رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

١
٢

٣
٤

حياة المستر ريج

ولد (كلوديوس جيمس ريج) كاتب هذه اليوميات في ٢٨ آذار سنة ١٧٨٧ م. على مقربة من (ديجون) من أعمال (بورغوندي) في فرنسا. ثم نقل وهو طفل إلى (بريستول) في إنكلترا حيث قضى السنوات الأولى من حياته برعاية والديه.

ولقد ظهرت عليه أمارات النبوغ الفائق منذ نعومة أظفاره. فإنه عندما كان يجتاز مراحل الدراسة الاعتيادية ويتلقى مبادىء اللغتين اللاتينية واليونانية على يد أحد أقربائه ، ساقه حب الاطلاع الموفق إلى تعلم لغات عصرية متعددة بدون معلم ، مستعينا بالكتب. ولما بلغ الثامنة أو التاسعة من عمره عثر على مخطوط عربي في خزانة أحد وجهاء (بريستول) ، فساورته رغبة شديدة بالوقوف على هذه اللغة. فكان ذلك الحافز الذي وجه الرغبة الملحة التي كانت تختمر في ذهنه ، والتي وطّد العزم على تحقيقها أكثر من أي شيء آخر ، وهي ميله إلى دراسة العلوم الشرقية التي كان لها الأثر الفعال في توجيه حياته المقبلة. فقد تمكن بواسطة كتاب في النحو ، وقاموس وبعض المخطوطات التي استعارها من المستر (فوكس) في (بريستول) من إتقان هذه اللّغة العسيرة قراءة وكتابة ، وأن يتخاطب بها بسهولة وذلاقة كبيرتين ، حتى إذا ما بلغ الخامسة عشرة من عمره ، قاده هذا التوجيه الفكري الراسخ في ذهنه إلى

٥

المثابرة على تحقيقه بلا ملل ، وإلى أن يحرز تقدّما بارزا في لغات شرقية عديدة بينها العبرية والكلدانية والفارسية والتركية.

وحدث في تلك الأثناء أنه بينما كان يتنزه ذات مساء في (كينكزدن) من ضواحي (بريستول) ، أن صادف رجلا تركيّا ، فساقته الرغبة باختيار مدى إتقانه النطق باللّغة التركية بحيث يفهمها منه أحد أبنائها ، فتقدم من الرجل وخاطبه بهذه اللّغة. وبعد أن أظهر التركي سروره ودهشته من أن يخاطب بلغته على غير انتظار ، أعلم محدثه بأنه يحترف التجارة وأنه الآن في مأزق لأن السفينة التي كان يركبها قد تحطمت عند شواطىء إيرلندا. وإلى جانب سرور المستر ريج بنجاح تجربته أراد أن يظهر امتنانه من هذا الغريب فانبرى لإسعافه.

ثم لم تلبث براعته الفائقة في هذا المسلك الدراسي غير المطروق أن أثارت اهتمام معارفه الأقربين. فقدمه المستر ـ الدكتور فيما بعد ـ (مارشمان) إلى الدكتور (رايلند) وهو يومئذ من أعلام رجال اللاهوت في ذلك البلد. فتمكن بذلك من إنماء علاقته بعدد آخر من رجال الأدب في (بريستول) ، كان أخصهم المستر (فوكس) الذي ظل المستر ريج يذكره على الدوام بود خاص وعرفان الجميل ، والذي بفضل إرشاده والرجوع إلى مكتبته تمكّن من إحراز التقدم الذي بلغه يومئذ في دراساته الشرقية المحببة.

على أنه بالرغم من استلفاته الأنظار إلى اتجاه دراساته غير الاعتيادية ، فإنه لم يكن أقل مباشرة على تهذيب نفسه بوجه عام. فقد امتاز في هذا العهد المبكر من حياته بخلّته العالية السّخية الأبية ، والهمة التي أظهرها في شتى صفات الرجولة والكمال.

وقد دلّه الاتجاه الذي انصرفت إليه دراسته مثلما دل غيره على أن الهند ستكون خير مرشح لإظهار نبوغه في المستقبل. ففي عام ١٨٠٣ تمكّن أحد أصدقائه المهتمين به من التوسط له لدى شركة الهند الشرقية

٦

لتعيينه طالبا حربيّا في الخدمة العسكرية. وعندما أعلمه هذا الصديق بتعيينه ، مبديا أسفه لأنه لم يتمكّن من أن يجد له منصبا خيرا من هذا ، أظهر المستر ريج شدة اعتماده على نفسه فاندفع يقول بسرور : «دعني فقط أصل إلى الهند ، واترك الباقي إليّ».

