موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

لبغداد والحجاز ، وفي صفر سنة ١٢٦٩ ه‍ أضيفت إليه ولاية بغداد ، وفي ذي القعدة سنة ١٢٦٩ ه‍ صار مشير المدفعية باستنبول ، وهكذا نال مناصب عديدة .. وفي ربيع أول سنة ١٢٧٨ ه‍ انفصل من منصب (سر عسكر) فعاد ثانية إلى ولاية بغداد ومشيرا للعراق والحجاز ، وفي ذي القعدة سنة ١٢٨٤ ه‍ عاد سر عسكرا ، ثم صار ياور أكرم (المرافق الأكرم) ، ودعي بـ (شيخ الوزراء) ، وتوفي في ٢٢ صفر سنة ١٣١٠ ه‍ ، وكان يتقن العربية والفرنسية والإنكليزية وهو شجاع ، صادق ، ومستقيم ، إلا أنه ممسك في بيته ، ويعد من العقلاء الكمل (١).

ولاية

تقي الدين باشا

دخل بغداد يوم الأربعاء ١٧ ربيع الأول سنة ١٢٨٤ ه‍ ، وكانت ولايته قصيرة الأمد ، ومن الصعب جدا أن يتمكن المرء من إدراك حالة القطر في سنة أو سنتين ، بل لم يتجاوز السنة الواحدة. ومن الغرابة أن نرى في كل وال الأهداف التي يرمي إليها بارزة ، نشاهد صفحات جديدة ، وسياسة مخالفة لما كان عليه سابقه وهذه ذات اتصال بتجدّد للمحيط يستدعي التحول في السياسة والإدارة فهل ذلك عن حكمة أو كان ناجما عن نفسية الولاة؟!! لا أعتقد أن هذا الوالي ولا غيره من الولاة يتحرك بما يوجبه الوضع وإنما يجري على نهج اختطته دولته ليمضي بموجبه ... وهذا يظهر منه بعد حين. وقد اعتاد الأهلون أن يدركوا خطته بسهولة. وهي ما أمر به ليسير بمقتضاه.

والغربيون يذكرون له حادثا يعدونه من الغرابة بمكان وهو أنه حدث بينه وبين موسيو (پليسه) قنصل فرنسا شيء مؤداه أنه كان قدم

__________________

(١) سجل عثماني ج ٤ ص ٥٤٠.

١٨١

بغداد (قاض) ، فخرج المسلمون لاستقباله ، وكانوا يحملون له عواطف احترام كبيرة.

ثم حدث أن احتفلت الولاية بعيد الجلوس السلطاني في دائرة المشيرية ، وحضر من جملة من حضر من المهنئين ذلك القنصل الفرنسي بزيارة رسمية ، ولما دخل القنصل نهض الجميع من الموظفين ووقف ضباط الجيش لاستقباله كما تقتضي التقاليد الديبلوماسية عدا القاضي ، فإنه لم ينهض ، فلما لاحظ القنصل ذلك عده قلّة احترام له من القاضي ، فأخذ يحدث المشير بالفرنسية معاتبا إيّاه على ذلك ، وبلغ من حدّة القنصل وغضبه أن طلب ترجمة ما قاله باللغة التركية لكي يفهم الحضار.

أما المشير فكان بدلا من أن يترجم أخذ يفهم القنصل أن عدم قيام القاضي لم يكن لقلة اهتمام به ، وإنما كان القاضي يرى أن تقاليده الدينية لا تسمح له بذلك ، ولكن الحادثة لم تنته عند هذا الحد فكان بين الحاضرين من يفهم الفرنسية ، ولم يلبث أمر هذه المشادة أن انتشر بين المسلمين ، وثار ثائرهم ، فعدوا ذلك إهانة من الأجنبي بحق رئيسهم الديني فعولوا على القيام بمظاهرة عدائية ضد الأجانب ، ومهاجمة القنصلية الإفرنسية ، وقتل القنصل .. ومن حسن الحظ أن المشير علم بالخبر قبل أن يحدث ما يعكر الصفو ، فأحاط القنصلية بقوة من الجيش للحيلولة دون مهاجمتها ، ودعا الوزير جماعة من أعيان البلد. فطلب منهم تهدئة الخواطر العامة خوفا من حدوث ما لا تحمد عواقبه ...

وهكذا انتهت الحادثة. فلما علم الباب العالي بالأمر عزل القاضي تسكينا للفتنة (١) ..

وهذا لا يأتلف والعقلية الفاضلة بعد معرفة السبب وأنه ديني.

__________________

(١) كتاب نجيب شيحة.

