رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

الأولى. تقدمت السيدة ، وقد قابلها العريس الفظ من فوره بصفعة على أذنها قائلا لها : «أنت يا من كنت أسيرة عند المسلمين ، أنت يا من التاث شرفها ، كيف تجرئين على الظهور أمامي؟» أما العروس فقد صرخت من ألم الضربة وصاحت بالكردية وقد أصبحت متمكنة منها «أواه يا فقيه أحمد ، أين أنت الآن مني؟» وفي تلك اللحظة اندفع الرجل المستجار به فقتل العريس الفظ وهرب مع العروس الجميلة إلى استانبول ، وقد أكرمه السلطان زيادة على كرمه السابق له.

«وقد رجع الفقيه أحمد وعروسه المتعلقة به الآن إلى بيشدر ، فعاش معها عيشة وادعة راضية ما تبقى من أيامه. وقد استولى قبل وفاته على مناطق بيشدر ، ومه ركه وماوه ت ، وقد خلفه في منصبه نجله الأكبر بابا سليمان ، وهو الجد الأكبر لأمراء السليمانية الحاليين. وقد احتل ما تبقى من مناطق كردستان والتي هي تحت سيطرته الآن. أما نجله الثاني بوداغ كيخان فمات دون خلف».

لقد سمعت بعض الشذرات من هذه القصة ، وقد قصّها لي الباشا بصورة معقدة ، وكان يتباهى بانحداره من سلالة كيخان الأوروبية ، وقد قال لي بأنه قد يمت بصلة القرابة إلي. ولكنه نسب الحادث إلى جد بابا سليمان. وقد قصصن سيدات العائلة القصة نفسها تقريبا للسيدة ريج.

وفي هذه القصة التي دونتها كما سمعتها من الراوي دون أية إضافة أو تحوير الشيء الكثير من روح الفروسية والبطولة ، الأمر الذي لم يعتده الشرقيون ، في الوقت الحاضر على الأقل. والحادث بذاته بعيد كل البعد عن أسلوب مخيلتهم. والظاهر أن القصة مبنية على حوادث واقعية ربما حدثت في زمن أقدم جدّا من الزمن الذي حدده الراوي في روايته. وقد يكون من الطريف ، أو المستغرب إذا أمكن العثور على علاقة ذلك الحادث بأقاصيص البطولة أو الفروسية في عهد الصليبيين ، أو عهد صلاح الدين الأيوبي. وكان صلاح الدين أميرا كرديّا. ويحتمل أن قد حور في

٢٨١

أسطورتها الرواة الجهلاء من الكرد الذين لا يمكنهم أن يتصوروا سلطانا مقصودا غير سلطان استانبول ، كما أنهم يميلون إلى أن ينسبوا مثل هذه القصة الجديرة بالاعتبار والشهرة إلى الجد الأول لبطلهم المحبوب بابا سليمان ، وحياته معلومة لديهم ولها من الشهرة بحيث تتقبل مثل هذه التلفيقات. وإنني على استعداد لذكر الأمثلة الكثيرة للتعقيدات المتشابهة في العهود والتواريخ التي يذكرها أو يرجع إليها الرواة الشرقيون.

وعلى أثر ملاحظة الباشا ولعي الشديد واهتمامي بالتاريخ الكردي ، تلطف فأرسل في طلب أحمد بك أحد كرام أبناء عائلته ، ويقال إنه في العام المائة من عمره وهو حائز على احترام أبناء جلدته لأنه يحفظ عن ظهر قلب الكثير من أساطير تاريخ عائلته. وقد أخذت هذه الأساطير تندثر الآن يوما بعد يوم وإن كان الكثير منها يستحق في الحقيقة الاحتفاظ به بجدارة. والشيخ الباباني الجليل هذا يعيش في مقاطعته في شهرزور.

٢٨٢

الفصل الحادي عشر

كآبة الباشا وحزنه ـ نجله الأكبر يرسل رهينة إلى كرمنشاه ـ مرض نجله

الأصغر ـ فتنة بين أفراد عائلته ـ أحمد بك الداره شماني ـ عشائر

راوندوز ـ مراسيم الجنازة عند الكرد ـ العائلة البابانية ـ شجرة الأمراء

البابانيين ـ موت ابن الباشا الصغير بالجدري ـ تأثر الباشا ـ سليمان بك

ـ تجارة السليمانية ـ الحديث مع عثمان بك ـ رغبة الباشا في التنازل عن

منصبه ـ عمر آغا ـ ذكاؤه ودقته ـ المقارنة بين الكرد والأتراك

والإيرانيين ـ لقمان ـ زيارة لوداع الباشا ـ محادثات دينية ـ عثمان بك

يستدعى لتسنم منصبه ـ رفضه الامتثال ـ ميزات الخلق الكردي ـ

هروب خالد الدرويش الكبير ـ زيارة الباشا الأخيرة إلى المستر ريج ـ

حديث شيق ـ حزن الباشا لفقده ولده ـ خلقه ـ التهيؤ للرحيل من

كردستان ـ الحزن على فراق أهل كردستان

* * *

٧ تشرين الأول :

كنت في زيارة الباشا صباح اليوم ، وقد وجدته كئيبا أشد الكآبة ، مهموما ، وقد ضاق صدري لكآبته وهمه ، ويحزنني أن أرى الرجل

