رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

٢٠١

يرتدي البزة الإيرانية ، وبوجه امرأة خليعة ، هذا ومن الغريب جدّا أن نرى الإيرانيين يؤثرون عن الإسكندر كونه شابّا ، أمرد وسيم الطلعة.

وكانت واجهة البهو مكشوفة ، تدعمها الأعمدة وفي منتهاه مقصورة يطلق الإيرانيون عليها اسم (شاه نشين) ، وهي على جانب عظيم من الزخرف وفي وسطها حوض ماء صغير وتفصلها عن البهو نوافذ زجاجية تسدل عند الاقتضاء. ويسمى هذا النوع من البهو بالتالار «الطرار» ـ إيوان ، وهذه كلها تقليدا لأبنية الصفويين في (أصفهان). إن سعة هذا الإيوان عدا المقصورة خمسون قدما طولا وخمسة وعشرون قدما عرضا.

وإذا ما انعطفنا نحو زاوية ذلك الإيوان المزدان بالأنجم والأوراد نجد بهو الاستقبال الجديد الذي بناه أمان الله خان قبل نحو أربع سنوات.

وهذه الغرفة أكبر من الإيوان ، تسد واجهتها نوافذ ذات رسوم بديعة. وهي غرفة فخمة جدّا ، والإزارة منها من المرمر الشفاف قليلا ، أو من الرخام المعرق وقد لونت الإزارة تلوينا جميلا وموهت بالذهب بذوق سليم وألوان متناسقة. وكانت درجات السلم من الرخام المعرق ذاته ، وقد جيء به من تل على طريق همدان ، وقد استخرج من الأرض بعناء شديد. ولكن مما ألحق الضرر البالغ بجمال الردهة ما رسم على الأقسام العليا من جدارها من الرسوم البخسة وهي أشبه ما تكون برسوم اللافتات ؛ وهي تمثل الملك سليمان ، وملكة سبأ ، ومعركة دلهي ونادر شاه يعيد التاج إلى المغول ورسوم أخرى تمثل حوادث مماثلة. والأنكى من كل ذلك وجود صور منتصبة زعموا أنها تمثل إمبراطور روسي ، وأمير الغال ، وحاكم الهند العام وملك الأسبان وإمبراطور ألمانيا ، وبونابرت وهو يحمل بيده بندقية وحربة. لقد كانت كلها رسوم سمجة لا تمت إلا هؤلاء بشبه لا في السيماء ولا في القيافة ، إلا رسم إمبراطور روسيا الذي إذا نظرت إليه عرفته لأول وهلة. وقد رسموا أيضا جلالة الشاه الإيراني بلحيته المرعبة وهو مثقل بالمجوهرات. وعلى جانبي البهو شرفتان

٢٠٢

صغيرتان مرتفعتان زينتا تزيينا بديعا تعرف عندهم ب (بالإخانة) وأرى أن كلمة (بالقون) الإنكليزية محرفة عنها ، وكلها مجموعة من ماء الألوان الزاهية المذهبة وفي الواقع كانت الإزارة برخامها المعرق فخمة وجميلة معا. هذا ولو استعيض عن هذه الرسوم السمجة المرسومة على الجدران برسوم من ريشة (روبين) بألوانها الفنية التي تتلائم مع باقي أقسام القاعة ، أو إذا تعذر ذلك ـ وهو الواقع ـ واستعيض عنها بقطع من سجاد (غوبلين) لأصبحت غرفة تستحق عناء السفر لمشاهدتها في أي ناحية من أوروبا. وهنالك على بعد قليل من هذه القاعدة توجد غرفة صغيرة مكسوة جدرانها بالمرايا ، ومزوقة تزويقا غريبا بالأباريق والأكواب والقناني وكؤوس الزجاج وغير ذلك.

يجد الإيرانيون لذتهم الكبرى في ذلك ، وأنهم كانوا يكشرون عن أسنانهم ويحدقون بوجهي لاستشفاف أمارات العجب وهم يطوفون بي في غرفة التحف هذه. ويوجد على بعد قليل في فناء آخر أيضا محراب صغير جميل ، وأبنية عديدة لم يتم بناؤها بعد ، كان في إحداها نافذة إنكليزية بارزة على الإيوان والدكة. وسيكون القصر بعد إكماله قصرا بديعا جدّا ، ولكن ستظهر عليه الكثير من المتناقضات الشرقية كالممرات الضيقة المظلمة القذرة والسلالم الخطرة وغير ذلك.

وقد فاتني أن أشير إلى رسم في البهو الجديد يمثل معركة (مه ريوان) يظهر فيه رسم أمان الله خان وأتباعه الكورانيين بارزا وقد اقتيد (سليمان كهيا) أسيرا إليه ، وقد مر بنا أن هذه المعركة قد انتهت خلال عشر دقائق وسلم الكهيا نفسه إلى عبد الرحمن باشا دون أن يخوض الإيرانيون أو الكورانيون القتال (١).

ولأمان الله خان كما لغيره من الإيرانيين هواية ملحة في البناء وهي

__________________

(١) راجع الصفحة ١٥١.

٢٠٣

هواية يمكنه أن ينغمس فيها بسهولة لتمكنه من تسخير العمال وأرباب الحرف على الاشتغال له مجانا لقاء بعض الامتيازات كتخويلهم تسخير مواشي القرويين في حمل الأثقال عند الحاجة ، أو إعفائهم من قبول ضيوف الحكومة أو موظفيها ، أو حمايتهم من الدائنين أو التساهل معهم في أمور أخرى شبيهة بها في تطمين هواياتهم.

فجامع لطيف ، وتحسينات في القصر ، وبعض الحمامات والخانات وسوق كبير حول الميدان وإن لم تدخر فيه الأموال الادخار الكافي وأبنية أخرى كان ذلك مما يتلائم وذوق أمان الله خان وطغيانه. إن السائح ليعجب بعظمته ، ولكن المواطنين المساكين والقرويين يثنون عند ذكر منشآته.

