موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

فريق من شمر مضى إلى أنحاء بغداد ، وآخر مضى إلى شهرزور وتحارب مع الكرد فانهزم ، وفريق آخر مال إلى الشرقاط فهاجم إسماعيل باشا على حين غرة ، وباغتهم على غفلة .. فنكّل بهم ، وأما الفريق الآخر المتوجه نحو بغداد فقد وجد الجيوش متأهبة لحربه ، وأن النقاط المهمة قد استولى الجيش عليها وأخذ مواقعه فيها فلم يجد ملجأ إلا الآبار في الجزيرة ، وكانوا يعلمونها .. وكانت قد يبست .. فمات غالب هؤلاء عطشا ..

أما الشيخ عبد الكريم فإنه فر بمن بقي معه وهم نحو ألفي خيال فعبر الفرات وسار إلى جبل شمر ، موطن أجدادهم الأصلي .. وحينئذ كتب مدحت باشا إلى ابن رشيد أن لا يؤويه ، وهدده بكتاب منه أرسله إليه .. وكذا وجد الطريق قد سدت في وجهه سواء في الحلة أو في الفرات ، ووجد الجيوش أمامه متأهبة لقتاله فلم يستطع أن يلجأ إلى محل ما من هذه .. فاضطر أن يسكن نجدا ، ويتغيب بين عشائرها ..

ولما مر من المنتفق ألقى القبض عليه ناصر باشا مجروحا وسلمه إلى بغداد ، ومن ثم شوهد أن ناصر باشا قام بخدمات عظيمة في هذا الباب ، وأدى ما يجب وزيادة ..

أجريت محاكمة الشيخ عبد الكريم علنا في بغداد لدى مجلس التمييز ، فحكم بإعدامه ، ولما كان من أصحاب الرتب أرسل الأعلام والمضبطة وقدما إلى الباب العالي ، وبعد قليل أرسل الشيخ عبد الكريم إلى استنبول وفي الطريق أثناء وصوله إلى الموصل جاء الأمر بإعدامه فصلب في الموصل.

وفي الحروب قتل إخوته ممن على شاكلته ، وكان الشيخ فرحان أخوه لم يقم بما يشوش الأمن ، ويقلق الراحة ، فاختير لرئاسة العشيرة فصار شيخ مشايخها وكان قد ذهب إلى استنبول ، ودرس هناك ..

٣٠١

فعهدت إليه أمور العشائر والتفت حوله رجال عشيرته ، وأمر أن يسكن عشائره ، وأن يقوموا بزراعة الكرود ، ويأخذ هو من حاصلاتها العشرية (٢٠) ألف قرش معاشا مخصصا له. وفي السنة الأولى شكل نحو (١٧٠) كردا ، ومن ثم تجمعت له العشائر التي تشتت فصار يدير شؤونها كرئيس عام ، ولم يبق لها مجال للقيام بحركات غزو ونهب كالسابق ، فاندفعت غائلتهم .. ثم إن الحكومة استكثرت هذا المعاش فنزلته ، وبعد ذلك قطعته ، فعاد القوم لما كانوا ألفوه (١) ..

حاكم المحمرة :

كان يقوم في هذه الأيام بما يعكر صفو الأمن (٢) .. وهو الشيخ جابر أمير قبائل كعب. ومر بنا ذكره.

عشيرة بني ويس :

مشغولة في أنحاء خانقين بالسرقات .. ولا تزال إلى آخر العهد العثماني. ونعتها المنشي البغدادي في رحلته بهذا النعت (٣).

مزبان شيخ بني لام :

كان يولد الشغب ليكون بنجوة من تسليم الميري (٤) .. وتكلمت على عشائر بني لام في المجلد الثالث من عشائر العراق.

متصرف المنتفق :

ناصر باشا نال رتبة روم ايلي بگلربگي (أمير أمراء الروم ايلي).

__________________

(١) تبصره عبرت ص ١١٠ ـ ١١٣.

(٢) الزوراء عدد ١٦٥ في ١١ جمادى الأولى سنة ١٢٨٨ ه‍.

(٣) رحلة المنشي البغدادي ص ٣٩ وعشائر العراق ج ٤.

(٤) الزوراء عدد ١٩٠ في ١٠ شعبان سنة ١٢٨٨ ه‍.

٣٠٢

وقائع :

للهماوند ، والسنجاوية وقائعهم لا تزال تذكر وهي نهب وسلب.

مدحت باشا في البصرة ونجد :

ذهب الوالي إلى البصرة ، وصل إليها في ٢١ شعبان سنة ١٢٨٨ ه‍ ، ومنها توجه إلى نجد ، وفي ابتداء شهر رمضان وصل إلى القطيف ، ومنها سار إلى الأحساء (١) ، ثم عاد ووصل إلى البصرة ، ومنها رجع إلى بغداد (٢).

ومن ثم صار لواء (نجد) أحد ألوية العراق وتكونت فيه إدارة مدنية متألفة من متصرف وقائد هو نافذ باشا ، وقائممقام قطر وهو جاسم الثاني ، بقيت قطر كما كانت بيده ، وقائممقام المبرز وقائممقام القطيف (٣) ..

