موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٣

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٣

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

٢

الدولة البايندرية

(آق قوينلو)

(من ١٤ جمادى الآخرة سنة ٨٧٤ ه‍ ـ ١٤٧٠ م

إلى ٢٥ جمادى الآخرة سنة ٩١٤ ه‍ ـ ١٥٠٨ م)

٢٠١
٢٠٢

الدولة البايندرية

(آق قوينلو)

السلطان حسن الطويل

فتح بغداد :

في ١٤ جمادى الآخرة سنة ٨٧٤ ه‍ ـ ١٤٧٠ م فتح السلطان حسن الطويل بغداد على يد ابنه مقصود بيك ، ومن ثم ابتدأ حكم البايندرية ، وكان السلطان حسن حاكما في أنحاء ديار بكر ، وإن جهان شاه كان يحذره ، فسمع أنه فرح بقتلة پير بوداق ، واستضعف أمره. ذلك ما دعا أن يعزم جهان شاه على التنكيل به ، ويقضي عليه ، فكان ما كان فعكست الآية ...

وهذا السلطان قارع أكابر رجال الشرق آنئذ ، وبينهم جهان شاه والسلطان أبو سعيد ، وقضى على حكومات ... فظهر منتصرا على الكل فسلمت بغداد بلا حرب ، وأن السلطان لم تصبه نكبة تصده عن ممتلكاته ، وعن توسعه في الأقطار المجاورة. فكوّن حكومة قوية الشكيمة عاشت مدة بعده. وعلى كل حال استولى على بغداد ، فصار (ملك العراق).

٢٠٣

ولما كانت هذه الدولة ترجع في تكوينها وظهورها إلى ما قبل هذا التاريخ لزم أن نعين ماضيها ولو بصورة موجزة ، ليكون القارىء على علم منها ، ومن سلطان العراق الجديد وأصل حكومته.

نظرة عامة

كانت هذه القبيلة من حين شعرت بلذة الحكم لم تراع الحالة الهادئة والوضع المدني ، وإنما قضت غالب أيامها في حروب قبائلية ، ثم انصرفت إلى آمال استقلال أو استيلاء ، وقد تكون بعض حروبها خوفا من المقابل ، أو تعندا منه أو مراعاة للحيطة والحقد ...

ولم تشعر بقوة إلا في أواخر العصر الثامن الهجري أيام ظهور تيمور في هذه الأنحاء ، فقد رأت مناصرة منه ، وأخلصت له فنالت مكانة أرعبت المجاورين. ولما برز قرا يوسف بقبيلته كان رئيسها قرا عثمان أكبر ندّ له ، وهما على طرفي نقيض ، يتحاربان مرة ، ويتسالمان أخرى ، وأيام السلم قليلة.

وفي أيام حسن الطويل نالت هذه القبيلة الموقع اللائق ، والمنزلة المهمة ، فحصل على فتوح كاد يضرع بها أكابر الفاتحين ، فاق كثيرين غيره في حسن إدارته وحمايته للعلم والعلماء إلا أن مدته كانت قصيرة ، ولم يطل أمد حكمه ليجني الناس راحة وهناء ، ولا رأت بغداد ما يساعد على ثقافتها. وإن ابنه يعقوب بك كاد يجاريه في اهتمامه بالثقافة والنظام.

ثم اضطربت الحالة ، وتشوشت الأمور ، وطمع آخرون بالملك ، فلم تدم هذه الحكومة ، ولم يترعرع في حضنها من يداني الطويل وابنه ... ذلك ما دعا أن تنحط الأمور وتختل الحالة ، وترتبك الإدارة ... فلم تحصل كفاءة علمية أو أدبية إلا قليلا ... وما ذلك إلا

٢٠٤

٢٠٥

لقصر المدة ، وقلة عناية التالين في حراسة العلم والأدب فلم يظهر في مدارسها نوابغ عديدون ليصح أن يقال لها حضارة خاصة لها طابعها المعروف ... والعلماء وأرباب الثقافة يكادون يعدون بالأصابع ...

والأهلون لم يتمكنوا من فتح أعينهم من غوائل الحروب ليميلوا للعلوم بل عادت بعد قليل جذعة ، قامت الفتن ، وتحركت الاضطرابات ، وصار سوق المتنفذين في رواج ، وزاد التغلب في الأنحاء ...