لقد شيّد القصر فوق مرتفع عال ، يشرف على المدينة كلها وهو محاط بسور من «الطوف» كان في حالة رديئة جدّا. ويقع عند أسفل التل قسم من المدينة ، فسور آخر ذو أبراج ومن ورائه قسم آخر من المدينة وهو محاط أيضا بسور آخر. لقد وسّع أمان الله خان المدينة كثيرا خلال الأعوام القليلة الماضية ، وتشاهد وأنت في شرفة القصر بعض البيوت الأنيقة المشيدة بالطابوق ، أما المساكن الاعتيادية فمن الطين المجفف كبيوت السليمانية. وتحيط بالمدينة من الجهات كلها أرض ترتفع عن مستواها ، وهي على منحدر يوصل إلى واد مكتظ بالحدائق والكروم ، وهذا مما جعل أزقة المدينة متموجة صعودا وانخفاضا ، وترتفع الأرض بعد الوادي ثانية إلى تلال متكسرة تنتهي في سلسلة (بازرخاني) التي مرّ ذكرها.

ولم تكن الحمى الراجعة مجهولة هنا خلال موسمي الربيع والخريف. وقد عمت وطأتها هذه السنة كل الأماكن ، كما شحت المياه شحّا محسوسا في كل أنحاء إيران وكردستان التركية. ويعتبر موقع القلعة والأراضي المرتفعة حول (سنه) من المواقع الصحية.

٢٠٤

رجعت إلى غرفتي متعبا من استعراضي للقصر ـ وإنني لا أحب التجوال لمشاهدة البيوت ـ ولم آسف لرؤيتي فطورا فخما ، أو بالأحرى عشاء مهيّئا ، وبعد تناوله اضطجعت للراحة في الإيوان ، وعندما نهضت زارني بعض أعيان المدينة ورجعت عند غسق الليل قرينتي من الجنينة. أما طعام العشاء فلم يؤت به كما هو المعتاد قبل العاشرة ، وعلمت أن الإيرانيين يتناولون عشاءهم عادة بعد هذه الساعة.

٢٧ آب :

علمت من ميرزا فيض الله بأن الكرد يطلقون علما عاما على (زغروس) هو (شاهو) (١) وهذا الاسم هو الشائع عن جبل (جوان روو) ، ولكن المفهوم لدي الكرد العارفين في هذه البقاع بأن هذه التسمية العامة تنطبق على الجبال المنحدرة بين (شيراز) و (بوشهر) ومنها إلى (بندرعباس).

و (سنه) (٢) التي كانت سابقا على طنف مستو إلى جنوب المدينة الحالية ، قد بناها قبل مائة وخمسة وسبعين عاما أحد أجداد أمان الله خان ، وهي الآن تضم أربعة أو خمسة آلاف عائلة ، منها مائتا عائلة يهودية وخمسون بيتا من الكلدانيين الكاثوليك التابعين إلى بطريركية ديار بكر في أبريشية الموصل ، ولهم كنيسة وقسيس ، وكلهم أرباب حرف أو تجارة بنطاق ضيق (٣) وسكان المدينة المسلمون كلهم سنيون شافعيون ، أما الوالي وعائلته فقد تظاهروا بالتشيع إرضاء لشاه إيران.

__________________

(١) يقول (إنكه تيل دوبيرون) إن الكتب الزردشتية تطلق على جبل (الوند) قرب همدان اسم (شاهو).

(٢) إن الاسم الصحيح ل (سنه) هو (سناندوج) وقد اختصرتها العامة ب (سنه) انتهت الحاشية. والأصح هو (سنانده ج) ، وقد جاءت في نص الحاشية (سناندرج) غلطا مطبعيّا ـ المترجم.

(٣) يصنع في (سنه) سجاد يفوق في جودته سجاد (كرمنشاه).

٢٠٥

وصلنا (سنه) وهي في كرب شديد ، إذ كانت المدينة في حزن عام بسبب الحادث التالي : «ذلك أن محمد حسين خان أكبر أنجال الوالي ، وهو من أم من عامة الناس وابنة صراف في المدينة ، كان قد حرم من ولاية العهد وجعلت لأخيه الثاني محمد علي أو خسرو خان ، وأم هذا من أعرق بيوتات (سنه) بعد بيت الوالي نفسه. فضلا عن كونه أحب أنجاله إليه. وقد نشب نزاع بين الأخوين ، أظهر فيه الأب تحيزا بينا بجانب نجله الأصغر ، فاشمأز محمد حسين خان من ذلك ، كما استغل بعض الانتهازيين هذه الفرصة لتوسيع شقة الخلاف فوعدوه بالتأييد ومن ثم أغروه على الهروب من (سنه) ففر منها قبل بضعة أشهر على رأس عدد كبير من الأتباع ، وكان محبوبا منهم. وقد سار على الطريق المار بين منطقتي بغداد و (كرمنشاه) وغزا في طريقه بعض العشائر التابعة لحكومة والده ، كانت ترعى مواشيها في سهول بغداد وخانقين. أما الوالي فبعد أن حصل على موافقة شاه إيران طارد نجله على رأس جيش ـ كنت قد وصلت في شهر آذار الماضي إلى (خانقين) و (قصر شيرين) بعد مغادرة الوالي لهما بيومين (١) ـ وأخيرا التقى الوالد بولده في منطقة كرمنشاه ، فدارت بينهما معركة قاتل فيها الفريقان قتالا عنيفا. وقد وجه الوالي أوامره المشددة بأن لا يقتل أحد ابنه أو يجرحه ، ولكن الولد جرح في المعمعة فنقل إلى (سنه) بعد المعركة حيث توفي متأثرا من جرحه ، فطاش عقل الوالي وقطع رؤوس عدد كبير من أتباع ولده في موقع المعركة ، كما أعدم أكثر من مائة شخص من أعيان (سنه) بعد عودته إليها ، وفر منه ما يقارب أربعمائة شخص آخر إلى (كرمنشاه) فدمر بيوتهم وصادر ممتلكاتهم ، فاضطر نساءهم وعوائلهم إلى الاستجداء.

