موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

البداوة .. فالعسكر ذهب أولا إلى الدغارة وعفك ، وكان موجود الفوج (٣٨٠) نفرا ، فنصب خيامه بجانب بستان إلا أن الجيش لم يحترس ولم يتخذ الاحتياطات اللازمة ولم يلتفت إلى أن مزارع الشلب تعرقل الحركات العسكرية. لم يشعروا بالخطر .. أما العربان فهم متيقظون لمثل تلك الأوضاع والاستفادة منها ..

يضاف إلى ذلك أن أصل المدينين بالأموال الأميرية هم الشيوخ والرؤساء ، فأثاروهم وتمكنوا من جمع نحو ثمانية آلاف أو عشرة آلاف ، فأحاطوا بالجيش من كل صوب ، وقطعوا عنه الماء ، تصدى الفريقان للحرب والدفاع ، ودامت الوقائع الوبيلة مدة ثلاثة أيام بلياليها ، وبقي الجيش بلا ماء. أصابه العطش ، ونفدت أعتدته الحربية ، ولم يبق لديه ما يتمكن من الدفاع به ..

وفي هذه المعارك قتل الزعيم والمتصرف والمقدم ، وأكثر الضباط والأفراد وتفرق الباقون ، فوقعوا في أيدي العربان .. فكان من نتائج ذلك أن أظهر سائر القبائل العصيان ، وقطعت الأسلاك البرقية ، مما دعا أن يجهز مدحت باشا الفريق سامح باشا بجيش يبلغ بضعة أفواج كما أنه ألحق بهم ما كان في بعض المواطن مما أمكن أخذه فضمهم إليهم ..

وهكذا أوعز إلى متصرف المنتفق ناصر باشا المعيّن أخيرا ، وإلى أخيه منصور باشا وفي هذه الحالة أراد ناصر باشا أن يبدي صدقه وإخلاصه ، وأن يقوم بما يرضي الدولة بشوق ونشاط .. فلما وصل إليه كتاب مدحت باشا نهض بأربعة آلاف خيّال ، فجاء إلى الديوانية ، فاتصل بسامح باشا ووحّدوا جهودهم ..

هذا ، والقوة العسكرية المحتشدة في الديوانية كانت سبعة أفواج من المشاة ، وكتيبة خيالة نظامية وأربعة آلاف خيال من المنتفق وأكثر من ١٥٠٠ من خيالة الكرد والچچن مع مدافع وعتاد حربية ومعدات أخرى

٢٤١

كاملة .. فلما وصل الفريق سامح باشا إلى الديوانية بقي شهرا لم يقم بعمل ما ، ولا زوال أمرا فحمل العربان هذا إلى أنه خائف محترس ، ومن ثم أخذوا في الاشتباك مع الجيش ومحاصرة البعض منهم في قلاعهم .. وضيقوا أنفاسهم ..

وكانت هذه العشائر من الخزاعل (١) القاطنين هناك ومن بني حكيم والجبور والبو سلطان (٢) وغيرهم. فقاموا في محاصرة نفس الديوانية التي تجمعت فيها القوة .. ولم يكتفوا بذلك بل انتهبوا المعدات والمؤن المرسلة من جهة الحلة على طريق الفرات ، فصارت الحالة تكتسب وخامة وأهمية ، اتخذوا ذلك وسيلة فقطعوا الطرق ، ودمروا الأسلاك البرقية ، ولم يعد في الإمكان أخذ الأخبار ..

فلو دام الحال إلى أكثر من ذلك ازدادت الوخامة سوءا إذ لم يبق في بغداد جند أكثر من فوجين من المشاة والمدفعية ، ولم يعد في الإمكان إمداد الجيش بعساكر كافية الأمر الذي دعا مدحت باشا أن يذهب بنفسه فاختار نحو ٣٠٠ جندي من الفوجين المذكورين وأخذ معه يحيى بك المقدم الركن الذي كان آنئذ (في بغداد) ..

أما الديوانية فكانت تبعد عن بغداد ٣٢ ساعة ، وبينهما الحلة ، فلما وصل مدحت باشا إلى الحلة رأى أن الفريق سامح باشا وناصر باشا وأمير اللواء أحمد باشا وكثيرا من الضباط والأمراء كانوا يفكرون فيما يجب أن يعرف عن أخبار المحصورين في الديوانية ويتطلعوا إلى ما هناك إذ ورد طاهر بك (٣) رئيس أركان الحرب للفرقة التي هناك استعانة

__________________

(١) الخزاعل في كتاب العشائر ج ٣ ص ٢٤٥.

(٢) بنو حكيم في كتاب العشائر ج ٤ والجبور في ج ٣ ص ٨٨ والبو سلطان في ج ٣ ص ٣٦.

(٣) صار طاهر باشا.

٢٤٢

بنحو ثلاثين خيالا من الجبور الذين لا يزالون في حالة العصيان على الحكومة قد عاد متنكرا إلى الحلة ، ومعه مضبطة تنبىء بأن قائد الفرقة العسكرية وجميع الأمراء والضباط قد تحقق لهم أن الثوار لا يزال يتكاثر عددهم ، ويحملون السلاح الصالح للاستعمال ، فلم يجدوا نفعا في الحرب معهم ، كما أن انصرافهم للزراعة أولى من سفك الدماء وتعطيل الأعمال الزراعية ، فرأوا أن الصلح مع هؤلاء أولى حتى يحين الوقت المرهون ، فأجرى ذلك معهم ..

