حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

مشفقون ومنددون

٢١
٢٢

ولما أذيع تصميم الحسين (ع) وعزمه على مغادرة الحجاز والتوجه إلى الكوفة أشفق عليه جماعة من أهل بيته وشيعته كما اظهر له الاخلاص رياء بعض ذوي الأطماع السياسية كعبد اللّه بن الزبير ، والأشدق الذي أشفق عليه بالخروج خوفا على انهيار الحكم الأموي وقد حذروا الامام وخافوا عليه من انقلاب أهل الكوفة وغدرهم به كما غدروا بأخيه الامام الحسن من قبل ، وقد أشاروا عليه بأن لا يتوجه لهذا القطر ولا يقرب منه ، كما ندد بخروجه جماعة من عملاء السلطة وأذنابها خوفا على تصدع الحكم الأموي وانهياره ، وقال بمثل مقالتهم جماعة من المنحرفين عن أهل البيت في كثير من العصور ، وفيما يلي آراء كلا الفريقين.

المشفقون :

أما المشفقون من شيعة الامام الحسين وأهل بيته فكانت قلوبهم تذوب أسى وحزنا على مغادرة الامام للحجاز ، وكانوا يتكلمون بلغة العاطفة ويفكرون في شيء لم يكن الامام يفكر به ، فكانوا يشيرون عليه بمهادنة السلطة والبيعة ليزيد ليكون بمأمن من شروره واعتدائه ، وكان (ع) يرى دين جده (ص) قد صار العوبة بيد حفيد أبي سفيان ، فلا بد أن يثأر لكرامة هذا الدين ويضحي بكل شيء لحمايته ، فهذا هو مغزاه الذي كان لا يثنيه عنه شيء .. ولنستمع إلى حديث المشفقين عليه ، والعاذلين له.

٢٣

١ ـ المسور بن مخرمة

وذعر المسور بن مخرمة (١) حينما سمع بعزم الامام على مغادرة الحجاز والتوجه إلى العراق فكتب إليه هذه الرسالة :

«إياك أن تغتر بكتب أهل العراق ، ويقول لك ابن الزبير : الحق بهم فانهم ناصروك ، إياك أن تبرح الحرم ، فانهم ـ أي أهل العراق ـ ان كانت لهم بك حاجة فسيضربون آباط الابل حتى يوافوك ، فتخرج إليهم في قوة وعدة».

ولما قرأ الامام رسالته اثنى على عواطفه ، وقال لرسوله : «استخير اللّه في ذلك» (٢).

٢ ـ عبد اللّه بن جعفر

وخاف عبد اللّه بن جعفر على ابن عمه حينما علم بعزمه على التوجه إلى العراق ، فاحاطت به موجات من الاسى ، فبعث إليه بابنيه عون ومحمد ، وكتب معهما هذه الرسالة :

«أما بعد : فاني أسألك اللّه لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا فاني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك ، واستئصال أهل بيتك

__________________

(١) المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري ، ولد بعد الهجرة بسنتين ، وقد روى عن النبي (ص) وكان من أهل الفضل والدين ، كان مع ابن الزبير فلما كان حصار مكة أصابه حجر من حجارة المنجنيق فتوفي جاء ذلك في الاصابة ٣ / ٤٠٠.

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٩ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

٢٤

إن هلكت اليوم اطفأ نور الأرض فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فاني في أثر كتابي والسلام».

وأسرع ابن جعفر وهو خائر القوى ذاهل اللب إلى عمرو بن سعيد حاكم مكة فأخذ منه كتابا فيه أمان للحسين ، وجاء مسرعا إليه وكان معه يحيى بن سعيد بن العاص ، فعرض عليه الاقامة في مكة وعدم النزوح إلى العراق فلم يستجب الامام له ، وأخذ يتضرع إليه عبد اللّه ويتوسل في أن ينصرف عن نيته ، فقال الامام :

«اني رأيت رسول اللّه (ص) في منامي ، وأمرني بأمر لا بد أن انتهي إليه ..»