هكذا أصبح ميدان العمل الواسع الذي كان حتى الآن يجول في مخيلته ، وبالأحرى بعيدا عنه ، في متناول يديه. وراحت تملأ ذهنه كل الخيالات النيرة التي تلوح عادة لأنظار آمال الشباب ، فأسرع إلى لندن ، وراجع دائرة الهند لإتمام الإجراءات الضرورية التي كان عليه أن يتمها قبل تسلمه مهام وظيفته.

وفي هذه الفترة كتب (روبرت هول) المشهور الرسالة التي نقتطف منها العبارات التالية إلى صديقه (السير جيمس ماكنتوش) ، حيث يظهر فيها أكثر من أي شيء آخر ما كان المستر ريج يتركه في نفوس المتصلين به حتى في هذه الحقبة المبكرة من حياته.

«شيفورد ، بالقرب من كمبرج ٣٠ كانون الأول ١٨٠٣».

«اسمحوا لي قبل أن أختتم رسالتي ، أن ألفت اهتمامكم إلى سيد شاب يدعى المستر ريج ، الذي سيرافقكم في نفس الأسطول الذي سيقلكم إلى بومباي ، كطالب حربي».

«إنه من أهالي (بريستول) وقد كان لي السرور بمقابلته مؤخرا ، وهو شاب فوق المستوى المعتاد ، تمكّن بدون مساعدة أو بالقليل منها من تعلم لغات الشرق ، فأتقن العبرية والكلدانية والفارسية والعربية وبالإضافة إلى اللاتينية والفرنسية مع بعض الوقوف على اللّغة الصينية التي بدأ يحل رموزها وهو لما يتجاوز الرابعة عشرة من عمره».

«وهو اليوم في السابعة عشرة من العمر ، تساوره رغبة ملحة للسفر إلى الهند ليتاح له الانغمار في ميله الشديد إلى الآداب الشرقية ، ولذلك

٧

وبعد مشاق عديدة تمكّن بالأخير من الحصول على منصب طالب حربي».

«إنه شاب من عائلة كريمة ، ذو شخصية وحذق عظيمين ، ويدعى كما بينته لكم على ما أظن المستر ريج. وإذا وجدتم من المناسب منحه شرف التعرف إليكم ، فإني على ثقة من أنه سوف لا يجعلكم تندمون على عطفكم وتلطفكم».

هذا وبينما كان المستر ريج ينتظر في دائرة الهند ، إذ اتجهت أنظار المستر ـ والان السير تشارلس ويلكس ـ المعروف بعلو كعبه في لغات الشرق إلى مقدرة هذا الطالب العسكري في اللغات الشرقية ، فقد وجده بعد الاختبار أعظم مما كان يتوقع ، وأن حذقه كان غير اعتيادي إذا قورن بالوسائل التي تمكّن بها من تعلم هذه اللغات. ولذلك فإنه لم يلبث أن عرضه على أعضاء مجلس الإدارة كشاب يحمل من النبوغ الفريد النادر مما يجعله يشرّف أية مهمة يضطلع بها تحت رعايتهم.

وبناء على هذه التوصيات التي عرضت بشأن مؤهلات المستر ريج فقد عينه المرحوم (إدوار باري) بتقدير كلّي لوظيفة كاتب تحريرات في مؤسسة بومباي وهكذا تغيرت وجهته من الخدمة العسكرية إلى الخدمة المدنية في تلك المصلحة. ولأجل أن يتمكن من إتقان اللغتين العربية والتركية اللتين سبق أن أحرز فيهما تقدما غير منتظر ، ألحق بسكر تارية المستر (لوك) الذي كان يومئذ في طريقه إلى مصر كقنصل عام للحكومة البريطانية. وقد حفظت له وظيفته خلافا لما اعتادته الشركة خلال اضطلاعه بهذه المهمة كمن قد تسلمها فعلا في الهند.

