رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

والثانية ساسانية والثالثة كوفية. أما الحجر المنحوت فكان نوطا يمثل ظفرا رومانيّا. وهكذا أتيح لي أخيرا الحصول على عادية ساسانية لطيفة جدّا ، عليها بعض الكتابة. وفي مكان اسمه (اون ايكي إمام) الأئمة الإثنا عشر والذي يبعد عن كفري أربعة عشر ميلا تقريبا ربوة أخرى من الروابي العديدة في هذه الربوع ، والظاهر أن عهدها يرجع إلى عهد الخرائب الساسانية ، المبعثرة في تلك الأماكن تبعثرا واسعا. وقبالة أون ايكي إمام ، في سلسلة التلول الجبسية ، نجد منابع النفط. وقد اكتشف منبع صغير قبل عام في تلك التلول على مسيرة بضع دقائق غربي (كفري). أما القروي الذي اكتشفه فقد اعتقلته الحكومة التركية وجلدته جلدا مبرحا لحمله على الاعتراف فيما إذا باع نفطا من المنبع قبل الإعلان عن اكتشافه. وبنتيجة التعذيب الذي لاقاه من جراء اكتشافه المشؤوم هذا اضطر على الهجرة وبيته إلى إيران ، حيث استوطن مرتاحا كما يدّعي. ومن الصدف أنه كان في كفري وأنا فيها ، لقضاء أعمال له وقد قص علي القصة بذاته فقال : «إن الله لم يهنىء الأتراك بالنفط لظلمهم ، إذ إن المنبع الذي كان فياضا جدّا عند اكتشافي له ، نشف عندما جلدت ، أما الآن فلا تنبع منه إلا بضع قطرات لا شأن لها».

درجة الحرارة ٨١ د في الثالثة ب. ظ ، و ٦٦ د في العاشرة ب. ظ رياح خفيفة متقلبة ، ومطر قليل من الغرب ليلا ، وبرق في الشرق.

٢٨ نيسان :

ركبنا جيادنا صباحا في السادسة إلا ثلث ، وقد حضر الضابط معنا وأصرّ على مرافقتي إلى مسافة من الطريق. وطريقنا على سلسلة تلول حصوية تتشعب من تلال (كفري) وتتصل بالتلال التي اجتزناها قبل بضعة أيام ، ولا يقاطع طريقنا إلا مسيل (كفري) ذلك المسيل الذي شق لنفسه طريقا في وادي (جمن) الذي مررنا به بطريقنا إلى (اسكي

٤١

كفري) (١) وفي السابعة اجتزنا التلول ، فوطئنا سهل البيات وهو سهل ينحدر انحدارا تدريجيّا من تلال (كفري) إلى (جمن) ، وكان سهلا كثير الزرع في هذه النواحي. وفي السابعة والربع مررنا بشعب يسيل فيه جدول صغير من مياه الأمطار. وفي الثامنة والثلث وصلنا إلى (قورو جاي) وهو مسيل واسع لم يبق فيه إلا القليل من مياه الأمطار ، ولكنها قد ملأته قبل بضعة أيام حتى إنها طغت على السهل ، كما لاحظنا من الآثار التي تركها الفيضان. وكان هنا مضرب للتركمان البيات ، فجاء رئيس العشيرة حسن أو كما ينعت أحيانا ب «قه ره قوش بك» ، يدعوني لتناول الطعام معه ، وكان رجلا نضر المحيا ، وسيم الطلعة ذا لحية لطيفة بيضاء ، وذا ذكاء مفرط ، وطلاقة لسان ، وسلوك حسن كأنه وليد حياة قضاها كلها في بلاط شرقي. وقد أخبرني بأن البيات إنما حازوا على المنطقة عطية من السلطان ولم يدفعوا مالا عنها إلى الحكومة العثمانية ، إلا أنهم لقاء ذلك مكلفون بالخدمة العسكرية في الوقت الحاضر إلى باشا بغداد عندما يقوم بحركات يقودها شخصيّا في الميدان. وأخبرني أيضا بأن نادر شاه عندما غزا واحتل المنطقة أرجع البياتيين إلى أحضان عشيرة البيات الكبرى في (خراسان) ، وأن معظم ما تبقى منهم الآن هم من عائلة الرئيس ذاته. غير أنه أضاف قائلا : وبالرغم من ذلك فإذا مست الضرورة فبوسعهم جمع ألف فارس. ويوجد في حمى البيات البعض من العرب ، والعشائر الكسيحة ، أما خيولهم فكريمة. وكان رئيس العشيرة على علم تام بوجود عشيرة البيات الكبرى في خراسان ولكنه لم يتمكن من إعلامي بتاريخ نزوح أفخاذ العشيرة إلى هذه البلاد للمرة الأولى. وفي الحقيقة أن العرب أحسن المؤرخين ، وأحسن رواة الأنساب في الشرق.

__________________

(١) وعلى الطريقة ذاتها ، تتفرع تلال حصوية فرعية من جبل حمرين فوق (قه ره ته به) ومن سلسلة (زه نك آباد).

٤٢

استأذنت البك وأنا مسرور جدّا من مقابلته ومحادثته ، وامتطينا جيادنا ثانية في التاسعة فمررنا بمزارع كثيرة أغلبها حقول شعير ، وقد نضج البعض منه ، والفلاحون منهمكون بحصده. وجاءني الحصادون ببعض السنابل فألقوها على الطريق أمام جوادي وهم يصرخون «سحقا لأعدائكم هكذا ..» متوقعين بضع دريهمات لقاء ذلك ، وفي الشرق ينتهز كل حادث لاستدرار العطايا أو الهدايا.

