانا في بعض الأماكن على شجرة الصنار أو الشنار (جنار) ـ المترجم.

(٢) راجع الملحق للوقوف على ذكر بعض الأماكن في الجزيرة والأراضي المهمة المجاورة لها وغير المعروفة إلا قليلا ، ومن بينها قلعة (في نيك ـ Finik) وهي على بعد أربع ساعات في أعالي الجزيرة ، ولها صيتها في تاريخ الكرد القديم منذ سنة ١٤٦١. ففي سنة ١٤٥٠ حاصر الجزيرة الأمير (خالابي ـ Khalapi) أمير (سعرد) ، وفي عام ١٤٥٩ انتزع الجزيرة الأمير أحمد البوتاني ، الذي استولى على جبال كوردوشيان ، ـ كما يقول (آسسه ماني ـ Assemanni) ـ من الأمير إبراهيم الذي احتمى بقلعة (في نه ك ـ Phineck ، وفي عام ١٤٦١ دارت معركة بين رؤساء (حسن كيف) والبوتان في غابات الجزيرة ، وفي السنة ذاتها استولى أحمد البوتاني طاغية الجزيرة على (في نيك) وأمر بحرق إبراهيم وأولاده. ومن الجدير بالذكر أن (آميانوس مارسل لينوس) يشير إلى (به زاب ده ـ Bezabde أو الجزيرة وإلى (في نيك ـ Phoenica في الصفحات ١٥ و ١٦ و ٢٦ من سفره العشرين.

(٣) تقع (حلبجة) في منتهى وهد (شهرزور) نحو الجبال ، وفي الجنوب الشرقي من السليمانية.

١١٠

وعلى الأخص أهالي (جوان رو) ، في أشد حالات (البربرية) البداوة ، وهم تابعون اسميّا إلى والي (سنه) إلا أنهم في الحقيقة مستقلون الاستقلال كله عن غيرهم : يعيشون في الغابات وفي معاقلهم وليس لديهم ما يجذب الزوار إليهم ، وهم لا يزاولون الزراعة ، ويقال إنهم يعيشون على ثمر البلوط والأثمار البرية وحسب. وقد يكون الأمر الفذ بين هذه العشيرة الوحشية هو السيطرة العظمى التي تنعم بها نساؤهم ، وكثيرا ما تقمع المرأة منهم الخصومات المستفحلة بين الرجال ، ولولاها لما انتهت إلا بسفك الدماء ، إذ إن أفراد هذه العشيرة كغيرهم من الوحوش نزقون حقودون ، وليس لحياة المرء عندهم أي قيمة. ويعيش الرجال والنساء منهم سوية دون أقل تصنع في التحجب ، وكثيرا ما تثير ثائرة تاجر الخشب البغدادي الأسئلة التي يوجهونها إليه على الدوام نحو : «ما هو اسم زوجتك؟ وكيف تلبس؟» وغير ذلك.

لقد أيد لي رواية هذا المخبر ، الكثيرون من الكرد الذين زاروا تلك المنطقة البدائية .. وعجبت لسماعي أن في منطقة (شهرزور) بعض القرى التي يسكنها أفغانيون أقحاح ، وقد نزح هؤلاء إلى هذه الناحية من البلاد على أثر مقتل (آزاد خان). ويقال إنهم لا يزالون يتخاطبون بينهم بلغتهم ، وهم في حالة فقر مدقع ، ويعدون من صنف الفلاحين. وتوجد في كردستان بعض الوسائل الإفشارية (١) أيضا ، وقد قابلت أحد «آغوات» أو سادة هذه العشيرة واسمه عيسى آغا ، وكان رجلا مسنّا جميل الصورة جمالا غير اعتيادي ، ذا طول فارع ووجه جليل. وقد قيل لي إنه وإن كان قد نشأ في كردستان ، فمن الممكن التعرف فورا من لهجته بأنه ليس كرديّا. وليس هناك أحد يحسن التكلم بالكردية تكلما صحيحا إلا الكردي المولود في كردستان ، وهذا أمر ينطبق على اللّغة الإنكليزية على قدر ما

__________________

(١) عشيرة نادر شاه.

١١١

يتعلق بالموضوع ؛ وتنحصر الصعوبة في الأمر في دقائق التلفظ وفي إدماج مقاطع الكلمات بعضها ببعض.