أقلع المستر ريج في مطلع عام ١٨٠٤ على ظهر سفينة شحن تدعى هندستان للالتحاق بالمستر (لوك) في البحر الأبيض المتوسط ولكن النار شبت في هذه السفينة لسبب ما في خليج (روماس) في إيطاليا فالتجأ المستر ريج إلى شاطىء (قاتالونيا) مع الملّاحين ، ومن هناك استأنف

٨

سفره إلى (مالطة) بمعاونة صديق له من (بريستول) ينتمي إلى فرقة الارتجافيين (١). وبعد إقامة طويلة في إيطاليا أتقن اللّغة الإيطالية الجميلة وانكب على دراسة الموسيقى ، وذلك الفن الذي ظل يتوسع به في كل أدوار حياته بكل حماس ولذة.

ولقد لاءمت إيطاليا اتجاهه الفكري أكثر من أي قطر آخر زاره ، فكان يرجع بذاكرته إليها بسرور عظيم. وحدث أن توفي صديقه المحبوب المهذب المستر (لوك) قبل تسلمه مهام منصبه ، وعندئذ سمح مجلس المدراء للمستر ريج أن يتجه في سفرته الوجهة التي يظنها أكثر موافقة لبلوغ هدفه المنشود ، مسترشدا بآراء المستر (ويلكنس) القيمة ، وعلى هذا فقد توجه من (مالطة) إلى (إستانبول) مارّا في طريقه بجزائر يونانية عديدة.

وحدث أنه بينما كانت السفينة التي استقلها مارّة بالأرخبيل ، أن ظهرت ذات يوم سفينة ذات مظهر مريب تتجه نحو السفينة التي كان هو أحد ركابها. فحسبوا أنها كانت سفينة قرصان فاتخذت كافة التدابير الدفاعية ضدها. لكنهم وجدوا عند اقترابها منهم أنها كانت سفينة تجارية تركية فانتقل إليها المستر ريج مع جماعة أخرى. وقبل أن يمر عليه وقت طويل فوق سطح السفينة شاهد تركيّا أنيق البزة يتطلع إليه بإمعان ، الأمر الذي استرعى انتباهه. وأخيرا تقدم التركي منه وقال له :

ـ سيدي ، إني أعرفك.

فأجاب المستر ريج : وأنا أيضا قد رأيتك قبل هذا.

__________________

(١) الارتجافيون : زمرة بروتستانتية محصورة في سكان إنكلتره وأميركا ، يعتقدون بإنزال الوحي عليهم أثناء القيام بفروضهم الدينية ، وهم تهيبا لاقتبال الوحي يرجفون أجسامهم ، ولذلك أطلق الإفرنسيون عليهم اسم Les Trembleurs ، ونعتهم الإنكليز بThe Qualsers. ـ المترجم ـ.

٩

أعقب ذلك تفاهم تبين منه أنه هو ذلك الرجل الذي كان قد انبرى المستر ريج إلى نجدته في (بريستول).

وقد أقام المستر ريج مدة في إستانبول ومنها انتقل إلى إزمير. وهناك انخرط في مدرسة مع أترابه من الشبان الأتراك لإتقان خصائص اللّغة التركية ودقائقها قراءة وكتابة ، والتعمق في اكتساب مختلف أنواع العلوم الإسلامية. وقام خلال هذه المدة بسفرات مهمة متعددة في آسيا الصغرى ، ثم عين معاونا للكولونيل (ميسيت) القنصل العام البريطاني بمصر ، فسافر إلى الإسكندرية بطريق (قبرص).

واستفاد من إقامته بمصر في إتقان اللّغة العربية ولهجاتها المختلفة ، وفي الوقت نفسه كان يقضي أوقات فراغه بالتمرن على الفروسية واستعمال السيف والرمح ، وهما السلاحان اللذان اشتهر المماليك باستعمالهما. فلا غرابة أن يكتسب شخص مثله جمع إلى صفات الرجولة أخلاقا رقيقة وذكاء متوقدا مع خفة في الروح ، احترام واهتمام الكولونيل (ميسيت) أكثر من كل معارفه الآخرين من الإفرنج ، وأن يشعر جميعهم بالأسف لفراقه عندما انتهت المهمة التي زار من أجلها مصر ، وأزفت ساعة رحيله عنها.

ولقد قرر أن يكون سفره إلى الخليج برّا ، فبارح مصر متنكرا بزي مملوك ، فتجول في معظم أنحاء فلسطين وسوريا. واعتمادا على براعته بلغة الترك وأطوارهم ، خاطر بزيارة دمشق عندما كانت معظم قوافل الحجاج محتشدة فيها بطريقها إلى مكة ، فدخل المسجد الكبير وهذا عمل كان يومئذ يكلفه حياته لو انكشف أمره بأنه مسيحي.