وحالات العشائر ، وسلوك المجاورين يعين أوضاعهم ... فهم في تنازع لا هوادة له ، ولا ركود للزوابع والقلاقل ... نرى القوي يتغلب ، والضعيف يقهر ، ومن شعر بوهن في المقابل أو خلل فيه جمح ، أو حاول القضاء على ندّه ليحل محله ... ومن ثم نجد الحكومات المجاورة ، والقبائل بالمرصاد تترقب الفرصة ، وتتطلع الحالة ... تتفق مع هذا اليوم ، ثم تصد غدا ، وتركن إلى آخر ، وهكذا الأهواء مختلفة والنزعات متباينة ، والآمال لا تقف عند حد ، والحرص بلغ منتهاه ، قتل الشعوب والحكومات معا ...

ونفسيات الأهلين من الحضر خاصة تجاه ذلك في ارتباك ، لا تدري ما يراد بها ولا ما تضمره الليالي من نكبات وآلام ، أو أرزاء ومصائب ... مما لا يسعه وصف ، أو يحيط به قلم من توقع خطر واضطراب وترقب ما لا تحمد عواقبه ...

وهذا العهد يتصل في أكثر وقائعه بالدولة (البارانية) من أوائل تكونها إلى أن فتحت العراق ، ومن ثم استقلت وحدها بالإدارة وقهرت عدوها ، وكان لها العز والصولة ... دامت إلى أن جاء أجلها ، ووقائعها في العراق عن أيامه الحاضرة غير معروفة تماما بسعة وبسط ولا مطردة متسلسلة ، وإنما حكاها المجاورون أو تعينت إجمالا في تواريخ هذه الحكومة ...

٢٠٦

وعلى كل ينبىء المعلوم عما وراءه ، وتشير الحالة إلى ما جرى والوقائع المتكررة لا تفيد أكثر من أن تكون أمثلة ... ولا أعتقد أن هذا الإهمال للحوادث العراقية مقصود من الحكومة الأصلية ، ولكن لم يلتفت إلا إلى أعمال السلاطين وحروبهم ، والتغني بمآثرهم ، وإغفال ما سوى ذلك على ما اعتاده المؤرخون في هذه العصور أغلبيا.

قبيلة البايندرية

(آق قوينلو)

١ ـ ماضيها :

بينا أوضاع القبائل التركمانية ، ومنها هذه فقد قدر لها أن تتأهب للكفاح وتنال بغيتها في صف الحكومات التاريخية ، وتدخل ضمن قائمتها سواء في العراق ، أو في إيران وديار بكر. ولا بدع أن تتكون حكومة من قبيلة فنظائرها كثيرة ...

كانت أيام استيلاء التتر والمغول قد مالت إلى ديار بكر والأنحاء المجاورة ، وقد مر الكلام على تاريخ هذه الهجرة. ومن المقطوع به تاريخيا أنها من ذرية أوغوز ، وتمت إلى أحد أحفاده (بايندر) بن كون بن أوغوز ، والبايندرية نسبة إليه وفي جامع التواريخ أن بايندر بن كوك بن أوغز ، وهذه القبيلة من بين ٢٢ قبيلة من القبائل المتفرعة من أوغز ، وعلامتها أو سمتها على دوابها وخيولها هي الفارق بين مواشيها عند الاختلاط ذكرها صاحب ديوان لغات الترك ، وهناك بيان قبائلهم ... وفي شجرة الترك عين أن (بايندر يعني المنعم) (١).

__________________

(١) ديوان لغات الترك ج ١ ص ٥٨ وشجرة الترك وجامع الدول ج ٢.

٢٠٧

وآق قوينلو صفة لحقتهم من جراء أن هذه القبيلة كانت قد اقتنت غنما بيضا فصاروا يدعون ب (بيض الغنم) ولما كانت الأعلام لا تغير اخترنا لزوم الاحتفاظ ب (آق قوينلو) ، و (البايندرية). ولا نرى صحة ترجمة اللفظ. والتركمان عرفوا بأسمائهم ، ولم يترجم علم عرفوا به ...

٢ ـ إمارتها :

هذه القبيلة أقامت في أنحاء ديار بكر (١) ، وعولت على نفسها ، فنزعت إلى السيادة والاستقلال ، وتوالى منها رجال مشاهير ، نالت بهم الحكم ، وكانت قد طمحت نفوسهم إلى السمو ، وأسسوا إدارة منتظمة ... فظهرت القبيلة أخيرا بمظهر حكومة وكانت معروفة بالقسوة (٢) ، تدربت على يد الأمير تيمور ونهجت طريقته (٣).

خلفت أثرا في التاريخ ، وصار لها شأنها من عظمة ، وأبهة ، وسطوة ... قارعت وناضلت نضال مستميت حتى حصلت على ما أرادت ، ودار إمارتها على الأكثر في ديار بكر ... وحصلت على السلطة أيام حسن الطويل فاتح بغداد ، فانتقلت من رياسة القبيلة إلى الإمارة ، فالحكومة أو السلطنة بالمعنى الصحيح ... وعرفت ب (آق قوينلو) ، وب (البايندرية) (٤) ...