٢٨٣

الفاضل حزينا. لقد أرسل ابنه الأكبر عبد الرحمن بك وهو صبي في السابعة من عمره قبل ثلاثة أيام إلى كرمنشاه رهينة ، وأصيب ابنه الصغير أخيرا بالجدري كما دبت فتنة كبيرة بين عائلته. لقد ضايقه عثمان بك مضايقة شديدة بإجباره على الكلام معي لكن حديثه كان سطحيّا لشدة وطأة الحزن عليه. وجاء أحمد بك لمقابلتي ، وهو الشيخ الكردي العجوز الذي أرسل الباشا في طلبه من أجلي. إنه ، وهو لم يتجاوز الثانية والتسعين من عمره ، شيخ جميل المحيا ، إلا أن ذاكرته أصبحت مشوشة بحيث بات من الصعب الحصول على جواب مباشر منه لما تسأله عنه إلا إذا بقيت مترقبا الوقت الذي يخطر له فيه خاطر فيبدأ الحديث بنفسه ؛ ففي ذلك الوقت وحده تستطيع معرفة ما تريد معرفته منه. وعندما عرف حقيقة أمري قال على الفور «آه ، نحن أقرباء وقد كان أجدادنا أقرباء» إنه يقصد بكلامه ولا ريب ، ذكر قصة كيخان الفتاة الإنكليزية والفقيه أحمد الزعيم الكردي ، تلك القصة الرومانتيكية. ولكنني عندما استوضحته المزيد انتكس وتراجع. وقال لي الباشا إنه بانتهازه فرصة جمع أشتات أفكاره استطاع الحصول على المعلومات التالية ـ «إن بابا سليمان كان أصغر إخوته الاثني عشر ، وكان اسم والده مير سليمان (١) وسمي بابا سليمان بهذا الاسم لوفاة والده قبل ولادته ، وقد استولى على جميع هذه البلاد بعد أن طرد الأتراك والإيرانيين منها ، ولم ينل كل ذلك دون جهد كبير وطالع متباين ، وأخيرا تواطأ الأتراك والإيرانيون عليه فطردوه من كردستان السفلى ، فاستقر عندئذ في راوندز (٢) وترك قرينته وأولاده فيها

__________________

(١) مير سليمان ، هو النجل الأكبر لمير محمود أو محمود بك ، بك بيشدر. وعليه فإن بابا سليمان حفيد مير محمود الذي يسند البعض مخاطر كيخان الرومانتيكية إليه. والكثيرون يرجعون بذلك إلى ما قبل عهد بابا سليمان بمدة بعيدة.

(٢) راوندز قلعة إحدى العشائر الكردية المستقلة ، وكان آمرها مصطفى بك. وهي قائمة فوق جبل مرتفع جدّا من جبال زغروس ، وقد بتره الزاب من أحد جانبيه ، وليس في

٢٨٤

ميمما شطر استانبول. وقد كان ذلك في عام (١١١١ ه‍) (١) ـ لقد خلد ذكرى الحادث أو تاريخه في قصيدة قيلت في الزلزال الكبير الذي وقع في (تبريز) قبل الحادث ببضع سنين ـ وفي استانبول استرعى انتباه السلطان ، فأصبح وزيرا أو باشا براية ذات ثلاثة ذيول. وهو إما أن يكون قد فتح (باباداغ) (٢) أو كان حاكما فيه وقد سمي باباداغ نسبة إليه ؛ ومات في هذه البقاع. وبقيت هذه الأقسام من كردستان تحت حكم الأتراك باسم لواء أو أيالة شهرزور ، وكانت كركوك عاصمة تلك الأيالة. وكان ذلك قبل أن تستعيد العائلة البابانية سيطرتها عليها بعهد قديم.

__________________

الجانب الثاني منه من الطرق التقربية إلا المضايق الضيقة ، وهي محصنة للدفاع تحصينا قويّا. والراوندزيون رماة ماهرون. لقد أرسل (عباس ميرزا) قبل بضع سنين جيشا لمنازلتهم فاضطر على التراجع تاركا مدافعه وراءه ، وهذه المدافع الآن في قلعة راوندز ، ورجال هذه العشائر متوحشون إلا أن القوافل تمر عادة في منطقتهم بسلام ، ولكنها تدفع باجا أو ضريبة فقط. وعشائر راوندز تشبه في ملابسها أهالي العمادية إلا أن لهجتها تقارب لهجة كوى سانجاق.

لا يمر الزاب بجبل (راوندز) ، والواضح أن المستر (ريج) قصد بالبتر مضيق (كه لي علي بك) المتكون بزلزال لا نعرف تاريخه فجرى في واديه المتكون ما نسميه الآن ب (روباري راوندز) ، وهذا يصب في الزاب عند (بيخمه) ـ المترجم.

(١) أي سنة ١٧٠٠ ميلادية. وعندما نريد أن نقلب السنة المسيحية إلى السنة الهجرية علينا أن لا نتذكر فقط بأن التقويم الهجري بدأ في ١٥ حزيران ٦٢٢ م. بل أن نعلم بأن سنتنا هي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وست ساعات وإحدى عشرة دقيقة ، بينما السنة الهجرية أو القمرية هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثماني ساعات وثمان وأربعون دقيقة ومن ذلك نعلم بأنه ليس هناك سنة هجرية تتقابل على الدوام مع أية سنة ميلادية معينة ، كما أننا لا نستطيع معرفة أية سنة ميلادية من تاريخ مر ذكره في التقويم الهجري ، إلا إذا كان يوم السنة معلوما أيضا. وإن بدء السنة الهجرية يمكن حسابه ومعرفته بالانتباه إلى تلك الشروط. لقد أعلمني بذلك أحد الأصدقاء ـ الناشرة.

(٢) لم يتحقق المترجم هذا المكان واسمه.

٢٨٥

وقد أيدت ذكريات الكثيرين ما سبق الكلام فيه.

شاهدت عن بعد وأنا في طريقي اليوم إلى القصر ثلاثة أعلام عسكرية فظننتها قطعة عسكرية كبيرة تسير ، إلا أنني استغربت عندما علمت أن هذه الأعلام تتقدم جنازة ، وهذه عادة خاصة بكردستان ، أما في كرمنشاه فإنهم يشيعون النعش إلى مرقده بالموسيقى والغناء.

وعندما بحثنا اليوم مع الباشا في تاريخ كردستان ، تجرأت فذكرت استغرابي لقلة اطلاعه على تاريخ عائلته. فأجابني بأدب واحتشام بأن ذلك التاريخ لا يستحق التدوين ولم يكن تاريخ عائلة مالكة ، بل هو تاريخ قبيلة متواضعة. فأجبته ولكن عائلته عريقة شريفة ، فأجابني بأنها لم تكن موغلة في القدم ، ولم يصبح أبناؤها باشوات إلا منذ عصر واحد ، فقلت له بأنني أعرف سلالة عائلته منذ ذلك العهد فوقع قولي في نفسه موقعا حسنا ، وتحركت عنده على الفور عصبيته القبلية وعزته العائلية فانجلت ملامح وجهه وداخله انتعاش لم يكن اعتياديّا. ولا يخلو مطلقا الرجل الذي نزل بنفسه إلى درجة التواضع الديني مثل الباشا من الزهو والافتخار عند طرق هذه المواضيع. وقد قال بعد ذلك بأنه غير شغوف بالتاريخ ما خلا تواريخ الأولياء والأنبياء وبالقدر الذي يمكنه من الوقوف على أحوال عصورهم. أما غير ذلك من التواريخ فإنه لا يقرأ منها إلا الشاهنامة.