أما طاهر بك فإنه بيّن شفاها أن إجراء ذلك ، وعقد الصلح ، وإعطاء العربان تأمينات رهائن وتقديم الفريق بيورلدي (أمرا ساميا) مع المصحف الشريف مربوطا به مما يكسر هيبة الجيش ، ويمحو شوكة الحكومة وسطوتها ، وسوف يؤثر هذا في جميع الخطة العراقية لا في ذلك الموطن وأهليه وحدهم ، فتخرج الإدارة من يد الحكومة ، وتكون العاقبة وخيمة جدا ..

ذلك ما دعا مدحت باشا أن يرسل تحسين أفندي مرافقه الرئيس الأول الذي بمعيته كما تعهد هو بأن يقطع المسافة البالغة ١٤ ساعة في ثلاث ساعات ويخرق صفوف العشائر فتعهد أن يصل إلى الفرقة ، فكتب مدحت باشا معه كتابا في لزوم خروج سامح باشا ونصب أحمد باشا أمير اللواء مكانه ، ومما كتبه إليه أن يلغي المضبطة ويجعلها كأن لم تكن وأن مدحت باشا متهيىء للسفر إلى ناحيته بنفسه ومعه فوج من الجند ، وهو في طريقه على الفرات عازما الوصول إلى الدغارة .. ومن ثم فسخ أحمد باشا المقاولة المعقودة مع الثوار ، وأبقى فوجين من الجند في الديوانية وما بقي من الجيش خرق صفوف العشائر بما عنده من العساكر وجاء إلى صدر الدغارة التي ذكر مدحت باشا أنه يصلها ..

أما مدحت باشا فإنه بما عنده من الجند وهم نحو ثلاثمائة ، وما

٢٤٣

قدر أن يجمعه من الأفراد المبعثرين هناك ، أبلغ ذلك فوجا ، وفي اليوم التالي خرج من الحلة ، وتحرك نحو الموقع الذي عينه لأحمد باشا فجاء إلى صدر الدغارة وهو منتصف الطريق ما بين الحلة والديوانية ومن ثم اجتمع الجيشان هناك ..

وكان أمل الوزير أن يقطع المياه من المرور في شط الكار الذي يخرج من الجهة الشرقية من الفرات ويمضي في سهول واطئة حتى يصل إلى شط الحي فيعود إلى الفرات ، ويتكوّن منه في طريقه أهوار بمسافات بعيدة ويعتز أو يحتمي بالعشائر في اليبس فيما بينها ، ولا تصل إلى مواطنهم هذه مرميات المدافع ، ولا يستطيع الجيش اجتيازها لأنها ليست عميقة فتستعمل الزوارق مما يعطل الوصول إليهم .. فرأى أن يعمل سدا فيقطع المياه ليحصل يبس في الأرض .. فحطّ الجيش هناك بصورة منظمة .. ومعهم خيالة المنتفق مع ناصر باشا.

وهناك تجمعت العشائر وصارت تضارب الجيش إلا أن بنادقهم لا تصل إلى مواطن العسكر ، وأن الجيش كان يضربهم بالمدافع ، فيقتل منهم الكثير .. وفي الأثناء باشر بالعمل ، وأن أهل الهندية كانوا عارفين في عمل السد ، تعهدوا بسده بسهولة لمدة قدّرت باثني عشر يوما .. وأن العشائر أحاطت بالجيش ثلاثة أيام ، فصاروا يطلقون الرصاص إلا أن طلقات المدافع والبنادق دمرت فيهم كثيرا ، ولم يتضرر العسكر وفي هذه الأثناء جاء شيخ الجبور وهو الشيخ خليل (١) فطلب الأمان ، والدخالة ومعه ألفان من الخيالة ، فاتخذ له محلّا مناسبا خارج العسكر ، وفي ليلة هاجم خيالة المنتفق على حين غرة وأوقع بهم الأضرار ، إلا أن العساكر

__________________

(١) الآن رئيس جبور الواوي الحاج مخيف بن كتاب بن خليل المذكور. وهو نائب في هذه السنة. وكذا عبد الحسن بن مراد ابن الشيخ خليل. ويعرفون بـ (الجوازرية). عشائر العراق ج ٣ ص ٨٨.

٢٤٤

النظامية دمرته ، فذهب خائبا وفرّ .. فعلم العشائر يقينا أنهم لا يستطيعون مقاومة الجيش بالرغم من أن مجموعهم بلغ المائة ألف وأكثر ، وجسّرهم على هذا ما رأوا من فرقة الديوانية من برودة وتهاون ، وما شاهدوا من تسامح معهم ..

ولما علم الثوار أن عبد الكريم شيخ شمر قد ورد أنحاء بغداد ، حاولوا أن يمنعوا الاتصال به ، كما أن سد النهر مما يؤثر في كل هؤلاء .. فصاروا يهاجمون متواليا ومن كل صوب .. وهاجموا سرية عسكر كانت قد خرجت لتدارك التبن للحيوانات ، فعلم الوزير بذلك فسير سريتين من كل فوج لإمدادهم ومعاونتهم فجرت معركة حامية سقط فيها من العسكر ستة أفراد وجملة من الجرحى ، ومن الثوار قتل أكثر من خمسمائة ، وفر الباقون ، ورموا بأنفسهم في شط الدغارة ، فقد ملّوا ، ولم يبق لهم عزم في البقاء ..

واستفادة من هذا القرار صدرت الأوامر بلزوم تعقب أثرهم بواسطة خيالة الجيش النظامي ومن المنتفق والچچن والكرد والبغالة فألقي القبض على الكثير منهم ، ووجد معهم الأسلاك البرقية ..