وفي الزوراء تفاصيل وقائع نجد المتوالية ، وذكر المواقع التي سار فيها الجيش ، ونرى إيضاحا عن العشائر الموالية والمعادية (٤) .. فصلنا ذلك في كتاب (نجد والعراق).

ولم يوافق الأمير عبد الله أن يكون متصرفا وإنما أراد أن يكون أمره بيده. ولذا فإن مدحت باشا لما ورد الأحساء وجده قد ذهب إلى الرياض على حين غرة فكتب إليه كتابا دعاه للحضور فلم يوافق. ونظر في القضايا والمشاكل التي حدثت بين الأهلين والحكومة فحلها بوجه

__________________

(١) الزوراء في ١٠ شعبان سنة ١٢٨٨ ه‍.

(٢) الزوراء بتاريخ ١٩ رمضان سنة ١٢٨٨ ه‍.

(٣) الزوراء بتاريخ ١٤ شوال سنة ١٢٨٨ ه‍.

(٤) الزوراء عدد : ٢٠١ ، و ٢٠٥ و ٢٠٧ ، و ٢٠٩.

٣٠٣

لائق. أقام الوزير نحو ٤٠ يوما ورجع. وفي طريقه مر بالبحرين وشاهد أحوالها بنفسه وعاد إلى البصرة بعد أن أتم مهمته. وكان ذلك قبل أن يفتح قنال السويس بنحو خمس سنوات.

ثم إن السلطان عبد العزيز قدم لمدحت باشا سيفا مرصعا لما أبداه من خدمات في قضية نجد .. ومدحه الشاعر المعروف السيد عبد الغفار الأخرس بقصيدة وردت في ديوانه مطلعها :

سعدت نجدا إذا وافيت نجدا

بقدوم منك إقبالا وسعدا

إلى آخر ما قال. وفيها يهنئه بالسيف المرصع الذي أنعم به عليه السلطان عبد العزيز (١). وكذا مدحه الأستاذ الشاعر محمد أمين العمري قال :

أيا والي الزوراء الذي لجلاله

جميع ولاة الأرض تدنو وتخضع

لك المنشآت الغرّ في البحر إنها

تروح بنصر الله طورا وترجع

أضفت إلى الزوراء نجدا بأسرها

ولا شك أن الفرع للأصل يتبع

ومن ظلم أهل البغي أنقذت أهلها

فأضحت بجنات العدالة ترتع

عليها جعلت الجند سورا مشيدا

وحصنا حصينا للمفاسد يمنع

فأنعم ظل الله سيفا مجوهرا

عليك به أنف الشقاوة تجدع

__________________

(١) الطراز الأنفس في شعر الأخرس ص ١٢٥.

٣٠٤

فأكرم وصل وانفع وضرّ فإنما

(يرجّى الفتى كيما يضر وينفع)

وإني لأرجو أن تكون ضميمة

عليها بلاد حازها قبل تبع

لقد جاء تاريخ لفكري مجوهر

كسيفك بالترصيع زاه مصنع

وقد جذّ رأي البغي إذ قيل أرخوا

أتاك من الخاقان سيف مرصّع (١)

١٢٨٨

ومدحه من لم أتمكن من معرفة اسمه. قال :

بشائر الفتح فتح نجد

قد أسفرت مثل ضوء صبح

إذ جهز الجيش جيش نصر

من اسمه شائع بمدح

أمره نافذ جليل

حربا ونفوذ رمح

والي العراق الذي تولّى

بعزمه مع جميل صفح

طاعت وحوش الأعراب طرا

لبأسه بعد حسن نصح

بظل سلطاننا المعلّى

سامي الفتوحات ربّ منح

من العزيز الفتاح وافى

أرخت هذا عزيز فتح

١٢٨٨ ه

__________________

(١) مجموعة محمد أمين العمري.

٣٠٥

محمد أمين العمري :

شاعر معروف ، وأديب كامل ، له شعر جيد منه في (حديقة الورود) ، وترجمته في المسك الأذفر وفيه سلسلة نسبه وهو ابن يوسف العمري. أورد جملة من شعره. وتوفي في شوال سنة ١٢٨٨ ه‍ ، ودفن في الشيخ عمر السهروردي في الجهة اليسرى للداخل في حجرة هناك. وكانت ولادته سنة ١٢٢٣ ه‍ على ما ذكره ابنه ولم يقطع بذلك وإنما قال أتذكر أنني سمعت منه ذلك مرة. وابنه هادي باشا نال رتبة الفريق الأول الركن تقاعد سنة ١٣٣٢ ه‍ ، واختار الإقامة باستنبول سنة ١٣٣٥ ه‍.

هذا ما قاله الأستاذ المرحوم الحاج علي الآلوسي في تعليقه على هامش شرح قصيدة مدح الباز الأشهب لعبد الباقي العمري والشرح للسيد أبي الثناء الآلوسي .. وقد علمت من ابنه الأستاذ السيد سعاد العمري أنه توفي في ٢٧ نيسان سنة ١٩٣٢ م (ذي الحجة سنة ١٣٥٠ ه‍). وفي مجموعة خطية عندي للأستاذ المترجم (محمد أمين) أنه :

«عانى الكتابة ، فمهر في الإنشاء ، وأقر له كتاب العرب والروم ، وسخرت له المعاني المتعاصية على الأذهان. ومع هذا أبدع في النظم ، وأكثر من مدح السيد محمود الآلوسي سواء في تقلده الإفتاء أو الحصول على رتبة. وللمترجم آثار كثيرة من النظم والنثر دونت في كتاب حديقة الورود ، ونشوة الشمول ونزهة الدنيا.