وفي التاسعة والنصف وصلنا إلى (قيزيل خرابة) ـ الخرابة الحمراء ـ وهي على الطريق. وكانت الروابي أو الطنوف ظاهرة ، منتشرة انتشارا يمتد باتجاه حمرين وهو عن يسارنا ، حيث شاهدنا هناك ربوة كبيرة جدّا كربوة (اسكي كفري) ، وقد قيل لنا إنها من آثار الكاوور ، ومن المحتمل جدّا إنها ساسانية ، إلا أنني لا ألزم نفسي بهذا الادّعاء وأؤكده كما كان الأمر في اسكي كفري.

بعد برهة قليلة مررنا بخرابة أخرى ، والظاهر أنها متصلة بالمدينة التي تؤلف (قيزيل خرابة) قسما منها. وفي الحادية عشرة إلا ربعا مررنا بقرية بياتية كبيرة هجرها أهلوها الآن ، إذ إنهم يضربون في هذا الموسم المضارب في السهل تخلصا من البراغيث ، وسهرا على الغلال ؛ وقد شاهدنا الكثير من هذه المضارب في جميع الأنحاء.

وفي الحادية عشرة والدقيقة العاشرة مررنا بقرية أخرى كبيرة ، وقد غابت الآن عن أنظارنا جبال حمرين التي كانت عن يسارنا طيلة مسير النهار لانعطافها نحو الغرب أكثر فأكثر. وبانت لنا (طوز خورماتو) واتجاهها ٢٠ د إلى الشمال الغربي. وقبل وصولنا إليها بربع ساعة اجتزنا مسيلا عريضا جدّا ، وارتفاع المياه الجارية فيه الآن يصل إلى الركاب وعرضها بضع ياردات فقط ، أما في الخريف فيقل عن ذلك. وقد فاض المسيل من جراء الأمطار الغريزة وهو يسمى ب (آق صو) وينحدر من (إبراهيم خانجي).

٤٣

ورأينا عن يسارنا وعلى مسافة ساعتين قرية (يه ني جه) ، وهي تقع على طريق البريد الحالي من بغداد إلى (طاووق).

وفي الثانية والنصف ، بعد أن عبرنا المسيل نصبت شمسيتي (١) لأستظل بها وأرسلت عريفا إلى المدينة ليهيّئ لي (السراي) (٢) وليعلن قدومي. وبعد مدة وجيزة جاءني الحاكم ووكيل عمر بك وهو المتصرف بالمدينة تصرفا تيماريّا (٣) ورثه عن أبيه ، فامتطينا جيادنا ومررنا ببساتين النخيل والبرتقال والليمون والتين والمشمش والرمان والزيتون وهي تكتنف المدينة بكاملها ، ثم أسكنونا دار عمر بك المريحة ، وكانت دارا فخمة بالنسبة إلى مسكن ريفي في بغداد ؛ أما سائر المدينة فكان كلها من الطوف ، وسكانها أتراك أغلبهم من الإسماعيلية أو «جراغ سونديره ن» (٤). أمطرت السماء بردا في (طوزخور ماتو) ليلة السبت ،

__________________

(١) الشمسية : الواقية من الشمس ، خيمة صغيرة خفيفة يمكن نصبها وتقويضها بسرعة.

ويحملها الأتراك عادة سواء في خروجهم إلى الصيد أو في تجولاتهم كلما بعدوا عن بيوتهم ، فكلما أرادوا الوقوف والراحة ـ وذلك ما يعملونه عادة في أوسط النهار لشرب القهوة ـ نصبوا الشمسية.

ملحوظة : في هذه الحاشية التباس. كانت الشمسية واستعمالها مألوفين في الغرب والشرق. وقد أطلق تعبير (الشمسية) عليها في الشرق سواء وقتنا من الشمس أو المطر. وأرى أن الشمسية الوارد وصفها في النص هي ما تشبه المظلة التي تنصب في الجنائن وعلى سواحل البحار في أيامنا هذه ـ المترجم.

(٢) أو القصر : كانت طوزخورماتو ملك عمر بك ، وهو بغدادي ، وقد أبدى الرغبة لتهيئة داره لضيافة المستر ريج وعائلته فيها.

(٣) التيمار : هي الأراضي الأميرية التي تمنح إلى البعض ليستغلوا عشر غلتها لقاء ما يجندونه من الجنود المعين عددهم وسوقهم إلى الحروب عند الطلب ـ المترجم.

(٤) «جراغ سونديره ن» أي مطفئو الأسرجة. هؤلاء أناس منتشرون في أصقاع تركيا وعلى ما أعتقد في أصقاع إيران أيضا. ومراسيمهم الدينية أو معتقداتهم معلومة قليلا أو بالأحرى مجهولة. وكل الذي تعلمه عنهم أنهم غير مسلمين ، إلا أنهم قد أخذوا ـ

٤٤

فألحقت خسائر فادحة بالبساتين ، وقد وصفوا البرد وصفا قالوا فيه إن حجم الواحدة منه كان كبيرا جدّا. ويظهر لي أن ليلة سقوط البرد هي الليلة التي أزعجتنا في (جوبوق). وتقع (طوز خور ماتو) بالقرب من تلول (كفري) ، وهي إلى غرب الممر الذي يشق تلك التلول تماما والذي يسيل منه (آق صو) إلى السهل. ففي هذا الممر يوجد بئر نفط ومملحة ، وإلى مسافة أخرى جنوبا في التلال ، يوجد منبع نفط آخر ، ولا مملحة.