وفي كل ذلك لم يقف أمر الاشتغال في السد ، وفي اليوم الثالث عشر تمّ ، فانقطعت المياه ثم صار يقل ماء الأهوار ، وتيبس الأراضي .. ومن هنا حصل يأس كبير .. في العشائر ، فأظهروا حينئذ الندم ، وطلبوا العفو .. وبعد أن دامت الفتنة نحو شهرين زالت من البين ، ولم يبق لهذه الغائلة أثر مهم ، لما قام به الوزير من إجراءات وتدابير صائبة ..

وهذه الغائلة من أهم ما حدث في العراق من الغوائل ، فلم يعهد أن اتفق جميع العشائر هناك على محاربة الحكومة ، وكادوا يقهرونها .. ولم يشترك مع هؤلاء أهل الهندية ، فلم يبق أحد إلا اشترك من سائر القبائل. وكل ما يقال عن هؤلاء أنهم لا يفرقون بين الخير والشر ، وإنما

٢٤٥

يطيعون رؤساءهم وشيوخهم دون أن يعلموا السبب.

قالوا : وهؤلاء الشيوخ هم أصل الفتن .. خصوصا أن ما وقع في الديوانية من قتل الجيش والمتصرف كان سببه الشيخ دنان رئيس عفك ، والشيخ بدوي رئيس الدغارة ، فهؤلاء كانت بذمتهم أموال أميرية كثيرة ، ولم يقدموها بل حاولوا إثارة القلاقل ليسلموا من ذلك مما دعا إلى وقائع مؤلمة من الطرفين .. فقد ساقوهم إلى الثورة ..

أما الوزير فإنه أبقى في الهندية قسما من الجيش ومضى الباقون إلى الديوانية ، وأعلن العفو العام عن الأهلين ، وجعل هدفه الرؤساء المذكورين ، وأن يتحرى عن أفراد الجيش والمدافع والمعدات فتمكن من استعادة الكثير منها ، ومن أفراد الجيش وعودتهم .. أما الرؤساء دنان وبدوي فقد فرّا ، ولكن شيخ المنتفق ناصر باشا بذل الهمة ، فألقى القبض عليهما ، وأجريت المحاكمة في المجلس العسكري وحكم عليهما بالإعدام لما ارتكبوا من أعمال ضد الجيش .. فصلبا على جسر الديوانية .. وبعض الرؤساء من عشائر الديوانية أيضا ألقي القبض عليهم ، فنفوا إلى روم ايلي ..

وبذلك انتهت واقعة الدغارة. وفي هذه الواقعة أبدى كل من ناصر باشا وأخيه منصور باشا من الخدمات الحسنة ، والهمم العظيمة ما يستحقان عليه كل تقدير لدى الوالي مدحت باشا.

ومما يذكر أن شيخ عشائر شمر الشيخ عبد الكريم كان قد ورد بغداد كما تقدم ، وجاء إلى الوزير وهو في الديوانية بداعي أنه جاء لمعاونة الحكومة في تسكين الثورة إلا أنه وجدها قد هدأت ، وانتهت الحالة بسلام .. أما الوزير فإنه اشتبه من وضعه ، ولكنه لم يبد شيئا ينفره ، أو أن ذلك فسر بما سيقع .. فأخذه معه وعاد إلى بغداد في

٢٤٦

كانون الأول (١). كما أن ناصر باشا رجع إلى المنتفق (٢) ..

هذا ، وأعتقد أن الواقعة مبالغ فيها ولم تكن بهذه الدرجة إلا أن الحكومة كانت في ضعف وأن الأشخاص الذين قتلوا ، والفوج الذي قضى عليه قد فتّ في عضد الحكومة ، وأن المقاومة كانت كبيرة .. وإلا فلا نرى ذكرا للعشائر الأخرى ، فلم يعين شخص منهم .. ويصح أن يكونوا قد ساعدوا القوم في الخفاء .. ولكن اقتدار مدحت باشا أظهر القضية بهذا الوجه ليبدي أنه قام بعمل كبير ، وأعلنها لحكومته بهذه الصورة ليبرز عظمة ما تمّ ، وليغطي أمر ما وقع .. فكأن الغائلة عالمية أو هناك خطر حاق بالعراق فأنقذه منه ..

ومن الغريب أن نرى الأستاذ سليمان فائق قد جعل سبب هذه الفتنة ناصر باشا في حين أن مدحت باشا هو الذي دعاه وكان يثني عليه وعلى أخيه منصور باشا بما تقدم الكلام عليه. ولو أننا رأينا (علي حيدر بك) يكتب هذه الواقعة في أعمال والده ويستند إلى مراجعها الصحيحة الرسمية ومذكرات والده لكان للأستاذ العذر. أوضح أن ما صرف من مبالغ وما قتل من نفوس كان بسبب من ناصر باشا في حين أن الحكومة حاولت جباية الميري ، فحرك رؤساء العشائر الفتنة فاشتعلت.

وعدّ الأستاذ سليمان فائق أن هذه الواقعة مما أثر في الوالي لما طرأ فيها من حالات فصار يحتاط أكثر مما يجب ، فلم يستطع أن يقوم بالخدمات المطلوبة منه وعدّ من جملة ذلك أمر لواء المنتفق ، يريد أن يتحرك الوالي على ناصر باشا بعد أن قام بما قام به من مساعدة وما فعل من الخدمات الجليلة في (واقعة الدغارة) فيغضبه ويجعل العراق في نار مشتعلة والحكومة في عداء للكل ، فلم تبق على صاحب في حين أنها

__________________

(١) تبصره عبرت ص ٨٠.