١٨٢

المنتفق :

هذا الوالي تعاطى أمرا شغل بال الحكومة مدة ، وهو أمر المنتفق ، وأن عمل الوالي كان يجري تبعا لسياسة المركز ، وخططه في إنهاء هذه المعضلة بتدابير منوعة. حبط بعضها ، ولا يزال البعض الآخر تحت التجربة. ولذا نرى الوزراء يراعون تارة اللين ، وطورا الشدة ..!

قوى الوالي أمر منصور باشا في عهده ، فنلاحظ أن الولاة تناوبوا في تعهد كل وزير منهم واحدا من شيوخ المنتفق .. ليكثر التنافر ، ويقوى الخلاف. ولكن الأستاذ سليمان فائق عدّ إبقاء الحالة السابقة في إقرار المشيخة دون القضاء عليها بلاءا على العشائر وخرقا في الولاة ، والسبب كان من الدولة بإثارة القلاقل وتوليد الضعف فيها من جهة ، وتزييد المقرر في المزايدة مع اقتطاع قسم من الأراضي مما جعل العشائر تفرّ من الظلم وتذهب إلى الحويزة. والرجل لا يريد سوى تمكين سلطة الحكومة فملأ الجرائد والصحف في استنبول بالتنديد بأمور المنتفق وتوجيه الأنظار للقضاء على إمارتهم ببيان قسوتها ولم يفصح عن النواحي الأخرى.

ومن ثم أنحى باللائمة على تقي الدين باشا لأنه أبقى الحالة في (مشيخة المنتفق) كما كانت ، فأقرها ولم ينظر إلى ماهية التوجيه إلى منصور باشا ، ولا إلى الاقتطاع ، ولا إلى زيادة بدل الالتزام ..!

كل ذلك يصح أن يعد من أعظم أعمال الدولة في التمهيد للإلغاء. قام بذلك الوالي أيام حكومته .. فأغفل الأستاذ أمره ، وهو من الأهمية بمكان. ويهمنا كثيرا أن نوضح هذه الأمور لنعلم ما أريد بنا أو يراد بصراحة.

١٨٣

ثلج أو وفر :

في هذه السنة يوم الأحد ٣٠ شوال سنة ١٢٨٤ ه‍ الساعة ٦ غروبية من النهار نزل ثلج وصار على وجه الأرض مقدار شبر (١). ومثل هذا نراه في بعض السنين وبفترات طويلة. وقد سبق أن أو ضحت لفظ (وفر) وأصله.

حوادث سنة ١٢٨٥ ه‍ ـ ١٨٦٨ م

عزل الوالي :

في يوم السبت غرة ذي الحجة سنة ١٢٨٥ ه‍ جاء خبر عزل الوالي برقيا ، وتوجهت مشيرية العراق والحجاز إلى مدحت باشا. وخرج تقي الدين باشا يوم الأحد ٢٠ المحرم سنة ١٢٨٦ ه‍ من بغداد وشيعه الموظفون وغيرهم ، وكذا الوالي الجديد كان من جملة المشيعين (٢) ..

وفي سجل عثماني : إنه نال منصب قائممقام الوالي ببغداد في ١٠ ذي القعدة سنة ١٢٨٤ ه‍ بعد أن كان متصرفا في شهرزور برتبة بگلربگي (أمير الأمراء) ، وفي المحرم من سنة ١٢٨٥ ه‍ حصل على منصب الولاية ببغداد وعهدت إليه نظارة الفيلق مع الهيئة هناك ، وفي ٥ ذي الحجة من هذه السنة انفصل من منصب بغداد (٣) .. ثم أعيد إليه منصب الوزارة ببغداد على ما سيجيء في محله ..

__________________

(١) مجموعة الآلوسي.

(٢) مرآة الزوراء.

(٣) سجل عثماني ج ٢ ص ٥٣.

١٨٤

مفتي بغداد

محمد أمين الكهية :

توفي الحاج محمد أمين الزندي يوم الخميس ١٣ صفر باستنبول. وكان عضو مجلس الشورى للدولة. وله المكانة العلمية والأدبية والتاريخية. وصار مدرسا كما أن والده أحمد الزندي كان مدرسا. ولي الإفتاء ببغداد بعد الأستاذ الآلوسي. ثم صار كهية. ولازمه لقب الكهية فصار يعرف بـ (أمين الكهية). ومنها نال عضوية مجلس الشورى. وذكرته في التاريخ العلمي. وله (خزانة كتب) عظيمة بما احتوت من نفائس المخطوطات ومهماتها النادرة. وقفها ابنه كامل بك وسائر أفراد الأسرة. والآن هي بين كتب خزانة الأوقاف العامة ببغداد كما أن داره صارت جامعا يعرف الآن (بجامع الكهية) ذكرته في (كتاب المعاهد الخيرية).

