موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٣

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٣

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

ولم يخضع لنفوذ الشاه وفي خريف سنة ٩١٤ بينما كان الشاه في ربوع همذان عزم أن يستولي على بغداد بإخضاع صاحبها فأرسل لهذه المهمة أحد قواده المشهورين خليل بيك يساول وهو من المحنكين المجربين فتوجه إلى مدينة دار السلام بصفته رسولا من جانب الشاه بغرض أن يقف على الحالة ويختبر الأمر مباشرة ...

فلما علم صاحب بغداد بقدوم رسول الشاه بعث لاستقباله جماعة من خيرة رجاله فاستقبلوه بعز واحترام وجاؤوا به إلى بغداد فاجتمع بالوالي (باريك بك) في بستان ميرزا پير بوداق فأدى للرسول مراسم التكريم والاحترام وأبدى الوالي الخضوع للشاه وأنه طائع منقاد ... وأرسل الوالي أحد أمرائه وهو إسحاق الدباس السيرجي (١) ومعه تحف وهدايا برسم تقديمها للشاه ويظهر الطاعة له. فغادر أبو إسحاق بغداد ومعه خليل بيك رسول الشاه فوردوا إليه وقدم أبو إسحاق الهدايا من سيده وقال له إنه أذعن بالطاعة ...

إن الشاه كان يأمل أن يجيء إليه باريك بيك بنفسه ولذا لم ينظر إلى الهدايا بعين الرضى ولكنه أبدى لأبي إسحاق لطفا وكرما وأذن له بالانصراف وأن يبلغ سيده باريك بيك أنه لا حاجة له بالهدايا وإنما يريد أن يأتيه باريك بيك طائعا لينال كل عاطفة وإلا فإنه إذا توسل بالخداع وعكر فسوف ينال العقوبة الصارمة فانصرف أبو إسحاق من الشاه وعاد إلى بغداد فعرض لسيده مطالب الشاه (٢).

أما باريك فإنه أبدى في أول الأمر طاعته بصورة ظاهرية وبعد مدة أخذ يتأهب ويستعد لبناء القلاع وجمع الأرزاق والمؤونة وفرض على

__________________

(١) ورد شيرجي أيضا ، والأكثر بالشين.

(٢) في أحسن التواريخ أن الهدايا وقعت موقع الاستحسان ، ورخص أبا إسحاق بالعودة إلى بغداد ، ثم سار هو ...

٣٢١

الأهلين ضرائب ثقيلة وأمر بأخذ ما عندهم من حبوبات وأطعمة تأهبا للطوارىء بحيث تجمع لديه ما يكفي إعاشة الجيش لمدة ثلاث سنوات ...

وكان نقيب بغداد ومن أشرافها السيد محمد كمونة (١) الذي ورث النقابة أبا عن جد وكان متهما بإخلاصه للشاه فأمر باريك بالقبض عليه وزجه في السجن ..

وأما الشاه فإنه حينما انصرف أبو إسحاق الدباس منه عزم على فتح بغداد وعين لهذه المهمة أحد قواده وهو حسين بيك (لله) (لالا) أرسله مع الجيش مقدما ثم تحرك هو بعده متأخرا فسمع باريك فاضطرب وفضل الفرار على الكفاح والنضال فعبر على ظهر جواده من جسر بغداد ليلا وتوجه نحو مدينة حلب. وجاء في جامع الدول «أن باريك ذهب إلى العثمانيين وبقي في خدمة السلطان سليم ثم ولده السلطان سليمان ثم عرض إليه عمى فاستأذن السلطان في المجاورة بمكة المكرمة فأذن له في ذلك ، وسير إليها مكرما وبقي فيها إلى أن توفي» ا ه.

وعند الصباح اجتمع الأهلون ببغداد وجاؤوا إلى الجب الذي سجن فيه السيد محمد كمونة المذكور فأخرجوه منه وسلموا إليه مقاليد الأمور ببغداد. وهذا يعد بمثابة طاعة منهم للشاه ... وفي هذه الأثناء تبينت طلائع الجيش الإيراني يوم الجمعة يقدمهم لالا بيك وجاؤوا إلى أطراف بساتين بغداد وفي يوم الجمعة المذكور صعد السيد محمد كمونة المنبر وخطب باسم الشاه إسماعيل وأدى كمال الإخلاص والطاعة وبعد الصلاة خرجوا من البلدة لاستقبال لالا بيك والاحتفال بقدومه ...

أما لالا بيك فإنه راعى التعظيم والتكريم اللائق في حق السيد

__________________

(١) لا تزال هذه الأسرة إلى اليوم ومعروفة بهذا الاسم وهو نقيب النجف.

