رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

لم أشاهد مطلقا أناسا ذوي أجسام قوية صحيحة من الجنسين النساء والرجال كما شاهدت ذلك في كردستان ، بالرغم من سوء الأحوال الجوية. والكرد بوجه عام قوم أقوياء أصحاء. والأطفال منهم أيضا ذوو بشرة نقية ، ووجوه موردة. أما الطفل البغدادي فتعلو وجهه الصفرة ، وبطنه بارزة ناتئة وجسمه مسقوم عليل فكأنه مصاب بالكساح ، وإذا لمسته نفر وانكمش على نفسه. أما الطفل الكردي فمخلوق صغير نشيط مرح ، قوي ، يتصف بالبشاشة والألفة.

٢٥ تشرين الأول :

هرب صباح اليوم الشيخ خالد الشهير. وعلى الرغم من أن هروبه كان مفاجئا وسرّيّا فإنه استطاع أن يصطحب زوجاته الأربع معه ، ولم يعرف حتى الآن الوجهة التي سار فيها. لقد وضعه الكرد قبل بضعة أيام في منزلة ترتفع على منزلة الشيخ عبد القادر (١) وقد اعتاد الباشا أن يقف أمامه ليملأ الغليون له ، أما اليوم فإنهم ينعتونه بالكافر ، ويرددون الروايات العديدة عن غطرسته وكفره وزندقته. لقد أضاع الشيخ منزلته إثر وفاة نجل الباشا إذ ادّعى أنه سيشفيه من مرضه ، وأنه بحث في سجل الله عن أمره .. وغير ذلك وقد تباينت الروايات عن سبب هروبه ، وقال البعض إنه صار يبذر بذور السوء بين الباشا وإخوانه الذين أرادوا أن يواجههم بالأمر في حضور الباشا. وقال الآخرون إنه بدأ بوضع أسس مذهب جديد ، وأراد أن يجعل نفسه سيد البلاد الدنيوي. ولقد قيل عنه ولا ريب الكثير واتهم بأمور أكثر مما يمكن في الحقيقة اتهامه بها فالعلماء والسادة وعلى رأسهم الشيخ معروف (٢) كلهم يكرهون الشيخ خالدا وقد بزهم كلهم عندما كان له سلطانه.

__________________

(١) ويقصد المستر (ريج) به ، الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ بالكاف الفارسية ـ المترجم.

(٢) تلقى المستر ريج من رئيس علماء الكرد الرسالة الغريبة التالية ، وذلك قبل رحيله من

٣٠١

وقد هرب أيضا يوسف بك شقيق الشيخ خالد وحاكم بيشدر والتجأ إلى عباس ميرزا ، الذي يقال إنه نصبه حاكما على (سه رده شت) علاوة على حاكمية بيشدر التي عليه أن يستمر فيها بحماية عباس ميرزا.

لقد قطع الباشا علاقته بعثمان بك وجرده من جميع حاكمياته وأملاكه وقد كان هذا دون ريب بتأثير خدع وحيل تركية. وهكذا تقوض هذه العائلة التعسة أركانها بنفسها بالشقاق والفتن وتتعرض إلى دسائس السلطات المجاورة لها ، وليس بين هذه السلطات من يستطيع التدخل في كردستان بالقوة إذا أرادت.

زارني الباشا مساء اليوم الزيارة الأخيرة. وقال لي عند دخوله الخيمة إنه يشعر كأنه زارني زيارته الأولى أمس من حيث المكان والوقت والنمط. وفي فترات الحديث أجبته بأنه مهما كان يشعر بقصر الوقت الذي قضيته عندهم ، فإن هذه المدة قد مكنته ليقوم نحوي بأمور لن أنساها طيلة ما تبقى لي من العمر. لقد وجدته اليوم متأثرا أكثر مما سبق ،

__________________

السليمانية بمدة وجيزة.

إلى كبير قومه ، باليوزبك.

السلام على من اتبع الهدى ، الذي أباركه وأرجو له الله هدايته إلى الصراط المستقيم.

في بدني طفح جلدي مستديم منذ عدة أشهر ، فأملي أن تكتبوا لي وصفة قد أشفى باستعمالها فأدعو لكم بالخير.

ولدي صديق حميم وهو الآن مثقل بالضعف البدني الحاد ، فإذا كان لهذا الداء من دواء فأرجو أن تبينوا لنا خصائصه فيعود مريضنا مسرورا إلى حالته السابقة. وأرجو أن لا تقطع الرجاء للاهتداء إلى عبادة الله وإلى نوال السعادة التامة.

الفقير «معروف»

انتهت الحاشية. والشيخ معروف والد الشيخ كاكه أحمد الشهير. والأول مدفون في (كردى صه يوان) ـ بالكاف الفارسية ـ قرب مدينة السليمانية ، أما الثاني فمزاره في الجامع الكبير منها ـ المترجم.