٣ ـ مشاهير رجالها :

عرف منها مشاهير عديدون ، وإن قرا عثمان ذاع صيته أيام تيمور

__________________

(١) ديار بكر هي آمد والتفصيل عنها في قاموس الأعلام ، وكان يسكنها قبائل بكر بن وائل قبل الإسلام فتغلب عليها اسم (ديار بكر).

(٢) المنهل الصافي.

(٣) ديار بكرية ص ٩.

(٤) جامع الدول ، وديار بكرية.

٢٠٨

أكثر ، وعدد صاحب ديار بكرية أجداد الأمراء وأوصلهم إلى آدم عليه السلام مما لا نرى ضرورة لذكره ولا داعي لإيراده ، وإنما اخترنا أن نعين المعلومين منهم من حين عاشوا في أنحاء ديار بكر وما والاها ...

وهنا نقول إن آباء قرا عثمان يعرفون ب (آل بزدغان) من أمراء التركمان في ديار بكر (١) .. وقرا عثمان هو ابن قطلو بيك بن طور علي بيك ابن پهلوان بيك ابن أزدي بن إدريس بيك (٢) ... ومن هؤلاء (إدريس بيك) كان أميرا على البايندرية وكان يقطن بعض الأنحاء في ديار بكر ، وهو معروف بالصلاح والاستقامة ... و (پهلوان بيك) كان في عهد المستعصم ، مشتهرا بالشجاعة ، فعرف بهذا الاسم وأغفل اسمه الأصلي ، تصرف في قلعة (النجق) ، وحارب جرماغون نويان فهزمه ، وقاتل جيش الروم النصارى فكسرهم ، وقتل الكثيرين منهم في حدود بروسة مع قلتهم ... و (طور علي بك) كان قد خلف والده في الإمارة ... وتوسع نطاق إمارته في ديار بكر وما والاها ... وفي أيام السلطان غازان لازمه في التوجه إلى أنحاء الشام ، ورأى لطفا منه لما رأى من شجاعته وفروسيته ... لحد أن قبيلته آنئذ تعرف به.

وأما (قتلو بيك) أو (قطلو بيك) ، فإنه كان من الأخيار ، يراعي الدين ، ويتّبع أحكام الشرع الشريف ، ويعرف بالصلاح والتقوى. وكانت جهوده مصروفة لحرب الأمم المخالفة ، ويعد من واجبه حفظ الثغور ، وفتح البلاد لنشر الإسلام ، وكسر أعداء الدين .. وكان في أيامه صاحب طرابزون وهذا بدا منه ومن جيوشه التصلب في مخالفة المسلمين

__________________

(١) مجموعة تواريخ التركمان.

(٢) ديار بكرية ، وفي لب التواريخ أول من نزح إلى هذه الأنحاء هو طور علي بك ، وفي نخب التواريخ أزدي بك وسماه حاجي بيك ... وديار بكرية هي من أقدم المراجع ، وعليها المعول ...

٢٠٩

فحاربهم وقتل أميرهم (يوسف دوخاري) فنكل بأعوانه واكتسح مملكتهم وأسر الكثيرين منهم ، وفلّ جموعهم. وكان بين الأسرى (تشبيه) بنت تكفور طرابزون فأعادها ... وخذل عدوه في حملاته الصادقة في حروبه (١).

أيام حكومتها

١ ـ قرا عثمان : (قرايلك)

كان قد ظهر أيام الأمير تيمور ، فتعهده .. وقوي به ، واعتز ، كما نال السلطان أحمد قرا يوسف من الأمير تيمور ما نالهما من جراء عدائه .. ويعرف قرا عثمان ب (قرايلك) ومعناه كما في الغياثي الأسمر اللون الذي يحلق محاسنه. ويلفظ قرايلوك وقرا يولوق. وأما قرايلدك فغلط ودعاه في ديار بكرية الأمير بهاء الدين عثمان ، وهو من الشجعان المشهورين ، له معارك مشهورة ، ومواقف معروفة تبلغ نحو ثلثمائة معركة ، وكان منصورا في غالبها. وهو تحت امرة أخيه الأكبر أحمد بيك ، صدرت منه على المخالفين آثار عظيمة من الشجاعة والغلبة ، ولما كانت الإمارة ورياسة القبيلة لأحمد بيك ، وكانت قبيلة قراقوينلو وكذا طهرتن صاحب أرزنجان من أعدائهم ... ركنت إليه قبيلته ومالت لجهته ، فحسده أخواه أحمد بيك وپير علي بيك وحبساه وبقي في الحبس مدة.