٣٢٢

محمد كمونة وعطف عليه عطفا لا مزيد عليه فذهب السيد محمد كمونة وحسين بيك لالا إلى الشاه وبشروه بفتح بغداد وسلم إدارة المدينة لخلفا بيك وهذا كما قال صاحب حبيب السير أمير عادل ، أتى بغداد قبل موكب الشاه فأمن حقوق الناس.

دخول الشاه بغداد وزيارته مراقد الأئمة :

وإثر ذلك ، وبتاريخ ٢٥ جمادى الثانية سنة ٩١٤ ه‍ وافى الشاه إسماعيل بغداد وقد فرح به السواد الأعظم وقدموا له الذبائح واحتفلوا بقدومه. نزل بستان پير بوداق فالتجأ الناس إليه وزاد الشاه في رتبة السيد محمد كمونة ...

وفي اليوم التالي ذهب إلى زيارة كربلا المشرفة وصنع الصندوق المذهب للحضرة ووقف فيه اثني عشر قنديلا من ذهب وفرش رواق الحضرة بأنواع المفروشات القيمة ... واعتكف هناك ليلة ثم رجع في اليوم التالي متوجها إلى الحلة ومنها ذهب إلى النجف الأشرف لزيارة الإمام علي عليه السلام وقدم النوادر الفاخرة والهدايا الجزيلة لسكان المدينة وأنعم بإنعامات وافرة.

ثم رجع إلى الحلة ومن هناك توجه نحو البادية إلى (قبيلة غزية) النازلة في البادية (١) فأخضعها وعاد إلى بغداد ومن هناك مضى لزيارة الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد وكذلك أنعم على من هناك بأنواع الإنعام ...

ثم توجه إلى زيارة (علي النقي) و (حسن العسكري) الإمامين في سامرا وبعد أن أتم زيارته رجع إلى بغداد ونزل في البناية التي أوصى

__________________

(١) قبيلة عراقية من أشهر قبائل المنتفق.

٣٢٣

ببنائها في أول مجيئه إلى بغداد قرب باب (قراقپو) في فسحة هناك فاستراح ...

ثم ذهب إلى (طاق كسرى) للفرج ومن هناك توجه إلى أجمة السباع للصيد في الجزيرة المجاورة فهجم سبع عليهم وحينئذ قتله الشاه بنفسه ورجع إلى بغداد وعين رواتب إلى خدام الأعتاب المقدسة وأمر بجمع نجارين ومهندسين من أطراف الممالك ليصنعوا ستة صناديق منقوشة بنقوش خطائية أو أسلمية (سليمية) في غاية الإتقان والإبداع ليضعها على المراقد المشرفة ويرفع الصناديق العتيقة.

ثم عين بولاية بغداد (خليفة الخلفاء) وكان قبل هذا يدعى (خادم بيك) فلقبه بخليفة الخلفاء وكناه بأبي منصور وأوصاه بتمشية الأمور والعناية بمراقد الأئمة وأنعم عليه بأنواع الخلع ثم توجه إلى الحويزة (١).

وبهذا انقرضت حكومة البايندرية من العراق ...

أشتات آق قوينلو :

يعد أكثر المؤرخين السلطان مرادا آخر ملوك آق قوينلو. وأن وقعة بغداد سنة ٩١٤ ه‍ هي تاريخ انقراض هذه الحكومة إلا أن مرادا سار قبلها إلى علاء الدولة دلغادر وبقي عنده ... وفي رواية أنه فر إلى مصر. والمعول عليه ما تقدم. وفي أثناء الحرب مع إيران قد ولي قيادة فرقة من الجيش العثماني وذهب للاستيلاء على ديار بكر هناك قتل في رمضان سنة ٩٢٠ ه‍ فانتهى أمرها تماما.

وفي القرماني ما نصه :

«في سنة ٩٠٨ ه‍ قصد الشاه إسماعيل الصفوي بغداد وبها السلطان

__________________

(١) حبيب السير. وتاريخ إيران.

٣٢٤

مراد ، وكانت قد ضعفت دولتهم وقويت شوكة الأردبيلية وكانوا قد استولوا على غالب بلادهم التي بأيديهم فلم يطق مراد المقاومة فترك بغداد وأتى الروم مستغيثا مستجيرا ، فلم ينل بها قبولا ، ثم ذهب والتجأ إلى علاء الدولة بن ذي الغادر وأخذ منه مددا وذهب إلى بغداد واستردها واستقر على سريرها وكان إسماعيل مشغولا بحرب بعض الملوك ثم قضى أربه وهجم علي مراد المذكور ببغداد وطرده عنها واستولى عليها واضمحل حال مراد ولم يعلم له خبر وهو آخر من ملك عراق العجم من أهل هذا البيت» ا ه.