عهد جديد

أو أبو الأحرار

مدحت باشا

في بغداد

من ١٨ المحرم سنة ١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م

إلى أوائل شهر ربيع الأول سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م

وفيه بيان أيامه في بغداد إلى ٢٣ مايس سنة ١٨٧٢ م

وما قام به من أعمال سياسية وعمرانية

وعلاقات بالأحساء من أنحاء نجد

وحوادث أخرى

١٨٥

مدحت باشا أو عهد جديد

حوادث سنة ١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م

مدحت باشا في بغداد

في ١٨ المحرم قدم مدحت باشا ودخل بغداد بمنصب الوزارة. وكانت سبقت له خدمات في الدولة ونال مناصب كثيرة. وبطلب منه حصل على منصب بغداد بتاريخ ١٥ ذي القعدة سنة ١٢٨٥ ه‍. وأجري له الاحتفال بوروده. وقرىء الفرمان. ونقل إلى العربية وهذا نصه كما ورد في الزوراء :

«الدستور المكرم ، والمشير المفخم ، نظام العالم ، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب ، متمّم مهام الأنام بالرأي الصائب ، ممهّد بنيان الدولة والإقبال ، مشيد أركان السعادة والإجلال ، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى ، ومن أفاخم وكلاء دولتي العلية ، رئيس شورى الدولة السابق الموجه لعهدة استيهاله واقتداره هذه المرة نظارة إدارة أمور الفيلق السادس الهمايوني مع انضمام ولاية بغداد ، والحائز الوسام العثماني من الرتبة الأولى ، وكذا الوسام المجيدي الهمايوني من الرتبة الأولى ، وزيري وسمير درايتي مدحت باشا أدام الله تعالى إجلاله.

ليعلم أنه إذا جاءكم توقيعي الرفيع الهمايوني فليكن معلوما أنه مما لا حاجة للإطناب في وصفه وبيانه هو أن خطة بغداد الجسيمة من أعظم القطع التي تتألف منها ممالك دولتي العلية المحروسة ومن مقتضيات أرضها ووضعها أنها صالحة لكل إعمار وترقّ. وهذا من المسلمات. ولما كانت أعز الآمال والمطالب لسلطنتي الهمايونية أن تحصل على كافة أسباب العمران ، وهذه الآمال لا تتم كما هو المرغوب فيه إلا أن يقع الاختيار على من هو عارف ، قادر على إيصال ذلك بمنه تعالى إلى حيّز العمل ، فيكون في رأس إدارة تلك الخطة ، وأنت لحد الآن قد

١٨٦

١٨٧

قمت بأمور مهمة لسلطنتي السنية ، فشوهدت منك غيرة وفطنة وإقدام ودراية ، وأظهرت خدمات جليلة ، وكل هذه بعثت إلى أنك ستكون عند حسن ظن سلطنتي الشاهانية فتؤدي واجب المهمة بتمامها ، وتظهر المقدرة الكاملة لإيفائها. الأمر الذي دعا أن أصدر إرادتي السنية في اليوم الثاني من ذي القعدة لسنة ١٢٨٥ ه‍ فأعهد بهذا الأمر للياقتك في إدارة الولاية ملكيا وعسكريا. فإذا وصلت إلى مركز منصبك قمت بأمور الولاية العسكرية ، وزاولت مصالح الأهلين والسكان طبق قواعد الشرع والقانون برويّة وعناية وأن تتخذ التدابير والأمور التي من شأنها أن تزيد في العمران ، وتوفر الثروة آنا فآنا بلا هوادة ، وأن يراعى الرفاه والراحة والأمن لجميع الأهلين من سكان وعشائر ، وأن توسع دائرة الزراعة والحرث والتجارة وتتوسل بما يجب من ذلك كله وأن تعرض ما يجب عرضه لدولتي العلية من الأمور التي يلزم الاستيذان بها إلى أعتاب دولتي العلية وتستمر على إكمال حسن وانتظام وإدارة الأمراء والضباط والنفرات الموجودين في الفيلق السادس الهمايوني ، وتمنع التعدي ، وتراعي حسن الألفة بين العربان والعشائر بعضهم مع بعض ، والأهلين السكان داخل الولاية وأن يشتغلوا في أمر زراعتهم وحراثتهم ، ومنع تجاوز الواحد على الآخر منهم في الحقوق ، ودفع التجاسر فيما يخل بالأمن والراحة وإجراء الجزاء الشرعي والقانوني بتمامه بحق من يتجاسر بالحركة خلاف الشرع والنظام ، وأن يراعي الموظفون كافة في المجالس والمحاكم داخل الولاية جادة العفة والاستقامة ، وأن لا يزيغوا في كل حال وقال عن النظامات الموضوعة وأن يحصروا الأوقات والأفكار في ذلك وأن يبادر للاهتمام بجارتنا دولة إيران البهية وأن يلاحظ في تلك الحوالي الرائح والغادي من أفرادها والمقيم منهم ومن يتعاطى التجارة أو يتردد للزيارة وفق قاعدة المصافاة والصداقة المتمناة الجارية بين الدولتين حسب العهود المرعية بين الطرفين وطبق أمري وبذلك أعلن