٣٠٢

ويحتمل أن ذلك نتيجة ما قام به من العمل في خصامه مع أخ كانت له السطوة الكلية عليه ، ذلك العمل الذي أغلى فيه الدم فنسي حزنه بعض النسيان. وقد تحور الحديث تدريجيّا إلى حالة بلاده وإلى الانشقاق القائم بين أبناء عائلته. وقد سعيت لأحرك فيه شعوره القومي والعائلي ، ولكن دون جدوى. بيد أنني كنت أحس بوجود قليل من الحماسة عنده ، عندما كنت أتطرق إلى تاريخه القديم ، والمنزلة التي قد ينالها قومه بين الأمم المستقلة ، إلا أن تلك الحماسة ما كانت إلا سرابا. إن أخلاقه تتصف باللين والتواضع الممتزجين بالأوهام والقنوط مما يجعله منقادا كل الانقياد إلى ما ترسب في أعماقه من الخزعبلات المثبطة التي أتردد في القول بأنها من صنع الدين ، لقد وجدته متجردا تجردا تامّا من كل ما يتعلق بنفسه وببلاده ، وذا فطرة عنيدة لا تطاوع الغير. وكان يظهر الصلابة إزاء كل مناقشة لي معه وأخيرا قلت له مازحا إذا كان قد عزم على استعمال مهارته في إيجاد العراقيل لإصلاح بلاده فلم يعد هناك ما يمكن عمله ومع ذلك فقد تضرعت إلى الله لينعم بالرفاه والقوة على عائلته وبلاده. فأجابني بأنه لا يمكن أن تصبح بلاده أو عائلته يوما ما قوية ، ما دام في العائلة هذا العدد من الأعضاء الأقوياء. فأصررت على رأيي في أن ذلك ممكن ، فأجابني : «نعم هذا ممكن إذا ابتلانا الله بطاعون لم يترك إلا واحدا منا». فقلت له ثانية ، إن ذلك ممكن دون الحاجة إلى الطاعون ، وإن الله على كل شيء قدير ، فقال لا ريب إن الله قادر على إطفاء نار جهنم ولكنه لا يطفئها ، ثم ذكر رغبته في التخلي عن منصبه فأجبته أن عليه أن يقوم بواجب المنصب الذي اختاره الله له ، فقال : «لا شك في ذلك ولكنني أعجب كيف قضت إرادة الله أن تجعلني حاكما ، فقلت له إن ذلك كان لصلاح هذه الآلاف من الناس ، فأجاب : «أواه ما أشد الحساب الذي عليّ تأديته في الآخرة ، فلم أوافقه على رأيه وقلت له في الحقيقة إن معاملته للناس كانت على الدوام معاملة حسنة ، وإنه كان رحيما بكل فرد

٣٠٣

منهم ، وإنه لا يمكن بصورة من الصور الحيلولة دون طبع البشر الذي سبب وقوع بعض الاضطرابات في مملكته ، مما قد يكون غافلا عنها ، أو لا طاقة له على إخمادها. فأجابني والصدق يغمر محياه «اسمعني يا بك ، إنما يحكم على المرء بأعماله ، لا بنواياه ، وأنا لوحدي المسؤول عن تأدية الحساب يوم الدين عن كل ما يقع من الاضطراب في حكومتي». لقد أنكر داود باشا جميل هذا الباشا وعامله بالخيانة والغدر ، ولكنه الآن كسبه كل الكسب ببضع كلمات طيبة ، وهو الآن في الحقيقة متعلق بداود باشا كل التعلق ، وقد أكد لي محمود باشا بأن الباشا سيخدم داود باشا طيلة حياته ؛ ولم يكن قول محمود باشا مجرد ادّعاء.

وبعد حديث شيق دام ساعة ونصف ساعة ، نهض الباشا ليعود. وعندما ودعني انخفض صوته وارتجفت يده وهو يصافحني ، وكنت شخصيّا مكروبا مثله لمفارقتي إياه. لقد رجا أن يراني ثانية ، وإني أخشى أن لا نرى بعضنا مرة أخرى. إنه من الصعب أن تفارق المفارقة الأخيرة رجلا عديم الاكتراث ، فكيف وأنت تفارق رجلا توده وتحترمه ، كان محمود باشا رجلا محبوبا جدّا في الحقيقة ، وإنني سأتذكره على الدوام بشوق ، فملامحه النقية لا تنم إلا عن الطهر والإخلاص والبساطة. وما كنت أتوقع مقابلة رجل مثله في الشرق كما أنني أخشى أن لا يجد المرء الكثير من أمثال هذا الرجل في بيئات أرقى. إن المرء ليلمس الحزن والرقة في خلقه ، وذلك مما يجعله رجلا لطيفا جذابا ، فهو الإحساس بعينه. إنه لم يتغلب حتى الآن على ما داهمه من الأحزان لوفاة ولده ، وإنني أدوّن رأيي مطمئنا لما أقول في أن ليس هناك رجل في الشرق يحب أولاده وزوجته كحبه لهم. دخل عل حزمه مساء أمس للمرة الأولى بعد المصاب ، فناداه طفل من أبناء أخيه بكلمة بابا. لقد كان الاسم وصوت الطفولة الذي ردد به الاسم أكثر مما يحتمله ، فصرخ وسقط على الأرض مغميا عليه. هذا مع العلم أن الدين الإسلامي يمنع الأحزان وأن الإفراط