ولكن هذا لم يؤيد من مؤرخين آخرين.

وفي كتاب الدول الإسلامية وغيره ذكر النقود لأكثر ملوك آق قوينلو وأنها موجودة ويشاهد فيها عنوان (سلطان). وفي المسكوكات الإسلامية لأحمد توحيد المطبوع سنة ١٣٢١ قد ذكر بين أسماء ملوكهم زينل بن أحمد بن أوغورلو محمد وحسن الثاني بن يعقوب إلا أنه لم يعين المرجع الذي عول عليه ... وعلى كل إن فروع هذه الحكومة في آذربيجان وآمد وماردين إلا أن التفصيلات عنها لا تزال غامضة وقد ذهبت أخبارها فلم يبق إلا القليل وفي أنحاء الموصل تركمان عديدون ولكن لا يفرق بينهم أو عاد لا يعرف لهم كيان خاص.

فهم الآن يعيشون أشتاتا ومتفرقين أو كتلات ضعيفة وصغرى ...

سلاطين آق قوينلو :

١ ـ بهاء الدين قرا عثمان ٨٠٦ ـ ٨٣٩.

٢ ـ جلال الدين علي ٨٣٩ ـ ٩٤٢.

٣ ـ نور الدين حمزة ٨٣٩ ـ ٨٤٨.

٤ ـ معز الدين جهانكير ٨٤٨ ـ ٨٧٥.

٣٢٥

٥ ـ أبو النصر حسن بيك الطويل ٨٧١ ـ ٨٨٢.

٦ ـ خليل ٨٨٢ ـ ٨٨٣.

٧ ـ يعقوب ٨٨٣ ـ ٨٩٦.

٨ ـ بايسنقر ٨٩٦ ـ ٨٩٨.

٩ ـ رستم بيك ٨٩٨ ـ ٩٠٢.

١٠ ـ كوده سلطان أحمد ٩٠٢ ـ ٩٠٣.

١١ ـ محمدي ٩٠٣ ـ ٩٠٥.

١٢ ـ ألوند ٩٠٣ ـ ٩١٠.

١٣ ـ سلطان مراد ٩٠٣ ـ ٩١٤.

١ ـ ملحوظة :

إن الذين جاؤوا قبل حسن بيك كانت إمارتهم قبائلية وضربت أحيانا النقود بأسمائهم ... وإن حسن بيك أكسبها شكل حكومة منظمة واتفقت كلمة المؤرخين على أنه أول ملوكهم .. والثلاثة الأخيرون تنازعوا السلطة ولم يصف الأمر لواحد والأخير منهم انتزعت بغداد منه في سنة ٩١٤ ه‍ وبقي متجولا ، قتل عام ٩٢٠ ه‍.

٢ ـ ملحوظة :

لا نرى أسماء ولاة بغداد متسلسلة ومطردة.

آخر القول في هذه الدولة :

مضى هذا العهد بتفصيلاته وخير أيامه زمن حسن الطويل وابنه يعقوب بيك فإنها من أحسن الأدوار دامت فيها بعض المواهب العلمية ، والكفاءات الصناعية إلى مدة .. فنرى ظهور بعض الشعراء والعلماء. إلى

٣٢٦

أن جاءت النوبة إلى الحكومة الصفوية. فلم تنقطع الصلة بين الماضي والحاضر. ولكن الفتن الأخيرة جعلت أمراء هذه الحكومة وسلاطينها في ريب من وضعهم. وقد اشتدت الحزبية حتى بلغت حدّها وكثرت الفتن فكانت أشد مما هي عليه في عهد دولة قرا قوينلو.

كانت المجادلات بين أمراء هذه الدولة أنفسهم وصار الملوك ألعوبة بأيديهم فلم يستقر حكم. ثم زاد في الطين بلة (ظهور الصفوية) وقيامهم ، فلم يبق أمل للناس في الراحة ، والطمأنينة. وضعف العراق وتذبذب أمر إدارته فلم تدع الغوائل طريقا للنهوض ولا كانت الفرصة سانحة للاستفادة من شدة الخلاف والاختلاف بين الأمراء وبين الناهضين الجدد.

وكل المدونات عن هذه الحكومة أو غالبها يخص حالتها العامة ، ووضعها الشامل فلا تجد بحثا خاصا عن العراق ومستمرا إلى آخر أيام هذه الدولة وليس فيها ما يوضح الحالة الاجتماعية وما عرض لها من أوضاع. فهي في غموض نوعا.