فسأله ابن جعفر عن الرؤيا ، فأبى أن يحدثه بها وقال له : «ما حدثت بها أحدا» وما أنا بمحدث بها حتى ألقى اللّه عز وجل» (١) وانصرف ابن جعفر وهو غارق بالأسى والشجون وأيقن بنزول الرزء القاصم وقد أمر ابنيه بمصاحبة خالهما الحسين.

٣ ـ عبد اللّه بن عباس

وأسرع عبد اللّه بن عباس وهو حزين كثيب إلى الامام ، فقال له :

«إن الناس أرجفوا بأنك سائر إلى العراق ، فهل عزمت على شيء من ذلك؟».

«نعم قد أجمعت على المسير في أحد يومي هذين إلى الكوفة أريد اللحاق بابن عمي مسلم إن شاء اللّه تعالى».

وفزع ابن عباس فقال للامام :

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢١٩ ، البداية والنهاية ٨ / ١٦٣ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٤٣.

٢٥

«اني أعيذك باللّه من ذلك ، اخبرني أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ، فان كان قد فعلوا سر إليهم وان كانوا انما دعوك وأميرهم ، عليهم ، قاهر لهم» وعمالهم تجبي بلادهم ، وتأخذ خراجهم فانما دعوك إلى الحرب ، ولا آمن عليك أن يغروك ، ويكذبوك ، ويخذلوك ويبيعوك فيكونوا أشد الناس عليك».

ولم تخف شيء من هذه النقاط الحساسة على الامام ، فقد كان على بصيرة من أمره فقال لابن عباس.

«اني استخير اللّه ، وانظر ما ذا يكون؟» (١)

وأحاطت بابن عباس موجات من القلق والاضطراب ، فلم يتمكن ان يهدأ اعصابه ، فراجع الامام ، وقال له :

«إني اتصبر ، ولا اصبر ، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ... ان أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم ، أقم في هذا البلد فانك سيد أهل الحجاز ، فان كان أهل العراق يريدوك ـ كما زعموا ـ فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ، ثم أقدم عليهم ، فان أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فان بها حصونا ، وشعابا وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فاني أرجو ان يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية ..».

واخبره الامام عن تصميمه على السفر ، وأنه قد بتّ به ، فقال له

__________________

(١) وسيلة المال في عد مناقب الآل (ص ١٨٧) من مصورات مكتبة امير المؤمنين ، وكذلك روى في الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٢٨٥) للسيد محمود الشيخاني القادري ، من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

٢٦

ابن عباس : «إن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فاني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ... لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز ، وهو اليوم لا ينظر إليه احد معك».

وفقد ابن عباس اهابه ، واندفع بثورة عارمة ، فقال حسبما يروي المؤرخون :

«واللّه الذي لا إله إلا هو لو اعلم اني إن اخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس اطعتني فاقمت لفعلت» ولم يخف على الامام كل ما قاله ابن عباس فقد كان مصمما على غايته التي بها انتصار الاسلام.

وخرج ابن عباس وهو يتعثر في خطاه ، قد نخر الحزن قلبه فاتجه نحو ابن الزبير فقال له :

«لقد قرت عينك بابن الزبير ، ثم أنشد :

يا لك من قنبرة بمعمر خلا

لك الجو فبيضي واصفري

ونقرى ما شئت أن تنقري

هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز ..» (١)

ان الامام لو كان يروم الملك والسلطان لاستجاب لرأي ابن عباس ولكنه (ع) كان يبغي الاصلاح ، واعادة الحياة الاسلامية إلى واقعها المشرق ، وأيقن أن ذلك لا يتحقق إلا بالتضحية الحمراء فهي وحدها التي تحقق ما يصبو إليه.