٩ تشرين الأول :

فاجأني عمر آغا في هذا المساء مفاجأة سارة إذ جاءني بلفافة طويلة من الورق كالحمائل أو التعاويذ في وعاء من جلد يحمل على الدوام داخل الجيب. وكانت اللفافة تحتوي على سلالات أمراء العائلة البابانية ، من عهد سليمان باشا حتى يومنا هذا. إنه بحث عنها جادا حتى عثر عليها عند أحد الكرد الذين اعتاد أجداده أن يدونوا الوقائع في تلك اللفافة مع ذكر التواريخ ، واقتدى هو أيضا بهم. وكانت الأوراق مكتوبة بالفارسية

٢٨٦

ولهذه الأوراق قيمتها العظمى التي لا تقدّر إذ إن ما فيها من المعلومات ستكون الحلقة المتممة لتاريخ الكرد فيما لو أسعدني الحظ وحصلت على نسخة من ذلك السفر المفيد. بادرت حالا إلى ترجمة ما تضمنته هذه اللفافة المدهنة.

١٠ تشرين الأول :

جاءني عمر آغا اليوم بكتاب قديم يحتوي على شذرات في الشعر الديني ونبذ في الحساب والتطبيب ، وقد دوّن فيه صاحبه بعض التواريخ والحوادث. وقد اقتطفت البعض منها (١).

١٢ تشرين الأول :

يؤلمني جدّا أن أعلم بأن نجل الباشا الثاني أحمد بك قد توفي صباح اليوم متأثرا من إصابته بالجدري. لقد كان طفلا أنيسا متعلقا بنا التعلق كله. ولقد بذل المستر (به ل) جهده معه وزار الطفل مرتين. ولكنه لم يستطع إقناع أبويه لإعطائه الدواء ، أو وضعه في مكان معتدل البرودة ، وإن كانوا في النهاية اتبعوا وصايا المستر (به ل) الأخيرة بعض الشيء واعترفوا بتأثيرها المباشر على حالة الطفل. وكان الباشا في حالة حزن مؤلمة ، والكرد جميعهم مولعون بزوجاتهم وأولادهم ، وهم في الحقيقة أولاد في غاية اللطف والجمال ؛ أما التركي فلا يهتم بالفريقين (٢).

__________________

(١) راجع الملحق.

(٢) والدليل الذي يمكن أن يؤتى به من جملة الأدلة التي تؤيد هذا الزعم هو السطور التالية التي اقتبسناها من مذكرات أخرى للمستر ريج : ـ زارني قبل بضعة أيام (ديوان أفندي) زيارة رسمية. وفي خلال الحديث ذكر لي بهدوء تام بأنه قد دفن ولده وكان طفلا محبوبا في الشهر الثاني عشر من عمره إذ قال : «ذهبت صباح اليوم ودفنت ولدي ، ثم ذهبت إلى المجلس» قال ذلك دون تأثر ، أو إظهار أية علاقة له في الأمر ـ الناشرة.

٢٨٧

كنت قد عزمت على السياحة في شهرزور ، لمشاهدة تلك المنطقة من البلاد وهي أهم مناطق كردستان من الناحية الأثرية إلا أنني أجلت السياحة على أثر مرض نجل الباشا ، وقد تحسس لذلك كثيرا ، أما الآن وقد مر الزمن وبطؤ علينا الأمر فيجب أن نتهيأ للسفر إلى الموصل.

١٤ تشرين الأول :

ذهبت اليوم لأعزي الباشا. وكان ذلك واجبا صعبا بقدر ما كان ضروريّا وديّا وقد بدا لي بجلاء أن قلبه كاد يتفطر على الرغم من تجلده ومحاولته إخفاء ما يعانيه بكل رجولة. وقد صعب علي جدّا أن لا أشاطره أحزانه ، أو أن لا أشعر برهة كأنني فقدت ولدي. لم أر مطلقا فاضلا فياض الشعور والإحساس في أي بلد كالباشا ، إنه يحب زوجته وأولاده حبّا جمّا لا يضاهيه في ذلك إلا أحسن الرجال في أوروبا. وقد بدا عليه نوع من الذهول المخيف اعتراه بغتة فودعته وروحي مثقلة بالأحزان.

ذهبت لزيارة عثمان بك ، فوجدته جالسا في جوسقه الذي لم يتم بناؤه بعد ، وهو يتمتم بالصلوات ويسبّح بمسبحة ، وعلائم الجد تعلو محياه. ومن الجلي أن بعض الأمور كانت تشغل باله ، لكنها لم تكن كلها محزنة. كلمني عن كمنجة كنت أهديتها له قبل مدة ، ورجاني أن لا أنسى شراء الأوتار له. إن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين الباشا.

ذهبت بعد الظهر لتعزية سليمان بك ، فوجدته متأثرا تأثرا لا يقل عن تأثر الباشا وإن ظهر أهدأ منه وأكثر جلدا فقدرته تقديرا زائدا على إحساسه ، وهو في الحقيقة فتى يستحق الاحترام إلا أن رزانته لا تتناسب مع عمره ، وهو متعلق كثيرا برجال الدين والدراويش وليس في تعلقه هذا مسحة من التقشف أو التعصب ، وهو يشبه في سيماه المرحوم عبد الرحمن باشا أكثر من شبهه بأخويه ، إذ إنّه أطول منهما وأكثر بدانة وعيناه الزرقاوان الجميلتان تعكسان على ملامحه صور الكرامة المطمئنة.