٣٠٤

في الشعور إزاء المرأة ، أو الولد من الأمور الشائع نكرانها أو الازدراء بها بين أتباع الإسلام ، الأمر الذي يعزز جمود الشعور وصلابة النفوس. لقد أصبح الباشا من أقوى الناس تمسكا بدينه في الشرق ، إلا أن تمسكه هذا لم يعطه التعصب والركود في الإحساس. إن طبيعته المثلى ارتقت فوق المعتقدات الإسلامية المنحطة (١). وربما كان بإمكان رجل أسوء منه خلقا أن يكون أكثر ملاءمة لحكم كردستان. وإن محمود باشا لم يكن بالزعيم الذي تحتاجه تلك البلاد لأن فضائله جديرة برجل يعيش عيشة خاصة ، إذ إنه كان لين العريكة جدّا كثير الثقة بغيره ولا يقدّر نفسه إلا بأقل مما تستحق ؛ ومع كونه شجاعا في ميدان القتال فقد كانت تعوزه جرأة المدني اللازمة. لقد جعله الدين والتفكير قليل الاكتراث بالأخطار كما أفقده الحزم والعزم أيضا. لقد كان بميسور أي رجل أن يقوده ، فكان يركن إلى أي فرد يتقدم لمعاونته حتى في الأمور التي تخالف رأيه الراجح ومع أنه كان بشخصه مثالا للصدق والشرف ، فقد كان يجهل أساليب أرباب الدهاء الذين كانوا يموهون أسوأ خططهم الجهنمية بالصبغة التي ترضيه. وعلى الرغم من وقوعه مرارا على خدعهم كان يظل على ثقته بهم ، ذلك لأنه كان ببساطة الطفل الصغير ووداعته. فلقد استطاع داود باش مؤخرا أن يفسد أخيه عليه وحاول تحطيمه. لكنه وجد الآن من مصلحته أن يكتسبه إلى جانبه وأظهر له كثيرا من التودد والاحترام ، وقد تناسى محمود باشا كل ما حدث في الماضي.

جاءني سليمان بك ليلا ليودعني. لقد كان شابا طيبا أكثر حيوية وعزما من أخيه ، فلم يتكلم عن كردستان بعبارة اليائس وقد قصصت عليه قصة حرب السبع سنوات فأصغى إلى حديثي باهتمام زائد.

__________________

(١) عفا الله عن ريج ، يظهر لنا أنه أراد أن يمدح شخصا ارتقى خلقا بوسيلة ، فذم الوسيلة ذاتها ، ولا ندري كيف يوفق بين هذا وذاك ـ المترجم.

٣٠٥

بدأ هذا الجزء من سياحتي بوصولي إلى السليمانية ، وسينتهي برحيلي عنها. وسأسافر غدا إلى الموصل بطريق (آلتون كوبري) و (أربيل).

وإنني أبارح كردستان بأسف لا حد له ، فما كنت أتوقع مطلقا أن أجد فيها أطيب الناس الذين لاقيتهم في الشرق كله. فقد عقدت الصداقة فيها ، وعوملت بإخلاص متناه أينما حللت ، وبلطف وبضيافة لا حد لهما ؛ وأخشى أنني سوف لا أنتظر مثل هذه المعاملة خلال سياحتي المضنية ، ولسوف تبقى هذه الذكريات عالقة في قرارة نفسي ما حييت.

٣٠٦

* * * * *

هكذا أنهى المستر ريج الجزء

الأول من كتابه هذا بهذا الفصل. وقد

أراد المترجم أن لا ينهي هذا الجزء إلا

بإضافة الفصل الثاني عشر إليه وهو

الفصل الأول من الجزء الثاني من

الكتاب. وبهذا الفصل يصل (ريج) إلى

الموصل ، تاركا السليمانية ومارّا

ب (آلتون كوبري) و (أربيل) وغيرهما من

المدن والقرى عابرا الزابين. ويعتقد

المترجم أن صفحة الرحلة الثانية تبدأ

بيوميات (ريج) عما شاهده في الموصل

ونواحيها وما كتبه عنها وعن سفره منها

بطريق النهر راكبا الرمث ـ الكلك ـ حتى

بغداد وإتمامه رحلته من بعدها.

* * * * *

٣٠٧
٣٠٨

الفصل الثاني عشر

الرحيل من السليمانية ـ وصف البلاد ـ قرية ده ركه زين ـ عمر آغا ـ

نجله ـ مضيق (ده ربه ند) ـ مغادرة كردستان ـ أخبار من السليمانية ـ

خيبة عمر آغا ـ سهل جميل ـ قرى ـ طنف اصطناعي ـ نهر كابروس

(الباء فارسية) أو الزاب الصغير ـ آلتون كوبري ـ مخيم فارس آغا ـ

خسته ـ مشاهدة أربيل للمرة الأولى ـ وصف المدينة ـ سهل أربيل ـ

كوكه مه لا (الكافان فارسيتان) ـ جبل مقلوب ـ قرية (كلك) اليزيدية ـ

نهر الزاب أو (لي كوس) ـ مظهر البلاد ـ نهر الخاور أو

(بومادوس Bumadus) ـ الحاج جرجيس آغا ـ مدينة كرمليس ـ

خرائب نينوى ـ الوصول إلى الموصل

* * *

٢١ تشرين الأول :

ودعنا الكثير من الإخوان بأسف لا مزيد عليه ، وامتطينا جيادنا في السادسة والنصف تقريبا من صباح اليوم فرحلنا من بستان صديقنا الباشا الكريم الحكيم ، وسرنا فوق أرض متموجة من سهل السليمانية مارّين بقرية آق بولاق ـ آبلاغ ـ الكبيرة وهي عن يسارنا. فالسهل جميعه في هذه