وكان قد طلب حسن زيور أفندي (١) العمري (والد صاحب الفخامة الأستاذ أرشد العمري) في كتاب له مؤرخ ١٥ كانون الثاني سنة ١٣٢١ رومية يسأل ابنه عبد الهادي باشا عن ترجمة والده فأجابه بعين ما ترجمه

__________________

(١) كان رئيس بلدية الموصل.

٣٠٦

به الأستاذ الحاج علي علاء الدين الآلوسي.

وخير ترجمة له أنه ربّى ابنه هادي باشا. ومجموعته فيها نظم في مدح الوالي علي رضا باشا ، والسيد محمود الآلوسي ، وغالبه فيه ، وله بعض الغزل وقصيدة في مدحت باشا.

وفي هذه المجموعة جاء أن كاتب الديوان في بغداد عثمان سيفي كان قد ترجم قصيدة عبد الباقي العمري إلى التركية ، فقرظها الأستاذ محمد أمين العمري بقصيدة. وهي مذكورة في ديوان عبد الباقي العمري.

ورأيت له قصيدة في مدح محمد سعيد باشا والي الموصل آل ياسين أفندي المفتي ، وفي المجموعة رسائل أخرى. والمترجم كان كهية بغداد أو بالتعبير الأصح (باب العرب).

وهادي باشا كان في اليمن ، وله بعض المذكرات عنها ، وهناك حصل على تصاوير عن اليمن من أحد الألمان ولكنها لم توجد بين متروكاته ، وله حوادث في البلقان أيام قيادته كما أنه نال الوزارة في الدولة العثمانية ، درس العلوم العسكرية باللغة الألمانية فهو مطلع على اللغة الألمانية اطلاعا وافيا ، كما أنه عارف بالفرنسية.

علمت ذلك من ابنه الأستاذ الصديق السيد سعاد العمري (١).

حوادث سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م

عزل الوالي مدحت باشا :

انقضت السنة الماضية بجليل الأعمال ، ولم يهدأ الوالي مدحت

__________________

(١) والتفصيل عن حياة هادي باشا في كتاب (شخصيات عراقية) للأستاذ الفاضل خيري أمين العمري ص ٥٩.

٣٠٧

باشا. كان لا يعرف للراحة طعما ، فهو في شغل دائب وفكر مستمر ولم تمض من هذه السنة إلا مدة شهرين حتى عزل في أوائل ربيع الأول سنة ١٢٨٩ ه‍ (١) ـ ١٨٧٢ م في ٢٣ مايس. وفي ٢٧ منه خرج من بغداد وذهب من طريق النهر والبحر إلى استنبول.

وجاء في جريدة (الروضة) البغدادية أن مدحت باشا بقي في ولايته ثلاث سنين وواحدا وعشرين يوما (٢).

وفي برقية من الوالي اللاحق رؤوف باشا أنه في ١٠ مايس الرومي وصل إلى بغداد وباشر عمله وفي برقية أخرى جاء أنه نظر في الدور والتسليم ، فلم يجد خللا في الحساب بل انتظاما. وأنه أي الوالي السابق سوف يذهب غدا من طريق النهر إلى أزميت ومنها إلى استنبول. أرسل البرقية في ١٣ مايس سنة ١٢٨٨ أي أنه ذهب من طريق البحر إلى استنبول في ١٤ مايس سنة ١٢٨٨ رومية.

لم يجد خللا في أعماله ولا ما يوجب مسؤولية في عمل. وأن ماليته متقنة. وأن رؤوف باشا أثنى عليه أو لم يجد ما يدعو إلى التقول في أعماله بل هي متقنة سالمة.

وجاء في تبصره عبرت أنه خرج من بغداد في مايس سنة ١٢٨٨ وبهذا طويت صفحة أعماله من بغداد ، كان يذكر فيشكر ، نال مكانة مهمة فيها ولا تزال أخباره تدور على الألسن ..

مكانة الوزير وأثره

بعض الولاة لا يعرف تاريخ وروده ، ولا وقت ذهابه ، ضاعت عنا

__________________

(١) صوك صدر أعظملر ج ٢ ص ٣٢٤.

(٢) روضة عدد ١٠ وفي ٨ شعبان سنة ١٣٢٧ ه‍. وهذه المجلة للأستاذ المرحوم عبد الحسين الأزري.

٣٠٨

أسماء الكثيرين منهم ، ومنهم من لا نعرف أكثر من اسمه ، فلم يعرف له عمل .. وما ذلك إلا لأنهم لم يقوموا بمهمة. والبعض شغل مكانا معروفا ، وأحدث دويا حيثما حل .. فكان عظيما خلّد ذكرا مقبولا وسمعة طيبة ، وموقعا لائقا.