٢٨٨

وكلما قابلته ازددت حبا له وتعلقا به. لقد ذكرت له عزمي على الرحيل من كردستان في القريب العاجل ، فشعرت بأسفه وأسف غيره من الكرد جميعا ، وقد بذلوا جميعا كل ما في وسعهم لأعدهم بالعودة إلى بلادهم في العام المقبل. وإنني أشعر بحزن عميق حقّا كلما خطرت ببالي مفارقة هؤلاء الناس المخلصين ، واحتمال عدم رؤيتي لهم ثانية. وأشعر بأنني سأقضي ردحا من الزمن لا يستهان به ، قبل أن أحظى بالعيش بين أناس يبذلون ما في وسعهم في سبيل إعزازي بلطف عميم ، وضيافة كريمة أينما ذهبت وحللت.

١٥ تشرين الأول :

لم تكن تجارة السليمانية تجارة واسعة ، وهي بوجه عام منحصرة بين السليمانية والأماكن المدونة في أدناه ، وتنقل بواسطة القوافل :

تبريز : تخرج عادة إلى تبريز قافلة واحدة في كل شهر ، لكن ذلك لم يكن بانتظام. وتعود القافلة محملة بالقز ، والأقمشة الحريرية وغير ذلك ، ويصدّر أكثر القز إلى بغداد ، أما الأقمشة فتستهلك في كردستان ، وصادرات السليمانية إلى تبريز هي التمر والبن وغيرهما من المواد التي تجلب عادة من بغداد.

أرضروم : تخرج سنويّا قافلة واحدة على الأقل من السليمانية إلى أرضروم ، وهي تحمل التمر والقهوة وغير ذلك فترجع بالحديد والنحاس والبغال. وهم يشترون الكثير من هذه الحيوانات ويستوردونها وأحسن بغال هذه البلاد من أرضروم.

همدان وسنه : تصل شهريّا من هاتين المدينتين قافلة صغيرة محملة بالدهن والفواكه المجففة والعسل والفولاذ الوارد من أطراف بحر قزوين.

٢٨٩

كركوك : المتاجرة مع كركوك مستمرة دائمة ، وتستورد منها الأحذية وبعض الأقمشة القطنية الخشنة. أما صادرات السليمانية إليها فهي البقول والعسل والعفص والسماق والفواكه والرز والدهن والقطن والأغنام والمواشي. وكركوك في الحقيقة سوق رائجة لجميع منتوجات كردستان.

الموصل : والمتاجرة مع الموصل مستمرة بعض الاستمرار. وتستورد منها الأحذية والغتر والخام والأقمشة القطنية الملونة ، ومنتوجات الشام وديار بكر وغير ذلك. أما الصادرات إليها فالعفص وغيره.

بغداد : المتاجرة بين السليمانية وبغداد دائمة وتستورد السليمانية من بغداد التمر والبن والمنتوجات الهندية والأوروبية والأقمشة. أما الصادرات إليها فهي البقول والتبوغ والجبن والدهن والسماق والصمغ والشحم والصابون الاعتيادي ـ صابون الشحم.

١٦ تشرين الأول :

جاء عثمان بك لزيارتي هذا المساء وجلس عندي مدة ساعتين. ولقد تطرق كثيرا إلى شؤون بلاده وخصني بسر رجاني أن أكتمه وهو أن الباشا يفكر جادا في التنازل عن منصبه ، وأنّه بذل قصارى جهده لإرجاعه عن عزمه. وهذا ما يقدر عليه ويزيده شرفا إذ لو تم تنازل الباشا عن منصبه لخلفه هو في منصبه. وفي الواقع إنني عالم أن أمير أو شهزادة كرمنشاه قد عرض المنصب عليه أكثر من مرة. لقد قال لي عثمان بك بأنه سمر مع الباشا ليلة أمس حتى بعد منتصف الليل محاولا أن يثنيه عن عزمه ، قائلا له ما دام الله منّ عليه بالمنصب الذي هو فيه فعليه أن يستمر على أداء فرائضه فيه ، وليس من حقه أن يتبع هواه وميوله. أما رغبة الباشا فمخضرة في العيش بسلام والاعتزال مع زوجته وأولاده. وقد أردف

٢٩٠

عثمان بك قائلا : «ما دام فيّ رمق من الحياة ، فلن أدع أخي يتنازل عن منصبه وإنني لأرجو الله أن يمكّنني من ذلك».

أرسل لي الباشا بعد الظهر من يعتذر عنه لعدم تمكنه من زيارتي في الأيام الأخيرة وكان يقول في اعتذاره إليّ «ولكنه يعرف الحال التي أنا فيها. إنني أحببت ذلك الطفل أكثر من حب يعقوب ليوسف».

١٨ تشرين الأول :

أطلعت عمر آغا مساء اليوم على بعض مخططاتي (١) وقد عجبت كثيرا لإدراكه لها. وقد ذكر لي أسماء عدة أماكن وأسماء قمم التلال ، وبيّن لي المحلات التي يجب إدخال بعض العوارض الأرضية عليها في تلك المخططات ، وكنت قد أهملت رسمها أو ذكرها إذ لم أشاهدها ، كما صحح لي بعض أقسامها ، بل إنه أدرك أصغر التلال التي مررنا بها في طريقنا. وهذا دليل واضح على ذكائه وعلى صحة مخططاتي في الوقت ذاته. لقد قابلت في بغداد كثيرا من الناس الذين درسوا الرياضيات بوجه خاص ـ كما يسمونها ـ ولكنهم لم يستطيعوا الإحاطة ولو قليلا بالخرائط أو المخططات.

أما عمر آغا ، فحالما تناول كراسة التخطيط بيده وجه المخططات الواحد بعد الآخر إلى استقامة طرقنا وتابعها بأصبعه دون أي تردد. وإن كونه جبليّا مما يزيد في ذكائه الفطري ، وفي اعتياده على اتباع سلاسل التلال ، والنظر إلى قعور الوديان ، ذلك لأن جميع سكان البلاد الجبلية يدركون تفاصيل المخططات بسهولة فمثلا إن الذي وضع خريطة الجبل الأبيض المجسمة والبلاد المجاورة له كان حلاقا من (شامونيا). وقد

__________________

(١) كانت هذه المخططات للبلاد الواقعة بين السليمانية و (سنه) و (بانه) حيث ساح المستر ريج أخيرا وبصحبته عمر آغا ـ الناشرة.