التحق بنا التختروان بعد نصف ساعة من وصولنا ، وكانت ساعة حركته السادسة. وكانت مسيرتنا هذا اليوم أطول مما يجب أن تكون بكثير لو أننا اتبعنا الطريق المستقيم المارّ بمحاذاة التلول ، إلا أن ال (اودا باشي) ـ مدير المخيم ـ أراد أن ينهي مرحلتنا عند البيات ، وأن يجعل من الطريق مرحلتين سهلتين ، غير أنني عند وصولي إلى البيات خطر لي أن من الأفضل الإسراع للاستفادة من جودة النهار.

٢٩ نيسان : نهضت صباح اليوم مندفعا لمشاهدة تحف الضواحي ، فالحفرة النفطية تقع في ممر التلال ، وهي إلى الجنوب الشرقي من المدينة بمسافة ميل واحد تقريبا ، ولوقوعها في وسط المسيل تطغى مياهه عليها أحيانا فتتعطل زمنا كما حدث في الصيف الماضي. وعمق الحفرة ١٥ قدما تقريبا ، وفيها عشرة أقدام من الماء يطفو على سطحه مائع النفط الأسود تعلوه فقاقيع صغيرة على الدوام ، والناس يدلون منه المائع من قعره فيقشطون النفط من أعلاه ويسكبون ماءه في ساقية تصبه في مجموعة

__________________

ـ منهم أسماء مختلفة على اختلاف الأماكن. وهم خجلون جدّا ، سكوت ، وذلك عن خوف. وقد يكون خوفهم هذا ناشئا من حذرهم من إيقاظ روح الاضطهاد الفعلي في أسيادهم ـ الناشرة. (هذا ما جاء في الحاشية نثبته دون تعليق ـ المترجم).

٤٥

أحواض صغيرة مستطيلة حفرت بين الحصى ، ويتركونه هنالك إلى أن يتبلور إلى ملح جيد ذي حبات ناعمة بيضاء لامعة لا مرارة فيها. وتصدر كميات وفيرة من هذا الملح إلى كردستان ، ويقدّر وارده السنوي بعشرين ألف قرش توزع على أفراد عائلة المرحوم الدفتردار (١). أما النفط فملك القرية ، ويصرف قسم منه على المنزل ـ الخان ـ أو يباع لإعالة المنزل بوارده ويخصص قسم آخر منه للمعاهد الدينية وغيرها. ومقدار الاستخراج اليومي من النفط من هذه الحفرة جرتان تقريبا سعة كل منها ست حقات (٢) أو «بطمان» بغدادي واحد. وأما منبع النفط فهو في قعر الحفرة أو البئر حيث يشترك القرويون بأجمعهم في تنظيفه مرة في السنة ، فتوزع الأطعمة على الفقراء وتذبح القرابين ، وتدق الطبول وينفخ في المزامير ، وكل ذلك لضمان طفوح المنبع بوفرة. ومن الجائز جدّا أن هذه مراسيم انتقلت إليهم من الأزمنة الغابرة. ومنابع النفط الرئيسية هي في التلال ، إلى جنوبي هذه الحفرة بمسافة بعيدة باتّجاه (كفري) ، ويتراوح عددها بين الخمسة أو الستة منابع ، وهي أغزر إنتاجا من هذه البئر ، ولم يعثر على الملح هناك. ومن المحتمل أن يعثر على النفط في معظم أنحاء هذه السلسلة تقريبا ، ويوجد بالقرب من حفرة النفط في التلال ، الشب أو الزاغ وكذلك الطباشير ، وكل هذه من الأنواع ذات الذرات البيضاء الدقيقة والمتماسكة ؛ إلا أن الأهلين لا يستفيدون من هذه الموارد الطبيعية. وقد عثروا على تربة صاروا يستغلونها لتحميض بعض الصنوف من طعامهم ، ولا شك أنها حامضة زاجية. ويوجد الكبريت أيضا ، والقرويون يستعملونه لمداواة الجرب أو الحكة التي تصيبهم أو تصيب أنعامهم.

ولأنتقل الآن إلى وصف الممر ذاته. فهو يمتد إلى الشرق والغرب

__________________

(١) مأمور خزينة الباب العالي ، وهو والد عمر بك.

(٢) الحقة تساوي الباينتين ونصف الباينت من المكاييل الإنكليزية (أي ٥٦٨ ، من الليتر الواحد).