وهذا شأن وزير بغداد مدحت باشا ، ولكنه لم يخل في وقت من طاعن به ، أو مشنع عليه ، متذمر منه. فإذا أضيف إلى ذلك جهل الناس في التقدير ، علمنا درجة التأثير المتعاكس.

جاء هذا الوزير بغداد فوجدها صالحة لكل عمل. تستحق العناية من كل وجه ، فصرف جهوده في إرضاء حكومته ، وأن لا يقسو في الأهلين ويراعي التوجيه الصحيح .. فقام بالمهمة خير قيام .. ولكن رجال ذلك العهد وبينهم من لم يخرج من استنبول ولا يدري بما هنالك تأثر بالتضليل وحسب أن هذا الرجل لو بقي ، لفتح بابا كبيرا لا يسد ، وفي ثلاث سنوات زاول مطالب عديدة ، وأنه في هذه سوف يكلف الدولة تكاليف كبيرة ، أو على الأقل في مشاريعه سوف يمنع الحكومة من الاستفادة المالية ، فتكون واردات العراق للمشاريع التي عزم أن يقوم بها .. وكأن إدارة الدولة أشبه بمستغل وقف يحاول صاحبه أن يقبض إجارته في أقرب ساعة ، ولا يهمه تدهوره وهلاكه ، ولا يصبر على تعميره لينال فائدة أكبر .. ومن ثم رأى رجال الدولة بأن أعمال هذا الرجل سوف تحول دون الاستفادة والدولة دائما في حاجة بل في نهم إلى المال ، لا تريد أن تصرف فلسا ، وإنما كان همها أن تأخذ المبالغ ، فتسد جشعها ، أو تستخدمها لما حدث أو يحدث من غوائل ، وكلها غوائل ، ولم تخل في وقت من زعازع ..

ومن ثم توالت عليه الاعتراضات ، وأن أنداد مدحت باشا اتخذوا الوسائل لإقناع هؤلاء الرجال في أن أعماله سيئة .. ولكنها لم تكن لتؤثر

٣٠٩

هذه الأقوال على مركزه لو لا وفاة الصدر الأعظم عالي باشا ، ثم ولي الصدر الأعظم محمود نديم باشا فتغيرت الحالة ، وصار يعتقد بصحة ما قيل في مدحت باشا ، ومن ثم صار يطلب منه مطالب لم تكن في محلها ، وصار يضيّق في طلب المبالغ .. أما مدحت باشا فإنه لما رأى هذه الحالة قدم دفاتر في الوارد والمصروف لمدة وزارته عن كل سنة وأرسلها إلى الباب العالي ..

وعلى كل حال اضطر الوزير للاستقالة لأن ذلك الوضع لا يتيسر به إدارة المملكة ..

ومن ثم قبلت استقالته ، وصار مكانه رؤوف باشا ، فتوجه لمحل وظيفته على العجلة بمنصب وال ومشير للفيلق السادس .. أما مدحت باشا فإنه خرج من بغداد بالوجه المذكور.

ولا يزال العراقيون يذكرونه بالخير ويمدحونه ، ولم تمض مدة حتى صار صدرا أعظم في جمادى الآخرة سنة ١٢٨٩ ه‍.

وصفوة القول أن مدحت باشا على قلة حكمه تمكن من إيجاد نظام وانتظام في القطر العراقي. جاء ولاة كثيرون لم يكن لهم شأن فقام بأعمال تدل على قدرة عظيمة ، ومهارة وانتباه ، وكانت إدارة البلدة شغله الشاغل ، وأنها ملكت سمعه وبصره ..

وجل ما نعلمه أنه ولد في صفر سنة ١٢٣٨ ه‍ ـ ١٨٢٢ م وتوفي في ١٨ رجب سنة ١٣٠١ ه‍ ـ ١٨٨٤ م وحياته الرسمية كلها زعازع ومصاعب ، فلم يهدأ على حالة ، قاومه أهل الشر ونال منهم معارضة قوية ، فشوشوا عليه أمره وأذاعوا مفتريات كثيرة عنه. وأيامه في بغداد مقبولة محمودة. لم يظهر من الولاة إلى إعلان الدستور من يوازيه في قدرته وحنكته وحسن إدارته.

ترجمه ابنه (علي حيدر). وسع مذكراته ومدوناته بالاستناد إلى

٣١٠

الوثائق الرسمية والمسموعات من أناس لا يرتاب في صدقهم. تجلّت قدرته وذاع صيته في حياته وعرف عنه الشيء الكثير. وفي كتاب خاص ذكرت (حياته في العراق) وما قام به من أعمال جعلته في مجلد واحد ولعل الأيام تسمح بطبعه. وأخباره مستقاة من جريدة الزوراء وعليها عولت في تدوين هذا التاريخ كما رجعت إلى غيرها.

ومن الوثائق في ترجمته :

١ ـ تبصره عبرت. مذاكراته بالتركية.

٢ ـ مرآت حيرت. في مذكراته أيضا.

نشر هما ولده علي حيدر. وفيهما أعماله في بغداد. نقلتا إلى اللغة العربية باسم (مذكرات مدحت باشا). وقد نشرت هذه بعد إعلان الدستور.