وفي أثناء ذلك هجم قرا يوسف عليهم فاقتتلوا بين آمد وماردين فانكسرت آق قوينلو ، فألحوا على أحمد بإطلاق أخيه عثمان بيك ، فأطلقه خوفا من وثوبهم عليه فخرج هذا من الحبس ، وقاتل قراقوينلو ،

__________________

(١) ديار بكرية ص ١٠ وما يليها ، وفي قاموس الأعلام ج ٤ ص ٣٠٨ تفصيل حكومتهم وأما (قت) فهي بمعنى السعادة ، و (قتلو) مسعود ، وينطق به قتلغ أو قطلغ تبعا لاختلاف اللهجات التركية ، وهذا كله شائع.

٢١٠

وكسرهم ، فازداد حسد أخويه ، ذلك ما دعا أن يسير إلى القاضي برهان الدين صاحب سيواس ، فحظي عنده ، وبقي في خدمته.

ثم انحرف عنه لأنه غدر بابن أخته الأمير الشيخ مؤيد وقتله بعد أن حصل على الأمان بواسطة عثمان بيك. والشيخ مؤيد كان قد أعلن العصيان على خاله ، فلم يتمكن أن يظفر به لو لا عثمان بيك وكان قد نزل إليه من قلعة قيسارية فقتله برهان الدين غدرا (١) ذلك ما دعا عثمان بيك أن يغضب للحادث ويفارقه بستمائة فارس من أصحابه ، وصار إلى جهة قلعة ديوركي ، فتبعه القاضي في جمع عظيم ، وأدركه في موقع يقال له قرائيل (في جامع الدول قرابيل) في الحدود بين الروم والشام فثبت عثمان بيك وكان القتال شديدا مع قلة الجمع فقتل القاضي برهان الدين ، وانهزم عسكره واستولى عثمان بيك على أكثر بلاده (٢).

ثم قصد (قراتاتار) الذين كانوا نحو أربعين ألف بيت قرا عثمان ، وكانوا يسكنون في نواحي الروم فقاتلهم عثمان بيك وكسرهم في موقع يقال له (سورك) بين سيواس وقرائيل وفرق شملهم ، ومزق وحدتهم (٣).

وبعدها سار فحاصر سيواس ، فبلغه أن ييلد يرم بايزيد قد أرسل ولده سليمان چلبي في جمع عظيم بغرض تسخيرها ، فثبت إلى أن وصل إليه العسكر وأحاط به فتحقق عجزه عن المقاومة ، فاخترق الجبهة ،

__________________

(١) بزم ورزم ، والتفصيل عن القاضي برهان الدين هناك ، وقد علمت أنه ترجم عن الفارسية إلى اللغة التركية من لجنة التأليف والترجمة في الجمهورية التركية ، راجع وصف هذا الكتاب في تاريخ العراق ج ٢.

(٢) ديار بكرية ص ٢٩ وجامع الدول ج ٢.

(٣) قرا تاتار طائفة من التركمان أقام قسم منها في خراسان وآخر في الأناضول ، بعد وفاة تيمور تفرقت في أنحاء مختلفة ، وفي أيام نادر شاه جمع قسما كبيرا منهم ، وقد وسع البحث عنهم صاحب «مرآة البلدان» وعين مكانتهم في إيران. ص ٤٢٠ وديار بكرية.

٢١١

وتمكن أن ينجو من بين أيديهم ، وسار بأتباعه إلى أرزنجان ، والتجأ إلى صاحبها (طهرتن) ثم علق هو وطهرتن بيك بخدمة الأمير تيمور عند قصده الروم ، وظهرت منه آثار عظيمة من البطولة فحظي عنده ، وكان أخواه أحمد بيك وپير علي بيك أيضا مع تيمور في هذه الواقعة ، وجعله تيمور مقدمه في أكثر حروبه التي في بلاد الشام والروم.