٤٦

ويشبه ممر (كفري) في هيئته ومظهره ، وإن كان بمقياس أوسع. وإلى الجانب الغربي من التل الذي يقابل السهل نجد الطبقات الأرضية أفقية متوازية ، أما في الجانب الشمالي من الممر فإنها مائلة نحو الأسفل بزاوية ٤٥ درجة ، وهي مقوّسة أو محدبة نوعا ما. والتلال في الطرف الجنوبي ترابية أكثر ، وقد خددتها الأمطار وفتتها تارة في قسم منها بعض الأعمدة منعزلة. ويمكن لنا القول في الحقيقة بأن حفرة البئر واقعة في هذه الردم على حافة قاع المسيل ، والجبس ظاهر في كل ناحية ، والتلال في الطرف الشمالي متكونة من حجر رملي ، وتحت كل هذه الأتربة والأحجار الرملية ـ كما شاهدت ذلك في طاق أو مقلع في أسفل الجرف ـ ألواح من الصلصال (Clay Slate) أو صلصال متحجر أزرق. أما المياه فتنصبّ جميعها في الاتجاه الشمالي من الممر حيث شقت التلول فجعلت منها وهدة أو جرفا. ويوجد على أعلى الجرف أنقاض سور حصن قديم يصعب معرفة تاريخه ، وقد يكون ساسانيّا. وفي حضيض الجرف غور صغير في صخرة يحوي نفطا ، وقد عقد على الغور طاق بكتل أحجار جبسية مربعة كبيرة ، والظاهر أن هذا البناء قديم العهد جدّا. وفاتني أن أذكر وجود جذع خشب فوق سطح الماء في بئر النفط الكبير ، وقد ثبت من طرفيه بجانبي البئر ، ويقال إن هذا الجذع قديم ، كقدم عهد الكاوور ، وإنما دام بفضل النفط وكرامته. وينسب الناس أيضا الحصن إلى الكاوور (١). وفي الأرض فوق حضيض تل الحصن بالقرب من حفرة النفط الصغيرة شاهدت الكثير من البقع الصفراء اللامعة ، تنتشر منها رائحة كبريت قوية. والأهلون يعتقدون بأن الجرف هذا هو حامي مدينة (طوز خور ماتو) العتيد ، وهم يدّعون بأنه يدرأ السيول عن المدينة. وعلى قمة التلال في الجانب الشمالي من الممر مقام صغير ، يطل على السهل ،

__________________

(١) إن أصل كلمة (كاوور) «كه به ر» ، أو عابد النار. وهي الآن مترادفة إلى كلمة (كافر) وتطلق على الذين سبقوا المسلمين في العهد وعلى الأوروبيين كذلك.

٤٧

إشارة إلى قصة خرافية وقعت هناك ، وتنسب إلى الإمام عليّ. فإنهم يقولون إن مصباحا يضيء من تلقاء نفسه في عشية كل جمعة في ذلك المرقد. وقد تكون هذه مثل ظاهرة (بابا كوركور) (١) الطبيعية. وبعد انتهائنا من مشاهدتنا حفر النفط تجولنا حول المدينة عن طريق الناحية الغربية من المسيل لمشاهدة بعض الخرائب ، إلا أننا لم نجد ما يستحق الملاحظة إلا قليلا. ومررنا بلفيف من القرويين المنشغلين في كرخ القنال ، وهم يشتغلون على دق الطبل وأصوات المزمار والنقارة ، والحصادين يحصدون بعض المزارع. ورأينا غربي المدينة بعض روابي الردم التي لا تميزها ميزة عن غيرها وقد تكون قديمة بسبب وجود بعض العاديات فيها على ما يقال ، غير أنني لم أتمكن من العثور على أي واحدة منها حتى الآن. وقد رأينا على دكة بناء مربعة صغيرة دعامة من البناء قائمة ـ مبنية بناء خشنا ـ والظاهر أنها لم تكن قديمة جدّا. وإلى الشمال قليلا منها ، رأينا ست دعامات أخرى ، وكلها تؤلف قسما من بناء مستطيل ، وهو باتجاه شرقي غربي. ويظهر أن البناء كان مؤلفا من عمارة وجناحين أو شرفتين. وتقع باب العمارة إلى الغرب ، يقابلها في شرقي العمارة مخرج أو فتحة كلا جانبيها يسند بمسند أو ركيزة نصف دائرية ، وكلها معقودة ، أما طرز البناء فخشن جدّا. وأظن أن هذه العمارة كانت كنيسة وهي تشبه خرائب الكنائس الكلدانية أو السريانية التي شاهدتها شبها عظيما. والروابي مبعثرة على الأرض إلى مسافة بعيدة الأمر الذي يدل على أن هذا الموقع كان في الأزمنة القديمة موقعا له أهميته. ومن الرابية الرئيسة كانت جبال حمرين تظهر للعيان في الأفق الغربي ، ويقال

__________________

(١) (بابا كور كور) كلمة تطلق على محل يبعد عن كركوك ثلاثة أميال ، تتعالى منه لهب نفطية بيضاء من أماكن عديدة في بقعة صغيرة مستديرة. ويكاد أن يكون من المحقق ما ذهب إليه (دانفيل) بأن هذا المحل هو كور كورا بطليموس. راجع كتاب (دانفيل) المعنون «الفرات ودجلة» الصفحة ١٠٨ من الطبعة الرابعة.

٤٨

إن بعدها تسع ساعات تقريبا. ومن هنا يمكن لنا أن نرى بوضوح حيدان سلسلة (قه ره ته به) ، أو (زه نك آباد) من جبال حمرين باتجاه شرقي أكثر.

ويقال إن الحصن الخرب أو السور على التل في المضيق كان يمتد عابرا المضيق نفسه ، حيث حصر النهر في مجرى ملائم شيد فوقه جسر. والظاهر أن هذا محتمل ، إذ إن كلّا من السور والجرف ينتهي فجأة في مكان واحد ، كأنهما يمتدان إلى مسافة أبعد إلى جانب المسيل. ويقال إن رجلا مات أخيرا عن عمر ١٢٠ سنة قال إنه يتذكر بأن الجرف والجدار كانا يمتدان إلى مسافة أبعد مما هما عليه الآن عبر المسيل ، وأن المسيل كان محصورا في قنال أضيق ، وقال إنه سمع هذه الرواية من شيوخ طاعنين في السن. ومن المحتمل أن يكون ذلك حاجزا ـ دربند ـ لوقاية البلاد من غارات الكرد الذين لا بد وأنهم كانوا في جميع العهود جيرانا مقلقين. وهذا هو أحد الممرات التي تؤدي إلى كردستان ، ويتفرع منه طريق يصل إلى (إبراهيم خانجي) وهو وعر ، إذ يمر طوال الوقت على سلاسل تلال صغيرة. إن المسافة بين (طوز خور ماتو) و (إبراهيم خانجي) تسع ساعات ، ومن (كفري) إلى (إبراهيم خانجي) تسع ساعات أيضا ، والطريق مستو وجيد.