وكان مضيفه ، وهو تركي مستقيم ، قد سحرته شخصيته وبذل قصاراه لإقناعه على البقاء بدمشق عارضا عليه مصالحه والزواج من ابنته. ومن حلب قصد البصرة عن طريق ماردين وبغداد ، ومنها أقلع إلى بومباي فبلغها في أوائل أيلول سنة ١٨٠٧.

١٠

ولقد مر بنا أن القس المحترم (روبرت هول) كان قد قدم المستر ريج للسير (ج. جيمس ماكنتوش) بصورة خاصة في الوقت الذي كان يتوقع أن يسافر معه إلى الهند بنفس الأسطول. فلما تغيرت وجهه المستر ريج ، أتيح له قبل إقلاعه في السفينة (هندستان) بمدة وجيزة أن يزور السير (جيمس) في مقره يومئذ في (رايد) انتظارا للإقلاع إلى الهند. وقد نشأت بين الاثنين مناسبات حتى إن المستر ريج أقام عنده عند وصوله إلى (بومباي). أما نتيجة هذه العلاقة فيمكن استخلاصها من عبارات السير (جيمس) نفسه في رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه :

«لعلك تتذكر ما كنت قد طالعته في الصحف في سنة ١٨٠٣ أن المستر باري مدير إدارة الشركة الحالي كان قد أسند منصب كاتب تحريرات إلى شاب يدعى ريج لمجرد تقرير قدمه إليه المستر (ويلكنس) عن براعته العجيبة باللغات الشرقية ، لا لغرض خاص أو لمجرد معرفة شخصية. وقد سافر هذا الشاب كمعاون للمستر (لوك) الذي كان قد عين قنصلا في الإسكندرية ، ومنذ أن توفي هذا ، سافر المستر ريج في معظم أنحاء آسيا التركية باتجاهات عديدة ، وهو مجهز بقلمه وبعين فنان وبالشخصية والشجاعة اللتين يحتاج إليهما المسافر في بلاد «بربرية».

فلقد اكتسب من البراعة بلغات الشرق وعاداته قدرا ، بحيث تنكر بزي تركي من كرجستان وأقام بدمشق عدة أسابيع بين الألوف المؤلفة من الحجاج الذين كانوا بطريقهم إلى مكة ، دون أن يرتاب به أشد المتعصبين المسلمين يقظة وشراسة.

وقد قدمه إلى صديقي المستر (هول) وتلقيت رسائل عديدة منه ، فدعوته لزيارتي في بيتي فأقام معنا عند وصوله هذه الجزيرة (بومباي) في أوائل أيلول سنة ١٨٠٧.

ولقد وجدنا فيه أكثر مما كنا نتوقع ، وشعرنا بأن اطلاعه العجيب على العلوم الشرقية لا يمثل إلا جانبا صغيرا من مؤهلاته. فقد وجدته

١١

أديبا بارعا في اللغات الكلاسيكية ، يجيد الفرنسية والإيطالية قراءة وكتابة كأحسن المثقفين من أبناء هاتين اللغتين. وقد جمع إلى شخصيته القوية ومظهره وسلوكه كمالا وظرفا في جميع تصرفاته ؛ ورجولة مع ذكاء ودعابة ومشاعر. وقد بلغ من سروري بعلمه وبراعته ما جعلني أعدّه من الفلاسفة ، وحسبته جديرا بأن يرشح للانتماء إلى «هيكل الحكمة» من جانب صديقنا (دوغلاس ستيوارت). وعندما سافرت إلى (ملبار) تركته في بيت صديقي الفيلسوف (ارسكين) المنهمك بوضع كتابه «فلسفة الفكر البشري». فلما عدت من سفري وجدت أن هذا الطالب في الفلسفة يرغب في أن يكون صهري. ومع أنه كان غير مثر وحتى بدون وظيفة ، فلا أخالك تشك في أنني وافقت على زواجه من ابنتي الكبرى بكل امتنان. لأنه استطاع هذا أن يكتشف بفطنته ويقدر بصفاته شعور هذه الفتاة الفياض وتواضعها وطهارتها وطبيعتها الرقيقة تلك الصفات التي أؤمل أن تجعل منها مصدر سعادة له مدى الحياة.