٣ ـ تركيانك ماضيسي واستقبالي. أي ماضي تركية ومستقبلها. أصله مقال باللغة الإنكليزية نقله إلى التركية (ا. ر) ونشره إبراهيم حلمي تجار زاده طبع في مطبعة آرتين اصادوريان باستنبول سنة ١٣٢٥ كما طبع في مطبعة السعادة سنة ١٣٢٤ رومية بعنوان (برسياسي داهينك نطقي). كان مدحت باشا في حرب الروس سنة ١٢٩٣ في لندن فكتب هذا المقال. وهو مهم جدا في تلخيص حالة الدولة ووضعها تجاه الغربيين. نظر نظرة عارف بصير بسياسية العصر وعلاقة الدولة العثمانية بها.

بيّن أن الشرق مطمح الأنظار ، وأن العصر يتمخض عن حوادث خارقة. كان يتوقع أن تتولد أخطار منها على أمم كثيرة وتكلم على حالة العثمانيين في الماضي والحاضر ، وأوضاع الشعوب ، والسياسة المذهبية والاجتماعية فكانت نظرته حكيمة ، والتفاته قويما. ولعل فيه ما يعين نهجه السياسي ، فجاءت مذكراته شارحة أو أمثلة تطبيقية. كتب ذلك في مايس سنة ١٨٧٨ م ـ جمادى الأولى سنة ١٢٩٤ ه‍.

٣١١

وفي مقاله هذا يقول :

إن من ينتظر كل تشوش في الشرق من دول أوروبا ليتدخل ، ويهدف أن تحل القضية حسب رغبته فهو واهم. فإن الدولة العثمانية متكونة من عناصر متباينة تفسر الحوادث طبق آمالها وأمانيها المتضادة كما أن تلقي الحوادث من هذه المنابع مبتورة قد يؤدي إلى التشويه ، وفي هذا تضليل للرأي الأوروبي العام.

وهذا قطعي في حالات اجتماعية وسياسية ودينية مثل هذه قد تؤدي إلى الصيد في الماء العكر ، أو توليد اضطراب فكان البحث من أوروبا في هذه الحوادث يستدعي التوثق من صحة الأخبار مجردة عن الأهواء وإلا كان البناء على ذلك يؤدي إلى أن يكون الحل مدخولا وغير موثوق به بل يسوق إلى تهيج في المنافع. فهل أن روسيا استغلت هذا؟ وهل الغرض منه الانتصار للنصرانية؟ وما هي آمالها؟

كل هذا يدعو إلى الرجعة التاريخية والالتفات إليها. ومنها نعلم آمالها. وتعينه حروبها ، وما أدت إليه من نتائج ...! فإن التشنيع في سبيل هذه المصالح ببيان أن النصرانية مهانة. كل هذه وسائل لتبرير العمل لا غير.

وأوضح أن الإسلام دين الحرية والمساواة والعدل ، وأن الدولة العثمانية لم تخرج عن هذه الخطة. ولا ينكر أن الدولة أصابها الوهن في القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلا أنها أعلنت التنظيمات الخيرية وأنها سائرة في طريق الإصلاح إلا أن روسيا حانقة. تريد الانتقام. ولم تخل من تشويش أو حرب بين حين وآخر.

ولم تكن آمالها مصروفة لحماية النصارى بل إلى وحدة العنصر السلافي ليكون خطرا على العالم. وما توقعت كان فلم ترد من تشنيعها إلا هذا. والآمال سياسية لا علاقة لها بدين. وأن الدولة العثمانية ماضية

٣١٢

في طريق الأخذ بالديمقراطية سائرة في طريقها .. إلى آخر ما قال.

٤ ـ وصية مدحت باشا. وهذه نشرها رشدي. وطبعت في مطبعة القدر باستنبول سنة ١٣٢٥ وفيها بيان ما لقيه مدحت باشا من الدولة من مطاردة. ولزوجته كتب رسائل سابقة لهذه الوصية. وفيها حكى آلامه.

وكل هذه لا علاقة لها مباشرة بحوادث العراق ولكنها تعين عظمة الرجل. ولعل أعماله في العراق خير ترجمة له في توضيح مكانته في الإدارة إلا أنها تحتاج إلى توسع وتبسط لا مجال له هنا.

٥ ـ الزوراء. صحيفة يومية في بغداد دونت أعماله. وهذه تبصر بوضعه. وعلاقتها ببغداد ومدحت باشا أكيدة. فهي صفحة خالدة في حياته.

هذا ، وأما المسموع المتداول فهو كثير. وإنما أوضحنا ما علمنا من مسموع ومنقول في (تاريخ مدحت باشا في العراق).