__________________

(١) نجد في مكان آخر من هذا المجلد بحثا عن السياحة التي يشير إليها المستر (ريج). انتهت الحاشية. وإتماما للفائدة لقد ألحقنا مذكرات ريج في سياحته هذه بهذا الجزء من الكتاب ـ وهي من ملاحق الجزء الثاني ـ إذ وجدناه يشير إليها في هذا الجزء أكثر من مرة.

٢٠٦

أما نجله الثاني محمد علي أو خسرو خان ولي عهده في الحكم فيافع يبلغ نحو الخامسة عشرة من عمره وقد سبق له أن تلقى إرادة الشاه في استخلاف والده ، كما تمت خطوبته لإحدى بنات الشاه ، وسيتم قرانه في النوروز المقبل ، ويحتفل بزواجه احتفالا عظيما في طهران. أما الآن فإن الوالي يتجول في الأنحاء مشددا على رعيته لجمع المال اللازم لهذا الزواج الذي إذا ما أضيفت إليه أثمان الهدايا الواجب تقديمها إلى الشاه فستصبح تكاليفه باهظة جدّا. أما صغيره الذي تركه في (سنه) فيدعى محمد خان وهو يبلغ نحو العاشرة من عمره. وللوالي من الأولاد ثمانية.

ويبلغ أمان الله خان (١) والي سنه السابعة والأربعين من العمر ، ويقال فيه إنه سيد الكياسة الإيرانية وظرفها وسياستها. ويعترف الإيرانيون أنفسهم بأنه يفوق أي واحد منهم في دهائه ، وهم مجمعون على أن جميع وسائل التوقي من الوقوع في حبائل مكره وريائه عديمة الجدوى. ويقال فيه أيضا إنه ماهر كل المهارة في تسخير من يشاء واستمالته إليه بأطواره المغرية وبسلوكه المحبب ، ولكنه يستهدف دوما الأغراض الشخصية في كل ما يفعله ويصنعه ، ولا يمكن الركون إليه ، ولقد بلغ به الولع بحشد المال والقسوة درجة جاوز فيها معظم الحكام الإيرانيين ، وإذا ما ذكر اسمه ارتجفت إيالته خوفا وذعرا. وهو دقيق التنظيم مجيد له ، ويقال إنه يملك ثروة عظيمة جمع أكثرها من الاتجار وإن له رؤوس أموال كثيرة لدى عدد من التجار يستغلونها لحسابه ، ويملك ما ينوف على الخمسين ألف رأس من الأغنام موزعة على أناس عديدين ليعتنوا بها له على أن

__________________

(١) كان في إيران سابقا أربعة ولاة أو أمراء تابعين وهم : أمير ديار الكرج ، وأمير سنه ، وأمير لورستان ، وأمير الهويزة ؛ ولم يبق منهم إلا والي (سنه) وكان يسمى أمير (الهويزة) بالمولى ، وكان سيدا من سلالة النبي أو يدّعي بأنه كان كذلك ؛ وكلب علي خان قاتل كل من المسترين (كرانت) و (فوذرنكهام) وهو سليل ولاة (لورستان) وهم من العشائر الفيلية.

٢٠٧

تحضر له فورا عند طلبها مهما مر عليها من الزمن ، وهذا يعني أن أغنامه يجب أن لا تعمر ، وأن لا تمرض ، وأن لا تموت ، وأن لا تفترسها الذئاب ، فإنه شريك كل تاجر أو كاسب في إيالته ، وبالأحرى أنه هو المحتكر الأول فيها. احتجت إلى علبة جديدة لمزولتي ، ولما كان الخشب كله بل النجارون كافة ملكا للوالي فقد اضطررت إلى استصدار الأمر من ميرزا فرج الله لصنعها. وقد تكرر الحادث نفسه عندما طلبت قيطانا من الحرير الأخضر لمسدسي ، وطلبت مرة من أوفانس (١) أن يحاول الحصول على بعض النبيذ ، فراجع أحد المسيحيين ، فأجابه : إنه لا يجرؤ أن يعطيه ما يطلبه دون صدور الأمر إليه إذ إن للوالي العلم بكل ما في داره من قناني الخمر وعلى شركاء الوالي جميعا أن يعتنوا العناية الكلية في جعل دخله دخلا منتظما ، مهما كان نصيبهم من الكسب. إن (الكوركجي باشي) أو فراء الوالي رجل مسيحي ، كان قد أعطاه الوالي مائة تومان ليتاجر بها لحسابه على أن يدفع له بانتظام عشرين تومانا سنويّا ، وقد وجد الرجل المغلوب على أمره في هذه صفقة خاسرة وهو يرغب من الصميم أن يعيد الدراهم له ، ولكنه لا يجرؤ حتى على ذكر ما يدور بخلده. والوالي الآن يقوم بجولة في أنحاء إيالته ، وقد أرسل أهالي (ساقز) يعرضون عليه ستمائة تومان على أن لا يزور مدينتهم فأجابهم بأنه سيزور مدينتهم وسيستلم منهم ألف تومان. لقد سمعت النوادر العديدة من هذا القبيل ؛ فقبل مدة من الزمن ذهب أربعة من أعيان (سنه) ليقبّلوا أقدام الشاه شاكين له ظلم الوالي متوسلين بجلالته أن يحميهم منه فأحالهم الشاه إلى ابنه محمد علي ميرزا وطلب الوالي شراءهم منه وبدأت المساومة ثم تمت الصفقة. وبعد ذلك عرض الوالي على الأمير

__________________

(١) (كوفا أوفانس) أحد السكرتيرين الأهليين الملحقين بدار المقيم في بغداد وهو أرمني الولادة روماني كاثوليكي المذهب وكان ذا منزلة لدى المستر ريج لصدقه في بلاد يندر فيها الصدق ، ولوفائه وأخلاقه المستقيمة وسلوكه الجذاب ـ الناشرة.