١٨٨

منصبك ، وصدر أمري الجليل القدر من ديواني الهمايوني إيذانا بذلك وتفهيما فليكن ذلك معلوما لدى رويّتك والمنتظر المأمول من حميّتك أن تقوم بالمهمات المسرودة أعلاه ، وتعمل بالأساسات المعدودة المتعينة ، وأن تبذل جل الهمة في إيفاء وظائف هذا المنصب. تحريرا في الخامس عشر من شهر ذي القعدة سنة ١٢٨٥ ه‍» (١). وفيه صراحة بذكر ما أودع إليه من مهام ، وما طلب منه من خدمات لما وثقت الدولة منه وجربته في مهام أخرى قبل أن يودع هذا المنصب إليه.

وبعد قراءة هذا الفرمان ألقى الوزير خطابا باللغة التركية نقلته جريدة الزوراء إلى العربية. وهذا مجمله :

«قد علم من يعرف التركية حكم هذا الفرمان العالي السلطاني ، ومن لم يعرف وجب عليه أن يعرف من غيره ، وأن جل مقاصد سلطاننا أن ينال الأهلون الرفاه والسعادة في ظل العدل والرأفة سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، ذكورا وإناثا ، أفرادا وجماعات ، وأن ينالوا الحد اللائق من استكمال ذلك والمحافظة عليه ، وأن أول واجب الموظفين أن يخدموا هذه المهمة ويقوموا بها خير قيام.

تعلمون أن الخلقة البشرية متفاوتة ، فلا تتشابه ، وكذلكم الأفكار والطبائع متباينة ، ولذا لا يتيسر إدارتها برأي كل شخص وما يوحيه إليه فكره ، وإنما يتحتم أن يكون له مركز إدارة. ينظر في وسائل الحاجات والثروة والأمن بالنظر للحال والزمان والموقع والمكان وما توجبه تلك الأحوال من حاجات وضرورات ، فتتفرع له قاعدة من هذا المركز مطردة يجري عليها ، ومعلومات مكملة. وبذلك يتيسر الحصول عليها فتقسم بهذا الوجه ، وأن كل ما تشذ عنه الإدارة ، ولا تراعى المركز ، وتمشي

__________________

(١) الزوراء عدد : ١ المؤرخة في ٥ ربيع الأول سنة ١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م.

١٨٩

بمقتضى ما ينبغي أن يماثله .. فلا يتيسر لها الترقي ولا يحصل الانتباه ، وتتأخر تلك الجماعة .. ويصح أن يمثل لذلك بوسائط النقل المائية كانت في حالة بسيطة حتى اخترعت السفن ذوات الشراع ، ثم تقدمت إلى الوسائل البخارية ، وهكذا .. ومثلها وسائط المخابرة .. فمن لم ينل حظا من التقدم في الإدارة ، ولم يسع للحصول على أقصى حد ممكن من الرقي بقي في مكانه ، وحرم من نعمة الرقي والثروة ، وصار يتبع في طرق المعيشة غير ما يلائم زمانه ، ويكون قد رضى بالدون ، وأصر على جموده ، أو قبل أن يرجح ما هو الأدنى على الذي هو خير.

وهنا الأراضي تقبل كل نوع من العمارة ، والأهلون لائقون لكل تعليم ، وفطرتهم معلومة واستعدادهم مشهود ، فيستطيعون أكثر من غيرهم التقدم ، لينالوا حظا من الثروة والحضارة .. ولكن الخراب المستولي ، وعدم النشاط ناجم من تقصير الأهلين ، فلم يسلكوا ما سلكته الأمم ، وإنما ترك كل امرىء وشأنه ، وصارت الأمة لا تأبه بما أخذت به الأمم .. وإلا فحضارة القطر الماضية ، وصناعته القديمة لا تزال آثارها مشهودة (وأطنب الوالي في ذلك كثيرا) ، ثم قال : ولا منجاة من هذه الورطة إلا بالانقياد للمتبوع الأعظم ، ومن قدمه من أصحاب المناصب بأن أطاعوا ، ويسلم إليهم بما أرادوا ، وهو قد حافظ على حقوق الأهلين عموما ، وراعى استراحتهم ، والعدل فيما بينهم ، وأرسل الولاة لهذا الغرض ، فلا يتطلب أكثر من التسليم لهم والانقياد بالطاعة ، ليتمكنوا من السعي والحصول على المبتغى.