٣٠٩

الأماكن مرتفع أكثر إلى الجانب الغربي منه ، وهو يستمر بالانخفاض إلى أكثر من نصف الطريق إلى التلال المقابلة. وبعد ميل ونصف الميل تقريبا من السليمانية وصلنا إلى (تانجرو) أو نهر (سه رجنار) وهو الذي عبرناه في طريقنا من بغداد وقد أصبح الآن ساقية صغيرة ، وإن كان عرض مجراه لا يقل عن المائة ياردة وكانت قرية (ألياسه) ـ قلياسان ـ على ضفته اليمنى. وبعد مرورنا من قرية (باوين مرده) ـ باوه مرده ، أي الأب الميت ـ في التاسعة وخمس وعشرين دقيقة جئنا إلى قرية (كيله سبي) أو (ته به ره ش) وهي تقرب قليلا من أسفل الرابية التي نصبنا خيامنا عليها في طريقنا إلى السليمانية من بغداد. نزلنا هنا لقضاء اليوم بالرغم من رداءة القرية ، وكان القرويون جميعهم مشغولين بجمع محصول الأقطان ، وقد زاد حالهم في بهجة المنظر. والأرض في هذه البقعة يرويها جدول صغير يسيل جنوبا مع انحراف إلى الشرق ، فيصبّ في نهر (تانجرو) وكان جبل (غودرون) ـ بيره مه كروون ـ ونحن في هذا المكان ماثلا أمامنا كجدار صخري يمتد نحو الشمال الغربي والجنوب الشرقي. وكانت السلسلة الغربية من التلال مرئية لنا وهي أمامنا على بعد ميل ونصف الميل ، يحدها بوجه عام ، أفق أو خط صخري ، يزداد ارتفاعا كلما امتدت التلال إلى الجنوب. وكانت الصخور مرئية أيضا في جوانب التلال بأوصال متشققة ، وكأن التلال هذه كانت تلالا متفتتة. وإلى مسافة ميلين أو ثلاثة أميال إلى الشمال تتشعب من هذه التلال سلسلة منخفضة تتصل بجبل (غودرون) وكأنها تستر وادي السليمانية من ذلك الاتجاه. ويقع على هذه السلسلة المنخفضة طنف (كه رماوه) وبقاياه (١) وإلى أبعد من ذلك ، فيما وراء (غودرون) ، تشمخ صخور (كوور كوور) العظيمة الجرداء.

__________________

(١) يمر أحد الطرق بين السليمانية وكوى سنجاق ب (كه له وانان) ، ويستمر في منطقة (سورداش) متوازيا مع (غودرون) ، والمسافة ١٤ ساعة. انتهت الحاشية. وتسمى القرية عند هذا الطنف في يومنا هذا ب (كه رمه كاني) ـ المترجم.

٣١٠

درجة الحرارة ٨٥ في الثانية بعد الظهر ، و ٥٩ في العاشرة بعد الظهر.

٢٢ تشرين الأول :

ركبنا في السادسة والثلث من صباح اليوم واضطررنا إلى السير في الاتجاه الشمالي الغربي إلى مسافة لا يستهان بها تخلصا من أرض موحلة. وكان الهواء عند طلوع الشمس قارصا ، وبعد السابعة بقليل وصلنا إلى جبل (طاسلوجه) حيث يتسع خط التلال عندها عرضا وينخفض كثيرا ، ولم تكن قنن تلولها صخرية كما كانت تظهر بفترات على قمم التلال الأخرى من السلسلة ، وهي تزداد ارتفاعا فوق السهل نحو الجنوب الشرقي ، وقد يكون ذلك بسبب انخفاض السهل في ذلك الاتجاه نحو نهر ديالى ، وكذلك الأمر في سهل (بازيان) ذلك السهل الذي انحدرنا إليه بعد ارتقاء متدرج جدّا في نحو الساعة الثامنة. وهذا السهل ينشطر من وسطه بخط تلال أوطأ من تلال (قه ره داغ) التي يظهر أنها تنتهي عند جنوب طريقنا بقليل والمتكونة من الأحجار الرملية وطبقاتها مرتفعة إلى الشرق ومنحرفة انحرافا مائلا إلى الغرب. وقد صادفنا في هذه الأماكن بعض الرجال ومعهم فلو جاؤوا به من كركوك لبيعه في السليمانية. لقد أعجبني الحيوان وبدأت أتساوم عليه فاشتريته بمائة وخمسين قرشا عينا (١). ولم تعقنا هذه المعاملة عن طريقنا ، إذ إن الباعة رجعوا من حيث أتوا وصاروا يتساومون معنا ونحن دائبون على المسير (٢).

__________________

(١) إن قيمة القرش العين في ذلك الزمن تتراوح بين الشلنين والشلنين ونصف الشلن.

(٢) إن الصخرة العمودية التي لاحظت سمتها في السليمانية كما دونته في ملحوظاتي الفلكية باسم (آردالان) كانت على يميننا باتجاه شمالي غربي. وهي قمة فوق التلال التي تؤلف الحدود الغربية من سهل أو وادي السليمانية.

٣١١

وفي العاشرة والدقيقة الخامسة والعشرين انعطفنا إلى الجنوب الغربي نحو قرية (ده ركه زين) ، والتلال التي تشطر السهل تنعطف نفس الانعطاف ثم تنتهي مباشرة بصورة تدريجية. وتقع (ده ركه زين) تحت سلسلة صغيرة من التلال الآتية من (ده ربه ند) وتمتد نحو التلال التي تشطر السهل ، وهي تنتهي قبل الاتصال بها تاركة فجوة في القسم الغربي من سهل (بازيان). وصلنا إلى القرية قبل الحادية عشرة بعشر دقائق ونصبنا الخيام في أرض مخيمنا السابق.