ولما شتى تيمور في بلاد آيدين ومنتشا بعد تخريب الروم أرسل عدة أحمال من الأموال والأمتعة التي نهبها من بلاد الروم إلى دار ملكه في جمع من ثقاته ، فأغار عليها محمد بيك ابن أحمد بيك ؛ وپيلتن بيك ابن پير علي بيك (ابنا أخوي عثمان بيك) في طائفة من تركمان آق قوينلو ونهباها .. فاتصل الخبر بتيمور ؛ فقبض على أحمد بيك وپير علي بيك وحبسهما وعفا عن عثمان بيك لبراءة ساحته مما حدث ، بل أكرمه ، وأحسن إليه ، فأرسل عثمان بيك ما كان قد ملكه من منهوبات الروم مع ولده إبراهيم بيك (١) إلى ولاية آمد. لأن تيمور كان أقطعها له ، فقطع محمد بيك ابن أحمد بيك الطريق عليه ، وأراد أخذ الأموال والمتاع من يده فقابله إبراهيم بيك ، وفي الأثناء وصل عثمان بيك إلى هناك ، فعاد محمد بيك خائبا ، وكان السبب في ذلك أن محمد بيك ظن أن حبس أبيه وعمه كان بنكاية من عثمان فتدخل المصلحون ، وتأكد محمد بيك أن لا دخل لعثمان بيك فمضى هذا إلى إقطاعه آمد ، وأطاعه كثير من قومه ، ومن العرب والأكراد ...

وله مع قرا يوسف وصاحب ماردين حروب ، كانوا جمعوا عليه من الأكراد (السليمانية) و (الزرقية) وغيرهم ... وفي جهته طائفة دكر ورئيسها يامغور بيك (ياغمور) بن بهادر حاجي بن عم دمشق خواجه وكوجه موسى أيضا من أمرائهم ... وكان يطيع قرا عثمان ألف بيت من بني كلاب

__________________

(١) هذا قتل ، وله ابن اسمه اسكندر.

٢١٢

وشادي ... وكان ابنه علي بيك قد حارب الأمير نعير أمير آل فضل ... بأمر من والده ، وكانت له مكانة ومنزلة كبيرة في تلك الأنحاء (١) ...

وفي جامع الدول تعداد وقائعه وحروبه ، وأغلب الحروب الأخيرة كانت بعد وفاة تيمور ، حارب قراقوينلو وهو في توسع تارة ، واندحار أخرى ، وربح وخسار والجدال مستمر ، ولم يترك السلاح في وقت ... وفي كل حروبه كان مواليا لشاه رخ بعد وفاة تيمور حتى قتل على يد الأمير اسكندر بن قرا يوسف (٢) ... وعلى ما جاء في جامع الدول أن هذه الواقعة كانت في شهور سنة ٨٣٩ ه‍ (٣).

وترجمته في قاموس الأعلام ، وفي كنه الأخبار ، وفي الضوء اللامع (ج ٦ ص ٢١٦) ... وجاء في القرماني أنه كان شجاعا ، وله مع الترك والعرب وقائع ، انتمى إلى تيمور ، ودله على مسالك الروم ، واستنابه تيمور في بلاده. وقال الغياثي : «كانت آمد عاصمته ، وكذا ما يصاقبها من البلاد ... وتملك ديار بكر العليا كلها إلى حدود الخاتونية ، ومن سنجار إلى إربل والموصل ، وهي ديار بكر السفلى ، والكل يطلق عليه (أرمينية الصغرى) ، وهي بإزاء (أرمينية الكبرى) التي هي شروان وشماخي ...» ا ه (٤).

__________________

(١) ديار بكرية ، وفيها تفصيل زائد للحروب والوقائع ، وإن صاحب جامع الدول كما يظهر من ترتيب مباحثه وموافقتها قد نقل منها عينا ، وبلا تصرف إلا في نواحي البلاغة والتعظيمات فنقل منه رأسا أو بالواسطة ... وفي ديار بكرية تصحيح الأعلام ...

(٢) مرّ في هذا المجلد.

(٣) في ديار بكرية تفصيل زائد عن حادث قله ، وفيها أن طائفة دكر وأميرها كوكجه موسى كان قد مال إلى جهة الأمير اسكندر راجع ص ٤٨ ـ ٥٨.

(٤) راجع سيس وأدنة والبلاد الأخرى ... في كتب البلدان ، وفيها ما يوضح أكثر عن أرمينية.

٢١٣

وفي مجموعة تواريخ التركمان أنه كان شجاعا إلا أنه أهوج ، وله مع الترك والعرب وقائع طويلة طال عمره مائة سنة ، ولما طرق اللنك البلاد الشامية انتمى إليه ودخل في طاعته ، وله وقائع مع حديثة بن سيف بن فضل أمير العرب ، وجميل بن نعير ... مات في العشر الأخير من صفر سنة ٨٤٠ ه‍.