جاء ولاة كثيرون. قاموا بالمهمة ، وبذلوا جهودا ، وعملوا على ما تمكنوا عليه ، خصوصا رشيد باشا (الگوزلگلي) ، فإنه بدأ بالعمارة ، ومشى في طريقها الصحيح ، وخلف الكثير من الآثار .. ولكن قرب أجله لم يهيىء له آماله .. ثم إن حضرة نامق باشا سلك هذا الطريق واستمر فيه فحصل على نتائج حسنة ، وهكذا نحن سائرون في هذا الطريق ،

١٩٠

ساعون لسلامة الأهلين وسعادة أحوالهم. ونأمل أن نصل إلى الغاية المطلوبة ، فنرى الآثار النافعة وثمار المساعي في أقرب مدة ، ولا أمل لنا إلا تكثير الغنى والعمارة والتوسل بأسبابهما.

وليعلم أن الغنى هنا لا يراد به جمع النقود ووضعها في الصناديق أو الخزانات وحبسها هناك وإنما النقود المطلوبة هي أن تتداول بين الناس وأن يراعى فيها وجائب العصر وحالاته ، وأن تراعى التجارة والزراعة كما يقتضيه العصر فترتكز على أصل صحيح ، وأن نفع الأمة من هذه الطريق هو فائدة للدولة ، وهي فائدة للأمة. فلا فرق في هذا الاتصال والتلازم .. وهذا من الأمور المسلمة في العالم والمقطوع بها. وكلها مما يؤدي إلى التنظيم والغنى ..

هذا وليعلم كل موظف أنه لم يعمل لنفسه ، وإنما يعمل في حدود وظيفته للقيام بخدمة الأهلين وسلامتهم وسعادتهم ، وليعاون الأهلون الموظفين فهم في حاجة إلى تسهيل هذه المهمة التي يقومون بها ، وليتحملوا المشاق في هذا السبيل فيما لم يدركوا نتائجه ، وهو مما يعود للكل بالخير.

والحاصل أن كل ما يعمل لا يقصد منه إلا راحة الأهلين وسعادتهم وسلامتهم فمن واجبهم الانقياد والطاعة التامة. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضي السلطان من الخدمات ، وأن نؤديها بنجاح ، وأن ينجينا من الخطأ جميعا .. آمين ..

هذا ملخص خطاب الوالي ، وفيه حث على النظام ، وتشويق للزراعة والصناعة والتجارة ، وحث على طاعة الموظفين ، وبيّن فيه واجبات كل من الموظفين والأهلين ، فكأنه يتكلم بلسان اليوم ، ويدعو لخير العمل ، ويضرب الأمثال لمراعاة التقدم والأخذ بأسباب الحضارة .. مبديا أن غرض السلطان مصروف لراحة الأمة وسعادتها ،

١٩١

وسلامة حالتها وإقامة العدل بين أهليها .. فكان آخر قوله أن دعا أن يوفق العموم لما يرضي السلطان ، وأن يكون العمل سالما من شوائب الخطأ والغلط .. وقد أدرج نص (خطابه) باللغة التركية وبالعربية أيضا إلا أن عربيته ضعيفة مفككة لا تؤدي الغرض بل غطت عليه في أسلوبها الرديء (١) .. وكل ما فيه شرح للفرمان.

تركيته أوضح والمعنى أجل. وبه عين الخطة المرسومة. ولا شك أن السياسة المكتومة بقيت طيّ الخفاء. ولعل أعماله تنبىء عنها وبها يميز على الولاة قبله بأنه شغلته مشاكل القطر ومهمّات الدولة وقوانينها الموضوعة. ولم ينس أعمال بعض الولاة بل صرح بها أو أشار إليها في خطابه وأنه كان على علم منها.

ويكون بذلك قد تذرع بالمعرفة التامة بما جرى قبله ولاحظ طرق الحل بل أدرك النواقص وسار على ثقة واطمئنان من المعرفة لحل ما عرض من مشاكل.