كان سكان القرى التي مررنا بها بأجمعهم في حقولهم يجمعون محصول الأقطان ، وكان منظرهم مبهجا فرحا ، بل منظرا فريدا ، إذ إن الطرق في الشرق كله تكون عادة هادئة خالية ، إلا في مثل هذا الموسم. وسكان قرية (ده ركه زين) من أصل تركماني ، وهم لا يزالون متمسكين بلغتهم ، ومظاهرهم تميزهم تمييزا كافيا عن القرويين الكرد. ويسرني أن أذكر بأن عمر آغا ، صديقنا العظيم ، لا يزال مهماندارنا. إنني راجعت الحكومة في السليمانية لتعيد إليه بعض القرى التي انتزعت منه بطريقة مزرية. وقد وعدوني بذلك إرضاء لي ، فبقي عمر آغا في السليمانية لاستلام القرى ، غير أنه أرفق أغلب رجاله معي. إن ما يقارب المائتين من الرجال يعدون من محسوبيه ، ويعتمدون عليه في عيشهم. وفي كردستان تصبح عائلة كهذه العائلة عشيرة آجلا أو عاجلا. وقد تعلق بي اثنان من أتباعه وهما «فقي قادر» و «آوره همان» ـ عبد الرحمن تعلقا شديدا ، فكانا يتبعانني أينما ذهبت ويقتفيان كل حركاتي. فإذا وقفت وقفا بجانبي ، وإذا نظرت إلى شيء أصغيا إلي وتفرّسا في وجهي أولا ثم وجها نظرهما إلى الاتجاه الذي أنظر إليه ، وقد كانا أتبع لي من الظل.

وصل الليلة «آولا» ـ عبد الله ـ نجل عمر آغا الأصغر ، وهو طفل في السابعة من عمره ، إلى مخيمنا من السليمانية ، ومعه صبي آخر لا يتجاوزه في العمر كثيرا. إنه استأذن والده بمرافقتنا ، وعلى إثر إجابة والده له

٣١٢

انسل خفية منه وهو يتناول طعام الإفطار ، فرزم أمتعته القليلة وشد السرج على جواده وجد في السير حتى قطع بمرحلة واحدة المسافة التي لم نقطعها نحن إلا بمرحلتين.

درجة الحرارة ٥٦ في السادسة ق. ظ ، و ٨٤ في الثانية ب. ظ ، و ٦٤ في العاشرة ب. ظ.

٢٣ تشرين الأول :

رحلنا صباح اليوم في السادسة والنصف ، وسرنا في واد بين خط صغير من التلال يقع وراء (ده ركه زين) مباشرة وخط آخر يقابله وهو متجه من الشمال الشرقي أيضا من (ده ربه ند) نحو (بازيان). وفي السابعة والثلث اجتزنا (ده ربه ند) وكانت طبقات الجبل منحنية في كل جانب من جانبي الجبل كأنها تحاول تكوين المضيق. وفي خارج المضيق مباشرة ترتفع عن الأرض طبقة من الصخور موازية للجبل كأنها قسم من أنقاضه ؛ وفي خارجها كلها في أسفل الجبل ، وهو امتداد جبل (قه ره داغ) (١) كانت الطبقات منحنية ومتموجة بصورة عجيبة ، وفي رأس المضيق خربة مربعة كالحصن في داخلها بئر اكتشفت في الأيام الأخيرة ، وجدرانها مشيدة بأحجار كبيرة.

ومن مضيق (ده ربه ند) سرنا باتجاه جنوبي غربي ، وقد ارتفع أمامنا

__________________

(١) يمتد (قه ره داغ) حتى (ده ربه ندى بازيان). وبعد أن يمتد قليلا مستقيما كجدار ، يتجه قليلا ويمتد إلى الغرب فيؤلف (جه رمه لا) ثم ينعطف بكثرة إلى الغرب فيؤلف هضبة (خال خالان). ويقل ارتفاع (قه ره داغ) طيلة الهضبات من (سه كيرمه) وهي مرتفعة جدّا تعلو غيرها من الجبال في المنطقة. أما (جه رمه لا) و (خال خالان) فلا يعتد بعلوهما ، ويظهر أن تربتهما ترابية فقد كانت سفوحهما مخددة مشققة ، وبعد مسافة قليلة مباشرة ينتهي ويتلاشى هذا الخط من التلال. و (آقجه له ر) منطقة تقع وراء (جه رمه لا) تمتد حتى نهر (كوى سنجاق) وهي تحتوي على عشر قرى.

٣١٣

خط تلال (كيشه خان) و (قه ره حسن) الصغيرة المخددة وهي تمتد إلى الشمال الغربي ، والجنوب الشرقي. وقد انخفض توّا مستوى الأرض عن يميننا انخفاضا وعرا خربا ، ويبدو أن انخفاضها بلغ عمقا يزيد على المائة قدم ، وكأنها تغيرت تغيرا عجيبا وخطت فيها نتوءات من أحجار رملية خطوطا متوازية بفجوات متساوية ، وكلها منبطحة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، وكانت شأن غيرها من الطبقات التي مررنا بها ، ترتفع نحو الشرق وتنحدر نحو الغرب انحدارا كبيرا جدّا. وكان قعر هذا المنخفض متشققا أيضا ، خددته مجاري المياه. ويشاهد المرء بوضوح في الكثير من هذه الشقوق والأخاديد آثار نترات البوتاس ، ولون التربة على العموم أحمر غامق ضارب إلى السواد. وقد انحدرنا إليها في السابعة والنصف ، وبقينا نسير بين طياتها طيلة مرحلتنا لهذا اليوم.