(٢) رسالة المنتفق.

٢٤٧

كانت في بداية تشكيل جيش ، وفي حاجة إلى أعمال أخرى. تغافل عن ذلك كله وأظهر هذه الآراء بعد الوقيعة بمدحت باشا والنفرة من أعماله.

وجاءت واقعة الدغارة بما ملخصه :

إن المقاطعات في لواء الديوانية كان يلتزمها شيوخها ، وهؤلاء يحدثون شغبا دائما للتخلص من بدلات الالتزام ، فتكون التحصيلات في توقف .. علم بذلك الوالي كما عرف أن أيام الجباية وتأدية التقاسيط تجعلهم يولّدون الأراجيف ، وما من شأنه أن يثير قلق الأهلين ، بل يقومون فعلا بالعصيان والثورة على الإدارة ..

وفي هذه السنة قامت العشائر في أنحاء عفك ، والدغارة ، وبعض العشائر من الخزاعل مثل الشبل ، والشلال ، والغزالات ، فارتكبوا بعض الأوضاع كقطعهم الأسلاك البرقية بين بغداد والهند ..

ذلك ما دعا الوالي أن يسيّر القائد سامح باشا لقمع هذا العصيان ، فأخذ معه فرقة عسكرية وساق إليهم قوة بنفسه .. وقد وردت الأخبار أن هؤلاء جاؤوا إليه جماعات وعرضوا الدخالة ، وطلبوا الاستيمان .. وأن مثيري هذه القلاقل قبض عليهم ، وتقرر أن ينالوا ما يستحقون من عقوبة (١).

وجاء أيضا :

إن القوة العسكرية التي كانت ذهبت إليهم ، قد ألحقت بها قوة أخرى بفوجين تحت قيادة أمير اللواء أحمد باشا .. وإن الوزير ساق مقدارا من الفرقة العسكرية منها فوجان كانت بنادقهم من أمهات الإبرة ، وفوج آخر شيشخان وثلاثة أفواج مشاة وسريتان من الخيالة ونفرات موظفة فوصلوا إلى قرب قلعة الدغارة ، فوجدوا العصاة قد تحصنوا في

__________________

(١) الزوراء عدد ١٦ وفي ٢٢ جمادى الآخرة سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٤٨

القلعة ، فبدأت القوة العسكرية تضاربهم ، وكان مع القطعة مدفعان فضربتهم بها فدمرتهم ، وفرقتهم ثم ذهبت من هناك إلى قبيلة الأقرع ، وكان هؤلاء قد حاربوا الجيش ، وقاموا بالعصيان هذه المرة فاقتضى تأديبهم فضربتهم القوة ، واستعادت المنهوبات التي كانوا قد نهبوها.

وهناك تقدمت الجيوش ، ولكن أطراف المواطن أهوار ، ومستنقعات ، وأن العصاة كانوا يلتجئون إلى مثل هذه. فلما مرت الجيوش من هناك هاجم هؤلاء البغاة من اليسار ، وصاروا يقاومون ولكنهم لم يستطيعوا أن يقفوا تجاه العساكر ويتحملوا نيرانهم .. فتركوا مواطنهم وفرّوا ، فتعقبهم الخيالة ، وقتلوا منهم نحو أربعين .. والباقون فرّوا بالأهوار .. ونجوا .. وإن صعوبة المواطن جعلت هؤلاء بمأمن ، وإن الجيش لا يتمكن من السير إلا ببطء وتؤدة ويخشى من الغابات وكمينها .. وكانوا فعلا قد كمنوا في غابة ، ولكن المقدم علي آغا أدرك المغزى ، وهاجم الموطن المظنون أنهم فيه بنيران حامية على حين غرة .. فهلك منهم الكثير ، وكان قد جاءهم بغتة ففرّوا ، وأعطوا تلفيات كثيرة ..

ثم مضت الجيوش نحو خيكان الصغير ، فخيكان الكبير (١) ، وأخذوا معهم ما يلزم من الذخائر ، وعادوا إلى الديوانية .. والتحقوا بالفرقة الأصلية ..

وفي هذه الحروب كلها قتل ضابط ، وستة أفراد ، وضابطان و ١٧ نفرا ، وثلاثة جنود خيالة من الچچن. وأما العصاة فقتل منهم الكثير .. وجرح ما لا يحصى ..

ثم جاءت برقية تشعر بأن عشائر الشامية جميعها عرضت الدخالة

__________________

(١) خيكان الصغير والكبير في عشائر العراق ج ٣ ص ٣٩ وبنو خيكان في ج ٤.

٢٤٩

ولم يبق إلا أشقياء عفك وكانوا قطعوا الأسلاك البرقية ، فنالوا ما يستحقون من عقوبة ، وذاقوا مرارة فعلتهم .. وقد أحيط بالباقين منهم من جميع أطرافهم ، وعزمت الحكومة على تأديبهم بل التنكيل بهم .. والأمل أن تنتهي في مدة قصيرة من هذه الغوائل ..

وفي هذه المرة سيرت الحكومة بكر باشا أمير اللواء من أركان الفيلق ، وساقت معه أربعة سرايا من الفوج الأول ، ومقدارا من الخيالة ، وقطعة من الشيشخان ، ومدافع جبلية صغيرة ، فذهب إلى أنحاء الحلة (١) ..

هذه هي المعلومات الرسمية التي أعلنتها الحكومة ، ومنها يتعين أن الواقعة معتادة ، ولم تكوّن خطرا كبيرا بل لم تقف وقائعهم عند حد ، وإنما تلتها حوادث أخرى.