٢٩١

رسم القرويون خريطة التيرول الجميلة. وإني أتعهد بتعليم عمر آغا بعد بضعة دروس كيفية استعمال المزولة وكيفية رسم مخططات الميدان. ولم تخطر لي هذه الفكرة من قبل مع الأسف إذ كان في الوقت مجال متسع لي لأقوم بذلك في السليمانية قبل مغادرتي لها إلى (أحمد كلوان). وكان في إمكاني وأنا في سياحتي التي تلت مكوثي فيها أن أدعه يتمرن على رسم المخططات تحت إشرافي. إن الفوائد التي يجنيها العلم من رجل قوي الملاحظة يجوب مجاهل هذه البلاد التي تسترعي الاهتمام لا شك إنها عظيمة جدّا ، وقد يستطيع بدوره أن يعلّم غيره فينشر العلم والمعرفة.

وأرى بوجه عام ، إن الكرد شغوفون جدّا باستقصاء المعلومات ولكنهم قليلو الاعتداد بأنفسهم مهملون لشأنهم ، وإنهم أسهل تعليما من الأتراك ، بل أعتقد أنهم أسهل تعليما من الإيرانيين أيضا ، إذ إن هنالك بعض الأمور التي يستطيع الإيراني أن يقتبسها بسهولة ، إلا في مجال الأدب والعلم لأنه يحسب نفسه متفوقا على الأمم الأخرى فيها تفوقا عظيما. والتركي يعتقد الاعتقاد الراسخ بتفوقه في جميع الأمور وهو يزدري ازدراء مرا بكل أمر يدركه أو يفهمه. إن «سنونوا واحدا لا يأتي لنا بالصيف» (١). فرجل أو رجلان في أمة متعطشة إلى العلم والرقي ليسا إلا من الشواذ في كيانها العام. وهكذا فالعزم الطبيعي للفكر البشري وحيويته ، يخترق أحيانا الحجاب الذي يقيمه أمامه التعجرف والتعصب ، وهناك القليل حتى من بين أكثر الأقوام والأمم وحشية من لا تستطيع أن تنجب في مختلف أدوار تاريخها رجلا يسبق عصره وبلاده. لقد كان كتاب (جهان نما) أو (جغرافية الحاج خليفة) ، سفرا جليلا جدّا في حينه ، وكان يضم كل المعلومات الجغرافية التي يجدها المرء في الكتب الأوروبية في ذلك العهد ، وكان الحاج خليفة رجلا مثقفا منورا بالنسبة

__________________

(١) ضرب مثلا إنكليزيّا ، يقابله من الأمثال البغدادية : «يد واحدة لا تصفق» ـ المترجم.

٢٩٢

إلى أي تركي آخر ، ولكن لم يعقب الحاج خليفة أحد ، ومن من الأتراك يطالع الآن جهان نما؟ أو يكون لديه فكرة قياسية عن العالم بل عن بلاده نفسها؟ فإنه إذا تعلم الرياضيات والجغرافية ، فهو يراجع بكل تأكيد كتب إقليدس والمجسطي ، وقصة الأقاليم السبعة القديمة ، وبحر الظلمات وربع الأرض المسكون ، وهو قلّما يجسم نفسه متاعب التفكير فيما إذا كانت تلك النظريات تتفق مع التطورات والاكتشافات الحديثة.

إن المطابع في استانبول ، لم تقم حتى الآن بواجب تثقيف الشعب ، إلا أنها طبعت بعض الكتب الجيدة ، وقلّما يطلبها أحد ، بل لا يطالعها حتى الذي يحصل عليها. والآثار الوحيدة التي طبعت ونشرت وتهافت الناس عليها هي القواميس. و (عباس ميرزا) معني الآن بتأسيس مطبعة في تبريز. ترى هل ستفيذ هذه المطبعة الإيرانيين أكثر مما أفادت الأتراك مطابع استانبول؟ والأمة لا تتقدم بالقوة والإكراه أو بمجهود فردي ، مهما كان تقدميّا أو قويّا ومع ذلك فإن للإيرانيين كفاية أوسع من كفاية الأتراك ، ولو كانت استانبول عاصمتهم لتمكنوا منذ أمد بعيد من الوقوف في صف الأمم الأوروبية. والدين الإسلامي هو الذي يحول دون الرقي فلا يمكن لأمة أن تتمدن وهي مسلمة. والإسلام دون استثناء ، دين يعيق التقدم ويشجع على الجمود وعلى النفاق والزلل. لقد تدخل محمد في كل شيء ، وسمم كل شيء مسه. وقد جعل كل شيء سواء أكان علما أو فنا ، تاريخا أو أخلاقا من الأمور الدينية ، وأقام الموانع إزاء الرقي والتقدم ، وإزاء أي تفكير أو تطور حديث في أية ناحية من تلك النواحي (١). والتركي يكفّر كل من يعتقد بأي أمر تاريخي قديم سبق أن

__________________

(١) سمعنا هذه النعرة ، نعرة بعض المستشرقين ، كثيرا وقرأنا عنها كثيرا. وقد علمنا واقع الحال أن هؤلاء أحد اثنين : إما أنهم من المغرضين المتجاهلين ، وإما أنهم من الجاهلين الضالين في جهلهم. والغرض والجهل كلاهما يبعدان المرء عن الصدق والصواب.

وبعد هذا ، فالرد على هذا الرأي نافلة ، وإضاعة وقت ، وفي ذلك الكفاية ـ المترجم.

٢٩٣

أبدى محمد رأيه الحاسم فيه. ذكرت مرة تاريخ الإسكندر لمؤلفه (آريه ن) فأبدى عمر آغا رغبة شديدة في الوقوف على الحوادث الواردة في مثل ذلك المصدر القديم الموثوق به. وعندما سردت عليه القصة ، وكان يبدو أنني تطرقت إلى أمر يناقض العقيدة الإسلامية قال أحد الكرد الشنكيين من الحاضرين بأن ذلك التاريخ قد يكون قديما كقدم الإسكندر نفسه ، لذلك لا يمكن الوثوق به ، إذ إن نبينا قال كذا وكذا فيه. وهذا ما أخمد في عمر آغا رغبته في الاطلاع على هذا الكتاب وقد أردف الشنكي قائلا : «كان اليهود والنصارى في زمن الرسالة يوجهون إلى محمد الأسئلة المتنوعة في حوادث تاريخهم القديم امتحانا له ليروا فيما إذا كان يجيبهم صوابا أم خطأ وليظهر لهم رسالته السماوية. وقد أجابهم على أسئلتهم بكلام الله ، وهو محفوظ في القرآن وفي الحديث.