وبعد ذلك بقليل دعت المصلحة العامة الملحة تعيين مقيم لنا ببغداد ، فأجمعت آراء الكل على أن المستر ريج هو الشخص الوحيد الجدير بهذا المنصب ، وقد تم تعيينه فعلا. وبذلك حصل على الترفيع مرتين قبل بلوغه الرابعة والعشرين من عمره لمجرد كفاءته ، ولقد تزوج من ابنتي وسافرا معا إلى بغداد».

أما في رسالة إلى المستر هول في حوالي ذلك الوقت فقد قال :

«لقد أصبح ريج الذي رشحته لي صهري ، وإنه لصهر لا يتردد أشد الأبوين حبّا لابنتهما عن وضع مقدراتها في يده».

أما ريج فبعد احتفاله بزواجه في ٢٢ كانون الثاني ١٨٠٨ بمدة وجيزة سافر إلى مقر مقيميته التي كانت تضم بغداد والبصرة ، فأقام ببغداد حيث مقر الباشا ، وحيث يمكّنه موقعها المتوسط من إدارة شؤونه

١٢

السياسيّة مع الباشوية والحصول على أنباء ما كان يدور في أوروبا في تلك الحقبة المليئة بالحوادث التي كان ينتظر أن يغزو فيها (نابوليون) إنكلترا والهند ؛ وبفضل روحيته العالية وبعد نظره في الشؤون السياسية ووقوفه التام على العادات الأهلية ووافر كرمه ، اكتسب بسرعة فائقة الاحترام العميق من الحكومة المحلية والأهلين معا.

وجريا على ما كان معتادا في الحكم التركي نشبت في عهد مقيميته ثورات حكومية وحصلت تبديلات بين الباشوات وقد تمكن المستر ريج بفضل أخلاقه العالية أن يمنح الحماية في بيته لكثير ممن كانت حياتهم في خطر من جراء الانقلابات السياسية ، في ظروف غير اعتيادية أحيانا ، وحتى أنه كان من حين إلى آخر يمنح هذه الحماية لعائلات الجانب المخذول التي ما كانت لتتخلص لو لا هذا الملجأ الذي لم يكن يجرؤ أحد على خرق حرمته. وكان من دواعي ارتياحه أن يرى حوله مفعول عدالته الرسمية هذه ، وحسن نيته ؛ وأحيانا لم يكن الناس يقيمون وزنا لوعود باشواتهم وأعيانهم إلا إذا كانت مدعومة بضمانه.

ولقد قضى حوالي ست سنوات ببغداد ولا رفيق أوروبي له سوى زوجه والمستر (هاين) جراح المقيمية الذي كان معاونا له أيضا. فكان يقضي أوقات فراغه من أعماله الرسمية في تتبع دراساته المحببة له.

فجمع المصادر الملازمة لكتاب في تاريخ باشوية بغداد وأحوالها الجغرافية والإحصائية ، وابتدأ بجمع مجموعته من المخطوطات الشرقية التي لم يدّخر من أجل جمعها مجهودا أو نفقات. وقد نشرت فهارس هذه المجموعة كما كانت عليها في حينه في بضعة أعداد من مجلة «مناجم الشرق» التي كانت تصدر في (فينا) وفيها أصدق برهان على مدح النجاح الذي أحرزه في مباحثه.

وقد نظم كذلك مجموعة غنية بالأنواط والمسكوكات

١٣

والمجوهرات والأحجار المنقوشة التي عثر عليها في بابل ونينوى وطيسفون وبغداد. وقام برحلة إلى بابل لدراسة آثار تلك المدينة القديمة ، فجمع نتاج ملاحظاته في كتابه «مذكرات في خرائب بابل» الذي طبع لأول مرة في (فينا) في مجلة «مناجم الشرق» ومن ثم تم طبعها في إنكلترا. وقد وصفت مجلة «ادن يه ره رفيو» هذا الكتاب حق الوصف بقولها : «إنه رواية متواضعة وصريحة في مشاهداته خلال زيارته القصيرة ، ويكفيها اعتبارا ما تمتاز به من خلوها من التحقيقات التي لا طائل تحتها أو التخمينات الارتجالية ، إذ كانت خير برهان على براعة المؤلف في العلوم الشرقية والكلاسيكية ، وابتعاده عن الادّعاء الفارغ والمباهاة الفظة ، وذلك نتيجة طبيعية لعلمه المكين».