دامت ذيول وقائع الدغارة والديوانية والحلة فلم تهدأ الحالة ، الأمر الذي دعا الوالي مدحت باشا أن يذهب إلى الحلة بنفسه فسافر يوم الخميس ٨ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍ (٢) ، فكان فيها وفي الديوانية بعض الاضطراب ، بل الثورة فاقتضى تأديب أهل الشغب. بقي في الحلة بضعة أيام ، فطلبت بعض العشائر الأمان ، وتوارد آخرون ، وكان غرضه استئصال من اعتاد التمرد.

رأى الوالي أن هذا متأتّ من نهر صدره بقرب الدغارة فاقتضى سد ذلك النهر ليتيسر الوصول إلى هؤلاء بلا مانع ، ومن ثم قام الوالي بالأمر فأرسل إلى الجيش المرابط في الديوانية تحت قيادة الركن أمير اللواء أحمد باشا أن يمضي إلى صدر الدغارة بما لديه من قوة ، فمضى هؤلاء من الديوانية إلى الدغارة رأسا ، وكذا الوالي مدحت باشا ومن معه

__________________

(١) الزوراء عدد ١٧ في ٢٩ جمادى الآخرة سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ١٩ في ١٣ رجب ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٠

فمضى فوج من الشامية إلى جهة الدغارة على أن يلحق به الجيش هناك ..

وفي يوم الجمعة ١٦ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍ تصادمت العشائر ، كانوا يهاجمونهم ، ولكنهم رجعوا خائبين ، وانتصر الجيش. فوصل إلى الدغارة .. وأما الوالي فإنه لم يصادف أي مقاومة. وصل إلى الدغارة واتصل بالجيش ..

ومن ثم شرعوا بسد (صدر الدغارة) .. بينما الفيلق مشغول بسد الصدر المذكور ، إذ خرجت ثلة من النظامية الخيالة وأرادت في هذه الأثناء أن تتدارك علفا لخيولها فظهر لها العربان ، ووقعت معركة ، تعرضت لهم العشائر ، فأدت إلى محاربة جسيمة ، جاءت تفصيلاتها في برقية أرسلها الوالي تتضمن أن القوة المذكورة أعلاه مع العساكر الموظفة والچچن (الچچان) والعشائر قد نكلت بالعصابات أثناء اشتغالها في سد صدر الدغارة قتل فيها الكثير من عشائر عفك والدغارة وجليحة .. وفي هذه المعارك كانت خدمات الخيالة من المنتفق مشكورة ، وكانت قتلى البغاة تتجاوز ٥٠٠ أو ٦٠٠ نسمة. وقتل من أفراد الجيش ومن الخيالة واحد ، والجرحى تسعة أفراد ..

فكان النصر حليف الجيش بمساعدة العشائر المذكورة وغيرها (١) ..

ثم توالت البرقيات بعد ذلك ، ومنها يفهم أن هؤلاء حاولوا الهجوم على الجيش مرة أخرى فلم يفلحوا ، وتكبدوا خسائر كبيرة .. والملحوظ في هذا أن الوزير لم يعتبر العربان كلهم بمثابة واحدة ، وإنما ينظر إلى أصحاب إثارة القلاقل ، والمحرضين ، ثم من يليهم .. فيعامل

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٠ في ٢٠ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥١

كلّا على قدر جرمه .. وفي هذه الأثناء جاء السادات والتجار ، وبعض شيوخ البو سلطان ، و (وزير) من الخزاعل ومن لاذ به من أقاربه .. كل هؤلاء جاؤوا بدخالة وطلبوا عطف الحكومة ، والباقون خافوا فتفرقوا شذر مذر .. وعفي عن الكثير ممن لم تسبق له ثورة .. وكان مع الفيلق شيخ الجبور خليل وابنه الياس وهؤلاء فرّوا ليلا ، واتفقوا مع الخزاعل في حين أنهم كانوا قد التجأوا ، ثم فروا وعصوا .. وحاولوا الهجوم على الجيش الذي كان فيه الوالي .. فجرت المحاربة لمدة نحو خمس ساعات فقتل منهم ثمانية أشخاص ، وألقي القبض على اثنين واغتنم منهم نحو ألفي رأس من الغنم حاولوا تهريبها ..

وعلى كل حال قامت الحكومة بتأديب زبيد والبو سلطان لما أبدوا من عصيان ، ففرق الجيش شملهم. ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد ، وإنما تجمعوا في الجهة الغربية من الجيش في أطراف خيگان ، وبقوا على العصيان فجهزت عليهم قوة فنكلت بهم أيضا ..

وإن الحكومة أرسلت تحريرا عاما إلى الألوية الملحقة بتفصيل المعارك وما اقترنت به من النصر على البغاة .. تتضمن التبشير بما جرى .. وما حصلت عليه الحكومة من النتائج الباهرة .. وفيها :

إن عشائر البو سلطان وزبيد قد التحقت بالدغارة وعفك ، فصاروا قوة ظهرهم ، واتفقوا مع العصاة .. وقطعوا أسلاك البرق ، فاقتضى تأديب مثل هؤلاء .. ومن شيوخهم عباس وفارس كانوا قد جاؤوا إلى الوالي مع جماعة منهم بأمل سد شط الدغارة ، وأبدوا طاعتهم ، وكانوا في الجهة الشمالية من الفيلق ، وكذا شيخ الجبور خليل كان بفكرة العصيان ، فاتفق مع عصاة الخزاعل .. ففر ليلا ، وكذا البو سلطان قطعوا طريق الحلة ، فتحصنوا في كتف النهر .. ومن ثم أرسلت قوة بقيادة أحمد باشا مع فرقة نظامية ، وخيالة من المنتفق ، فاشتبكت مع الكمين في كتف