وبعد مدة قليلة جئنا إلى قرية (شيخ ويسي) الصغيرة في منطقة (شوان) ، وقد وجدنا هنا أنفسنا قد حدنا قليلا عن الطريق فانعطفنا إلى الجنوب بخمس وأربعين درجة إلى الغرب للعودة إلى طريقنا الأصلي.

وشاهدنا الكثير من شجر الدفلة على ضفتي جدول ماء صغير ، ووصلنا إلى طريقنا الأصلي في التاسعة إلا ربعا ، وكان للأرض المحيطة بنا منظر غريب جدّا ، فكأنها تخططت بسطور مائلة متوازية مكونة من طبقات أحجار رملية متشققة ، ونشزت عن وجه الأرض فبرزت فوق الأديم بروزا قليلا.

وفي العاشرة والنصف وصلنا إلى قرية (غزالان) الكبيرة (١) فرأينا فيها بعض اليهود. والظاهر أن سكنة هذه المنطقة هم من الطائفة المسماة ب (جراغ سونديره ن) أي مطفئوا الأضواء ، وبعد رحيلنا من هذه القرية بقليل بدأت الأرض ترتفع أيضا ، وأصبح طريقنا متكسرا جبليّا ووصلنا إلى

__________________

(١) وصحيحها (غزاوان Gazavan) كما جاءت في الخرائط الحديثة ـ المترجم.

٣١٤

مراحنا هذا اليوم في قرية (غوولووم كووه ـ Ghulum Kowa) ) في منطقة (شوان) في الدقيقة العاشرة بعد الزوال ، وقد سرنا مدة خمس ساعات وأربعين دقيقة ، وكانت سفرتنا لهذا اليوم سفرة غير مريحة في طرق متعبة في منطقة وعرة ، وكنا نشاهد تلال كركوك من موقعنا هذا وكأنها نجد منبسط يهبط هبوطا متدرجا متكسرا متخددا إلى بقعة الأرض الواقعة بين تلك التلال وبين (ده ربه ند). درجة الحرارة ـ ٦٢ في السادسة قبل الظهر ، و ٨٤ في الثانية بعد الظهر ، و ٦٤ في العاشرة بعد الظهر.

٢٤ تشرين الأول :

ركبنا جيادنا كالعادة في نحو السادسة إلا ربعا فخرجنا صاعدين من الوادي الضيق الذي تقع فيه قرية (كوولوونكه وه) وقد أمسى أديم الأرض مزيجا من التراب والحصى ، يغطي أضلاع الأحجار الرملية التي شاهدناها في كل منخفض مررنا به يوم الأمس ، أما لون التربة فلم يعد بمثل الحمرة السابقة. وهذه البقعة من الأرض تلية وإنني لأعتقد بأن جميع البقاع الحصباوية الأخرى تلية أيضا تتخللها أودية وعرة عميقة ، تقطعها مجاري المياه التي تبلغ أحيانا عمق ستين قدما ، والأرض في هذه الأماكن لا يظهر من طبقاتها إلا التراب حتى وإن كانت مقاطعها بمثل هذا العمق ، ولا تظهر فيها الأحجار الرملية ، وإن الحصى الذي شاهدته كان إما من الأحجار الرملية أو من المرمر أو الجبسين أو أحجار النورة. اجتزنا واديين عميقين

__________________

(١) هذا ما جاء في النص ، وقد جاءت الكلمة في الخرائط الحديثة (غوولام كاوا ـ Ghulam Kawa) وأقربها إلى اللفظ الكردي (كوولوونكه ره) ـ الكاف الأولى فارسية وقد جاءت في رحلة المنشئ البغدادي ب (كله كوه) ، وذكر المنشئ اسم قرية «كل كبود» ـ الصفحة ٧٥ من رحلته ـ ولم يذكرها ريج في رحلته ، كما أننا لم نتحققها ولم نعثر عليها في الخرائط ، والظاهر أن الاسم لم يكن إلا ترجمة إلى (كوولوونكه ره) ـ المترجم.

٣١٥

ببعض الصعوبات وكان الارتقاء منهما نهودا أكثر من انحدار نزولهما وذلك بعد وصولنا بمسافة قليلة إلى قرية (كوولوونكه وه). إننا لا نزال في منطقة (شوان) ، والإدارة فيها تتبع أصولا لم أتمكن من إدراك كنهه ؛ فالمنطقة تابعة إلى (كركوك) ولكن القرويين تابعون إلى كردستان. وهذه المنطقة تراجع في شؤونها السليمانية تارة و (كوى سنجاق) تارة أخرى. ومن (كوولوونكه وه) ينعطف طريقنا نحو مرتفعات هذه المنطقة التلية المتشققة الأركان ، وهذه هي الحقيقة ، لم تكن إلا امتدادا إلى منطقة (قه ره حسن) وهي في حالتها الآن جرداء قاحلة تماما ، إلا من بعض الشجيرات في الوديان ، لا يرى المرء فيها خضرة حيثما وجه نظره. لقد تذكرنا كثيرا وهاد كردستان البهيجة تلك الوهاد الجميلة حتى في موسم ذبولها في الخريف. ولا يزال (غودرون) شامخ الرأس من بعيد.