مدحت باشا في بغداد :

الرجل العظيم تظهر مواهبه حيثما حل. لا يخفى جوهره وإنما يشع ويسطع ... ومدحت باشا من أعاظم أرباب المواهب. ولد سنة ١٢٣٨ ه‍ ١٨٢٢ م. وهو ابن الحافظ محمد أشرف من القضاة من آل الحاج علي الروسجغي. جاءت حياته في العراق مدونة بقلم ابنه في كتاب (تبصره عبرت) ، وفي كتاب (مرآت حيرت) فيما كتبه مدحت باشا عن نفسه وأعماله في مذكرات (٢). حفظ القرآن الكريم ، ودخل دوائر الدولة. وفي خلال المدة طلب العربية ، وتعلّم الفارسية على مشاهير العلماء. وأتقن

__________________

(١) الزوراء عدد ١.

(٢) نقلت هذه الكتب إلى العربية باسم (مذكرات مدحت باشا) ولم يعين تاريخ طبعها.

١٩٢

الخط الديواني. أكمل تحصيله ، فتقلد مناصب عديدة ، ونال الوزارة ، وعهدت إليه بعض الإيالات. ثم نال منصب شورى الدولة.

وبعد شورى الدولة ولي (منصب بغداد) فخلف تقي الدين باشا. ويهمنا تاريخ حياته في بغداد ومن أراد التوسع في إدراك عظمة الرجل في أعماله كلها فليرجع إلى ما كتبه مدحت باشا نفسه من الكتب (١) وهو ما نشره ابنه علي حيدر بك وما كتب عنه في مؤلفات عديدة. ففي بغداد أبدى قدرة وانتباها. وعرف الإدارات السابقة للولاة الماضين فاستعرضها في خطابه ، وأبدى أنه لا يستطيع القيام بكل ما يراد بل ببعض ما يتيسر له وقد فعل. وعمل المرء في هذه الحياة مما ينفع قليل. وهذا يذكر فاعله.

إن الرجل لم يكن واضع قانون ، وجلّ همّه تنفيذ قوانين الدولة. فكان توجيهه مرضيا. وقد وفق لما تطلبته المصلحة وأمكن عمله. فإذا كان لم يأت بشيء جديد فإنه وجّه ، وعمل ، واستخدم المواهب وأشرك في مهماته ، وحاسب على الإهمال والتراخي ، وتغلّب على الأهواء والتيارات المتعارضة ، فأخذ بناصيتها وعمل بما لم يسبق إليه.

وهذا ما رفع مكانته بين الوزراء ، وعلا به على غيره ، وذاع ذكره. ووقائع القطر ظواهر ذلك في معرفة حياته وكذا في الأقطار الأخرى التي حلّ فيها ، والمهمات التي قام بها ، فحصل الذكر الجميل.

رسوم الاحتساب :

وهذه قديمة. والاحتساب مبناه مراعاة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم تبق إلا رسومه وكان أمل الوزير إلغاءها وإلغاء الباج. وجل ما فعله ما ورد في الزوراء :

__________________

(١) تبصره عبرت ، ومرآت حيرت ، أو مذكرات مدحت باشا باللغة العربية.

١٩٣

«هذه الرسوم لا تؤخذ عن كل لواء. وإنما يجب إبراز وصل مشعر بالأخذ. وهكذا يراعى في ضرائب الكمرك. فإذا صار ما هو تابع لرسم الاحتساب إلى قضاء آخر ولم يؤخذ عنه رسم فحينئذ يستوفى الرسم المطلوب بموجب تعرفة. والملتزمون يجب أن يراعوا ذلك تماما» اه (١).

وما جاء في (تبصره عبرت) من أن الوزير ألغى رسوم الاحتساب فغير صحيح (٢). وإنما جعلها تسير سيرة قانونية. وكذا الأمر في رسوم الكمرك. وإنما ألغيت بتاريخ متأخر. فعمل الوزير أن لا يكرر الأخذ في كل لواء للرسوم.

التشكيلات الإدارية :

أصلها من وضع السلطان سليمان القانوني أجرى أكبر إصلاح فيها. وثبت حالتها التي كانت عليها. ثم لحقها التعديل في أزمان مختلفة. وفي ٧ جمادى الآخرة سنة ١٢٨١ ه‍ وضع نظام في ترتيب الولايات ، فلم يعمل به في العراق. وتغيرت أوضاع ألويته وأقضيته ونواحيه كثيرا. حاول التغيير فعلا بل قام بذلك بموجب هذا النظام. وما يصلح من الألوية أبقاه أو ما كان صالحا ولم يسبق له ذكر أسسه. وهكذا كان عمله في الأقضية والنواحي. ولم تمض مدة حتى صدر النظام المؤرخ في ٢٩ شوال سنة ١٢٨٧ ه‍ في أيام مدحت باشا فلم يحدث تبدل جوهري. وهذا النظام بقي معمولا به ثم عدل الباب الثاني منه بالقانون الوقتي المؤرخ ١٨ ربيع الآخر سنة ١٣٣٠ ه‍. واستمر العمل به إلى أن صدر القانون المؤرخ في ١٧ ربيع الآخر سنة ١٣٣١ ه‍.