والحالة العشائرية متبدلة ولم نر للعشائر ذكرا في أيام هذه الدولة إلا قبيلة واحدة هاجمتها الحكومة الصفوية وهي قبيلة (غزية) وهذه كانت صاحبة الصولة في هذا الدور وكذا جاءت الإشارة إلى الجوذر والجحيش ... وكأن هذه العشائر اعترتها بهتة من هذه التبدلات.

أما المدارس فلا نجد واحدة من مؤسساتهم بل لا نرى لها ذكرا فإن الحالة كانت تدعو للقلق فلم ترج سوق العلم إلا بقدر الحاجة والتنوع في ضروبه يكاد يكون مفقودا ذلك ما دعا أن يندثر. والبقية الباقية لا تزال تظهر مواهبها في واحد بعد آخر. فلم يعدم القطر من علماء والاطراد والمجرى العلمي المعروف من أكبر العوامل على البقاء أو بالتعبير الأصح التشكيلات آنئذ تدعو أن لا يفقد العلم وإن كان فقد

٣٢٧

من يدون عنه ، أو عاد لا ترى له قيمة تجاه العظمة السابقة والعلم المعروف نقله تواترا كابرا عن كابر.

ولا قول في أن الناس عباد الجاه والسلطة ... وأن رغبة الحكومة مصروفة إلى الآداب الفارسية ... مما دعا أن تنحط العربية ، أو أنها لا تنال المكانة ما لم تقرن بالفارسية التي حلت مكانتها ورسخت ... فاضطر الناس أن يتعلموهما معا وبرز النوابغ في الشعر الفارسي والعربي معا ووجدنا من حمى العلم والعلماء ، أو راعى الروح الأدبية والفنية وإتقان الصناعة ... فراج الخط وظهر خطاطون عظام خصوصا في التعليق وفي النستعليق .. مما بلغ الغاية حتى ظهر مير عماد ... ومن نحا على هذا النحو .. كما أن النسخ بلغ غاية ليس وراءها ..

وهكذا لم ينعدم النقش والتزويقات الكمالية ، والتجليد فنرى نماذج فاخرة وفخمة إلا أنها متفرقة ومشتتة في مختلف الأقطار .. ومن مجموعها ما يشعر بأن الروح العلمية والأدبية والصناعية .. لم تندثر وإنما انتشرت في مناطق أخرى وتجولت بالنظر للرغبات العلمية والصناعية .. إلا أنها لم تكن بشكلها العام الشامل ونرى أفرادا قليلين قد نبغوا فاشتهروا ولم يعدموا التقدير ..

وفي عصورنا هذه قد وقف كل صنف من صنوفها على فرعه وجمد عليه فلم يحصل احتكاك في الأفكار فالواحد لا يدري عن عمل الآخر ولم يلتفت إلى العلاقات ..

وجمع المعلومات المتفرقة تتوقف على الحصول على الوثائق من كافة النواحي وأما الوجهة السياسية والحربية فهذه قد يتعرض لها في بعض المواطن وتهمل أخرى .. ذلك ما صعب مهمة بحوثنا ، والاعتراف بالعجز في أكثر المواطن ، ولزوم التكاتف للمباحث والتناصر على جمعها وعرضها للعموم ...

٣٢٨

والحاصل أن هذه الحكومة قد طمس الكثير من أثارها ، واندثر العظيم من تاريخها ولو لا التحري ورجاء العثور ، وأمل التناصر لقطعنا في مجهولية غالب هذا التاريخ ...

تصحيح مهم :

لقد ورد في هذا المجلد عبارة «پير بوداق يرلغندين أبي النصر يوسف بهادر نويان سهو زمير» ، وإن كلمة (سهوزميز) خطأ ، وصوابها (سوزميز) ، ويتلفظها الأتراك الآن سوزمز ، ويراد بها (قولنا) وتعني (فرماننا ، ومنشورنا) أو (اراداتنا) ، وتكتب عادة كتوقيع في صدر فرامين أكثر الدول التركية ، كالتيمورية ، وقراقوينلو ، وآق قوينلو حتى إنها تذكر في وقفياتهم ، وفي خزانة الأوراق في استانبول فرمان للشاه رخ فيه جملة (شاهرخ بهادر سوزميز) وفي فرمان آخر للسلطان حسن الطويل مصدر ب (سلطان حسن بهادر سوزمير) ويعبر عنها العثمانيون بعبارة (فرمان عالي شان حكمي) ويقابلها عندنا عبارة (أمرنا بما هو آت) وهذا الإيضاح والتصحيح للأستاذ الفاضل (البروفسور مكرمين بيك خليل) أستاذ التاريخ في الجامعة التركية باستانبول ونحن نشكر له هذا الاهتمام واللطف لما تفضل به مقدرين له جهوده العظيمة للتاريخ.