ومجاري المياه التي شاهدناها اليوم وفي الأمس ، كانت تجري عن يسارنا. وفي السادسة والنصف تشعب طريقنا إلى الجنوب قليلا من طريقنا إلى كركوك. وبعد الثامنة بقليل اضطررنا إلى الوقوف لمدة قليلة ، لإعادة نعال سقط من حافر جوادي. وكانت كل من (خال خالان) و (كوى سنجاق) في تمام الاتجاه الشمالي منا. واستأنفنا المسير في الثامنة والنصف ، وكانت الأرض الآن أقل تشققا ، أو أن تشققها أقل عمقا من سابقتها ، وفي العاشرة إلا عشر دقائق وصلنا إلى قرية (قفار) وهي منتهى مرحلتنا اليوم. وكان أغلب القرويين في خيامهم بجوار القرية ؛ والأرض والقرويون هنا تابعون إلى كركوك. لقد سرنا اليوم مدة ثلاث ساعات وخمس وثلاثين دقيقة.

التحق بنا عمر آغا في الليلة الماضية وقد أخبرنا بأن عثمان بك رضي أخيرا بالذهاب إلى كوى سنجاق. وعمر آغا المسكين لم ينجح في طلبه لاستعادة قراه ، وقد جاء بجميع رجاله وأفراد عائلته إلا النساء منهم ؛ إنني سأبذل كل ما في وسعي من أجله.

٣١٦

درجة الحرارة ـ ٥٠ درجة في السادسة ب. ظ. و ٨٨ درجة في الثانية ب. ظ.

٢٥ تشرين الأول :

سرنا في السادسة من هذا الصباح. وكان اتجاهنا شماليّا غربيّا بثلاثين درجة ونزلنا إلى واد يسيل فيه جدول يروي الكثير من القرى ، ويدير الكثير من الطواحين التي تعلوها الحصون الصغيرة ، وتحيط بها عدد من الأشجار ؛ ومظهرها من بعيد أشبه بكنائس القرى. ويأخذ الوادي بعد ذلك بالانحدار متسعا نحو السهل ، والمعتقد أنه سهل (كوك ده ره) والجدول يصب في (كوبري صو). لقد مررنا بقرى كثيرة ؛ ومن بين القرى الكبيرة التي شاهدناها قرية اسمها (عمر بك). لقد وصلنا الآن سهلا واسعا جميلا ، وإن كان أديمه لا يزال حصباويّا فإنه غني بالمزارع ، وأراضيه صالحة لزراعة الحبوب. والقرى الكبيرة متبعثرة ، في جميع الاتجاهات فيه. وإحدى هذه القرى كانت في أول مدخل السهل ، وفي جوارها طنف اصطناعي صغير ، وإنني لم أتمكن من معرفة اسمها. وكانت تلال (قيزبير ـ Kizbeer) (١) أمامنا وهي تمتد عن يسارنا والسهل يصل حتى سفحها ، أما عن يميننا فكانت تمتد الأرض المتكسرة التلية التي غادرناها الآن.

وفي السابعة اجتزنا قرية (كوك ته به) (٢) وطنفا كبيرا جدّا عن

__________________

(١) لم يتحقق المترجم هذه التسمية. وقد جاءت في النص تارة (قيزبير) وتارة (كي بير) واستنادا إلى وصف الكاتب يظهر أنه يقصد بها تلال (آوانه داغ) وهي السلسلة الممتدة بموازاة طريق (آلتون كوبري) ـ (الكوير) إلى شرق (قه ره جوق داغ) مباشرة.

ويسميها الأهلون اليوم (زووركه زه را) وهذا وصف أكثر من أن يكون اسما.

(٢) علم المترجم أنه لم يبق لهذه القرية من أثر الآن سوى تل صغير يطلق عليه (كوك ته به). والظاهر من وصف الكاتب أن هذه القرية كانت بالقرب من قرية (كوكجه) القائمة الآن.

٣١٧

يسارنا ، وكان في تمام الاتجاه الغربي وعلى بعد يقل عن الميل من الطريق ، وكان الطنف أشبه بهرم ناقص ينشأ من جانبه الشمالي الغربي طنف أوطأ منه ، ومنظرهما أشبه بالآثار «البابلية». وبعد نصف ساعة تقريبا اجتزنا طنفا أصغر قريبا من طريقنا ووصلنا في منتصف النهار إلى (آلتون كوبري). كان اليوم شديد الحرارة ومرحلتنا أطول مما كنت أتوقع ، وقد قضينا فيها ست ساعات ونصف ساعة.

انحدرنا نحو النهر (١) من فوق أرض تعلوها الحصى الكبيرة. إن صخور النهر وقاعه كلها حصوية جلمودية. وليس بإمكانك مشاهدة المدينة إلا عند انحدارك إليها. وشاهدنا على الضفة الجنوبية من النهر معسكرا لقطعة كبيرة من مدفعية الصحراء والمدفعية الثقيلة ؛ وقد وصلت الآن من استانبول أغراض باشا بغداد وخدمه. وكانت هذه القطعة مؤلفة من أربعة رعائل ؛ وسرية من المدفعية الثقيلة وخمسة عشر مدفعا صحراويّا ، وحمولة خمسمائة بعير من الذخيرة. مررنا من فوق الجسر المرتفع المسنم الذي رمم أخيرا ثم اجتزنا المدينة ومنها عبرنا جسرا آخر وخيمنا فوق أرض بطحاء بالقرب من الأحياء اليمنى أي الشمالية الغربية من المدينة.