__________________

(١) الزوراء عدد ١ والحسبة في الإسلام في المجلد الأول من مجلة (العالم الإسلامي) مقال كتبته.

(٢) تبصره عبرت ص ٦٧.

١٩٤

وهذا لحقته تعديلات ودام العمل به إلى احتلال بغداد (١).

وفي هذه تعينت واجبات الوالي والمتصرف والقائممقام ومدير الناحية ومجالس الإدارة ، والانتخابات وما ماثل من الوظائف والمهمات. وأن قانون إدارة الولايات الجديد عندنا جرى على منوال الأخير من هذه القوانين.

والعراق ثلاث ولايات :

١ ـ البصرة. وألويتها :

(١) نفس البصرة. وأقضيتها :

١. القرنة.

(٢) المنتفق. تكوّن بعد مدحت باشا. وكان سوق الشيوخ يعد لواء. وبعد تكوّن الناصرية صارت مركز اللواء وسوق الشيوخ قضاء.

(٣) العمارة. أحدثت أخيرا. ولم تتكون لها أقضية إلا أنها سارعت في الظهور.

(٤) نجد. تكونت أيام مدحت باشا بعد الاستيلاء عليها. ويسمى لواء الأحساء. وأقضيته :

١. قطيف.

٢. قطر.

٢ ـ الموصل. وألويتها : وهذه لحقها تحول كبير فبينا كانت السليمانية إمارة إذ صارت لواء. وهكذا الألوية كانت تابعة بغداد إذ قامت بنفسها ...

__________________

(١) الدساتير القديمة والجديدة.

١٩٥

(١) نفس لواء الموصل. وأقضيته :

١. نفس الموصل.

٢. العمادية. ثم ألحقت بحكاري من مدينة وان سنة ١٢٦٥ ه‍.

ثم أعيدت بعد أيام مدحت باشا بكثير.

٣. زاخو.

٤. سنجار.

٥. دهوك.

٦. عقرة (العقر).

(وكان من أقضية الموصل الجزيرة فانفصلت).

(٢) كركوك. ويسمى لواء شهرزور. وأقضيته : ثم استقل باسم (لواء كركوك) من تاريخ القضاء على (بابان) فصارت السليمانية لواء ، وكركوك لواء آخر. وأقضيته :

١. رواندز.

٢. إربل.

٣. صلاحية (كفري).

٤. كويسنجق.

٥. رانية.

وفي غالب إدارته كان تابعا بغداد. والتحول فيه كبير جدا.

(٣) لواء السليمانية. وأقضيته :

١. گلعنبر.

١٩٦

٢. بازيان.

٣. شهربازار.

٤. قره طاغ.

٥. مرگه.

٦. قضاء الجاف.

وتحولت هذه الأقضية كثيرا. واللواء حديث العهد في إدارته. وكان تابعا بغداد ، فصار لواء سنة ١٢٦٧ ه‍ بإدارة الدولة.

٣ ـ بغداد. وألويتها :

(١) نفس لواء بغداد. وأقضيته :

١. قضاء خراسان. ويقال (خريسان). وأصله (طريق خراسان) فشاع بما ذكر. ثم صار لواء باسم (لواء ديالى).

٢. قضاء خانقين.

٣. قضاء الكاظمية.

٤. قضاء سامراء.

٥. الدليم. ثم صار الدليم لواء.

٦. قضاء عانة. ثم صار تابعا للواء الدليم.

وفي هذا اللواء حدث تحول كثير.

(٢) لواء الحلة. وأقضيته :

١. الهندية.

٢. السماوة.

١٩٧

٣. الديوانية. وصارت لواء.

٤. النجف.

٥. الشامية.

وهذا اللواء لحقته تحولات. وفي بعض الأحيان اعتبرت الحلة لواء. وكذا الديوانية صارت لواء.

(٣) لواء كربلاء. لم تظهر تشكيلات في هذا اللواء أيام مدحت باشا.