١

الأوضاع العامة

الدولة العثمانية

١ ـ الحكم المباشر :

إن الدولة حاولت محاولات عديدة للقضاء على إدارة المماليك فلم تنجح إلا سنة ١٢٤٧ ه‍ ـ ١٨٣١ م على يد علي رضا باشا اللاز. ومن ثم صارت تحكم العراق حكما مباشرا. وكان الأهلون يأملون أن تكون الوطأة أخف فجرى عليهم التضييق فوق ما يتحملون فحصلت المشادة. ودامت بحيث صاروا يترحمون على إدارة المماليك ولكن لم يدم ذلك ، فخففت الدولة من شدتها وغيرت سياستها ، وأرادت أن يكون

٣١٣

العراق تابعا لها في تشكيلاته وسائر أحواله ، فكانت المصيبة أعظم ، ومن هنا تولدت المشادة أكثر. ودام الأمر إلى أواخر هذا العهد.

٢ ـ السلاطين في هذا العهد :

١ ـ السلطان محمود بن عبد الحميد الأول :

ولي السلطنة في ٤ جمادى الأولى سنة ١٢٢٣ ه‍ ـ سنة ١٨٠٨ م وتوفي في ١٩ ربيع الآخر سنة ١٢٥٥ ه‍ ـ ١٨٣٩ م.

٢ ـ السلطان عبد المجيد ابن السلطان محمود :

توفي في ١٧ ذي القعدة سنة ١٢٧٧ ه‍ ـ ١٨٦١ م.

٣ ـ السلطان عبد العزيز (أخو سابقه) :

خلع في ٧ جمادى الأولى سنة ١٢٩٣ ه‍ ـ ١٨٧٦ م وتوفي بعد أشهر من تلك السنة.

٢

التشكيلات الإدارية

تتوضح أحوال الإدارة من حوادث أيام كل وزير أو وال ولم تعرف التشكيلات الإدارية بوجه عام وبصورة ثابتة إلا في وقت متأخر. وأول ما جرى سنة ١٢٦٥ ه‍ ـ ١٨٤٨ م وتشكل مجلس كبير في الولاية. وأن (نظام إدارة الألوية) قد أحدث في ٧ جمادى الأولى سنة ١٢٨١ ه‍ ـ ١٨٦٤ م وتلاه (أيام مدحت باشا) نظام مؤرخ ٢٩ شوال سنة ١٢٨٧ ه‍ ـ ١٨٧٠ م. وكانت المتصرفيات يقال لها (قائممقامية) وتحولت في النظام الأخير إلى متصرفيات. وباقي التشكيلات على حالها إلا أن للمتصرفين أحدثت معاونيات بدل (كهيات).

ويهمنا الكلام في عناصر الإدارة المهمة مما لها علاقة بالأهلين أكثر.

٣١٤

١ ـ الوزراء أو الولاة : (في بغداد)

الوزراء في بغداد ذكرنا أوصاف كل واحد منهم وما قيل فيه. وهؤلاء يترتب عليهم أمر المملكة وبسببهم تمدح الدولة أو تذم. وعندنا ليس لهم مقاييس ثابتة ، ولا سياسة مستقرة أو مطردة من جراء أن سياسة الدولة متحولة ولم نجد منهم من كان يتصرف بقدرته وإرادته إلا ما قلّ. رأينا أوضاعهم مضطربة ومن الصعب جدا أن نراها تابعة لنفسياتهم ومقدار ثقافتهم ودرجة اهتمامهم بالمصالح والمشاكل العامة ، بل لا نشاهد إلا اليسير. فهم (مسيرون لا مخيرون). يشتركون في اتباع عاصمة الدولة أو مراعاة سياستها كما شاءت ، وتوعز إليهم بما طلبت. وكل من أحدث خلاف المراد عجلوا بعزله ونسبوا الحادث إليه. وباقي الأعمال تكون مقبولة أو مدخولة.

ويهمنا أمر تصرفات الوزراء في متابعة الدولة والحركة طبق منهاجها. وهذه لم تنجح في غالب أحوالها. وعند ما تشعر الدولة بالخطر تعدل عن التطبيق وتعزل الوالي تبعا لما كان حدث من أوضاع غير ملائمة. وتنسب إليه الخرق في أمر آخر والمقصود عدم نجاح الخطة. وكل ما تعلمه أن الدولة لم تتمكن من تنفيذ أغراضها إلا قليلا كبعض الإمارات التي تيسر لها القضاء عليها ، واستعصى عليها أمر المنتفق ، أو التجنيد وأن نجاحها في القضاء على إمارة العمادية ، وعلى إمارة الرواندزي ، وعلى الجليليين مما أطمعها في (المنتفق) ، وحبط كل ترتيب عملته ، أو أمر قامت به. ومثله أمر (التجنيد) ... وهكذا حوادث (الالتزام).

مرّ بنا من الوقائع ما يبصر بالأحوال أكثر. أرسلت الدولة أكابر رجالها للقيام بالمهمة فنجحت في بعض لما مهّدت في القضاء على (بابان) من معاهدة أرضروم (أرزن الروم) سنة ١٢٦٣ ه‍. وهكذا كانت ترتيباتها لا يستهان بها لا سيما في المنتفق وفي التجنيد فكان الخذلان

٣١٥

حليفها ، وحبطت مساعيها. وإذا كان أجدى بعضها فالفشل كان ذريعا جدا. وكلفها الأمر فلقيت عناء كبيرا ولم تساير الأمور بل وقفت في التيار فلحقها العناء وصارت تتراجع في الأكثر فتخسر الصفقة لما ترى من معاكسات. وخير رجالها مدحت باشا وهو آخر العهد وخاتمته. وكان مطلع عهد جديد.