يبعد دجلة عن آلتون كوبري مسيرة ثماني عشرة ساعة ، ويمكن قطع المسافة على رمث (كلك) خلال نهار واحد عندما يفيض النهر ، أما في هذا الموسم من السنة فيستغرق الوصول إلى دجلة مدة ثلاثة أيام. لقد عبرت المدفعية المار ذكرها أعلاه النهر خوضا وكان عمق المياه على طوار سد ينحدر في وسط النهر يتراوح بين الثلاثة والأربعة أقدام (٢) وتبعد (كوى سنجاق) الواقعة على خمس وثلاثين درجة من الشمال الشرقي

__________________

(١) إن (آلتون صو) أو (كابروس) القديم ، سماه أبو الفداء بالزاب الصغير.

(٢) وقد خاضت هذه القوة الزاب الكبير أيضا.

٣١٨

مسافة اثنتي عشرة ساعة بمسيرة جواد سريع ، وبمسافة ثماني عشرة ساعة بمسيرة القافلة. ويوجد طريقان إليها ، فالواحد على الضفة اليمنى من النهر الذي يفترق من (كوى سنجاق) بعد ست ساعات منها والطريق بكامله متكسر ، تلي ، غير أنه لا يعترضه جبل يقتضي اجتيازه. وعلى الضفة اليمنى من النهر على بعد قليل من أسفل الجسر شاهدنا بعض المرافىء ومخازن الحبوب وغيرها. وفي هذا المكان تفرّغ الأرماث الواردة من (كوى سنجاق) أحمالها ، كما تشد وتحمل الذاهبة منها إلى بغداد. والنهر قابل لملاحة الأرماث بين (كوى سنجاق) ودجلة. وعرض النهر في أعالي المدينة يبلغ الميل الواحد تقريبا ، وهو يجري بفرعين يتصلان في أسفل المدينة بعد أن يستديرا حولها ويجعلاها كالجزيرة والفرعان لا يستهان بهما. وغالبا ما تجرف مياه النهر البيوت الكثيرة في الربيع وحينذاك تحيط المياه بالمدينة تماما وقد توحد الفرعان. ويسيل النهر في جانب الجسر الكبير عند جرف صخري «متحجر» على ارتفاع واحد مع الجسر تقريبا ، ثم يرتد الجرف المرتفع إلى مسافة ربع الميل وبعد ذلك يبدأ بالعلو تدريجيّا. وفي الجانب الشمالي سهل رملي صخري منخفض تحده تلال متكسرة على مسافة ميل واحد تقريبا. والظاهر أن هذه الفسحة كانت معرضة إلى طغيان مياه النهر في زمن من الأزمنة حتى حدودها التلية. وتلال (كي بير) بقممها المسطحة وسفوحها المتكسرة تحيط بنا من اليسار ، ويقال إنها تنتهي في منطقة (شه مامك) الكردية ، وإلى ما وراء هذه التلال في الاتجاه الذي يمر النهر من بينها نرى (قه ره جوق).

درجة الحرارة ـ في السادسة ق. ظ ٥٩ درجة ، و ٩٠ درجة ب. ظ و ٦٢ درجة ب. ظ.

٣١٩

٢٦ تشرين الأول :

سرنا في السادسة صباحا باتجاه غربي في منطقة تركناها بين النهر وبين التلال المتكسرة ، أو الأرض المرتفعة التي تبدأ في أعلى المدينة فتمتد مبتعدة من الأرض التلية التي رحلنا عنها ، والتي تأتي ثانية في تلال (كي بير). وفي السادسة والثلث تشعب الطريق إلى (شه مامك) فابتعد إلى اليسار ، وبعد مدة قليلة وصلنا إلى منتهى المنطقة. وهنا عبرنا تلالا رملية منعزلة ، وقد بدأ من بعدها مستوى الأرض يرتفع ارتفاعا محسوسا ، وأخذت الأرض عن يسارنا تتخدد وترتفع نحو تلال (كي بير) ، وعلى يميننا على مسافة كبيرة امتداد للأرض التلية المتكسرة التي رحلنا عنها ، وتسمى هنا باسم (هه له جه وبستانه) وهي ناحية من نواحي (كوى سنجاق) (١) ، وشاهدنا إلى وراء هذه امتداد جبل (ازمر) وعلى بعد شاسع من ورائه ترتفع جبال أخرى عالية.

مررنا بقرية (مخزومة) عن يسارنا ونهر صغير يصب في (آلتون صو) (٢) ويظهر أن الطريق الذي نسير عليه كان فيما مضى معلما بتلال صغيرة اصطناعية متباعدة عن بعضها بمسافة ساعة أو ساعة ونصف الساعة ، وقد شاهدنا بعضا منها. والأرض وإن كانت حصوية قليلا ، إلا أنها كانت سهلا جيدا يمتد إلى (كي بير) وإلى (هه له جه وبستانه). وكنا نشاهد عدة قرى في كلا الجانبين عن اليمين وعن اليسار والزروع كثيرة والقرويون يحرثون الأرض.

وفي العاشرة وصلنا إلى مضرب فارس آغا رئيس عشيرة (دزه يي) في قرية (قوش ته به) وقد سميت باسم أحد التلال الصغيرة التي ذكرناها.

__________________

(١) والآن تتبعان ناحية (قوش ته به) التي أصبحت ناحية مركز أربيل ـ المترجم.

(٢) أعتقد أنه من الغلط أن نسمي النهر بآلتون ، والكلمة لم تكن إلا علما للجسر لأن تشييده كلف مالا كثيرا ، وآلتون تعني الذهب ، أو المال.

٣٢٠