٢٠٨

مبلغ ألفي تومان علاوة على الثمن المتفق عليه إن هو أرسلهم إليه بعد فقء أعينهم في (كرمنشاه) ، فوافق الأمير وفقئت أعين هؤلاء البؤساء وأرسلوا مكبلين إلى (سنه).

ذهبت صباح اليوم لزيارة الخان الصغير ، وكان جالسا في ال (شاه نشين) شرفة الإيوان ومعه عناية الله بك ، ونبيل آخر من المدينة وكلاهما في اللباس الرسمي. قدمت المرطبات كالمعتاد ولم يدر بيننا من الحديث الممتع إلا قليلا. وقد وجهت إلينا الأسئلة الكثيرة عن فرنكستان ، فكفاني عمر آغا عناء الإجابة على معظمها إذ أصبح الآن ملما بهذه المواضيع. وكان الكل يتساءل باهتمام عن (مالكولم) (١).

وجاء لزيارتي بعد ظهر اليوم بعض أفراد عائلة الخان فاستقبلتهم في «الطرار» الإيوان الذي يقيم فيه الخان الصغير ديوانه صباحا ، وأقيمه أنا عصرا.

وكان (الخانات) الذين جاؤوا لزيارتي كل من شير محمد خان أحد إخوان الوالي وسبحان ويردى خان أحد عمومته وأحمد خان ابن عمه ، وكلهم بلباسهم الرسمي ، أسياد أماجد متقدمين في العمر ؛ لقد تكلموا عن تاريخ عائلتهم العريق فقالوا إنهم أمراء (سنه) منذ سبعمائة عام ، وإن اسم عائلتهم (مامولي) ، وهي في الحقيقة قديمة جدّا غير أن كونها (كورانية) أو من طبقة الفلاحين ، ليست محترمة لدى القبليين. وأخبرني أيضا بأن اسم (آردلان) كان يطلق في الأصل على شخصية شهيرة من

__________________

(١) وهو السير جون مالكولم (١٧٦٩ ـ ١٨٣٣) ، تقلب في مناصب الجندية والسياسة والإدارة في مختلف أقطار الهند وإيران وأخيرا أصبح نائبا في البرلمان. أوفد إلى إيران للمرة الأولى عام ١٧٩٩ إلى البلاط الإيراني لعقد حلف مع بريطانيا وبعد نجاحه رجع إلى الهند بطريق بغداد عام ١٨٠١ ، وأوفد إلى إيران ثانية كوزير فوق العادة لدى البلاط الإيراني ، وبعد رجوعه إلى إنكلترة كتب تاريخ إيران بمجلدين ، طبع في لندن ـ جون مه ري ـ عام ١٨١٥ ـ المترجم.

٢٠٩

العائلة (١) ومنذ عهده صار يطلق على حكام هذه المناطق اسم ولاة (سنه يي أردلان) كما يطلق على حكام السليمانية اسم (مير ميران بابان). وقد ظن البعض من قبل بأن (أردلان) كانت تطلق على المقاطعة فقط ، لكنهم أكدوا لي خطأ هذا الظن. وعند ما امتدحت بعض الأبنية ، أفاد أحد الخانات قائلا إنهم أنفقوا جميع أموالهم على بيوتهم على خلاف البابانيين الذين حصروا استثمار ثروتهم في اكتناز المال واقتناء الأموال المنقولة ليكونوا على أهبة الرحيل في أي لحظة ، عند حدوث اضطراب ، أو عزل رئيسهم. وعلق عمر آغا على هذا الرأي فورا بقوله (أجل ، إنكم تنفقون المال على البيوت ، إذ إنكم لا تبالون بمن يرأسكم فأنتم راضون بما أنتم عليه. أما نحن فمستعدون للحاق برئيسنا حيثما حل ، فنشاركه الملمات والمصاعب والأخطار ، وإننا نحتفظ بأموالنا له ليستعين بها على العيش في الأوقات العسيرة. وما كان هذا القول مجرد ادعاء أو تفاخر بل كان الحقيقة بعينها. وإنني أستطيع أن أبرهن ذلك بالكثير من الوقائع التي حدثت على علم مني. فلو عزل أمان الله خان لما لحق به أحد إلا بعض الخدم الذين يستطيع تأدية رواتبهم. ولكن لو عزل محمود باشا السليمانية لغادر كل أقاربه البلاد على الفور ولحقوا به وقدموا كل ما ملكت أيديهم من مال وأملاك ، بل لا شتغلوا يوميّا بأجور زهيدة ليساهموا بها في توفير المساعدة لسيدهم وتأمين راحته. ومن أبرز أوجه التباين بين القبليين والكورانيين هو اختلاف المحسوس بين روحيهما لأن الكورانيين أناس مستكينون جبناء ويقال إنهم أكثر خسة وأشد خداعا وأعظم ميلا إلى اللصوصية من الإيرانيين أنفسهم.

ولقد لاحظت أمرا يبعث على الارتياح في سلوك الإيرانيين ، وهو أنهم لا يداورون أو يتحايلون كما يفعل الأتراك ، لكي يتحاشوا الجلوس

__________________

(١) كما كان (به به) اسم لشخص من عائلة كرمانج ـ الناشرة.

٢١٠

في مكان أدنى من مقام الأوروبي فيتقدمون عليه ، فهم يسعون لإجلاسك في صدور مجالسهم ويعاملونك إجمالا كما يعاملون أحد كبرائهم.

لقد سافر المستر (به ل لي نو) هذا المساء في جولة أثرية إلى (همدان) و (كرمنشاه).