ومما شغل بالها حوادث اليزيدية. وهؤلاء استعصت إمارتهم كما استعصت تلك الإمارات العربية. والإمارات أو المجموعات الكبيرة كانت الشغل الشاغل. والجهود المبذولة كلفتها أكثر مما استفادت لأمد قصير. وهنا لا نريد أن نعيد الحوادث المارة. وهذه النظرة تكفي للمعرفة العامة فأقف عندها. وليقس ما لم يقل.

وهذه قائمة بأسماء الولاة في بغداد :

١ ـ علي رضا باشا اللاز : (٨ ربيع الأول سنة ١٢٤٧ ه‍) شعبان سنة ١٢٥٨ ه‍).

٢ ـ محمد نجيب باشا : شعبان سنة ١٢٥٨ ه‍. رجب سنة ١٢٦٥ ه‍.

٣ ـ عبد الكريم نادر باشا (عبدي باشا) : رجب سنة ١٢٦٥ ه‍ : صفر سنة ١٢٦٧ ه‍.

٤ ـ محمد وجيه باشا (وجيهي باشا) : صفر سنة ١٢٦٧ ه‍ : صفر سنة ١٢٦٨ ه‍.

٥ ـ محمد نامق باشا الكبير : صفر سنة ١٢٦٨ ه‍ : ٢٩ شوال سنة ١٢٦٩ ه‍.

٦ ـ رشيد باشا الگوزلگلي : ٥ ربيع الأول سنة ١٢٦٩ ه‍ : فتوفي ٢٢ ذي الحجة سنة ١٢٧٣ ه‍.

٧ ـ عمر باشا السردار الأكرم : ٤ رجب سنة ١٢٧٤ ه‍ : ٢٧ صفر سنة ١٢٧٦ ه‍.

٣١٦

٨ ـ مصطفى نوري باشا : ١٣ شوال سنة ١٢٧٦ ه‍ : ٢٢ شعبان سنة ١٢٧٧ ه‍.

٩ ـ أحمد توفيق باشا : ٢٢ شعبان سنة ١٢٧٧ ه‍ : ٢٥ ربيع الأول سنة ١٢٧٨ ه‍.

١٠ ـ محمد نامق باشا للمرة الثانية : ٢ شعبان سنة ١٢٧٨ ه‍ : ١٣ ربيع الأول سنة ١٢٨٤ ه‍.

١١ ـ تقي الدين باشا : ١٧ ربيع الأول سنة ١٢٨٤ ه‍ : ٢٠ المحرم سنة ١٢٨٦ ه‍.

١٢ ـ مدحت باشا : ١٨ المحرم سنة ١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م : أوائل ربيع الأول سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م.

٢ ـ معاون الوالي :

هذا المنصب محدث. وكان يقوم بالمهمة (الكهية) أو (الكتخدا) وهو بمثابة معاون الوالي. والتشكيلات الجديدة أطلقت عليه لفظ (معاون). وفي أعمال المعاون ما يصحح الوالي غلطه ، كما أن الدولة تعمر ما خربه الولاة أو أحدثوه فولد نفرة الأهلين.

٣ ـ المالية :

هذه قوام الحكومة ووسيلة حياتها. ويقوم بأمرها دفتري تابع للوالي فإذا ضاقت كما في عهدنا لجأ الوزراء إلى المصادرات والأضرار بالناس واتخاذ الطرق الرديئة لابتزاز الأموال. وأكثر ما أضر بالحكومة الحرب للاستيلاء على بغداد ، والوباء اللاحق ، والغرق المدمر ...

وفي خارج بغداد كانت الصلة مقطوعة ، وأن العشائر اعتزت بمناعتها عن أداء الرسوم الأميرية. وليس للحكومة قدرة على القيام

٣١٧

بمهمة جبابة الأموال. لحد أن الوزير قد يعوزه راتبه فيضطر إلى المصادرات والتضييقات على الأهلين. وفي أيام مدحت باشا فوضت الأراضي الأميرية.

ومن الضرائب في هذا العهد :

(١) الالتزامات. وهذه في أيام السلطان عبد المجيد قبل إعلان التنظيمات الخيرية منعت الزيادة في الالتزامات منعا باتا سنة ١٢٥٥ ه‍. ورفعت الإجحاف نوعا.

ثم أبطل الالتزام ، وصارت الحكومة تقوم بإدارة الضرائب الأميرية اعتبارا من إعلان التنظيمات سنة ١٢٥٥ ه‍ ـ ١٨٣٩ م. والموظفون الذين يقومون بجباية الضرائب يقال لهم (المحصلون) ، وكان يقال لمن يتولى إدارة ذلك (المستوفي) ولكنه لم يستعمل في هذه الأيام.

بقي الحال مدة قصيرة ولم يستمر. وإنما عاد الإعطاء للمقاطعات بالالتزام إذ لم يدم العمل بموجب التنظيمات. وصارت بعض السنين تجبى الضرائب بطريق (الأمانة) أي تتولى الحكومة أمر الجباية. وإن الموظفين الصغار يقال لهم (جباة).