ويعتقد بعض المسلمين أن الإسكندر الكبير كان نبيّا ، ويعتقد البعض الآخر أنه بطل من الأبطال ، كما يعتقد بعضهم بنبوة لقمان ، والآخر بولايته (١).

__________________

(١) أنقل الملحوظة التالية من كتاب المكتبة الشرقيةBibiliothe ? que Orientale لمؤلفه (هه ربى لوت) «إن السورة ٣١ من القرآن هي سورة لقمان» ، ويدّعي محمد أن الله قال : وآتينا لقمان الحكمة .. إلخ. من الآية ـ ويدّعي بعض العلماء المسلمين بأنه كان ابن أخت أيوب ، وعليه فهو وارث للنبوة حقّا وأنه كان نبيّا. ويدّعي أحد المؤرخين بأنه أحد أولاد باعور بن ناقور بن تارح وهكذا يصبح ابن أخ إبراهيم. ويخبرنا مؤرخ آخر بأنه ولد في عهد داود وعاش حتى عهد يونس وعلى هذا نستطيع أن نقول إنه عاش بضعة قرون بل إن بعض المؤرخين يدّعي بأنه عاش ثلاثمائة عام. هذا وإن أكثر العلماء المسلمين يتفقون بأن لقمان لم يكن في عداد الأنبياء ، فقد كان وضيع المولد ، وكانت مهنته التجارة أو الخياطة ، ويقول البعض إنه كان راعيا. ويتفق الجميع على أنه كان من نوبيّا أو من الحبشة أي من الزنج ، ذوي الشفاه الغليظة الذين يؤتى بهم من هذه البلاد ويباعون في الأسواق وكان لقمان منهم فجيء به وبيع إلى الإسرائيليين على عهد داود وسليمان. وفي يوم الأيام عندما كان في

٢٩٤

١٩ تشرين الأول :

زرت الباشا اليوم زيارة الوداع. فوجدته أكثر استقرارا من ذي قبل ، ولكنه ما زال مغتما يتنهد باستمرار تنهدا عميقا. وكان معظم حديثه اليوم في مواضيع دينية كعادته. وقد سألني عن عدد الأناجيل سواء السماوية منها أو الموضوعة من قبل البشر بوحي من الله ، وهل سيظهر المسيح وينشر سلطانه على الأرض ، أو هل أنه سيظهر يوم الحساب فقط. ثم تكلم عن الدجّال (١) وعن يأجوج ومأجوج وغير ذلك ، وكان لطيفا

__________________

قيلولة دخل بعض الملائكة غرفته فحيوه دون أن يظهروا أنفسهم له. فلم يرد التحية عليهم لأنه سمع الصوت ولم ير أحدا. ولكن الملائكة استمروا بقولهم «نحن رسل الله ربنا وربك أرسلنا إليك لنخبرك بأنه سيجعلك ملكا وخليفة له في الأرض» فأجاب لقمان : «إذا كان هذا أمر الله بأن أكون ما تقولون فأمره نافذ وأرجو أن ينعم علي بفضله لأتمم إرادته ، وإذا خيرني الله بما أرغب فيه من العيش ، فإني أفضل البقاء على ما أنا عليه من الحال وإنه سيرضاني ويحميني من أن أكفر بنعمته وإلا فعظمة الحياة ستكون النقمة بذاتها علي» لقد أرضى لقمان الله بجوابه هذا فأنعم عليه على الفور بالحكمة في أعلى درجاتها ومكّنه من تعليم النوع البشري ما يقارب العشرة آلاف مثلا ، وقول كل منهم أثمن من العالم بكامله. جلس لقمان في يوم من الأيام بين جماعة كبيرة كانت تستمع إليه ، فمر بهم يهودي من أعاظم اليهود فرآه محاطا بالمستمعين ، فسأله عما إذا كان هو ذلك العبد الأسود الذي كان يرعى أغنام أحد الناس ، فرد عليه بالإيجاب ، فأجابه اليهودي بقوله إذن كيف أصبحت في هذه المنزلة من الحكمة والفضل؟ فأجابه باتباعي ثلاثة أمور اتباعا صادقا وهي : «أن أقول الحق على الدوام ، وإن أوفي بعهدي ، وأن لا أتدخل بما لا يعنيني». ويذكر أحد المؤرخين بأن داود سأل لقمان في أحد الأيام كيف نهض في ذلك الصبح ، فأجابه لقمان : «إنني نهضت من خلال ترابي» فقدر له داود قوله واحترامه ، وعظم فيه حكمته وتواضعه. ويخبرنا مؤرخ آخر بأننا نجد ضريح لقمان في (رامه) وهي مدينة صغيرة بالقرب من القدس ، وهو نوبي المولد يهودي المذهب ، وقد دفن بالقرب من الأنبياء السبعين ، الذين ماتوا في يوم واحد بالقرب من القدس.

(١) الدجال هو الكذّاب أو المخادع. وهو يعني أيضا ذو عين واحدة وحاجب واحد

٢٩٥

كعادته ، وقد قال لي بأنه سيراني قبل مغادرتي المدينة ، وأنه سيزورني غدا في مخيمي.