وعقب وصولنا بقليل جاءنا محمد آغا ، وهو «أيشيق آغاسي» محمود باشا أي رئيس التشريفات وقد عينه لمرافقتنا في ضيافته رائدا (مهماندار) وكان يحمل إليّ رسائل ظريفة من محمود باشا تفيض رقة.

ويوجد في (طوز خور ماتو) منزل ـ دار استراحة ـ يحتوي على ثمانين جوادا.

درجة الحرارة ٦٤ د في السادسة ق. ظ ، و ٧٠ د في الثانية عشرة ، و ٦٦ د في الثالثة ب. ظ.

الريح جنوبية شرقية ، وهبوبها شديد ، رافقتها الأمطار بعد الظهر.

٤٩

٣٠ نيسان :

شعرت بتوعك كثير أقعدني عن التجوال. ولكنني جمعت المعلومات التالية : إن نهر (آق صو) أو (خور ماتو) ينبع في (علي ده للو) في (قره داغ) من (كردستان) ، مارّا ب (إبراهيم خانجي) موافيا (طوز خور ماتو). ولكل من الطواحين في هذه البلاد برج صغير مشيد من الطوف يؤلف جزءا منها ، كي يقيم فيها حارس لمراقبة اللصوص ، لأن

__________________

(*) أضاف المترجم هذه الصورة إلى الكتاب نقلا عن المجلد الثاني من كتاب «رحلات في ما بين النهرين» لمؤلفه الرحالة جه ي ، أس ، بوكينكهام المطبوع عام ١٨٢٧ في لندن.

٥٠

كل الأماكن في الحدود الكردية عرضة لغارات شقاة ذلك القوم. وتقدر نفوس (طوز خور ماتو) بخمسة آلاف تقريبا.

درجة الحرارة ٦٢ د في السابعة ق. ظ ، و ٧١ د في الثالثة ب. ظ ، و ٦٦ د في العاشرة ب. ظ. الريح شمالية في الصباح ، وفي الثانية ب. ظ هبت عاصفة خفيفة من الغرب مع مطر قليل. برق ساطع ليلا ، بدأ من الغرب وانتقل إلى الجنوب.

لم يمر علينا يوم دون برق منذ أن تركنا بغداد.

٥١
٥٢

الفصل الثاني

مغادرة طوز خور ماتو ـ وادي ليلان ـ مخيم يوسف آغا ـ ضيافته ـ

الدخول إلى كردستان ـ الزرع ومظهر البلاد ـ هدايا مؤن من باشا

السليمانية ـ الوصول إلى مضربنا قبل السليمانية ـ زيارة الباشا ـ أمجاد الكرد

* * *

١ أيار :

غادرنا (طوز خور ماتو) في الخامسة والنصف. وكان اتجاه طريقنا ٧٥ درجة إلى الشمال الغربي. سرنا والتلول الجبسية قريبة من يميننا ، وعن يسارنا سهل ينحدر انحدارا تدريجيّا جدّا نحو جبال حمرين التي كانت تبدو لنا بوضوح. ويظهر أنها كانت تنعطف في هذا المكان ، أو أنها تدنو من ناحية الغرب ، وكانت أقرب النقاط إلينا منها مسننة كجدار سور ذي أبراج ، أما اتجاهها فخمس وثمانون درجة إلى الشمال الغربي. ويشق نهر (العظيم) (١) الجبال على بعد نصف ساعة من تحت هذه

__________________

(١) العظيم هو الجدول الرئيسي الذي تنصب فيه مياه (كركوك) و (طاووق) و (طوز خور ماتو).

٥٣

النقطة ، وتحت ذلك نجد (ده ميرقبو) وهو مضيق قد حصن فيما مضى ، حيث توجد باب حديدية هناك. وإلى ما وراء تلك النقطة المسننة في التلال يظهر أن السلسلة تنعطف ثانية نحو الغرب. وفي الساعة السابعة قبل الظهر كان اتجاه طريقنا شماليّا غربيّا ب (٤٥) درجة. وهنا تبدو التلول الجبسية وكأنها قد انتهت ، إلا أنني أعتقد أنها في الحقيقة لم تنته ، بل الأحرى أصبحت سلسلة تلال حصوية منخفضة تميل نحو الغرب ، تظهر فيها الأحجار الرملية هنا وهناك. وأصبح طريقنا بمحاذاة التلال الحصوية وهي عن يميننا. وفي الثامنة إلا ثلثا لاحت مآذن (طاووق) لأبصارنا. ذهبت إلى تل صغير ـ وهو أحد تلال السلسلة الفرعية الحصوية ـ على يمين الطريق مباشرة ومن هنا أتيحت لي فرصة جيدة لرؤية (طاووق) و (طوز خور ماتو) في آن واحد ، في النهايتين الشمالية والجنوبية من الأفق. وكانت (طاووق) على ١٥ درجة شمالية غربية و (طوز خور ماتو) على ١٥ درجة جنوبية شرقية. ومن هنا أيضا ظهر لي أن السلسلة الجبسية تنتهي حالا في أقصاها الشمالي إذ يتشعب من حافتها الغربية خط التلال الحصوية الذي كنا نسير بمحاذاته ساعة كاملة ، والخط يتجه نحو الشرق. أما الساحة الوسطى فتؤلف حوضا مليئا بالردم ، أو التلول الحصوية وقد خددتها أو جزأتها إلى تلال صغيرة ، مجاري مياه الأمطار أو سيولها التي تجمعت بدورها فكونت المسيلات. وعلى بعد بضعة ياردات يوجد كهريز وهو أول ما شاهدناه في هذا الطريق. والكهريز قناة تحت الأرض لإسالة مياه منبع في التلال إلى المزارع في السهول ، وتمر القناة بآبار أو حفر على مسافات تعين خط القنال. وعلى مسيرة عشر دقائق أخرى مسيل عريض امتلأ بمياه الأمطار التي هطلت بغتة بغزارة ، وهذا المسيل في منتصف الطريق بين (طاووق) و (طوز خور ماتو). وعلى مسافة غير بعيدة منه نجد مسيلا آخر أصغر مملوءا بالمياه الصافية. ولقد أصبح طريقنا الآن متموجا تموجا خفيفا. ووصلنا في العاشرة إلى (طاووق