١٥ أيار :

وصل ساع ليلة البارحة إلى الباشا من بغداد ـ قاطعا المسافة ـ في ثلاثة أيام ، وقد جاء ليخبره بأن باشا بغداد استقبل والدة محمود باشا استقبالا رائعا ، وأنه من المحتمل أن تقبل مقترحاته هو ، وأنه قد منح في الوهلة الأولى مقاطعة (قه ره حسن) مع تسليم حسن بك (١) والوعد بتوليته على (أربيل) و (آلتون كوبري) ، على أن يطلق سراح باقر خان الذي يلازم السليمانية منذ مدة كرسول من شهزادة (كرمنشاه) جاء يطلب ثلاثين ألف تومان.

وقد قص لي محمد آغا بعض القصص الغريبة ، خاصة ما يتعلق بهروب حسن بك في العام الماضي ، وكلها مما تلقي الضوء على خيانة الحكومة التركية وسوء سياستها إلقاء جليّا.

لقد زارني باقر خان بعد ظهر اليوم ، وهو رجل بسيط أحمق له لحية غريبة لا يتصورها العقل ، وهو من أصل كردي من عشيرة (مافي) ، ويفوق تكلمه الكردية تكلمه أي لغة أخرى. وقد سألته عن خرائب (هه رسين) فأكد لي أنه لم يكن هنالك إلا خزان ماء منحوت في صخرة ، ولم تكن هناك أية رسوم أو كتابة.

لقد أظهر حفل عصر اليوم أزياء السليمانية كلها ، وقد ارتداها خمسة وعشرون أو ثلاثون رجلا من أعيانها. ومن باب التسلية أقاموا مباراة عراك حجل أيضا نزلت ميدانها أعداد أكبر من الطيور وغمرها

__________________

(١) الأخ الأصغر لمحمود باشا ، وقد فر إلى بغداد قبل عام.

١١٢

حماس عراك أشد من حماس الحفلة السابقة ، فأجود المعاركين من الحجل يجب أن يصطاد من العش ويدرب ، هذا ويقتضى تجويع الحجل يوم العراك ، أما في الصيف فيلزم أخذها إلى الجبال وإلا أضاعت مزاياها.

١٦ أيار :

زرت الباشا صباح اليوم ، وأشعر بأني أزداد نحوه ودّا في كل مرة أقابله بها ، لقد وعدني أن يبذل كل ما في وسعه ليجد لي نسخة من تاريخ كردستان الشهير المسمى بتاريخ الكرد. وقد رويت له قصة «زه نيفون والعشرة آلاف» ذاكرا له مجد قومه التليد ، ولقد وجدته وكرده كلهم آذانا صاغية لحديثي ، كما وجدت علائم الاهتمام البلغ ظاهرة عليهم عند استماعهم إلى القصة. وكان المنظر بديعا جدّا يؤلف مادة ممتازة للرسم ، وقد صرح الباشا ببساطة تنم عن حسن طوية قائلا : «ليت شعري هل كان لعائلتي خطورتها في ذلك الدور؟ ..» وكان من بين الحاضرين كيخسرو بك رئيس عشيرة الجاف ، وهي عشيرة قوية محاربة ، وكان البك رجلا جميل الطلعة. ومن المؤكد أنني كنت أول أوروبي شاهده حتى الآن ، والظاهر أنه دهش لرؤياي ، ولكنه لم يحملق فيّ بفظاظة أو غباء.

١٧ أيار :

أعدت اليوم زيارة باقر خان الذي يسكن في بيت ال «داروغا» ، وهي دار كئيبة كالدار التي نسكنها. أخبرني باقر خان بأن عشيرته وهي عشيرة (مافي) الكردية مستوطنة في (خراسان) إلا أن بعض العوائل منها تقطن في (كرمنشاه). ولغته تختلف في اللهجة عن لغة السليمانية ، إلا أنها لغة مفهومة تماما. وباقر خان ملم الإلمام كله بخراسان وأفغانستان ، وببعض

١١٣

أقسام تركستان ، وقد زودني ببعض الأخبار الغريبة عنها ، وأنبأني كذلك بمناجم حجارة الشذر ـ فيروزه ـ في (نيشابور) ، والشذر يتكون عروقا صغيرة بين صفحتين من الصخر ، كما أخبرني بأن محمود رحيم خان ، رئيس خوارزم الحالي هو سليل عبد الغازي خان بهادر (١) المؤرخ التاتاري الشهير ، وأن العنوان الصحيح لسلطان (بخارى) لم يكن سلطانا بل (تورا).

__________________

(١) هو أمير بيت جنكيز خان. وقد حكم في أواسط القرن السابع عشر تقريبا وكتب تاريخ أنساب التاتار الذي ترجم إلى عدة لغات أوروبية.