٢٨ آب :

استعرض أمامي مساء اليوم السربازيون ـ الجنود النظاميون ـ ولدى الوالي (٣٠٠) جندي منهم جندهم قبل عام أسوة (بعباس ميرزا) الذي أرسل له ضابطا روسيّا وبعض الجنود الروس لتدريبهم وقدم له طبولا ومزامير .. أما تدريبهم فيجري على الطريقة الإنكليزية ، ومن الغريب أن تسمع الطبول والأبواق الإيرانية تعزف قطعة «الكريناديه البريطانية» فالضباط وخيرة الجنود السربازين هم الآن مع الوالي ، ولم يبق في (سنه) إلا مائة منهم وكلهم حديثو العهد بالجندية على ما قيل لي. وهم يشبهون مضيف (فولستاف) (١) ولباسهم القبعات الإيرانية الاعتيادية والستر الإيرانية الطويلة أدخلت في سراويل من الكتان الأبيض وهو لباس ، لا ينسجم على أناس يمثلون الجندية تمثيلا محزنا. ويبدو لي أنه لم يحصل من تدريبهم على نتيجة تذكر بمثل تلك المدة القصيرة. فقد كانوا يحملون بنادق إنكليزية جيدة اشتراها لهم الوالي من الشاه الذي يتاجر باستيرادها من الهند فيبيعها بثمن باهظ إلى أولاده ورعيته. لقد كان أحد الروس يصدر الإيعازات وآمر الفوج واقفا إلى جانبه وبيده هراوة راع ، يمعن بها ضربا على رؤوس وأقدام الجنود ، ولم يكن لباسه رسميّا ، بل كان مرتديا اللباس الإيراني المعتاد.

__________________

(١) يشير المستر ريج بذلك إلى رجل مضحك ، لا كفاءة له اسمه (جه ستس شالو) جاء ذكره في القسم الثاني من مؤلف (شكسبير) المعنون الملك هانري الرابع ـ المترجم.

٢١١

ويوجد تحت إمرة الوالي الكثير من قبائل الكرد الرحل ، وهؤلاء هم أفخاذ من عشائر (شيخ إسماعيلي) و (مه ردمه) و (كه ل هوور) والجاف ؛ وعشيرة الجاف كانت فيما مضى من رعايا (سنه) تسكن منطقة (جوان روو).

٢٩ آب :

تنقسم إيالة (سنه) (١) إلى سبع مناطق هي (جوان روو) في أقصى الجنوب الغربي و (آورمان) و (مه ريوان) و (بانه) و (ساقز) على طريق تبريز ، و (حسن آباد) التي تضم نواحي (سنه) و (اسفند آباد) على طريق (همدان). وكل منطقة من هذه مقسمة إلى أربع أو خمس «محلات» أي نواحي صغيرة. ومنطقتا (آورمان) و (بانه) من المناطق المذكورة ، كانتا منذ زمن قديم تحت حكم عائلة واحدة ، ومنها الوالي عادة يكون الحاكم لهما ، وإني أستنتج من ذلك بأن هاتين المنطقتين كانتا مستقلتين في الأصل ثم خضعتا للوالي بمقتضى معاهدة ، أما المناطق الأخرى فيحكمها أي حاكم يعينه الوالي ؛ ويحكم (جوان روو) (٢) أحد أبناء الوالي.

وأدخلونا اليوم غرفة الوالي الخاصة لنشاهدها ، فهي قاعة أنيقة علقت على جدرانها صور نساء قيل إن إحداهن كانت جارية أهداها الشاه عباس الكبير إلى أحد أجداد الوالي. دخلنا الغرفة قبل أن تهيأ لنا ، وحالما فتحت لنا أبوابها فاحت منها رائحة خمور شديدة ، لقد شاهدنا على

__________________

(١) يمر نهر كاروو على مسافة فرسخين ونصف فرسخ من جنوب (سنه) وهو يكوّن نهر (ديالى) أو بالأحرى هو جدوله الرئيسي وهو يتكون من منابع عديدة تتجمع مياهها في مكان عند حسن آباد.

(٢) إن المسافة من (سنه) إلى (جوان روو) ثمانية عشر فرسخا ، ومن (سنه) إلى (ساقز) ـ حاضرة المنطقة ـ أربعة وعشرون فرسخا ، ومن (سنه) إلى (آورومان) ـ أقرب قسم من المنطقة ـ اثني عشر فرسخا.

٢١٢

الرفوف بعض القناني والزجاجات الأمر الذي دلنا دلالة واضحة على أن الخان لم يكن من المسلمين الشديدي التمسك بدينهم ، وأن مخدعه هذا إنما خصص لملذاته السرّية.

وبالنظر إلى ما لاحظته بين أتباع الوالي في سنه من دلائل ميل الإيرانيين إلى الجشع ، فقد رأيت من الأفضل أن لا أذهب إلى مضربه كما سبق ووعدت. وعليه أخبرت مضيفي مساء اليوم بعزمي على العودة إلى السليمانية بالطريق المؤدية إليها مباشرة. فأثار هذا كما كنت أتوقع معارضتهم الشديدة التي لم تجد نفعا ، ورأيتهم يتبادلون النظرات الحيرى وبعد أن حاولوا عبثا تغير عزمي ذهبوا جميعا إلى غرفة عمر آغا وعقدوا مجلسا ، فأرسلوا إلي عدة رسل يتوسلون في أن أذهب إلى الوالي ، غير أنني بقيت متمسكا بقراري. وقد بدأت أخشى أن تكون عناية الخان بي مما قد تتطلب مني أن أقابله بما لا قبل لي عليه ، وهذا مما دعاني إلى التصلب برأيي. لقد جاءني عمر آغا عدة مرات ثم السيد (١) وبعده أوفانس وهما من السكرتيرين الأهليين في دار المقيمية ليغيروا رأيي ولكن دون جدوى. وأخيرا جاء أعضاء المجلس كافة إلى باب غرفتي ليتوسلوا إلي بل يستعطفوني أن أستجيب إلى طلبهم وقالوا بأني لا أعرف عن حقد الخان إلا القليل ، وإنه لا عذر هناك وإن قلته له بنفسي يحول دون اعتقاده بأنهم قاموا نحوي بما سبب امتعاضي وجعلني أغير خطتي بهذه الصورة المفاجئة. ثم حدثوني كيف أن الخان استأصل عائلة رشيد بك لأمر أقل أهمية من ذلك ، وأنني إذا أصررت على الرفض فلا بد من فرار كل من عناية الله بك وميرزا فرج الله إلى السليمانية فيبلغانها بأسرع من وصولي إليها إذ إن مقابلتهما للخان بدوني ستكون من الأمور المستحيلة عليهما.