ذهبت بعد ذلك لزيارة عثمان بك وكان في مظهر الجد على عادته ، إلا أن نوعا من مسحة العزم والقسوة كانت تبدو عليه ، ومثله مثل الرجل الذي أسند ظهره إلى الجدار. ويبدو أن محمود باشا يصر ـ بناء على توصية باشا بغداد ـ إصرارا شديدا على أخيه ليتقبل منصبه وهو حاكمية كوى سنجاق. وهذا ما يرفضه عثمان بك ، إذ إنه يخشى أن يتغلب الأتراك عليه فيتسلموا أزمة الأمور بأيديهم حالما يتنحى هو عن طريقهم الأمر الذي يعني خراب بلاده المحقق. إن باشا بغداد لا يرغب في تضامن العائلة ، ولا يحتمل مطلقا وحدتها ، وهو الذي كما كنت أظن ، وكما تأكد لدي ، نجح في جر الاضطراب على عبد الله باشا وهو الآن يسعى لتنحية عثمان بك وإحلال التنابذ بينه وبين أخيه. أما تصرف عثمان بك ، فقد كان في جميع الحوادث الأخيرة تصرف الرجل الشريف الذي لا يحمل في دخيلة نفسه إلا الخير للبلاد وضمان منافعها. وخطأ الباشا الكبير هو ضعفه واحترامه للأتراك الاحترام الكلي ، المنبعث في الحقيقة عن الشعور الديني ، وكثيرا ما استغربت ضعف الباشا النفساني في هذا الشأن. ومن المؤسف أن يلاحظ المرء شدة انخداعه بباشا بغداد ، الذي اعتاد أن يذكره بقوله «أفندمز» أي سيدنا. فلو كان يقدر قوته ومصالحه حق قدرها ، لكان من المحتمل أن يجعل باشا بغداد منقادا إلى ما يريد وإلى معاملته المعاملة اللائقة به. أما عثمان بك ، فلا يذكره أو ينعته إلا بكلمة «الوزير».

__________________

وهكذا يسمى المسلمون المسيح الدجال ، (أهذا ما توصل إليه ريج؟ ـ المترجم). وينعتونه بهذا النعت. ويعتقدون بأن عيسى المسيح وقد دخل القدس وهو على ظهر حمار فسيدخل الدجّال كذلك القدس ، وهم يعتقدون بأنه سيظهر في آخر الزمن وأن المسيح حي ـ كما يعتقدون ـ سيقابله عند هبوطه من السماء ثم يموت بعد أن يتغلب عليه.

٢٩٦

وبعد مكوثي عند عثمان بك مدة ، جاء المصرف ، فخاطبه عثمان بك بنبرة حازمة قائلا : «لا فائدة من الكلام في الموضوع» فالباشا هو أخي الأكبر وأميري ، وله أن يعاقبني ، وإن شاء له أن ينتزع مني ما أملكه ، ولكنني لا أذهب إلى كوى سنجاق.

ودعته بعد مدة وجيزة ، وسمعت بعد ظهر اليوم بأن الباشا أرسل إليه الأوامر الصارمة ليذهب إلى كوى سنجاق ، وإلا يحرمه أملاكه ويمنع الناس عن زيارته. وأخذ يندب على رؤوس الأشهاد ضعفه الذي اضطره إلى الانصياع لمقترحات عثمان بك خلال السبع سنوات الماضية من حكمه.

ومهما كانت أغلاط عثمان بك ، فمن المؤكد أنه تصرف تصرفا شريفا في جميع الأمور التي وقعت أخيرا. إنه أقنع أخيه بألا يتنازل عن منصبه ، ورفض دعوة أمير كرمنشاه بالذهاب إليه ، وفي كلتا الحالتين كان يعلم العلم اليقين بأنه يصبح باشا لو فعل ذلك. ومما يحزنني أن أرى مثل هؤلاء المخاليق الأتراك يبذرون بذور الشقاق بين أعضاء هذه العائلة المحترمة.

قررت قبل مغادرتي هذه المدينة أن أوجه بعض الكلمات الطيبة إلى صديقي القديم عبد الله باشا. قال لي عثمان بك إن ما حدث إنما كان بدس الأتراك وحيلهم ، ومما لا ريب فيه أن عبد الله باشا بريء من أكثر الأمور التي أسندت إليه. وقال لي أيضا بأن الباشا لان في المدة الأخيرة وطلب من باشا بغداد أن يسمح له بالإفراج عن عمه ، ولكن داود باشا لم يوافق على ذلك. فقلت له إنني أعتقد عن يقين بأن ليس هناك ما يمكن أن يلحق به شرّا إذا ما أحجمت شخصيّا عن إيقاع الضرر به لمدة قصيرة. فقال لي عثمان بك سوف لا يلحق به الحيف مطلقا ، ونحن لسنا كالأتراك ، إذ ليس فينا من يمس منه شعرة ، وإن أعطي الدنيا بكاملها.

كان في خدمتنا رجل همجي يدعى محمد جاووش ، وكان هذا من

٢٩٧

رجال عمر آغا مثلما كان أبوه في خدمة عائلة عمر آغا. وكنا نتمشى خارج الدار قبل بضع ليالي ، فوددت أن أتحدث مع عمر آغا الذي كان يتقدمنا بمسافة قليلة ببعض الأمور فنادى محمد جاووش سيده بأن صفر له ، وعمر آغا الذي يبدو أنه يدرك تمام الإدراك هذا النوع من المناداة ، أدار بوجهه على الفور ليرى من المنادي. وقد أرادت قرينتي أن تهدي أحد الخدم الذين مرضوا فروة صغيرة فسألت محمد جاووش عن الثمن فأجابها الرجل بالكردية التي يتكلمها بصعوبة ، ولم تسألين عن الثمن؟ إنه يتراوح بين الخمسة والعشرة قروش ، ولكن إذا كنت تريدين الفروة لك ، فإني أوصيك بأن تفصلي لك صدرية من اللباد. وهذه الصدريات أو الستر تصنع من اللباد الاعتيادي المستعمل في بطانة السروج والسمرات ، أو في المدات اللبادية ، وهي تصنع بقطعة واحدة يلبسها الرعاة والطبقة العامة من الكرد المعرضين إلى تأثيرات الجو ؛ ويحتمل أن زوجة محمد جاووش تلبس واحدة منها.