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦

٢٧

٤ ـ ابو بكر المخزومي

وهرع ابو بكر بن عبد الرحمن المخزومي (١) الى الامام فقال له : «إن الرحم يظأرني (٢) عليك ولا أدري كيف أنا في النصيحة؟ كان أبوك أشد بأسا ، والناس له ارجى ، ومنه اسمع ، وعليه اجمع فسار الى معاوية ، والناس مجتمعون عليه إلا اهل الشام ـ وهو اعز منه ـ فخذلوه وتثاقلوا عنه حرصا على الدنيا وضنا بها فجرعوه الغيظ ، وخالفوه حتى صار الى ما صار إليه من كرامة اللّه ورضوانه ... ثم صنعوا بأخيك بعد ابيك ما صنعوا ـ وقد شهدت ذلك كله ورأيته ـ ثم أنت تسير إلى الذين عدوا على ابيك واخيك تقاتل بهم اهل الشام واهل العراق ، ومن هو اعد منك ، واقوى ، والناس منه اخوف ، وله ارجى ، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطعموا الناس بالأموال ـ وهم عبيد الدنيا ـ فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك ، ويخذلك من أنت أحب إليه من ينصره ، فاذكر اللّه في نفسك ..».

وشكر له الامام نصيحته وعواطفه ، وعرفه انه مصمم على ما عزم عليه ، ويئس ابو بكر فانطلق وهو يقول :

«عند اللّه نحتسب أبا عبد اللّه»

__________________

(١) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي القرشي أحد الفقهاء السبعة ، ولد في خلافة عمر ، وكان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته ، وكان مكفوفا ، وهو من سادات قريش توفى سنة (٩٥ ه‍) جاء ذلك في تهذيب التهذيب ٢ / ٣٠.

(٢) يظأرني : أي يدفعني عليك العطف والجنو

٢٨

واقبل ابو بكر على والي مكة وهو يقول :

كم ترى ناصحا يقول فيعصى

وظنين المغيب يلفى نصيحا

 «ما ذاك يا أبا بكر؟

فأخبره بما قال للحسين : فقال له ، نصحت له ورب الكعبة» (١)

٥ ـ عبد اللّه بن جعدة

واشفق عبد اللّه بن جعدة بن هبيرة على الامام فالحقه بولده عون وبعث إليه رسالة يسأله فيها الرجوع ، ويذكر فيها تخوفه في مسيره إلى العراق ، فلم يعجب الامام ذلك (٢)

٦ ـ جابر بن عبد اللّه

وخف جابر بن عبد اللّه الانصاري إلى الامام وطلب منه ان لا يخرج فأبى (ع) (٣).

٧ ـ عبد اللّه بن مطيع

والتقى الامام بعبد اللّه بن مطيع ، وكان في طريقه إلى العراق ، وعرف عبد اللّه قصد الامام فقال له :

«يا ابن رسول اللّه اذكرك اللّه في حرمة الاسلام أن تنتهك ، انشدك اللّه في حرمة قريش وذمة العرب ، واللّه لئن طلبت ما في يد بني أمية ليقتلوك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك احدا ابدا ... واللّه انها لحرمة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٦ ، الطبري ٦ / ٢١٦

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٣) تأريخ الاسلام للذهبي ١ / ٣٤٢

٢٩

الاسلام وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فاللّه اللّه لا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني أميّة» (١).

٨ ـ عمرو بن سعيد

وارسل عمرو بن سعيد الأشدق رسالة للامام يتعهد فيها له بالأمان وعدم التعرض له بمكروه ، وقد جاء فيها :

«إني اسأل اللّه ان يلهمك رشدك ، وان يعرفك عما يراد بك ، بلغني انك قد عزمت على الشخوص إلى العراق ، فاني اعيذك باللّه من الشقاق ، فان كنت خائفا فاقبل إلي فلك عندي الامان والصلة»

وكيف يخضع أبي الضيم للاشدق ، ويطلب منه الامان ، لقد اراد الأشدق ان يكون الامام تحت قبضته حتى لا يملك من امره شيئا ولم يخف على الامام ذلك فأجابه.

«ان كنت اردت بكتابك صلتي فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة ..