__________________

(١) راجع (رحلة المنشي البغدادي) لمترجمها من الفارسية الأستاذ عباس العزاوي ، ـ شركة التجارة والطباعة المحدودة ، بغداد ١٩٤٨ ـ المترجم.

٢١٣

وقد خيل لي أن ما وصفوه لي من الخطر الذي سيتعرضون له ما هو إلا مصطنع لذلك أحجمت عن تغيير رأيي غير أنني بعد ذلك بدأت أتساهل فأرسلت من يعرض عليهم حلا وسطا وذلك بأن أوفد سكرتيري الإيراني إلى مضرب الخان ليعتذر بالنيابة عني عن عدم استطاعتي زيارته شخصيّا وليعرب عن ارتياحي من سلوك أتباعه نحوي ؛ فأخبرت بأنهم أخذوا يذرفون الدموع وأن اقتراحي الجديد لم يبعث فيهم إلا سرورا ضئيلا.

وقد علمت بعدئذ بأنهم استخاروا بديوان حافظ (١) فشجعتهم الاستخارة على إعادة الكرّة علي في الوقت الذي بدأت فيه بالتفكير في أن اهتمامهم في الأمر لا يمكن أن يستند مطلقا على التصنع ، وتذكرت بعض القصص التي سمعتها عن حقد الوالي وقسوته ، وعلى الأخص في حادث محمد رشيد بك وبدأت في الحقيقة أخشى أن يصيب هؤلاء المساكين كارثة من أجلي فقررت النزول عند رغبتهم مجازفا بما قد يصيبني من المتاعب. ولما أعادوا الكرة وأتوا باب الغرفة يتضرعون إليّ لإسداء آخر معروف لهم بتأجيلي سفري يوما آخر لتتاح لهم فرصة إخبار سيدهم بعزمي على تغيير خطتي الأولى وجدوني مستعدّا لمنحهم أكثر مما كانوا يتوقعون إذ أجبتهم بأنني سأذهب إلى الخان إرضاء لهم ، وقد دلني الفرح الذي بدا عليهم في هذه اللحظة الانقلابية دلالة جلية على أن مخاوفهم لم تكن مصطنعة أبدا ؛ إننا مضينا في المداولة حتى الساعة الحادية عشرة ، وقد اعتراني صداع شديد جعل علي الراحة مستحيلة هذه الليلة.

__________________

(١) يعتقد عامة الناس ، بل والكثير من الأدباء المتفلسفين حتى في يومنا هذا بأن في حكم أشعار حافظ إرشادات ملهمة ، على المستخير بها اتباعها أو الاسترشاد بها. وقد تكون هذه حافزا للإنسان للتشبع بحكمه التي لا تخلو منها صفحة من صفحات ديوانه بل قطعة من قطع شعره ، ولكنها شوهت فألبست لباسا إلهاميّا في التطير ، أو في الاستخارة ، أو في التفاؤل ـ المترجم.

٢١٤

الفصل الثامن

الرحيل عن (سنه) ـ مناظر الأرض ـ خيام كولانه ـ ساسة الكرد العظماء ـ

نهر قيزيل (أوزون) ـ المضارب ـ ملاحظات قروي ـ سلوك الجاف غير

القانوني ـ طرق ناهد ـ مرطبات من العسل والزبدة ـ الوصول إلى

قرية ميك ـ السيدة ريج تؤخذ إلى قرى أخرى ـ خلايا النحل ـ

التحاق السيدة ريج بنا ـ هدية فواكه من الوالي ـ الوصول إلى بانه

* * *

٣٠ آب :

نهضت مبكرا وأنا متوعك المزاج ولكني بقيت مصمما على الشروع بالسفر ، وعندما بلغت الفناء الخارجي من القصر وجدت ميرزا فرج الله يهرع إليّ ويشد على يدي شاكرا لي صنيعي بإذعاني لرجائهم الأمر الذي بعث فيه الاطمئنان التام ، وقد رافقني إلى خارج المدينة ، أما رائدي إلى مضرب الوالي فكان عبد الله بك نجل عناية الله بك الذي أوفده الوالي بذاته خصيصا لهذه الغاية. مررنا أولا بمدخل القلعة ثم بمدخل أسوار المدينة التي ذكرتني بأسوار البصرة المشيدة من «الطوف» أيضا. وقد وجدت الآن أن للمدينة سورا واحدا عدا سور القصر الحصين تمتد وراءه

٢١٥

الضواحي الواسعة. وفي السادسة إلا ربعا صباحا تركنا المدينة نهائيّا. لقد أخبرني الآن عبد الله بك بالأسباب الحقيقية لجزعهم في الليلة الماضية ، وقال إنك لا تستطيع أن تتصور نزوات الوالي في شكوكه وحقده إلا قليلا ، فإنه لو سمع بأنك قد عدلت عن زيارته لكان تعليله لذلك على الوجه التالي :

«هذا رجل دعوته أنا مثلما دعاه جيراني مرارا دون جدوى ، ومع هذا فقد تنكب طريقه قاصدا زيارتي بمحض رغبته. ولا شك أن هذه الزيارة لو تمت لكانت حديث الأوساط ولزادتني شرفا وربما كانت لديه بعض الشؤون أو الأمور التي كان يرغب الإدلاء بها إليّ. ورجالي في (سنه) يعرفون ذلك فتعمدوا إزعاجه وحمله على العودة دون أن يراني ، فهم لا يطلبون الخير لي ، وربما كانوا متآمرين علي» ثم أردف الرجل الشاب قائلا : «ولك أن تتصور الآن بأن هذه السلسلة من الأفكار لا بد وأنها كانت تعود علينا بالنتائج الوخيمة».