وفي المنهل الصافي : «صاحب آمد وماردين وغيرهما ، ومتملك غالب ديار بكر بن وائل ، كان أبوه من جملة الأمراء في الدولة الأرتقية أصحاب ماردين ، ثم انتمى إلى تيمور لنك ، وصار من أعوانه ... واستولى على آمد ، وولاه الملك الناصر فرج نيابة الرها لما قتل جكم ... فقوي بذلك ، وضخم والتزم جانب ابن نعير ، وناصره على الأمير حديثة بن سيف الذي جعل أميرا من قبل سلطان مصر ... ودامت وقائعه مع قرا يوسف ، ثم مع ابنه اسكندر ... وهي مشهورة طالت سنين ... وكان قرايلك من رجال الدنيا قوة وشجاعة ، قتل عدة أمراء ... وفي أيام الملك الأشرف أخذت الرها منه ، وقبض على ابنه هابيل ، وحبس بقلعة الجبل إلى أن توفي ... وحروبه مع سلاطين مصر لا تقل عن حروبه مع قرا يوسف ... قتل في حرب مع اسكندر في العشر الأول من صفر سنة ٨٣٩ ه‍ (١) ... تتبع اسكندر قبره (خارج أرزن الروم) حتى عرفه ونبش عليه وأخرجه وقطع رأسه ورأس ولديه وثلاثة رؤوس أخر من امرائه ... وأرسل الجميع مع قاصد إلى الديار المصرية للملك الأشرف برسباي ... ففرح الملك ... وينبغي لكل مسلم أن يفرح بموت مثل هذا الظالم المصر على الفتن والشرور ، وقد قتل في أيامه من الخلائق ما لا يدخل تحت الحصر لطول مدته وكثرة إقامته وحروبه مع جماعة من الملوك ... أفنى الأهلين قتلا وسبيا وجوعا ،

__________________

(١) في الغياثي أنه توفي سنة ٨٣٦ ه‍.

٢١٤

عامله الله بعدله ، والحق به من بقي من ذريته ليستريح كل أحد من هذه السلالة ...» ا ه.

ومن أولاده (بايزيد) و (سلطان حمزة) ، و (علي بيك) ، و (محمد بيك) ، و (يعقوب بيك) ، و (قاسم بيك) ، و (محمود بيك) ، (شيخ حسن بيك) ، و (اسكندر بيك) ، و (شمس الدين بيك) ، و (هابيل) ...

٢ ـ بين علي بيك وحمزة بيك :

من حين قتل قرا عثمان وقع الهرج بين أمراء آق قوينلو ، وقام النزاع بين أولاد عثمان بيك وبين أولاد أخوته ، فادعى قلبح أرسلان بيك بن أحمد بيك أخي عثمان بيك الأمر لنفسه ، وهرب الشيخ حسن بن عثمان بيك من أرزن الروم إلى خدمة شاه رخ. وأما علي بيك فقد هرب مع أخويه محمد بيك ومحمود بيك من المعركة إلى أنحاء ديار بكر ، فقصده أخواه بالسوء ، ثم لحق به ابنه جهانكير في ثلة من الجيش ، جاءه من جانب خرتبرت ، فقوي به ، ثم وصل إليه خبر وفاة والده فأطاعه قومه ، وأذعنت له قبيلته ... وأطاعه أمراء البايندرية ، وكان ولي عهد أبيه ، فقام مقامه ... فأحسن السيرة وعدل ، واستناب ولده جهانكير ميرزا علي حفظ الألوسات (١) وسيره معهم إلى صوب خرتبرت (خرپوط) وتوجه هو إلى خدمة ميرزا محمد جوكي بن شاه رخ بارزنجان ، وصل إليها في عقب اسكندر واجتمع بخدمته مع أخيه يعقوب بيك وابني عمه نور علي بيك وجعفر بيك.

ثم أرسل جوكي ميرزا جيشا مع علي بيك لطلب اسكندر ، فأدركوه قرب قوبلي حصار ، فهرب اسكندر وقتل أكثر أصحابه ، فعاد علي بيك

__________________

(١) ألوسات بمعنى قبائل. واللفظة مستعملة عند المغول والجغتاي وسائر الأقوام التركية ، وألوس أو أرلوس القبيلة ، ويتوسع فيها إلى الإمارة ...

٢١٥

٢١٦

إلى أرزنجان وزوج أخته خاتم من جوكي ، فأقطع هذا ولاية أرزنجان ليعقوب بيك ، وجعل إيالة ديار بكر وحفظ الألوسات لعلي بيك فعاد مع زوجته خاتم إلى خدمة والده شاه رخ ...