٢٥٢

الشط ، ولم تظفر بالقوة العشائرية .. وانتهبت الحكومة أغنامهم البالغة أكثر من خمسة آلاف ، والكثير من خيولهم ، ومواشيهم .. ولم يتعرض للشيوخ والنساء والأطفال ، ولا بأموالهم .. واستمر الجيش في تعقيب الهاربين ، وكانت خيالة الجيش تحت قيادة عثمان بك زعيم الخيالة .. ومعهم فوج طليعة من البغالة .. ومدفع ، ومن المنتفق نحو ألفي خيال .. فعلم من التحقيقات أنهم يبعدون عن خيكان بمسافة ثلاث ساعات .. في البادية ، فسار الجيش عليهم ، فلما سمعوا فرّوا .. ومن ثم قتل من هؤلاء ما يزيد على مائتين من الخيالة والمشاة ، ونحو ضعفهم كان مجروحا ، وأسر نحو ٣٠ منهم .. وخيالة المنتفق قد غنموا الشيء الكثير ..

وعلى هذا فرق شيخ الدغارة (رسن) جموعه ، ومال إلى خليل شيخ الجبور ، ونصب للمشيخة رئيسا الشيخ علي شيخ الجبور ، وكان ضدا للشيخ خليل ..

وفي هذه المعركة استشهد من المنتفق واحد وجرح خمسة .. وانتهت تقريبا هذه الواقعة ، فكان ما شاهده العشائر قد قضى على كل آمال لهم وانقادوا للحكومة ، فصاروا ينقمون على من سوّل لهم هذه الفعلة .. فتمت بالوجه المرضي (١).

وبعد ذلك استمرت حركة الجيش .. وصاروا ينكلون بالبغاة في أنحاء الجربوعية. جاء لإمدادهم فهد بك متصرف الديوانية ، فمضى من هناك إلى نهر علاج ، فحارب العصاة ولم تحدث أضرار في الجيش. وقتل من العصاة نحو مائة ، وولوا الأدبار ..

هذا ، وأما السدة ، فقد تمت ، وكان يبلغ طولها ٦٥ مترا بعرض

__________________

(١) الزوراء عدد ٢١ في ٢٧ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٣

٢٠ مترا .. وبنى هناك موقع مستحكم نوعا للجيش .. ولما لم يبق أمل ورأى العشائر المغلوبية الفاحشة صاروا يتوالون في إبداء الدخالة ومن هؤلاء محمد الشخير وعباس من شيوخ البو سلطان ، ورؤساء كثيرون عرضوا الطاعة ، فأعيد نصاب الأمن إلى محله ..

ومن ثم عاد الوالي من الدغارة إلى الديوانية في ١ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍ على أن يمضي بعد ذلك إلى الحلة ويقضي هناك مدة أسبوع ، ثم يأتي إلى بغداد (١).

ثم إن الوالي ذهب من الدغارة إلى الديوانية وهناك ألقى الجيش القبض على دنان شيخ البحاحثة ، وعلى بديوي شيخ جليحة ، فتبين أنهما من جملة المحرضين على العصيان ، وكان هذا الأخير قد حارب في عفك ، ثم أبدى أنه مع الجيش وأعطاه الأمان ثم غدر به .. وهكذا ظهرت الأدلة عليهما ، فصلب أحدهما في رأس الجسر ، والآخر في الجانب الآخر منه .. وأبقي أمير اللواء أحمد باشا مع ثلاثة أفواج ، وإن الوالي جاء بمركب إلى الحلة (٢) ..

ثم جاءت الأخبار أن الوالي بقي في الحلة يوما واحدا ، ثم ركب المركب ، وذهب إلى الكنعانية ليشاهد عمل تطهير النهر ، ومنها ورد بغداد (٣) يوم الثلاثاء ١٩ منه ، وكان أمله أن يؤسس خطا حديديا يوصل الفرات بدجلة من أقرب نقطة ممكنة ..

ومن هذا علمنا أسماء عشائر الديوانية. والبحاحثة من عفك وهي عشيرة كبيرة. وجليحة عشيرة كبيرة أيضا ذكرتهما في المجلد الرابع من

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٢ في ٥ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢٤ في ١٩ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٢٥ في ٢٦ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٤

كتاب عشائر العراق كما علمنا ما جاورها من عشائر الحلة مما أوضحناه في كتاب عشائر العراق الريفية المجلد الثالث.

عشائر الحلة والديوانية :

من هؤلاء الدغارة ، وعفك ، والبو سلطان والجبور بعد تلك الواقعة قد خلدوا للسكينة .. وزاولوا زراعة الأرضين ، وعين لكل محله ومكان زرعه .. إلا أن عشيرة البو سلطان فرقة البو جاسم منهم قد قتلوا رئيسهم الشيخ هنديا ، وأن هذه العشائر ـ كما هو المعتاد ـ لا يراجع أحد من ورثة المقتول الحكومة لاستيفاء حقه. وإنما يركنون إلى قوتهم وسلاحهم للانتقام .. ومن ثم قام هؤلاء ، ومن يمتّ إليهم ، وكذا العشائر التي يعولون عليها فصاروا يطالبون بدم المقتول .. فلما علمت الحكومة أن من واجبها صيانة الأمن والأخذ بالحق ، وأنها لا تجوز أن يركن كل إلى قوة ساعده .. أفهمت ذلك للورثة والقائمين .. أما القاتل وأقاربه فقد مالوا إلى حرز منيع من دخالة على القبائل الأخرى. أودعوا أموالهم وهربوا إلى البادية .. ولما كانت الدخالة حماية للجاني طلب إلى أولئك أن يجري قانون الحكومة ، وأن يسلّم الجاني ، أو أن يتركوا حمايته ، وإلا ركنت إلى القوة العسكرية اضطرارا. ومن ثم أرسلت قوة عسكرية إلى هناك .. وأراد أولئك أن يستعينوا بعفك والدغارة والجبور فلم يلبوا الطلب وقام الجيش بمهمته بالوجه المطلوب (١) ..