١١٤

١١٥
١١٦

الفصل الرابع

حديث مع الباشا ـ كيخسرو بك ـ عشيرة الجاف الكردية ـ مناخ

السليمانية ـ فطور مع الباشا ـ نفوس السليمانية ـ الرماية ـ تخت

سليمان ـ حفريات أثرية ـ حفل موسيقي ـ الزور خانة أو الملعب ـ عشاء

في بيت عثمان بك ـ الصلاة الشرقية ـ سليمان بك ـ المهارة في

استعمال السيوف ـ الزراعة ـ شهر رمضان

* * *

١٨ أيار :

قضيت ساعة ونصف ساعة مع الباشا ، كانت عندي من أطيب الأوقات. إنه يتميز بخلق متين ، متواضع ، غير متكلف إلى حد يجعل الحديث معه مؤنسا ممتعا ، خاصة بعد أن يعتاد المرء على ما في سلوك أغلب شخصيات الشرق البارزة من تصنع وكذب وادّعاء. لقد سألته «لم لا يلبس الدرع ، وهو اللباس الحربي المفضل لدى الكرد؟» فأجابني قائلا : «لأنني لست ذا قوة كافية لحمله». ولو سألت أكثر الشرقيين هذا السؤال لأجابوك بأنهم لا يحبون ذلك ، أو أنهم يأنفون من وقاية أنفسهم في المعارك. فلو أراد المرء معرفة السر في عجبي لتلك الميزة في الباشا

١١٧

لكان عليه أولا أن يعيش طويلا بين الأتراك ، ويلم الإلمام التام بعاداتهم في التفكير والكلام. وليس لدي ما أدونه عن حديثنا اليوم ، إذ كان معظمه يدور حولي. أما الباشا فكان يسأل الأسئلة الكثيرة عن الجيوش الأوروبية ، مبديا ملحوظات تنم عن حكمة ودراية.

وكان في ضيافتي مساء اليوم كيخسرو بك ، بالإضافة إلى الجماعة المعتادة. إن عشائر الجاف (١) التي يرأسها كيخسرو بك تسكن أعالي الجبال (٢) في حدود منطقة والي (سنه) ورجال هذه العشيرة رجال وسيمو الطلعة شجعان ، بيد أنهم يعتبرون حتى في نظر الكرد أنفسهم من أشد العشائر بداوة وتوحشا. وتختلف لهجتهم الكردية اختلافا عظيما عن لهجة الكرد البابانيين ، وإن مظهرهم بارز في بابه لدرجة يمكن تمييزهم به بسهولة. وهم يؤلفون جماعة خيالة متطوعة قوامها ألفا فارس تقريبا يتبعون البك عندما يدعوه زعيمه الإقطاعي باشا السليمانية إلى ميدان القتال. وتتمكن العشيرة من تجنيد أربعة آلاف من حملة البندقيات ـ المشاة ـ بسهولة وهم يعدون من خيرة المحاربين في الجيش الكردي ، ونظرا لقوة العشيرة وشدة بأسها نجد بينها من احتمى بها من شتى العشائر وفلول العشائر الكسيحة كال (فه يلي) يين وال (كه ل هور) يين ، الذين غالبا ما يسيئون إلى اسم الجاف. وإذا مات الرئيس وكان ابنه صغيرا فلا يخلفه في الرئاسة ، إذ لا يحكم العشيرة الغلمان قط وفي هذه الحالة يشغل منصب الرئاسة أخو البك المتوفى أو عمه أو خاله.

تعيش عشائر الجاف كلهم في الخيام (٣) وهم يخيمون في الصيف في جبال حاجي أحمد الشاهقة في حدود (سنه) ، وفي الخريف ينتشرون

__________________

(١) راجع اللوح الرقم ٢. أحد رجال عشيرة الجاف.

(٢) إن منطقة (جوان رو) الوارد ذكرها أعلاه هي قسم من هذه الجبال.

(٣) يسمى الكرد العشيرة الرحالة أو العشيرة التي تعيش تحت الخيم بال (خيل ـ Kheil) والواحد منها (خيله كي) انتهت الحاشية ـ (والأصح «خيليك» ـ المترجم).

١١٨

في منطقة (شهرزور) ، أما في الشتاء فيقطنون (شروانه) على ضفاف نهر (ديالى).