٣٢٩
٣٣٠

٣

الدولة الصفوية

(من ٢٥ جمادى الآخرة سنة ٩١٤ ه‍ ـ ١٥٠٨ م

إلى ٢٤ جمادى الأولى سنة ٩٤١ ه‍ ـ ١٥٣٤ م)

٣٣١
٣٣٢

الدولة الصفوية

في العراق

نظرة عامة

هذه صفحة أخرى من صفحات تاريخ العراق ، تتعلق بحكومة نشأت خارج العراق واستولت عليه ، في ٢٥ جمادى الثانية سنة ٩١٤ ه‍ ـ ١٥٠٨ م ولا تزال معروفة لدينا ، ووقائعها باقية إلى أيام نادر شاه لما قامت به من حروب ومناضلات بينها وبين الدولة العثمانية في التنازع على السلطة في العراق بصورة متوالية وكانت مؤلمة جدا مما دعى أن يقول العوام في أغانيهم (بين العجم والروم بلوى ابتلينا) وهذه وإن كان موردها غراميا تعني التألم والتوجع مما جرى فقد احترق الأهلون بين نيران الاثنين المتحاربين.

ولو لم يقولوا شيئا فإن ذكرى الحوادث مما يحزن ويستدعي الكره لهذه الحالة فالمتغلب منهما يحاول القضاء على كل نزعة لمخالفه ويسعى لتدميرها واستئصالها والآخر يراعي عين العملية بلا رحمة ولا شفقة ... فكأن القوم لا هم لهم غير اجتثاث ما من شأنه أن يبقى أثرا للآخر ... وكل يعلن نصرته للدين ، وانتصاره لجماعته المتقين ... والسياسة أصل الفعل ، تقمصت بقميصه ، وظهرت بمظهره ...

٣٣٣

والمغفلون يعتقدون صحة ما ذهب إليه كلّ فيجري المفعول بلا شفقة ولا رحمة .. ولا تسل عما أصاب من هلاك في النفوس وتدمير في الأموال ، أو في العلوم والآثار ، أو في الثقافة .. والواحد لا يترك أثرا للآخر ، أو علاقة إلا أتى عليها فلم يجد العراق من راحة أو هناء ، ولا طمأنينة وسكون .. يخرجون من حادث ليترقبوا آخر ، فالمصائب تترى ، والوضع غامض ، لا يعرف القوم مصيرهم ، ولا ماذا سيحل بهم .. وسيأتي ما يبصر بهذا من وقائع مثبتة ، وحوادث مزعجة لا تقف عند هذا العهد وإنما تمتد إلى ما بعده .. وإن خيرات البلاد مكنت الناس من المقاومة نوعا ما وحافظت على البقاء.

وفي هذا الدور الوثائق قليلة جدا من ناحية التعريف بالمحيط ، والاطلاع على أحواله الخاصة ووقائعه الصحيحة .. وما وصل إلينا غالبه جاء من طريق الحكومات المسيطرة وفيه ترويج سياستهم ومراعاة وجهة نظرهم وخطتهم في فتوحهم وإدارتهم.

ومن مقارنة النصوص تتوضح لنا الحالة وتبدو ناصعة إلا أن ما يهم السياسة مدون ، أو ما يتعلق بالحروب مع أعدائهم ، أو مع أهل المملكة معروف. وما سواه مما يميط اللثام عن الشعوب ومكانتها ، أو علومها وآثارها ، أو علاقتها الاعتيادية .. لا يزال في خفاء وغموض أو قليل التمحيص والتنقيب .. وقد استنطقنا مؤرخين عديدين لنستخلص ما يجب الوقوف عليه لجلاء الغامض ..

حوادث سنة ٩١٤ ه‍ ـ ١٥٠٨ م

فتح بغداد :

استولى الشاه إسماعيل على بغداد بتاريخ ٢٥ جمادى الثانية ٩١٤ ه‍ وقد ذكرنا حادث دخوله فلزم أن نعين أصل هذه الحكومة وتكونها ...