هذه الحوادث جرت أيام مدحت باشا مما يتعلق بلواء الحلة ، ونرى أسماء عشائر عديدة ، وكلها لها مكانتها ، وكانت متصلة لا تفترق وإنما تجتمع دائما فيما بينها وتقرر ما شاءت ، فيظهر قسم المصافاة للحكومة ، والقسم الآخر يبقى على نزاعه ، ومن ثم تنظم القبائل ، وتسير

__________________

(١) الزوراء عدد ٤٦ في ٩ صفر سنة ١٢٨٧ ه‍. والبو جاسم في عشائر العراق ج ٣ ص ٣٧.

٢٥٥

في الخفاء وتأخذ الأخبار وهكذا أضجروا الحكومة ، والأمل لم يكن لغرض نبيل وإنما غايتهم الخلاص من الرسوم ، وأن يكون الشيوخ بنجوة. استمرت مثل هذه الحوادث مدة. ذكرناها لتكون دليلا على الوقائع الأخرى ..

حوادث :

١ ـ في يوم الاثنين ٢١ جمادى الآخرة سنة ١٢٨٦ ه‍ ورد بغداد أحمد حمدي باشا. عيّن عضوا لمجلس الفيلق السادس.

٢ ـ فهد باشا عيّن متصرفا للواء الديوانية.

٣ ـ توفي حميد أفندي متصرف العمارة ، فخلفه مراد أفندي رئيس مجلس الجناية (١). ويعرف بـ (أبو گذيله) ، وزوجته نائلة خاتون صاحبة (مدرسة نائلة خاتون) والمكتبة المؤسسة فيها ألحقت بخزانة الأوقاف العامة وكانت هذه زوجة وادي الشفلح شيخ زبيد ، فلما توفي تزوجت بمراد أفندي. وهذا ولي متصرفية العمارة ومتصرفيات أخرى. ولما مات دفن مع زوجته في طريق الأعظمية في بستان الوقف قرب دار السبيل. ولما توسع شارع الأعظمية. نقلت رفاتهما إلى مقبرة الأعظمية.

عشيرة الجاف :

هذه العشيرة في لواء السليمانية ، وهي من العشائر الكبيرة جدا ، تبلغ ذكورا وإناثا نحو أربعين ألف نسمة. ولا تزال رحّالة تقضي أيام الشتاء في العراق في قضاء كلعنبر ، وأيام الصيف بإيران في أنحاء سنة ، ترعى المواشي ..

بقيت متفرقة ، ومتجولة بين إيران والعراق ، فوجب أن تتعين لها

__________________

(١) الزوراء عدد ١٨ في ٦ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٦

مراع للإقامة في العراق صيفا وشتاء بناء على طلب محمد بك رئيسها ، وكان صاحب دراية وعقل .. وله رغبة أكيدة في إسكان هذه العشائر وأن تتوطن بأن تتخذ القرى سكنى لها ..

تعهد للحكومة بهذه المهمة ، وأن تقوم عشائره بأمر الزراعة ، وأن تفوض الأراضي في الطابو لعشائره ، وأن تكون لكل عشيرة قطعة .. وعلى طلبه هذا رأت الحكومة لزوم تقريب العشائر من الحضارة ، وأن تأخذ بناصر الراغب حبا في العمارة فقرر مجلس الإدارة قبول ذلك وعرضه على الباب العالي ، فلم يتم أمر (١).

دار الحدادة

إن الوالي الأسبق رشيد باشا الگوزللكي كان قد أوصى من أوروبا بشراء عدة مراكب بخارية. وآلات زراعية لبغداد ، وكذا بما يلزم لها من المعامل من طورنه (تورنه) ومقراض ومثقب وما ماثل تشتغل بواسطة ماكنة بخارية فاتخذ بمحل خاص بجانب الكرخ عرف بـ (الحداد خانة) أو (دار الحدادة).

وكان هذا المعمل يشتغل منتظما ، وبعد مدة طرأ عليه خلل ، حتى تزايد العطل فأهمل تماما.

وفي أيام نامق باشا التزم تكثير السفن البخارية ، فأوصى إلى أوروبا بما يلزم من العدد ، فوردت البصرة وبلغ ما هنالك خمسة مراكب بخارية ، تشتغل بين بغداد والبصرة ، وكذا اشترى بضع قطع صغيرة أيضا ، فاقتضى أن لا يبقى هذا المعمل معطلا فأمر مدحت باشا مسعود بك رئيس النافعة أن يقوم بتنظيف الآلات والأدوات فيه وأن يجعلها

__________________

(١) عشائر الجاف فصلت أحوالها في كتاب (عشائر العراق) ج ٢ ص ٤٤.

٢٥٧

صالحة للعمل تأمينا لفائدة الإدارة النهرية ، فأصلحت.