والكرد لا يلغطون أو يتصايحون فيما بينهم عند الكلام كالإيرانيين ، ولكنهم معتادون على الصياح المفاجىء والصراخ فإذا أراد الكردي أن ينادي آخر ، أو يجذب انتباهه إليه صاح بأعلى صوته «هو حه مه كه هو ـ بتطويل النداء ـ حه مه كه هو ، هو ، هو ، ووررا ، ووررا» فيجيبه المنادى بالصيحة نفسها. وهكذا يتنادى الجاف أيضا ، ويكلمون بعضهم البعض من تل إلى تل ، والكرد نادرا ما يقطعون الطريق قطعا مستقيما وبسكون ، مهما كانت مسافته أو مدته. بل إنهم دون أي سابق إنذار أو سبب تراهم يصرخون ويطاردون على ظهور خيولهم مسرعين ثم يعودون إلى أماكنهم وذلك عند مسيرهم أو أسفارهم. فعندما كان عمر آغا قائما بمهمة في كردستان الإيرانية ، أوفد رجلين من أتباعه ذات ليلة إلى قرية لا تبعد كثيرا عن الطريق ليشتريا خبزا ، وذلك لطول المسيرة. وكانت الليلة حالكة الظلام ، وبعد انقضاء مدة طويلة سمع أصوات الفارسين يعودان باتجاهه

٢٩٨

وهما يتطاردان بسرعة فائقة فوق الصخور. ولما كانت المنطقة غير مأمونة أو كانت بالأحرى على غير وئام مع العائلة البابانية فقد تبادر إلى ذهن عمر آغا بأن الأعداء يعقبون رسولية فتهيأ ورجاله الذين معه للقتال وأشهروا أسلحتهم ولكن الأصوات انقطعت على الفور ، انقطعت مدة من الوقت دون أن يقف على كنه ما حدث ، فاضطر إلى الاتجاه بحذر نحو مصدر الأصوات حيث بوغت بالعثور على جواد لا راكب عليه ، ووجد الخيال مطروحا على الأرض ، أما الخيال الآخر فقد ترجل إلى جانبه وظل حيث هو ممسكا عنان جواده. وقد ظهر أن الرجلين بعد أن اشتريا الخبز رجعا ووضعا مقدارا من الدراهم رهانا للسباق بينهما ، وبدأ السباق على الفور وكانت الأرض غريبة عنهما وهي صخرية وعرة والليلة حالكة الظلام ، مما أدى إلى سقوط أحدهما وانكسار عظم فخذه.

والكرد فرسان شجعان لكنهم يجهلون أصول الفروسية ، إذ يندفعون بخيلهم على أية أرض وبأية سرعة كانت ، وهم يستديرون وينعطفون بخيلهم دون رحمة أو شفقة. وهم يقومون بكل هذه الحركات بخشونة ، وبقوة وبالالتصاق على ظهور الخيل وحسب ، وهم لا يحسنون معرفة نسل الجواد المعرفة الجيدة. وإن خيولهم جميعها حتى العربية منها ، تصاب بعد حين بالعاهات وتمسي كذلك جفولة شرسة. والكردي يفضل الجواد العزوم الشرس ، إذ يعتقد أن ذلك مما يظهر المهارة والشجاعة في فارسه. أما العرب ، فعلى خلاف ذلك فهم فرسان ماهرون هادئون. ولك أن تركب جوادا ركوبا مريحا وأنت تسير وراء العربي أو وراء التركي في بعض الأحيان ، أما وراء الكردي فلا. هذا والكرد يعتنون العناية كلها بخيلهم وهنالك الكثير من رجال الكرد الذين يسوسون جيادهم بأيديهم. ولا يستبعد أن يعلفوها العلف الكثير ، ويدفئوها الدفء الجيد ، الأمر الذي يجعلها أقل تحملا للمشاق التي يخطر ببال المرء وقوعها بين هؤلاء القوم. لقد تفشت في هذه الأيام بينهم الرغبة في اقتناء الجياد العربية وكثيرا ما يدفعون المال

٢٩٩

الوافر دون مبالاة ثمنا للخيول غير المعروفة الأصل. وهذه الرغبة أخذت تقضي على تشجيع توليد وتربية الخيول الكردية الأصيلة التي يمكن اعتبارها من أحسن الجياد وأقواها احتمالا للمشاق وأقدرها على أداء الخدمات للفروسية الباهرة. أما الآن فقد اندرست هذه الجياد تقريبا واستعيض عنها بالجياد الهجينة المستوردة من بغداد ومن البلاد المنخفضة. ولا تتناسل الخيول العربية في كردستان إلا نادرا. فمهورهم كلها من النوع الاعتيادي ولا تملك من مزايا الخيول العربية إلا القليل.

والكرد كشافون ماهرون وأكفاء في الحصول على المعلومات الكثيرة عن معسكرات العدو ، فهم يتسللون إلى قلبها بمهارة فائقة ، بل إلى خيمة آمرها بذاته. وعندما حاربوا باشا بغداد ، سهلت القضية سهولة عظمى لوجود عدد كبير على الدوام من جنود الكرد الاحتياط المضطهدين في الجيش التركي. وقال لي عبد الله باشا إن أخاه عبد الرحمن باشا أرسل في وقعة من الوقائع (١) كرديّا إلى معسكر باشا بغداد لكن الرجل لم يستطع الحصول على المعلومات التي كان يريدها فرأى من الأفضل أن يقبض على أحد جنود المعسكر ويأتي به أمام عبد الرحمن باشا ليستجوبه كما يريد. والكرد ميالون إلى الموسيقى ميلا شديدا وأغلب موسيقاهم حزينة ، وبعض قطعهم وأغنياتهم ك (مه لكي جان) و (مه ن كوزه به ناز) ـ الزاء الفارسية ـ و (ئه زده نالم) أغنيات رقيقة على بساطتها. وللكثير من أغنياتهم أدوار تتناوب. ونغمات الحصادين وهم يغنون (شيرين وفرهاد) أعادت إلى ذاكرتي أغنية أصحاب زوارق الغندول في البندقية وهم يرددون أغنية تاسسو.

__________________

(١) عندما كان عبد الرحمن باشا على فراش الموت ، قاسى أهله وأقاربه الصعاب في تهدئة باله وأعصابه في النزع الأخير إذ كان في حالة هياج شديد ، وهو يكرر القول بأنه يموت على فراشه بهدوء وحطة بينما كان يرغب في أن يكون نصيبه من الموت في ميدان الوغى والشرف. وهذا شعور لم يكن مما يظهره الشرقي كثيرا.

٣٠٠