ويغلب إعطاء المقاطعات بالالتزام وترك أمر إعطاء المدن بالالتزام ولم ينقطع الأمر حتى أعلن الدستور في العهد التالي.

(٢) البيتية. ويقال لها (الخانة). وهي ضريبة تؤخذ على بيوت العشائر ولكنها في الغالب تؤخذ من البيوت في أطراف بغداد ولا تستطيع أن تأخذها من الآخرين إلا قليلا في بعض الألوية التي لا تستطيع النهوض. ولا يعطى إلا القليل. والاستفادة في الغالب للرؤساء.

وفي المثل العامي (يقتل ويؤدي الخانة) أي يضرب ضربا مبرحا ثم يؤدي البيتية وهذه تحسب على الكل ثم توزع على الأغنياء والمتوسطي

٣١٨

الحالة ولا يؤخذ من الفقير وكان مقدارها (١٥) قرشا. وهي من الضرائب المحدثة أيام العثمانيين. والعشائر البعيدة لا تسلط للحكومة عليها. ثم بلغت ثلاثمائة قرش. وكان السادة لا يؤخذ منهم فصار يأخذها علي رضا باشا وزادت في أيامه. والشيخ يشارك الموظفين. وهذه الضريبة تسمى (القلمية) ثم صارت معتادا (٥٠) قرشا. ومرة شاميا واحدا. وهكذا تحولت ..

والظاهر أنها من وضع المماليك باسم (قلمية). وتخص الاحشامات وقرا أولوس وقراغول ثم صارت بعد إلغاء (كتخدا البوابين) يطلق عليها اسم الأقلام الثلاثة وسميت (أقلام العشائر). ورد ذكر ذلك في (التاريخ المجهول) وفي (سياحتنامه حدود).

(٣) الكودة. وهذه ضريبة على الأغنام والمواشي. ولا تستطيع الحكومة أخذها إلا من العشائر الضعيفة. ولم نجد أصل هذه التسمية فيما لدينا من المصادر لدى الترك أو الإيرانيين. وإنما تسميتها ـ كما يظهر ـ عربية. والملحوظ أنها من كاده يكوده تؤخذ قسرا من العشائر فعرفت بـ (الكودة). ومنهم من يقول إن اللفظة تركية بمعنى (السوام) وهي ما يرعى من المواشي و (گودجي) بمعنى راع ... ولكن الترك لم يسموا هذه الضريبة بـ (كودة) ولعلها مغولية أو تركمانية وبقيت من تلك العهود ولكننا لم نجد لها أثرا.

وهذه ضريبة معروفة من قديم الزمان تؤخذ على الغنم والإبل والبقر إلا أنها من جراء تكاثر الرسوم عليها وعلى البيعية وعلى الذبحية بالغوا في الاستيفاء والقسوة في أخذها.

(٤) النقود. دام الضرب للنقود في بغداد إلى سنة ١٢٦٢ ه‍ وبمقادير محدودة وكانت هذه السنة آخر الضرب. جاء في تاريخ لطفي أنه ضربت نقود نحاسية بسعر پارة واحدة ، وبسعر خمس پارات. وكان

٣١٩

أحمد آغا الجيبه جي (أمين دار الضرب). ويقال له (سكه أميني). وكان محل الضرب في السوق المسمى بـ (السكه خانه) أي دار الضرب تجاه (خان الأورتمه) من جانب السوق. وقبل ذلك في أول دخول العثمانيين العراق في (القلعة) ، ودامت دار الضرب هناك إلى ما بعد السلطان مراد الرابع.

وبعد سنة ١٢٦٢ ه‍ لم تضرب النقود في بغداد. لأن الدولة العثمانية اتخذت دار ضرب جديدة مجهزة بأحدث الآلات جلبتها من إنكلترا فلم تبق حاجة إلى ضرب نقود في بغداد ولكن الحاجة إليها لم تنقطع وحوادثها مرّت أيام مدحت باشا.

حاول هذا الوزير أن يجعل نقود الدولة هي السائدة ، وأن يقضي على التلاعب الاقتصادي في أسعارها ، وأن تحدد مشكلة النقود الإيرانية بتحديد سعرها فلم يفلح. وفي (كتاب النقود العراقية) أوضحت أوضاع هذه النقود والنقود الأجنبية.

٤ ـ الجيش :

إن الجيش العراقي لا تزال أوضاعه تابعة إلى سابق العهد ، والنظامي منه لم يتكامل بل رأى معارضات شديدة وحوادثه تعين الحالة. ولا تزال الحكومة في حاجة إلى العشائر ، وإلى الچچان وإلى الهايته و (الباشبوزوق) .. للاستعانة بهم.

والتجنيد في هذا العهد اكتسب شدة ونال اهتماما كبيرا من الدولة إلا أن بدءه كان في أيام نامق باشا وأيام مدحت باشا. ففي أيامهما لم يؤخذ من العشائر ولا من الأهلين إلا بطريق القرعة وبتساهل عظيم حذرا من عود الغوائل ...

ولعل السبب أن العراق لم يذعن للترك ولا يرغب في تقوية

٣٢٠