ولما عاد علي بيك بلغه أن أخاه السلطان حمزة والي ماردين قد استولى على آمد ، وقصد أخواه محمد بيك ومحمود بيك أرقنين (١) ، فتوجه إلى هناك فهرب الأخوان إلى السلطان حمزة بآمد ، ثم سار علي بيك وسخر آمد أيضا لأن السلطان حمزة قد سار إلى ماردين لحفظها من علي بيك ، فأرسل أهل البلد إلى علي بيك يدعونه إليهم لتسليم القلعة ، فسار إليهم وتسلمها منهم وأرسل حريم السلطان حمزة إليه في عقبه ، واستناب علي بيك بآمد ولده جهانكير ، وأرسل ولده الآخر حسين بيك إلى صاحب مصر لإصلاح البين ، فقبض عليه صاحب مصر وحبسه ثم أرسل إلى طائفة (دكر) وأمرهم أن يغيروا على ديار بكر ، فأغاروا على نواحي آمد ، فخرج جهانكير ميرزا لقتالهم في جمع قليل ، وقاتلهم قتالا شديدا حتى أسر في جمع من أصحابه ، وقتل كثير من خواصه ، فأرسل مقدم ال (دكر) جهانكير مع سائر الأسرى معتقلين إلى صاحب مصر.

ذلك ما دعا أن يحزن علي حزنا عظيما ، ويضطرب اضطرابا بليغا ... وفي هذه الأثناء بلغه رجوع الأمير اسكندر من الروم فتجهز لقتاله ، واستناب ولده حسن بيك بآمد وسار هو إلى صوب أرزنجان لدفع غائلة ابن أخيه جعفر بيك ابن يعقوب بيك أولا ، ثم فتنة الأمير اسكندر إذ كان جعفر بيك نائب أبيه بأرزنجان ، فأظهر العصيان ، وأغار على كماخ وقرا حصار. فسار علي بيك ومعه إخوته يعقوب بيك ومحمد بيك ومحمود بيك وشيخ حسن وبايزيد بيك وحاصروا جعفر بيك بأرزنجان حتى ظفروا به ، وحبسه أبوه يعقوب بيك.

__________________

(١) وتلفظ أرغنين. وفي قاموس الأعلام أرغني من ألوية ديار بكر.

٢١٧

وأما اسكندر فإنه كان قد انضم إليه قليح ارسلان بيك ابن أحمد بيك ، وأخوه پير حسين بيك مع اتباعهما من آق قوينلو ... ، فساروا جميعا وحاصروا خرتبرت ، فقاتلهم نائبها پهلوان ابن سيدي علي فتركها اسكندر وسار إلى كيفا وخرق نواحيها ، ثم سار إلى ترجان ، وفعل بها ما فعل ، ثم انعطف إلى أرزنجان ونهب أطرافها ، ثم سار إلى أرزن الروم فسخرها ...

وفي هذه الحالة لم يتمكن علي بيك من طلبه لحيلولة الشتاء ، فنزل بآمد ، فجاء إلى خدمة السلطان حمزة من ماردين مستعطفا ، ومستعفيا ، فعفا عنه علي بيك وفوض إليه رياسة الألوس ، فمنعه خواصه ، وذكروا له وخامة العاقبة ... فلم يصغ إلى قولهم ، فصار الحال كما قال النصحاء ...

ولما تولى السلطان حمزة رياسة الألوس (القبيلة) أرحلهم إلى صوب ماردين ثم أظهر العصيان على أخيه علي بك ومن ثم ابتدأ النزاع بين الأخوين على الإمارة ودام طويلا حتى قضي على حمزة بيك ... ومن ثم نجد قسما من المؤرخين يعدون السلطان حمزة بيك هو خلف أبيه. وآخرون يعتبرون علي بيك الخلف ... ولكل وجهته. فقد قال فريق إنه لما توفي عثمان بيك تولى السلطان حمزة. فتفرق باقي الإخوة خوفا منه ... ومنهم من رأى أن علي بك هو ولي العهد ، ومتولي السلطة بعد والده ... وقد رجح صاحب ديار بكرية هذا القول ، ومثله صاحب جامع الدول ... وفي الحقيقة أن النزاع استمر ، ولا يزال إلى هذه الأيام ولم يستقل واحد منهما بالحكومة.

بلغ خبر هذا النزاع الأمير أصفهان بن قرا يوسف والي بغداد فسار في جمع صوب حصن كيفا فوقع القتال بينه وبين حمزة بيك ، وامتد نحو أربعين يوما حتى انكسر أصفهان في ٥ ذي الحجة سنة ٨٤٠ ه‍ وقتل

٢١٨

كثير من عسكره ونهبت أمواله وهرب هو في جمع قليل إلى بغداد ، وقد مر ذكر ذلك كما أنه انتقم في السنة المقبلة ... فعظم شأن السلطان حمزة وتجهز للمسير إلى آمد لتسخيرها وأخذها من علي بيك ، وكان هذا قد سار إلى خرتبرت لتسليمها إلى المصريين فداء ولديه جهانكير بيك وحسين بيك ، ففعل ، وخلصهما ، ثم سار إلى زيارة أخيه الأكبر يعقوب بيك بأرزنجان ، فانتهز السلطان حمزة الفرصة ، واستولى على آمد ...