٣٣٤

أصل الصفوية إلى توليها الحكومة :

هذه الحكومة ليس لها ماض في الحكم والإدارة ، وإنما كانت معروفة بتصوفها ومؤسسها فاتح بغداد الشاه إسماعيل ابن السلطان جنيد ابن الشيخ صدر الدين إبراهيم بن الشيخ خواجة علي ابن الشيخ صدر الدين موسى بن الشيخ صفي الدين أبي إسحاق ابن الشيخ أمين الدين جبرئيل بن الشيخ صالح ابن الشيخ قطب الدين ابن صلاح الدين رشيد بن محمد الحافظ بن عوض الخاص بن فيروز شاه زرين كلاه بن محمد بن شرف شاه بن محمد بن حسن بن محمد بن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن الأعرابي بن أبي محمد القاسم بن أبي القاسم حمزة بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام. هكذا ساق نسبه صاحب لب التواريخ وقد رأينا الإيرانيين اليوم يبرهنون بأدلة كثيرة على أن الصفويين لم يكونوا سادة (١) ... وهكذا وجدنا الدكتور رضا نور صاحب (تاريخ الترك) يعين أنهم من الترك ، ويستدل بأنه رأى ديوانا لشاه إسماعيل باللغة التركية ومنه نسخة في استانبول وأخرى في طهران وأقول إنه يلقب نفسه في شعره بخطائي ولعل استدلاله مبني على أنه من الخطا ... وإلا فالتركية لا تعني بطلان السيادة. وديوانه معروف ولكن هؤلاء لم يعينوا المراجع القطعية في تحقيق نسب هؤلاء ولم يبرهنوا على صحة نسب آخر يؤيد بوثائق معتبرة ولا يهم هذا كثيرا في نظرنا فقد قاموا بما قاموا به وصاروا في عداد دول إيران والعراق ... وليكن الشاه إسماعيل مبدأ نسبه ، ومؤسس دولته ... توسل اعداؤهم بشتى الوسائل للطعن في نسبهم (٢).

ومهما يكن فإن هذه الحكومة نهضت من سجادة الإرشاد إلى

__________________

(١) آينده مجلة فارسية في مقالة منها تذكر ذلك تحت عنوان (صفويها سيد نيست).

(٢) كلشن خلفا ص ٥٥ ـ ٢.

٣٣٥

كرسي السلطنة من طريق التصوف واستهواء الناس من ناحية الدين باتخاذ المريدين وتشكيل جيش منهم ... وليس هذا بالمستبعد ولا بالغريب في وقائع التاريخ وماضيهم الإرشادي هو أن بعض هؤلاء قد اشتهر بسلوكه المقبول ونال مكانة محترمة أعني به الشيخ صفي الدين الجد الأعلى كان درويشا صوفيا ، ملازما تكيته في أردبيل وقد تلقى الطريقة بوسائط عن الإمام الغزالي ولما توفي خلفه في إرشاده ابنه صدر الدين وبعده ابنه الشيخ علي في تلقين الطريقة وبوفاته جاءت النوبة إلى الشيخ إبراهيم فصار صاحب الإرشاد وخلفه في المشيخة ابنه الشيخ جنيد ... وهذا كثر مريدوه وذاع صيته وتزايدت شهرته في أنحاء إيران ... أيام السلطان جهان شاه من ملوك قرا قوينلو.

ولما علم الأمير جهان شاه أنهم قد توسعوا إلى هذا الحد أوجس منهم خيفة وحاذر أن يخرجوا عليه فأمر بطردهم من أردبيل سواء المرشد منهم والمسترشد ، فأجلاهم جميعا. فوردوا ديار بكر فرحب بهم حاكمها آنئذ (حسن الطويل) من آق قوينلو وتلقاهم بالإكرام الزائد على خلاف ما قام به الأمير جهان شاه ولم يكتف بذلك بل زوج أخته خديجة بيكم من الشيخ جنيد وابنته حليمة بيكم من الشيخ حيدر بن الشيخ جنيد فنالوا رعاية واعتبارا ...

إلا أنهم لم يطل أمد بقائهم كثيرا ، دعاهم حب الوطن فلم يطيقوا صبرا على الإقامة ، فعاد الشيخ جنيد إلى أطراف أردبيل ورحل إلى تلك الأنحاء. ولكنه لما كان صهرا لحسن الطويل علا مكانه وارتفعت منزلته وكبر جاهه ...

ومن حليمة بيكم هذه ولد الشاه إسماعيل بتاريخ (٨٩٠ ه‍) وقال في جامع السير ولد سنة ٨٩٢ ه‍ وإن الشيخ جنيد أيضا توفي فقام الشيخ حيدر مقام والده. وهذا جعل مريديه صنفا خاصا ووضع لهم كسوة رأس

٣٣٦

ليمتازوا عن سائر الناس فكانت علامتهم لبس (التاج الأحمر) من الجوخ وفيه اثنا عشر لونا على عدد الأئمة الاثني عشر. ومن ثم سموا بين الناس بحمر الرؤوس (قزلباش) (١). فكان شعارهم الذي يعرفون به عند الترك وغيرهم.