٥٤

جاي) العظيم الجريان ، الذي ينبع من كردستان ، ويستحيل هذا النهر عنه مزوره على يمين طريقنا المقرر مجتازا (قه ره حسن) إلى جداول كثيرة فيروي مزارع قرى عديدة ، كلما اقتضت الحاجة. وتستهلك أكثر مياهه في الصيف للزراعة. وفي الخريف لا يزيد هنا عمق الماء على القدم ، أو القدم ونصف القدم. ولا يقتصر ماؤه على إرواء هذه القرية بل يتعداها إلى إرواء الكثير من القرى الواقعة في غربها وشمالها. وعندما يشتد هطول الأمطار في موسمي الشتاء والربيع يصبح جدولا هائلا جدّا ، فيمتلئ مجراه الذي يقارب نصف الميل في عرضه فيسيل سيلا مخيفا مكتسحا الصخور الكبيرة ، وحافرا في قاعه الحفر والفجوات التي تجعل عبوره أو خوضه محفوفا بالأخطار دوما ، أو غير ممكن إطلاقا. وقد ترتفع مياهه ارتفاعا فجائيّا. وعلمنا بأن مياهه كثيرا ما فاجأت الناس وهم في وسط مجراه أثناء عبورهم ، فغرقوا أو أنهم انتشلوا بصعوبة. وقد ارتفعت مياه (طاووق جاي) في الأيام الأخيرة ارتفاعا عظيما جدّا ، على أثر سقوط مطر شديد ، وقد شوهد عدد من الغرقى وأشلاء الحيوانات طافية على سطحه ؛ وهذا ما حدث أيضا في أيام الأمطار الغزيرة الخارقة للعادة ، والتي هطلت في الصيف الماضي. أما الآن فقد وجدناه سهل العبور جدّا. وقد استقبلنا الضابط وبصحبته خمسون رجلا تقريبا (بطبولهم ومزاميرهم ونقاراتهم) ، لمساعدتنا في عبورنا وعبور أمتعتنا. وعند العبور وجدنا في وسط المجرى ساقيتين كان عمق الأولى منهما قدمين ونصف القدم وعرضها عشر ياردات أو اثنتا عشرة ياردة ، أما الثانية فعمقها ثلاثة أقدام ونصف القدم تقريبا وعرضها يتراوح بين العشرين والثلاثين ياردة ، وكلتاهما سريعة الجريان ، أما قاعاهما فكانا مفروشين بالجلاميد الكبيرة. ولقد كان العبور أكثر صعوبة أمس ، إلا أن المياه انخفضت خلال الليل ، وبالرغم من ذلك فقد ألقت الرعب غير القليل في قلوب البعض من البغداديين من حاشيتي.

٥٥

استغرق عبورنا لمجرى النهر كله عشرين دقيقة ، ثم تركنا الضابط وجماعته لإبداء المساعدة إلى التختروان. وبعد أن نعمنا باحتساء القهوة تحت الشمسية (المظلة) امتطينا الجياد نحو القرية وكانت المسافة بيننا وبينها ميلين قطعناهما بنصف ساعة (١) ومررنا بمنارة جميلة قديمة على يسارنا مشيدة بالطابوق ، يظن أنها من بقايا عهد الخلفاء ، كما مررنا ببعض المزارات أو المقامات التي يحج إليها الأمر الذي يدل على أن المكان كان فيما مضى مكانا واسعا ، ولكن القرية الحالية حقيرة جدّا وهي تشمل على منزل فيه ستون جوادا. وقبيل الوصول إلى ال (جاي) أو المسيل رأينا على مسافة ميلين عن يسارنا قرية (علي سراي) وعن يميننا وعلى مسافة ميل واحد وعلى الضفة اليمنى من المسيل مقام (زين العابدين) ، يلجأ إليه كثير ممن يشكون آلام العيون وأوجاعها.

لقد قلقت كثيرا عند التأهب للمرحلة الأخيرة التي ما كنت أتوقع بلوغ منتهاها إلا بمشقة ، إذ قيل إنها تستغرق سبع ساعات. وفي الواقع فقد قطعناها بخمس ساعات ونصف الساعة. وعند وصولنا كان في استقبالنا وفد مؤلف من شيوخ القرية يتقدمهم «الملالي» ، وكان من بينهم رجال طوال القامة وسيمو الطلعة.