وبعد سنة ١٨١٦ بقليل أصدر الميجر (ره نل) صحيفته المسماة «اركيئو لوجيا» فنشر فيها ملاحظات في تخطيط بابل القديمة مستندة على مشاهدات واكتشافات كلوديوس جيمس ريج ، وقد أظهر الشك في بعض آرائه. وعلى هذا قام المستر ريج برحلة أخرى إلى بابل لدرس مواقعها ، فنشر في لندن عام ١٨١٨ كتابه «مذكرات ثانية في بابل» تحتوي على تحقيقات في المقارنة بين الأوصاف القديمة لبابل والآثار التي لا تزال تشاهد في مواقعها مبنية على ملاحظات الميجر ره نل». وقد أيد في مذكراته الثانية هذه ، استنتاجاته الأولى وأضاف فهرسا قيما في عاديات بابل مزينا بالصور المحفورة ، فقوبلت هذه المذكرات الثانية باهتمام عظيم في جميع أنحاء أوروبا لأنها ألقت ضوءا جديدا على هذا الموضوع الذي يهم كل قراء التاريخ المقدس أو القديم.

وفي أواخر عام ١٨١٣ اضطر المستر ريج لأسباب صحية أن يترك مقيمية بغداد في رعاية معاونه المستر (هاين) ويسافر إلى استانبول برفقة زوجه ، فقضى فيها مدة بضيافة صديقه المستر والان (السير روبرت لستن) الذي كان يومئذ سفيرا لبريطانيا لدى الباب العالي. وقد حملته اعتبارات

١٤

شتى في أوائل عام ١٨١٤ على إطالة سفرته مارّا ببلغاريا وبلاد الإفلاق والمجر حتى (فينّا) ، ومن ثم وصل إلى باريس ، وكانت جيوش الحلفاء قد احتلتها توّا.

كانت تلك الأيام مليئة بالأحداث المثيرة. وباستثناء سفرة قصيرة قام بها إلى (بازل) حيث التقى مع صديقه وحميه السير (جيمس ماكنتوش) فإنه بقي في هذه العاصمة (باريس) حيث أتيحت له الفرص لمقابلة الشخصيات المهمة التي كانت محتشدة فيها في الأيام الخطيرة ، إلى أن رجع (بونابارت) ففرق شملهم وجعلهم يعودون كل إلى جيشه أو بلاده.

وبطريق عودته إلى بغداد مر المستر ريج (بسويسرا) و (ميلان) ومنها إلى (البندقية) حيث ودع مكرها البلاد الإيطالية الوداع الأخير. فعبر إلى (تريه سته) ومنها سافر بطريق (كورفو) والأرخبيل إلى استانبول ، وقد مر بطريقه على عدد من تلك الجزائر فنزل إليها لارتياد موقع (طروادة) القديم ومن (استانبول) عاد إلى (بغداد) بطريق آسيا الصغرى ، مارّا قدر المستطاع بطريق يختلف عن طريق سفره إلى أوروبا ، وموجها اهتمامه بصورة خاصة إلى جغرافية تلك البلاد سيما مواقع سلاسل الجبال. ولما قارب وادي الرافدين زار أديرة السريان والكلدان وجمع المعلومات عن العنصر الغريب المعروف باليزيدية.

وبعد وصوله مقر مقيميته واصل تتبعاته القديمة ، وتمكّن خلال السنوات الخمس التي قضاها فيها ، من إضافة مخطوطات جديدة إلى مجموعته بحيث أصبحت أوسع وأثمن مجموعة يمتلكها أي شخص في الشرق. وقد ساعدته إقامته ببغداد على هذه المزية الفريدة. وتوسعت كذلك مجموعته من المسكوكات اليونانية والبرثية والساسانية والإسلامية كما توسعت مجموعته من المجوهرات والأحجار المحفورة سيما الأسطوانات البابلية. وقد قام خلال هذه المدة برحلته الثانية إلى بابل ، وقد مرّ بنا ذكرها. وفي سنة ١٨٢٠ أصبحت حالته الصحية تفتقر إلى

١٥

تغيير بيئته (الهواء) فقام برحلة إلى كردستان وهي الرحلة التي تضمنت هذه اليوميات حوادثها.

وخلال عودته قام بزيارات متعددة للكنائس المسيحية في مواطن الكلدان سيما تلك التي لم تتح له مشاهدتها في سفراته السابقة فتمكّن من أن يجمع ويضيف إلى مكتبته عددا من النصوص السريانية والكلدانية القديمة القيّمة للكتاب المقدس عدا مخطوطات نادرة أخرى.