وعلى هذا سير علي بيك أولاده جهانكير وحسين وحسن إلى صاحب مصر الملك الأشرف للاستنجاد وسار هو مع ولده الآخر أويس بيك إلى صاحب الروم السلطان مراد للاستنجاد منه أيضا ... فترك جهانكير أخويه حسن وحسين بدمشق وسار هو إلى الملك الأشرف ، فأكرمه وأنجده بخمسين ألف فارس من عسكر الشام ومصر ، فسار جهانكير ، واسترد البلاد من يد عمه السلطان حمزة ، وهرب حمزة إلى ماردين. وفي أثناء ذلك اتصل الخبر بعسكر مصر أن الملك الأشرف توفي فعادوا إلى مصر مجدين مسرعين ، ولم ينجدوا علي بك ، وكان قد عاد من الروم إلى أرزنجان عندما سمع بوصول النجدة ... ولكن السلطان حمزة برجوع الجيش عاد فاستولى على البلاد ، وبقي علي بيك عند أخيه يعقوب بيك ، ويئس من النجاح ، فسار إلى دمشق ، ثم إلى مصر مع بعض أولاده ، والتجأ إلى الملك الظاهر جقمق ، وبقي عنده مكرما.

وأما أولاده جهانكير ميرزا وحسين بيك وحسن بيك فكانوا يتجولون في ديار الشام تارة ، وفي أنحاء أرزنجان أخرى حتى أمد صاحب مصر جهانكير بقطعة من الجيش فاستولى على الرها وبيرة فأقام فيها مع أخويه حسن وحسين ، وجرت بينه وبين عمه حمزة بيك مقاتلات ومحاربات ، والحرب بينهما سجال وكانت ألوس آق قوينلو تحت طاعة

٢١٩

حمزة إلا أنهم كانوا ينحرفون عنه تارة ويميلون إليه أخرى وكان حسن بيك يراعي أخاه مرة فيخدمه ، أو يصير مع عمه يعقوب بيك صاحب أرزنجان وكان آنئذ ابن ١٤ سنة لكنه كان آية في الشجاعة ، وجرى بينه وبين جعفر بيك ابن يعقوب بيك مقاتلات عديدة ، وظفر في كلها لأن جعفر بيك كان قد عصى على أبيه يعقوب بيك. ثم سار حسن بك إلى مصر لملاقاة والده ، وسار أخوه حسين بيك إلى جانب الروم لما نالهما من ضيق ، ثم عادا لخدمة أخيهما جهانكير في ولاية الرها.

وكان السلطان حمزة قد استولى على أرزنجان أيضا أخذها من يد أخيه يعقوب بيك فبقي هذا في قلعة كماخ فقط ذلك ما دعا أن يعد حمزة سلطانا مستقلا من مؤرخين كثيرين (١). وفي أثناء ذلك أغار جهانكير على نواحي ماردين ثم على أرقنين (أرغنين) ونهبها ، وسخر قلعة جعبر ، ثم عاد إلى الرها ...

ومن ثم بلغه في هذه الأيام خبر وفاة أبيه (علي بيك) بقلعة (شيزر) من أعمال حلب ، وكان قد عاد إليها من مصر ، فتوفي بها ، ولم يمض غير قليل حتى توفي السلطان حمزة أيضا بدار ملكه (آمد) في أوائل رجب سنة ٨٤٨ ه‍ ، ولم يكن محمود السيرة كأبيه وإخوته وإنما كان مشتهرا بالظلم والسوء ، واستقر بعده ابن أخيه جهانكير بن علي بيك (٢).

وعلى كل حال لم تدم سلطنة لواحد منهما ، وكانا في نزاع حتى ماتا ... وفي ديار بكرية فصل حوادثهما ، وأوضح كل واقعة بسعة ، وفيه مباحث خاصة تصلح أن تكون تاريخا للحكومات المجاورة ، ومنها قرا قوينلو ، والحكومة المصرية ، وحكومة آل تيمور أو على الأقل توضح وقائعها معها ... ولم نتوغل في ذلك فإنه لا يهم العراق إلا بقدر ما

__________________

(١) في تاريخ الغياثي عده السلطان بعد والده ص ٣٥٨.

(٢) الضوء اللامع ج ٣ ص ١٦٥ ، وجامع الدول وقاموس الأعلام.

٢٢٠