وأثر ذلك توجه المريدون إلى دربند شيروان بقصد غزو بلاد الكرج ولكن حاكم شيروان وهو شيروان شاه مانعهم واشتبك في القتال معهم فلم يدعهم يدخلون بلاده ودام النزاع بينهما. وفي المنتهى تقاتلوا في أنحاء المنزل و (طبرستان) فسقط الشيخ حيدر قتيلا في المعمعة. ومن نجا من مريديه بايع ولده الشيخ عليا في أردبيل وصاروا يحرضونه على الانتقام وأخذ الثأر ...

أنهي هذا الخبر من جانب ميرانشاه إلى السلطان يعقوب فأوجس خيفة وصار في ريب من أمر هؤلاء ورأى أن رفع غائلتهم أمر ضروري ولذا أمر سليمان بيك فقتل الشيخ عليا وجاء برأسه وأمر أيضا أن يقتل باقي أولاده إلا أن أخت حسن الطويل عارضت في ذلك ومنعت من إيصال الأذى بهم فاكتفى بحبسهم في اصطخر (وفي جامع السير في قهقهة) مع خديجة بيكم.

وبعد أن توفي السلطان يعقوب حدث نزاع على السلطنة بين ابنه بايسنقر ومسيح ميرزا وأن أتباع السلطان يعقوب انقسموا إلى قسمين كل فريق مال إلى واحد من المطالبين بالسلطنة. وفي هذه الحروب قتل مسيح واستقل بايسنقر بالسلطنة ، إلا أن محمود بيك بن أوغورلو محمد بن حسن الطويل من أتباع مسيح قد هرب إلى جهة بغداد وكان الحاكم فيها شاه علي باريك. وهذا قد اهتم في إجلاسه على سرير

__________________

(١) قزلباش لفظة تركية تعني أحمر الرأس.

٣٣٧

السلطنة وجهز للمرة الأخرى صوفي خليل بن محمود بيك وشاه علي فتحركوا على بايسنقر وأثاروا الحروب في أنحاء دركزين وفي هذه الحروب قتل كل من محمود بيك وشاه علي ولم تمض مدة حتى قام لمحاربة بايسنقر ابن عمه رستم بن مقصود بن حسن الطويل ونازعه السلطنة حتى تمكن من الاستيلاء على آذربيجان فجعلها منقادة له. ولذا اضطر بايسنقر إلى الفرار إلى حاكم شيروان وهو صهره. ولكن رستم لم يأمن من حركة بايسنقر هذه وحاذر من شاه شيروان أن يمد بايسنقر فأراد إشغاله فأطلق أولاد الشيخ حيدر من سجن اصطخر ليشوشوا عليه إلا أن ذلك قليل الجدوى ولم يفد هذا التدبير فإن بايسنقر تقدم إليه بجيوش جرارة فلم ير بدا من مقارعته. وفي أثناء الحرب معه قتل بايسنقر في ساحة القتال ونال رستم ما كان يأمله ومن ثم أكرم أولاد الشيخ حيدر وأرسلهم إلى أردبيل. وبهذه الصورة نال أبناء الشيخ حيدر لطفا من رستم (١).

وفي حدود سنة ٨٩٨ ه‍ اختل الأمر وانقلب هذا الحب إلى بغضاء وجفاء فأرسلت الحكومة على الشيخ علي جندا فقضوا عليه فاضطر كل من ابنيه إبراهيم وإسماعيل أن يفرا إلى أنحاء كيلان بحالة يرثى لها ولم يستقرا إلا في بلدة لاهجان من مضافات كيلان فإنهما قد لاذا بحاكمها كاركيا ميرزا علي فآواهما واحتميا به.

وبعد سنة ضاق صدر إبراهيم من الإقامة في لاهجان فترك التاج الموروث من أبيه وسلمه إلى أخيه إسماعيل وغير لباسه وعمامته وترك أمه وأخاه وتجرد من الكل وعزم على السياحة إلى محل مجهول ولم يعلم ما آل إليه أمره وما وصل إليه حاله ولم يدوّن عنه شيء في كتب التاريخ (٢).

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٥٥ ـ ٢ ولب التواريخ.

(٢) كلشن خلفا ص ٥٤ ـ ٢.