وكان قد وطّد العزم في هذه الأيام على السفر إلى بومباي حيث عينه حاكمها الكلّي الاحترام (ماونت ستيوه رت الفنستن) في منصب خطير ، لكنه حدث أن هو جمت دار المقيمية هجوما عنيفا لا مبرر له بأمر الباشا أو بتحريضه. وقد نجح المستر ريج في صد هذا الهجوم بقوة السلاح ، وتوجه إلى البصرة فبقي فيها حتى دفعت التعويضات المطلوبة.

وفي أثناء انتظاره تعليمات حكومته استغل الوقت فقام بسياحة إلى (شيراز) ومنها توجه لزيارة خرائب (برسه بوليس) وضريح (كورش) وبقايا العاديات الأخرى الموجودة في تلك الضواحي.

وفي أثناء إقامته في (شيراز) تفشت فيها الهيضة بشدة نشرت الرعب في العالم. فخلال بضعة أيام مات ستة آلاف شخص من سكان البلدة البالغ عددهم نحو الأربعين ألفا ، وعلى أثر ذلك هجر البلدة أميرها مع أفراد عائلته وكبار أعيانها ووجهائها ومن استطاع ذلك من أبناء الطبقة الفقيرة.

أما المستر ريج فقد أبى أن يبارح المدينة. وإنما بذل كل جهده لتسكين روع الأهلين وإسعاف المرضى والمحتضرين. وكان يقضي أوقاته أياما عديدة في زيارتهم وإسعافهم بالأدوية الضرورية. وقد أسعدت قلبه مشاعر الاعتراف بالجميل والشكر التي أظهرها له الناس الذين انبرى لإسعافهم.

١٦

لكن هذه الآفة كانت قد أنشبت أظفارها فيه أيضا. وظهرت عليه أعراض الهيضة عند خروجه من الحمام في ٤ تشرين الأول ، وعلى الرغم من العناية والإسعافات التي أجريت له قضى نحبه في صبيحة اليوم التالي ٥ تشرين الأول ودفن في (جهان نما) في إحدى الحدائق الملكية التي كان يقيم بها في تلك الأيام ، وحيث نصب له تمثال تخليدا لذكراه.

هذه هي خلاصة نشاط هذا الرجل الفذ ، ناهيك عن نبوغه ومزاياه وتحصيله ، ففي العبارات القصيرة البليغة التي أجملت فيها شخصيتان مثل (روبرت هول) و (السير جيمس ماكنتوش) سيرة هذا الرجل ما يغني عن تكرار سردها بأقلام من هم دونهما مقدرة ، إذ قلّما تعرّف إليه أحد إلا وأصبح مأخوذا بأخلاقه مسرورا بمزاياه عدا تقديره لمؤهلاته الواسعة الفريدة. فقد كانت السرعة التي تعلم بها اللغات والفنون ترجع إلى غريزة كامنة فيه أكثر من المجهود الذي بذله. ففي الحقبة الأخيرة من حياته باشر مسح البلاد العربية التابعة للدولة التركية بنفس السهولة التي حصل بها على معلوماته الرياضية العالية التي كانت تفتقر إليها مهمته.

وكان العرب والأتراك معا يقدّرون فيه علمه الواسع في آدابهم. أما بين جماعة أصحابه فكان دائما قطب الدائرة المحبب ، إذ كان على استعداد للانخراط في كل ملاهيهم بدون كلفة ، تعجبه الروح المرحة والفكاهة ، فكان بمثابة الروح في الولائم ، ويظهر أكثر الحاضرين سعادة وهو أصغرهم سنّا.

كان ملتهب العاطفة ، نشطها. وكان بين الأصحاب الخل الوفي الصميم. كان شديد الحب لزوجته ، وكان الشعور الديني فيه عميقا. وكانت شخصيته القوية تمكّنه من قيادة مرؤوسيه والسيطرة عليهم. وقلّما بلغت الأخلاق البريطانية الشهرة التي بلغتها في بلاد العرب التركية في الأيام التي تقلد فيها منصبه ببغداد.