أخبرني عبد الله بك بأن شتاء (سنه) أقسى من شتاء السليمانية ، وصيفها أكثر برودة ، وحالما تركنا المدينة بدأت الطريق تتدرج بنا صعودا طيلة السفرة وكانت الأرض مكشوفة والزراعة فيها على نطاق معتدل ، وكانت قمم التلال مهشمة مشققة وبلغ التشقق ببعضها بحيث ظهرت وكأنها خرائب ، فكنا نشاهد الصفائح الأردوازية والجبس على جوانب هذه التلال ، وكان الكثير من هذه التشققات يبدو وكأنه مطعم بوفرة بالحديد. وكان لون بعضها ضاربا إلى الخضرة ، تخالطها ذرات الطلق.

سرنا مدة في مسيل ، وفي الثامنة تقريبا شاهدنا عن يسارنا قرية (صاري قاميش) الكبيرة وكرومها ، ومن ثم بدأنا نرتقي هضاب (الله خدا) فبلغنا في العاشرة إلا ربعا القمة ونحن نرتقي ارتقاء هينا. ويتصل هذا الجبل بسلسلة (بازرخاني) ويمتد مبتعدا عن (زغروس) الشامخ برأسه على جميع السلاسل المتوازية من الجبال الكائنة على يسارنا. وكانت

٢١٦

التلال أمامنا ، وعلى يميننا أو على اتجاه شرقي جنوبي شرقي. وإلى الشمال الشرقي منا تنبسط عن بعد سهول (بان ليلاق) حيث تلوح أمامنا قمم بعض الجبال العالية وكانت رؤوس الجبال المتشققة تعلو أمامنا من كل الجهات. لقد استدرنا حول الجبل مدة من الزمن ، وفي العاشرة والثلث بدأنا نهبط منحدرا رهوا وهذا الجبل يتجه نحو الشمال الشرقي وحوالي الساعة الحادية عشرة والنصف بلغنا قرية (بايه ن كو) الكبيرة القذرة ، وهي في واد بأسفل المنحدر ، وتقع في منطقة ناحية (حسن آباد) ، وهنا اتصلنا بطريق (تبريز) وكان اتجاهنا العام شماليّا ، وسرعة سيرنا جيدة جدّا عدا مدة ساعة ونصف ساعة جوبهنا بها بصعوبات جمة في شق طريقنا فوق نيسم ضيق وعر متكسر الصخور يمر بطوار السفوح السحيقة من الجبال. لقد تركت قرينتي المدينة ممتطية جوادا في الغسق ، ولم تسبقنا إلا بساعة واحدة فقط إذ سلكت طريقا أكثر تمعجا من طريقنا وكان ما قطعناه في مرحلتنا هذا اليوم أربعة فراسخ.

٣١ آب :

امتطينا الجياد في السادسة إلا ثلثا ، وبعد أن استدرنا مدة في وهد ، وتقدمنا في مسيرنا ازداد انكشاف الأرض وظلت قمم التلال الشامخة ، وشاهدنا ونحن نسير في طريقنا بعض الأردواز والجبس وقليلا من نترات البوتاس ، أو ملح البارود ، أما التربة فلا نجزم بخصوبتها أو عدم خصوبتها ، وكان الزرع فيها قليلا وضعيفا ، وقد شاهدنا الكثير من ينابيع المياه في أول مسيرنا. تقع (بان ليلاق) إلى الشرق منا ، وهي مقاطعة تابعة إلى (سنه) ومنظرها أشبه بسهول تخترقه سلاسل من التلال ، وتعد ذات مناخ بارد جدّا خلال موسم الصيف. وكان طريقنا متموجا واتجاهنا شماليّا في الغالب. وكان الهواء لطيفا يذكرنا بمناخ بغداد في شهر كانون الأول. وفي التاسعة مررنا عن يسارنا بطنف اصطناعي منبسط أقامه نادر

٢١٧

شاه ونصب عليه خيمته فبقي هناك مدة أربعين يوما لعذوبة الهواء خلال حربه مع طوبال عثمان ، باشا بغداد. وفي العاشرة إلا ثلثا وصلنا خيام قرويي (كولانه) في مضاربهم الصيفية كما يفعل قرويو (به رروده ر). وكانت الخيام منصوبة بالقرب من الطريق غير بعيدة عن تل اسمه (طاوشان ته به) وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ما يشاهد فيها من الأرانب أيام الشتاء. ولا يستخدم الإيرانيون الصقور في صيد الأرانب كما يفعل الأتراك بل يستخدمون السلاق في مطاردتها.

وجدنا خيمة بعمودين من خيام الوالي منصوبة لنا ، وقد فرشت بسجادة جميلة من مصنوعات (سنه) وبعض المدات من حولها ، أما الخيمة التي كنت أحملها معي فقد اتخذها عمر آغا سكنا له ، وأشغل عبد الله بك الخيمة الخاصة به.

إن الكرد كالإنكليز كثيرو الاشتغال بالسياسة ، ولم يتكلم كل من عمر آغا وعبد الله بك بينهما في السياسة طيلة مسيرة اليوم.

ولما كانت (كورانه) قرية تقع على الحدود بين منطقة (حسن آباد) و (قه ره تورآو) فإنها كثيرا ما تنتقل من أيدي سيد إلى آخر ، ويحكمها عادة أكثر حاكمي هاتين المنطقتين مصلحة فيها.

لقد تبين الآن أنه من المحتمل جدّا أن يتحتم علينا الذهاب إلى (بانه) للحاق بالوالي ، ولم يخبرني بذلك أحد من قبل خشية إحجامي عن الذهاب لبعد المسافة. إن (بانه) لا تنحرف عن طريقنا إلا مسيرة يوم أو يومين ، وكان سفري إليها مما يتيح لي فرصة مشاهدة قسم جديد وممتع من كردستان ، فقد كان من المؤسف أن أؤجل سفري إليها. وإن زيارتنا لكهوف (كرفتو) ستؤخرنا يومين آخرين ، الأمر الذي لا أريده ، إذ إن جماعتي كلهم مصابون بالحمى وإننا أصبحنا أشبه بمستشفى متنقل.