وهذه الألوية جرى عليها بعض التعديل والتحوير فلم تستقر. وكان لواء كركوك يسمى شهرزور لأن المتصرفين يستقرون في كركوك دون السليمانية. وفي أيام تكوّن لواء السليمانية صارت كركوك لواء باسم (لواء كركوك). ومن ثم تغير الوضع أحيانا ، وبالنظر لقانون إدارة الولايات الجديد وربما اقتطعت بعض المواطن من لواء وألحقت بآخر لمصلحة. أو أحدث لواء. وأن مدحت باشا استطلع آراء المتصرفين والقائممقامين في تقرير هذه الألوية والأقضية بنواحيها وقراها. وروعي الزمن والحالة الراهنة. والألوية مرتبطة بولايات قد تكوّن منها العراق. فكانت الوحدة مرعية دائما.

وولاية بغداد خاصة متكونة :

(١) من وال.

(٢) من معاون وال.

(٣) من متصرف المركز.

(٤) من قائممقام المركز.

وأما الألوية الأخرى فإنها متكونة من :

١٩٨

(١) المتصرف.

(٢) معاون المتصرف.

والأقضية من :

(١) القائممقام.

(٢) النائب.

وأبقى سائر التشكيلات على حالها. وأقرب ما يعين ذلك زمن هذا الوالي (سالنامة بغداد) لسنة ١٢٩٢ ه‍ فلم تحدث تبدلات تدعو إلى الالتفات في خلال بضع سنوات.

المطبعة وجريدة الزوراء :

وهذه من تشكيلات الدولة. وتأسست في الولايات الأخرى. وكان من الصعب تكوينها. والوزير أراد أن تدوّن أعماله وما يقوم به. فأصدر جريدة الزوراء. وأول عدد منها صدر في ٥ ربيع الأول سنة ١٢٨٦ ه‍ ـ ١٨٦٩ م واستمرت طول أيامه. وبعدها دامت إلى قبيل الاحتلال. وأن منهاج الحكومة أن تنشر ما يجري من أخبار لئلا تشوه. وأن تسجل أعمال الحكومة. وكانت قد أوصت الحكومة بجلب المطبعة قبل زمن هذا الوالي.

وأن المطبعة لم تطبع الجريدة وحدها بل طبعت بعض المؤلفات ، والسالنامات وأعمال رسمية. ويطول بنا ذكر مرتبات المطبعة وعمالها والقائمين بها. وقد أفردنا ذلك في كتاب خاص باسم (الطباعة والمطبوعات في العراق) مما لا محل لاستيعابه الآن. ولا شك أن فوائدها كبيرة في نشر الزوراء وبها عرفنا حوادث بغداد. ومطبوعاتها الأخرى أفادت الثقافة كثيرا. وخير ما قامت به هذه المطبعة أن أصدرت الزوراء فسجلت أعمال هذا الوالي فكانت خير مرجع وقد تمكنا من

١٩٩

الحصول على أعدادها المتعلقة بهذا الوالي فلم يبق خفاء في أعماله كما قامت بطبع (سالنامات بغداد) وبعض المؤلفات والقوانين.

متصرف كربلاء :

علم الوالي أن متصرف كربلاء إسماعيل باشا كان سيىء الإدارة مرتشيا ، وكذا بعض الموظفين ممن على شاكلته ، فذهب بنفسه إلى كربلاء ، وأجرى التحقيق ، فثبت له ما كان قد عزي إلى المتصرف ، فعزله في الحال ، وأمر بأخذه للمحاكمة ونصب مكانه حافظ أفندي قائممقام كوستنديل سابقا.

توسيع كربلاء :

وفي أثناء مهمته هناك رأى أن هذه البلدة صغيرة وضيقة نظرا للزحام الموجود فيها. فأمر بلزوم تشكيل محلة جديدة فيها وتنظيم خارطة بذلك وترتيبها بالوجه المطلوب على أن تباع العرصات إلى الأهلين لكل من أراد أن يبني دارا أو دكانا أو أي بناء ، وأن تصرف المبالغ المستحصلة في سبيل تنظيم طرقها .. وهذه المحلة هي المعروفة قديما بالمحلة الجديدة وتعرف اليوم بـ (العباسية) (١).

التفت الوالي إلى هذه المهمة. ولم يؤخر العمل بها .. وكان قد أقام في كربلاء خمسة أيام أو ستة.

الوالي في قضاء الهندية والحلة :

ثم إن الوالي عرّج في طريقه من كربلاء إلى قضاء الهندية ، والحلة ، فقام ببعض المهام ، وعاد إلى بغداد .. ولا شك أنه أوعز بما

__________________

(١) الزوراء عدد ٢.

٢٠٠