__________________

(١) كان معدل سفر المستر (ريج) يتراوح بين الثلاثة أميال وربع الميل وبين الأربعة أميال في الساعة. وفي المسيرات القصيرة أو في أواخر المسيرات ، كانت الجياد تقطع أربعة أميال ونصف الميل. أما ساعة القوافل «كراوين» التي يعول عليها الأهلون فثلاثة أميال ، وأما ساعة الخيال فثلاثة أميال ونصف الميل.

وفيما يلي مقتبس من مذكرات المستر ريج : ـ إن سرعة التنقل على «جابقوون» رهوان جيد ـ موقت بسرعة سيره تمام التوقيت ـ تقدر بخمسين خطوة في عشرين ثانية أي ١٥٠ خطوة في الدقيقة ، أو ٩٠٠٠ خطوة في الساعة. وبعد إسقاط ما يمكن أن يقع من فروق الخطوات والياردات نستطيع أن نعتبر المعدل أربعة أميال في الساعة وقد تأكد لدي أن خطوات الجابقوون أو الرهوان هي خير الخطوات اتساقا وانتظاما.

٥٦

وكان الرائد «مهماندار» محمد آغا يصر على مسك ركابي عندما أمتطي جوادي ، بالرغم من رجائي المتكرر له بألا يفعل ذلك. قال لي بأنه يقوم بهذه الخدمة من أجل محمود باشا ، وأنه يرغب في اعتباري كمحمود باشا. وكان الآغا ممن قاد مفرزة احتلت هذه القرية ونهبتها في العام الماضي ، وذلك عندما اتفق محمود باشا مع نجل شاه إيران ، شهزادة كرمنشاه ضد الأتراك. ويظهر لي أن القرويين يحرصون على خطب وده ، درءا لزيارة أخرى منه في المستقبل لقريتهم كزيارته الأولى ، وقد تقدم الكثيرون ولثموا يده ، ولكن ما إن ولاهم ظهره حتى قالوا : «لا أراه الله خيرا ، إنه هو الذي نهب قريتنا في العام الماضي».

درجة الحرارة ٦١ درجة في الصباح ، و ٧٢ درجة في الثالثة ب. ظ. و ٦٦ درجة في العاشرة بعد الظهر. الريح شرقية صباحا ، نهار رائق ، وفي الثالثة تلبدت السماء بالغيوم ، إلا أن الجو بقي هادئا.

٢ أيار :

على أثر علمنا بوجود خرائب بجوار القرية تستحق المشاهدة ، عولنا على زيارتها صباح اليوم وقد ألفيناها تشتمل على المنارة التي رأيناها أمس ، وعلى بقايا جدار من طين ، قلعت واجهته المبنية من الطابوق. ورأينا مدخلا صغيرا ، هو أثر معماري جميل جدّا ، على طراز التكية ، والمستنصرية ، وخير آثار عهد الخلفاء ببغداد (١). لقد شاهد (أوليفر) هذه الخرائب ، ولكنه نقل أخبارها إلينا فنسبها إلى (طوز خور ماتو) ، دون أن يكون لذلك أي داع. وهذا ما يدعونا إلى الظن بأن مذكراته ، أو أن

__________________

(١) المستنصرية ، جامع في بغداد من آثار عهد الخلفاء. والتكية ، زاوية الدراويش البكتاشية ، وهي على ضفاف دجلة إلى جانب الغربي من المدينة ، وهي أنموذج جميل للهندسة المعمارية الإسلامية القديمة ـ الناشرة.

٥٧

القسم المتعلق بهذه الخرائب على الأقل إنما كتب استنادا على الذاكرة. وهو يعترف فعلا بأنه لا يصف بقايا العاديات. غير أنه يجب عليه أن يتذكر أماكنها على الأقل إذا أراد أن ينوه عنها. هذا وإظهارا للحق ، عليّ أن أقول بأن هذا خطأ من الأخطاء القليل جدّا التي وقفت عليها حتى الآن في مذكراته التي يصف بها البلاد وصفا صحيحا يحمد عليه. وعند منتهى القرية ، مررنا بطريقنا بإمام (١) أو بمرقد صغير تعلوه قبة مخروطية الشكل ، كقبة السيدة زبيدة في بغداد (٢) ولكنها لا تضاهيها في طرازها وإتقان بنائها بأي حال من الأحوال. وقد أخبرنا القرويون عن وجود أنقاض كنيسة. وهذا يحتمل جدّا إذ إن هذا المكان ، كان مقرا لكرسي الأسقفية الكلدانية ، وجاء ذكر أساقفته في الأزمنة الممعنة في القدم.

وقد شاهدنا الخرابة التي أشار إليها الأهلون بأنها كنيسة ، على بعد ميل ونصف الميل أو الميلين عن يمين طريقنا. نظرت إليها بالناظور ولا قتناعي بأنها لم تكن ذات خطورة ، لم أضع الوقت في الذهاب إليها لمشاهدتها.

وسرنا أخيرا ، في السادسة والربع وكانت الأرض مكسوة كيوم أمس بالشيبة ـ الأفسنتين ـ (ويسمى بالتركية : ياوشان) وبالسعتر وبنباتات أخرى كثيرة ، إلا أنني لم أتعرفها لجهلي أمرها. وكان الأفسنتين يعبق برائحة منعشة ، تشرح الصدر ، كما رأينا الكثير من حقول الشعير وهي لا تزال خضراء ، وكان القرويون يتهيؤون لحصد بعضها.