٢١٨

١ أيلول :

سرنا في الخامسة والنصف من صباح اليوم متجهين نحو الشمال الغربي إلى منطقة جبلية عن يسارنا ، وفي الساعة الأولى قطعنا الكثير من المرتفعات والمنخفضات الناهدة ، فتباطأت سرعة مسيرنا خلالها ثم تحسنت تحسنا جيدا. وفي السابعة إلا خمس دقائق دنونا من منخفض هدود إلى (قيزيل أوزان) وهو نهر له بعض الشهرة الجغرافية (١) ويقع

__________________

(١) يرى الميجر ره نل أن (قيزيل أوزان) هو (كوزان) ـ بالكاف الفارسية ـ المذكور في العهد القديم (راجع سفر الملوك الثاني الإصحاح ١٧ ـ ٦). وما يلي وصف ورد في كتابه المسمى «التحقيق في مصير أسباط اليهود العشرة الذين أخذوا أسرى في نينوى». ينبع هذا النهر من بلاد سميت فيما مضى ب (ماتيان) بين (تبريز) و (همدان) وهو ينساب شرقا ويصب في القسم الجنوبي الغربي من بحر الخزر ، مخترقا طريقه في سلسلة عظيمة من الجبال التي تفصل (ميديا) عن المناطق القفقاسية ، وهو ينحدر من أعلى مستوى (ميديا) انحدارا سريعا مخيفا إلى وهدة سحيقة نخرتها مياه هذا النهر في قاعدة الجبال وعرضها عدة أميال ، وبعد أن يصل إلى منخفضات (كيلان ـ بالكاف الفارسية) يصبح قابلا للملاحة حتى انصبابه في البحر. وقبل انحداره ذلك الانحدار يصب فيه مياه نهرا (أبهر) و (قزوين) وغيرهما من الأنهر ، ويسمى ب (شاه روود) ، وتسمى مجموعة هذه الروافد باسم (سغيد روود) أو النهر الأبيض ، ومن المحتمل أن تكون تسميته هذه ناجحة عما يعلو مياهه المتدفقة من الزبد عند جريانها بين الجبال ، إذ يقول الرحالة «دي لافاله» (.. إن لمياهه ذاتها لونا ضاربا إلى الحمرة ..) ويصف السواح الطريق الممتدة على جانب الهاوية وصفا مخيفا ، وهي الطريق الوحيدة التي يمكن أن تسلكها الدواب المحملة من (كيلان) إلى (أصفهان) وهي بوجه عام محفورة في الجروف الصخرية القائمة والمشرفة على الهاوية المفزعة ، ويسير السائح على هذا الطريق مرخيا العنان لدابته وهو يسحبها من ورائه في حذر كي لا يندفع وراءها إذا ما زلّت بها خطوة واحدة فهوت ـ انظر أوليا ريوس وهانوي وغيرهما ـ وتقع هذه الوهدة إلى غرب بحر (الخزر ـ قزوين) بمائة وثمانين ميلا تقريبا ـ راجع الحاشية في الصفحة ٣٩٥ من سفر جغرافية هيرودوتس لمؤلفه ره نل.

٢١٩

منبعه على بعد مسافة تقارب الفرسخين إلى الغرب أو اليسار في جبال عباس بك وهو يجري شرقا ثم يتجه إلى (ميان دوآو).

أطلت النظر في النهر متأملا ، شأن من يلقي أول نظرة على الأنهر العظيمة الشهيرة وهي في حالة تكونها ، وما كان في النهر ماء يزيد ارتفاعه على القدم الواحد ، ولكن هذا كان أمرا شاذا ، وذلك لأن المياه في هذا الموسم كانت شحيحة على غير المألوف. وارتفاع مياه هذا النهر تكون عادة بمستوى الركب ، وكثيرا ما يمسي خوضه مستحيلا لعدة أيام في الربيع ، وينوي الوالي تشييد جسر فوقه.

وفور عبورنا (قيزيل أوزان) أخذنا نرتقي ثانية ومررنا فوق بقعة وعرة جرداء كالتي طرقناها سابقا من حولنا بعض القمم السامقة. وكان القسم الأعظم من الأرض بورا ، وهذه الأرض هي المراعي الصيفية الاعتيادية لعشائر السليمانية. ومن مشاهدتي آثار بعض المضارب تعرفت على الطريقة المتبعة لديهم في ترتيبها فوجدت أنهم ينصبون بيوتهم على شكل دائرة ، توضع القطعان (١) في وسطها. وهذا الترتيب ضروري في الحقيقة للدفاع ذلك أنهم في عداء دائم مع سكان المناطق التي يجوبونها ، وجولاتهم هذه تجعلهم ضيوفا غير محببين مطلقا.

ويبدو أننا الآن على ارتفاع شاهق فوق سطح البحر ، ويظهر لي أن الأرض التي نحن فيها إنما هي نجد تتقاطع فيه الوهاد ، وهو غني وخصب في إنتاج (الريواز ـ Rhubarb) من النوع الممتاز وخاصة ما ينبت منه في الأماكن الصخرية. وهذا النبت الذي ينبت في كردستان برّيّا وفي أكثر أقسام إيران والذي يستهلك بكثرة في صنع الشرابات ، لم يكن إلا راوند الحدائق الذي نصنع منه الفطائر المعروفة باسمه.

مررنا بواد أخذ يضيق تدريجيّا حتى أصبح وهدة صخرية تجمعت

__________________

(١) تعتبر أغنام (قالا جوالان) أغزر صوفا ، أما صوف قطعان هذه المنطقة فدقيق ناعم.

٢٢٠