وكذا قام المعمل بخدمات لمنفعة الجيش ، وذلك أن البندقيات المسماة (جاقما قلي قوال تفنك) عادت لا تصلح ، وأن الجيش كله مسلح بـ (البنادق) المسماة : (شيشخانه لي) أي (شيشخان) ، وغالبه (اگنه لي تفنك) أي البندقية ذات الإبرة حتى إن الرديف مسلحون بالأسلحة النفيسة ، فلم يبق لزوم في تلك البنادق. وأن بيعها بثمن بخس ، أو إهمالها حتى يأكلها الصدأ غير جائز ، وكان في الإمكان تحويلها إلى (تفك قابسول) أي بنادق (كبسون) من نوع الشيشخان كما ثبت ذلك بما أجري من التجربة ..

ومن ثم صار يقوم المعمل بهذه الخدمة أيضا. وهذا النوع من السلاح يقوم به الضبطية فيسد حاجة مهمة (١) ..

رئاسة أركان الفيلق السادس :

وجهت رئاسة أركان الفيلق السادس إلى الفريق أحمد حمدي باشا. وصل إلى بغداد في أواخر شهر رمضان ، وعهد إليه بوكالة القيادة. وحصل على وسام من الرتبة الثانية (٢) ..

دفتري بغداد :

عين لدفترية بغداد أحمد راسم فوصل يوم الجمعة ٢٢ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍ إلا أنه لم تطل إقامته فمرض وعاد إلى استانبول (٣).

__________________

(١) الزوراء عدد ١٨ في ٦ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢ في ٢٠ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٢١ في ٢٧ رجب سنة ١٢٨٦ ه‍ وعدد ٣٩ في ذي الحجة سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٨

تدابير لسير المراكب :

كان يمنع سير المراكب في نهر دجلة بعض الموانع وهي :

١ ـ سد نمرود.

٢ ـ سلطان عبد الله.

٣ ـ أبو شارب.

فهذه عوارض يجب رفعها .. وقد وردت الأخبار من شهرزور في هذه الأيام أن أحد هذه وهو أبو شارب قد أزيل تماما .. وقد أجري التفتيش فلم تبق عارضة سوى عارضة (السلطان عبد الله) .. وهذه تأتي بعد أبي شارب. ولم يتم أمر ، ولا أجدى تدبير (١) ..

السنجاوية ـ دالبان :

هاجم بعض السنجاوية من فرقة دالبان الإيرانية في أول تشرين الثاني سنة ١٢٨٥ ه‍ الأسلاك البرقية وقطعتها وكسرت الفناجين .. وهاجمت قافلة وبين هؤلاء هواس من ضباط الجيش الإيراني ، وأخوه نور علي وظاهر شواز خان ابن حاتم ، وناصر بن حوممالي دالبان ، وأفراد يبلغون الثمانين من المشاة والمائة من الخيالة ..

فلما سمع الجيش بهم عقب أثرهم ، ومن ثم تركوا المنهوبات وجميع أثقالهم الأخرى .. في المحل الذي كانوا قد أدركوا فيه وهو (جبل الجص) ويسمى (كرچ طاغ) .. فانهزموا شر هزيمة ، وعادوا بصفقة الخسران (٢).

ويلاحظ أن طالبان العراق منهم في قرية معروفة بهذا الاسم (طالبان) لا يبعد أن سكنها بعض أفراد هذه القبيلة فسميت باسمهم ومن

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٢ في ٥ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢٣ في ١٢ شعبان سنة ١٢٨٦ ه‍.

٢٥٩

ثم انتسب إليها شيوخ الطالبانية ، من جراء أنهم أقاموا بها مدة. فعرفوا بالطالبانية. وأمثال هذا كثير جدا.

وهؤلاء الشيوخ معروف أنهم جاؤوا أولا إلى هذه القرية فعرفوا بالنسبة إليها ، وإلا فهم من عشيرة زنگنة ، أو موالون لهم (١). وشيوخ الطالبانية أنفسهم يقولون إن أصل لفظة (طالبان) هي جمع (طالب). كانوا يدرسون على الشيخ محمود زنگنة وكانت القرية كلها من طلابه فسميت بـ (طالبان). وهي قرية تابعة لقضاء چمچمال ولا يبعد قبول أحد الرأيين لوجهاته وقوة تعليله. ولما كان الطالبانية المعروفون اليوم من عشيرة زنگنة فلا يؤثر عليهم أن يكون الطالبانية من (دالبان) من السنجاوية ، أو من (طالبان) بمعنى طلاب وهم على الطريقة القادرية. وتغلب عليهم السياسة في هذه الأيام. والشيخ عبد الرحمن الطالباني المعروف من رؤساء الطريقة القادرية في كركوك.

تطهير دجلة :

تطهير هذا النهر من أصعب الأمور. كان قد سبق أن أجري تطهير (أبي شارب) ثم وجد المهندسون في طريقهم سد نمرود .. وكل ما علم أن هذا السد كان جسرا هكذا شائع بين الناس ، والحال أن هناك سدين أحدهما العواية في جهة ، وجايفة في جهة أخرى ، وهما لسد المياه .. أما العواية فكان سدها يقصد به أن تميل المياه إلى أنحاء إربل ، وهي جسر أيضا .. وأما الجايفة فإنها ليست سدا وإنما هي تلول الجبال المسلسلة ولا يمكن رفعها كما يمكن رفع العواية التي هي طبيعية .. وإنما يجب تحويل النهر بحفر مكان مجاور بطول ١٦٠٠ ذراع ، وعرض ٢٥ ذراعا ، وبعمق يلزم لذلك.

__________________

(١) عشائر العراق الكردية ج ٢ ص ٢٢٨ وفيه بيان أحوالهم وطريقتهم.

٢٦٠