١٩ أيار :

لم يحدث ما يستحق الذكر صباح اليوم وقد زارني بعد الظهر عبد الله باشا ، وبما أنه لا يتميز بوفرة الاطلاع في أحوال بلاده ، فلم أظفر بالكثير من المعلومات المجدية من محادثته. فقد تكلم عن مناخ السليمانية وعن البرد الذي يشتد شتاء وعلى الأخص عندما تهب الرياح الشرقية الشديدة. وقد تكسو الثلوج الأرض أحيانا مدة تتراوح بين الستة أسابيع والشهرين ، وذلك لتوالي سقوطها مرة إثر أخرى مما يحول دون ذوبان ما سقط منها سابقا. وقد تساقطت ثلاثا وعشرين مرة قبل عامين. أما المناخ في الصيف فلطيف ، إلا إذا هبت الرياح الشرقية وهي تهب بشدة هائلة لمدة ثمانية أو عشرة أيام متوالية في بعض الأحيان ، ومثل حر هذه الرياح المنهكة للقوى في الصيف مثل بردها القارص في الشتاء. والغريب في أمر هذه الرياح إننا لا نجدها في أي اتجاه كان على بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من السليمانية. ويقال إن منطقة شهرزور (١) حيث

__________________

(١) تمتد منطقة شهرزور إلى قرب جبال (آورومان ـ هاورامان) وعاصمتها (كل عنبر) أو (غول آمبه ر) كما يسميها الأتراك ويضطر سكانها إلى الرحيل عنها صيفا إلى (كوجه ل ـ (Kochel وهو موقع بارد في سفوح جبال (آورومان). إن المسافة من السليمانية إلى (آربه ت) ثلاثون ساعة ، وهنا تبدأ منطقة شهرزور ، ومن (آربه ت) إلى (كل عنبر) حيث تنتهي المنطقة ثماني ساعات. وفي (آربه ت) استخرج عبد الرحمن باشا مقادير كثيرة من الطابوق الخالي من الكتابة ، كما عثر على بعض المسكوكات فيها. وقد وعدوني بأنموذج منها. ووجد في (كل عنبر) مدفعين مطمورين تحت الأنقاض. ومنطقة شهرزور ملأى بالآثار القديمة كالطنوف والتلال ك (كه وره قه لا ـ القلعة الكبيرة) في طريق (زهاو) ، والكهاريز التي لا يزال الكثير منها صالحا للاستعمال ، وقد وجد الكثير من فخارات الرميم في أماكن عديدة منها. و (آربه ت) هو المكان

١١٩

يزرع الرز بكثرة ، شديدة الحرارة غير صحية ، تزخر بأسراب الذباب والبعوض ، وتوجد فيها الأفاعي بكثرة بدرجة أنها غالبا ما ترى زاحفة جيئة وذهابا على طوار الطرق حتى في وضح النهار.

٢٠ أيار :

زارني اليوم من بين من زارني من أصدقائي المعتادين رجل كرجى اسمه تمير آغا (تيمور آغا) وهو مملوك (أحمد كهيا) الذي فر من بغداد إثر وفاة علي باشا ، وكان بقاؤه في السليمانية منذ ذلك الحين فطنة منه ، وهو يعد الآن أحد آغوات الكرد أو سادتهم ، ويملك عدة قرى غنية أهداها له باشا السليمانية السابق والحالي ، وهو لا يرغب في الرجوع إلى بغداد ولو أسندت إليه أعلى المناصب الحكومية فيها ، ويظهر أنه قانع بما هو عليه الآن من حال كل القناعة.

وقد زارني أيضا كردي كهل وقور ، رجع من مكة أخيرا. وكل الكرد الحجاج يلبسون العمائم البيض بعد رجوعهم من الحج. وقد ذهب خلال السنوات الثلاث الأخيرة للحج من منطقة السليمانية ما يقارب الألفي كردي.

وزارني بعد ذلك عثمان بك ، وجلس معي حتى الظهر يستمع بشوق زائد إلى قصص أرويها له عن جيوش أوروبا ومعاركها. إن أكثر مناصب المقربين إلى الباشا تنتقل إليهم بالإرث وذلك خلال حكم الباشا الواحد على الأقل. لقد تسلم المصرف الحالي منصب رئاسة الوزراء بالتوالي في

__________________

الذي عثروا فيه على أكبر مقدار من الآثار. وفي (آربه ت) طنف تحوط به آثار مدينة كبيرة ، وعندي أن تلك البقايا هي آثار مدينة (شهرزور) القديمة ، إلا أن الكرد كلهم ينكرون بالإجماع وجود مدينة باسم (شهرزور) سابقا ، وهم يصرون على أن هذه التسمية إنما كانت ولا تزال تعود للمنطقة كما هو المتعارف عليها الآن ، وليس في هذه المنطقة الآن سلطة واحدة تدير شؤونها ، بل تتقاسمها سلطات عديدة.

١٢٠