ولقد كانت مذكراته عن بابل الأثر الوحيد الذي نشره في حياته ،

١٧

عدا بعض المقالات التي نشرها في مجلة «مناجم الشرق». وقد خلف مخطوطات عديدة سيما يومياته المسهبة عن طريق سفره من بغداد إلى استانبول ، وهي السفرة الوحيدة ـ على ما يظن ـ التي رافقته بها السيدة ريج على ظهر جواد ، كذلك خلف يومياته عن سفره من استانبول إلى (فينا) ومن باريس عائدا إلى بغداد ، عدا يومياته في كردستان المطبوعة في هذا الكتاب وأوراق أخرى عديدة في موضوعات متفرقة.

أما مجموعته القيّمة من المخطوطات الشرقية والمسكوكات والعاديات ، فقد اشتراها البرلمان البريطاني لمنفعة المتحف البريطاني حيث هي الآن.

ولسنا بحاجة للتحدث في موضوع صفحات هذا الكتاب فإنها تتحدث عن نفسها. إنها يوميات شخص فذ عن بلاد جديدة. نقول جديدة وإن وجدت أخبار متفرقة عنها في يوميات الرحالة الآخرين الذين مرّوا عفوا وسراعا ببعض أقسامها. أما هذه اليوميات فإنها تلقي ضوءا جديدا ساطعا على جغرافية كردستان وعادات أهلها. وإن النقاط الجغرافية التي تم التحقيق فيها لما تساعد على تعيين المواقع ليس في مختلف نواحي كردستان فحسب وإنما هي الأصقاع المجاورة لهذا الجزء من آسيا.

ومما لا شك فيه أن المستر ريج كان يرغب في نشر مباحثه وملاحظاته عن سفرته هذه (١). فقد استعان فيها بكافة وسائل المسح

__________________

(١) جاء في رسالة كتبها (جيمس بيلي فريزر) إلى (ويليم ارسكن) في بومباي ، مؤرخة ، شيراز ٦ تشرين الأول ١٨٢١ أي بعد وفاة المستر ريج بيوم واحد ، العبارات التالية : «عثرت بين الكتب التي وجدتها لديه على دفاتر تعليقات ومذكرات لا أشك في أنها ذات قيمة كبيرة. فهي تحتوي على ملاحظات جغرافية وفلكية نحن بأمس الحاجة إليها في خرائطنا الإيرانية. وجميع هذه التعليقات والملاحظات عن كردستان إما أن تكون موجودة بين هذه الأوراق أو أنها بين الأوراق التي خلفها في (بوشهر). وإنها ستكون خسارة لا تعوض للجمهور فيما لو فقدت. ولقد حرصنا على أن لا تفلت منّا ـ

١٨

الفني ، وعين في يوميانه بكل دقة النقاط التي كانت توجه سيره. ولو كان الأجل يمتد به لنشر هذه الأوراق على الجمهور بنفسه ، فلربما كان يضفي عليها الشيء الكثير من ألوان مخيلته ، ويضيف إليها الكثير من المعلومات التي كانت تزدحم في دماغه ورهن إشارته ، والتي لم يذكرها في يومياته في حينها.

وفي الوقت نفسه فإنه بفضل جمعه بين دقة التخطيط وبراعة القلم بالإضافة إلى المسح الفني ، فقد أنجز في بعض أقسام كردستان التي كانت عبارة عن مجموعة مجهولة في أحسن خرائطنا ، المهمة التي لم يتم إنجازها بصورة متقنة في أي قسم آخر من آسيا. وهذا إبداع مشرّف له وللبلاد التي ينتسب إليها.

__________________

أو تضيع علينا أية قصاصة من الورق كانت في مكتبه ، فقد تحتوي هذه الوريقات على مذكرات لها قيمتها. وقد سمعت المستر ريج يقول مرة ، إن كافة الخرائط الموجودة حاليّا عن هذه الجزء من آسيا مشحونة بالأغلاط ، وعبر عن رغبته في أن يتم مشروع خرائطه الخاصة التي كان يريد أن يضعها بنفسه. ونجد كذلك نسخة جد قيمة من الكتابات المسمارية الموجودة في (برسه بولس) كلها مكتوبة بخط يده. وقد كان عازما على إرسال نسخة منها إلى الأستاذ (غروتيفند) في ألمانيا».

الليلة الأربعاء الخميس في ١١ آذار ١٩٧٠ في بيروت سمعت راديو بغداد يقول بأن ثورة الكرد قد انتهت بصورة نهائية بين العرب والكرد عسى أن يكون ذلك صحيحا.

١٩
٢٠