كان طريقنا شماليّا (تاركا طريق كركوك إلى يسارنا) باتجاه سفوح التلال ، وأخذت تترآى لنا جبال حمرين عن يسارنا. وفي السابعة والثلث بلغنا قرية (جميلة) الصغيرة المشيدة من الطين ، ويعني الاسم بالعربية

__________________

(١) مرقد رجل صالح مسلم.

(٢) زوجة هارون الرشيد.

٥٨

(الحسناء الصغيرة) وإن كان الاسم لا ينطبق على المسمى ، إذ إنها ليست سوى بؤرة تعسة. والآن بدأنا في صعود سلسلة التلال المتجهة إلى الشمال الغربي من قرية (مطارا) ، التي اقتبست تلك التلال اسمها منها والتي تمر ب (تازه خور ماتو) ، ثم تتلاشى تدريجا بعد ذلك على ما يقال.

إنني لمسرور جدّا لاختياري هذا الطريق ، وإن كان أطول من طريق (إبراهيم خانجي) بثلاثة أو أربعة أيام ، إذ تعلمت كثيرا من الأمور التي جعلتني في موقف أحيط به الإحاطة الكاملة بمعالم هذه البلاد الرئيسية. وقد تملكني العجب ، إذ وجدت «مهمانداري» ذا اطلاع جم بمواضع الأماكن والاتجاهات ، واتصالات سلاسل التلال بعضها ببعض. وقد اختبرته في بعض الأمور التي أعرفها من قبل ، فكانت أجوبته مقنعة لي إقناعا استحقت الاعتماد على معلوماته العامة.

أما الشعبة الأخرى ، أو بالأحرى الشعبة الشرقية القصوى من تلال كفري (وهي في الحقيقة الضلع أو الشريان الأصلي منها) فتمر ب (كركوك) و (التون كوبري) ومن هناك تمر من جنوب (أربيل) حتى دجلة ، وتسمى عندئذ ب (قه ره جوق داغ). وهذه الشعبة الشرقية تحتوي على الجبس والنفط. أما الشعبة الغربية أو تلال (مطارا) فهي من الحجارة الرملية والحصى ، وتشبه سلسلة حمرين الشبه التام من جميع الوجوه ، وفيها الكثير مما يستحق الملاحظة. وعند ولوجنا إياها عند مضيق (جميلة) مررنا بسلسلة ، أو سلسلتين شاقوليتي الطبقات كأنهما أقسرا على اتخاذ وضعهما الراهن ، ثم تليها طبقات أفقية من الحجارة الرملية الصرفة الجرداء ، وقد انفصلت عنها كتل ضخمة تدهورت متبعثرة هنا وهناك ، وما تبقى منها كأنه بناية مهدمة. وفي الحقيقة أن السلسلة بكاملها تبدو وكأنها جبل منهار. ثم بلغنا طبقات مائلة ، الغريب في أمرها أن ميلانها كميلان طبقات حمرين. وهذه التلال تنحدر إلى الشرق ب (٦٠) درجة من الخط الشاقولي ، أو (٣٠) درجة تحت خط الأفق. وجميع الطبقات في السلسلة

٥٩

بكاملها متوازية ، ولها اتجاه واحد تماما كأنها صفت على خط يتجه شمالا غربيّا ب (٤٥) درجة. أما صعودها فتدريجي جدّا وباتجاه شرقي ، إلا أنه يتعرج أو يتلوى داخل شقوق ضيقة كونتها الأمطار في الحجارة الرملية.

وفي الثامنة إلا ثلثا وصلنا نجدا كئيبا ، أو بالأحرى ساحة واسعة تعلوها أكوام من أركام حصوية ، وأخاديد موحشة. وكان طريقنا يمر منها باتجاه خمسين درجة إلى الشمال الشرقي. وفي الثامنة وصلنا إلى سلسلة قمم أخرى ذات طبقات مائلة تتصف بنفس الأوصاف التي مرّ ذكرها. إلا أن التربة الحصوية التي تكسوها كانت تزداد كثافة كلما تقدمنا ، وشاهدنا هنا وهنالك بعض مزارع الشعير الصغيرة. وصادفنا قافلة كردية صغيرة تحمل ال «مورت» الآس (MyrtIe) بأكياس تنتشر منها راحة ذكية ، والمعتقد أنه يستعمل في المصابغ.

فالتربة والحصى في هذه المنطقة ظاهرة كما في السفوح الشرقية من (حمرين). وفي التاسعة إلا ربعا وصلنا مكانا يشرف على سهل (ليلان) ، حيث تنحدر التلال تدريجا انحدارا خفيفا.

دخلنا الآن سهل (ليلان) ، وهو مكتظ بمزارع الشعير التي كانت على ما يظهر تبشر بخير عميم ، وكان النزر اليسير منها على وشك النضوج. وفي التاسعة والنصف وقفنا لنحتسي القهوة ، ولتمكين ضابط الإعاشة ليتخذ ما يجب اتخاذه من الترتيبات.

وفي العاشرة والربع ركبنا ثانية ، فوصلنا (ليلان) في الحادية عشرة إلا ربعا. و (ليلان) قرية صغيرة تعود الآن إلى عبد الله أفندي وهو المتولي السابق للإمام الأعظم (١) ومن معارفي القدماء. أغار الإيرانيون والكرد

__________________

(١) أبو حنيفة ، أحد أعلام المذاهب الإسلامية ، وقد سمي بالأعظم. وهو مدفون في القصبة المسماة باسمه والتي تقوم على بعد ميلين من شمالي بغداد.

٦٠