٣٣٨

الأسرة الحيدرية في بغداد

من بيوت العلم المعروفة في بغداد ، تنتسب إلى إبراهيم أخي الشاه إسماعيل ، وكان قد تغيب ، وترك الطريقة إلى أخيه ، وذهب لحاله ، لا يدرى أين طوح به الزمان ... وقد عرفنا إبراهيم فصيح الحيدري أنه ذهب إلى ما وراء النهر ، وعاش هناك ، ومن أحفاده محمد بن حيدر پير الدين ابن الشيخ أمين الدين بن پير الدين بن إبراهيم المذكور كان أول الواردين من وراء النهر إلى العراق ، كان يتكلم باللغة التركية الجغطائية ، وهذا قد ولد ابنه حيدر في العراق وكان أول أجداده الذين عرفوا به (أسرة الحيدرية). ومن ثم توالى علماؤهم في العراق ، واشتهر من بين أفرادها علماء عديدون ، منهم صبغة الله الحيدري برز في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري ، وتراجم علمائهم مدونة في كتب عديدة ، في سلك الدرر ، وفي شمامة العنبر ، وفي الروض النضر ، ومطلع السعود ، وفي عنوان المجد. وكل ما يقال عنهم أنهم خدموا العلم في العراق ، وقاموا بالتدريس والتعليم ، فبقي لهم الذكر الجميل ، وسنعود للموضوع عند الكلام على علمائهم الواحد تلو الآخر ... وأرى مكانتهم العلمية فوق النسب ، والأسرة يذكر فضلها بما أسدته للمملكة من خدمات صادقة ، وثقافة قويمة ... وهذه قامت من ذلك بنصيب ونرى معالي داود الحيدري في زمن وفاة والده المرحوم السيد إبراهيم الحيدري قد عين أن أصلهم من الكرد ، فلا مانع ولا تضاد في الأمر عاشوا في العراق ببلاد الكرد ، ثم مالوا إلى بغداد ، فإذا قلنا كرد فذلك صحيح وإذا قلنا بغداديون فلا نعدو شاكلة الصواب ... ولا تنكر هذه العلاقات ببغداد والكرد ، وغيرها ... أعضاء فعالة ونافعة جدا إلى أن تحولت الثقافة في أيامنا هذه. فقد كان الطريق العلمي والديني انتهى بمعالي الشيخ إبراهيم فقد نال مكانة علمية معروفة أيام الترك العثمانيين وفي عهد الحكومة العراقية وسنتعرض لمكانته ومؤلفاته في محلها من كتابنا ، واليوم تحولت الثقافة ، ومالت الفكرة إلى ثقافة جديدة ...

٣٣٩

الطريقة الصفوية :

كانت من الطرق المعروفة ، ولها منزلة مهمة في قلوب أتباعها ، انتشرت انتشارا هائلا بين قبائل التركمان ، والبلاد التي يقطنونها مثل أذربيجان وبلاد كثيرة ... ورأس هذه الطريقة ومؤسسها الذي عرفت به هو الشيخ صفي الدين أبو إسحاق ، أحد أجداد الشاه إسماعيل ، ومن شيوخ طويقته الشيخ تاج الدين إبراهيم الزاهد الكيلاني المتوفى سنة ٧٠٠ ه‍ في سيارود من كيلان وتتصل طريقته بالغزالي وتنتهي في سلسلة شيوخ هذه الطريقة بالإمام علي عليه السلام. وكان الشيخ صفي في زمانه قد ولي الإرشاد ونال الموقع اللائق في قلوب المريدين ... وعرف بذلك أيام المغول ولهم الاعتقاد التام به ، وكثير من أقوامهم ارتدعوا عن إيذاء الخلق ، والتجاوز على الناس بسببه كما جاء ذلك في تاريخ كزيدة (١). وكتب كثيرون في مناقبه ، وبيان طريقته ومجاهداته ... ومن أهم هذه الكتب وأوسعها كتاب (صفوة الصفا) (٢) ، وهذا الكتاب سمعت أنه طبع في الهند. ورأيت كتابا يسمى (المناقب الصفوية) باللغة الإيرانية في التصوف ، ولا أدري ما إذا كان عين (صفوة الصفا) أو غيره ، وهو في مناقب صفي الدين في مجلد ضخم جدا يطنب في أوصافه وكراماته ، وسائر أحواله من ابتدائها إلى انتهاء أيامه ، وهو يساعد كثيرا لمعرفة طريقته ...

والكتاب في مكتبة أيا صوفيا رقم ٣٠٩٩ وأعتقد أن هذا الكتاب فيه كفاية وغناء عن غيره لمعرفة هذه الطريقة. ومع هذا لا تزال معروفة وفيها مدونات ورسائل تعين هذه الطريقة ، وتسمى طريقة (شاه صافي) ، ومن كتبها التي رأيتها مخطوطة (هداية) و (مرشد) و (وبويرق) و (حسنية)

__________________

(١) توفي سنة ٧٣٥ ه‍.

(٢) لب التواريخ ص ٢٣٦ وكلشن خلفا.

٣٤٠