وانه لم يشاقق من دعا الى اللّه وعمل صالحا وقال : إنني من المسلمين ، وخير الامان امان اللّه ، ولم يؤمن باللّه من لم يخفه في الدنيا ، فنسأل اللّه

__________________

(١) وسيلة المال في عد مناقب الآل (ص ١٨٩) وفي تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨ ان عبد اللّه بن مطيع قال للحسين : (فداك أبي وأمي متعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق فو اللّه لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا خولا وعبيدا» وفي العقد الفريد ٣ / ١٣٣ انه لقي الامام فقال له : يا أبا عبد اللّه لا سقانا اللّه بعدك ماء طيبا أين تريد؟ فقال (ع) : مات معاوية ، وجاءني اكثر من حمل صحف ، فقال عبد اللّه : لا تفعل فو اللّه ما حافظوا أباك وكان خيرا منك فكيف يحفظونك؟ واللّه لئن قتلت لا بقيت حرمة بعدك إلا استحلت.

٣٠

مخافة في الدنيا توجب امان الآخرة عنده» (١).

٩ ـ محمد بن الحنفية

وكان محمد بن الحنفية في يثرب ، فلما علم بعزم اخيه على الخروج الى العراق توجه الى مكة (٢) ، وقد وصل إليها في الليلة التي اراد الخروج في صبيحتها الى العراق ، وقصده فور وصوله فبادره قائلا :

«يا اخي ان اهل الكوفة قد عرفت غدرهم بابيك واخيك ، وقد خفت ان يكون حالك حال من مضى ، فان اردت ان تقيم في الحرم فانك اعز من بالحرم ، وامنعهم».

وشكر له الامام عواطفه ونصيحته وقال له :

«خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية ، فأكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت».

فقال محمد : «فان خفت ذلك فسر إلى اليمن او بعض نواحي البر فانك امنع الناس به ، ولا يقدر عليك احد».

قال الحسين : «انظر فيما قلت» (٣)

ولما كان وقت السحر بلغه شخوصه إلى العراق وكان يتوضأ فبكى حتى سمع وقع دموعه في الطست (٤) واسرع محمد إلى أخيه ، فاخذ بزمام

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٠

(٢) تأريخ الاسلام للذهبي ١ / ٣٤٢

(٣) الدر المسلوك ١ / ١٠٩ ، وقريب من هذا الحديث جرى بين الامام وأخيه حينما كان في يثرب.

(٤) أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، وفي الصواعق المحرقة (ص ١١٧) انه بكى حتى ملأ الطست من دموعه.

٣١

ناقته ، وقال له :

«يا أخي ألم تعدني فيما سألتك؟»

«بلى ولكن أتاني رسول اللّه (ص) بعد ما فارقتك ، وقال لي يا حسين اخرج فان اللّه شاء أن يراك قتيلا».

وذعر محمد ، وسرت الرعدة باوصاله ، ودموعه تتبلور على خديه وهو يقول :

«فما معنى حمل هؤلاء النساء والاطفال ، وأنت خارج على مثل هذا الحال».

فاجابه الامام بعزم وطمأنينة قائلا :

«قد شاء اللّه ان يراهن سبايا» (١).

١٠ ـ السيدة أم سلمة

وفزعت أم المؤمنين السيدة أمّ سلمة حينما علمت ان الامام قد عزم على الخروج إلى العراق ، وكان في ذلك الوقت في يثرب قبل ان يتوجه إلى مكة فهرعت إليه قائلة بصوت حزين النبرات :

«يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق فاني سمعت جدك رسول اللّه (ص) يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في ارض يقال لها كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إلي النبي».

فاجابها الامام بعزم ورباطة جأش قائلا :

«يا اماه ، وانا اعلم اني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا ، وقد شاء عز وجل ان يرى حرمي ورهطي مشردين ، واطفالي مذبوحين ، مأسورين

__________________

(١) الدرك المسلوك ١ / ١٠٩

٣٢

مقيدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ..»

فالتاعت أم سلمة ورفعت صوتها قائلة :

«وا عجبا فأين تذهب وأنت مقتول؟!!»

فاجابها الامام وهو ساخر من الموت وهازئ من الحياة قائلا :

«يا أماه إن لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وما من الموت بد ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وانظر إليها كما انظر إليك» (١).

١١ ـ عبد اللّه بن الزبير

ولما عزم الامام على مغادرة مكة خف إليه عبد اللّه بن الزبير من باب المجاملة قال البلاذري : وانما أراد ابن الزبير بذلك لئلا يتهمه وان يعذر في القول فاظهر له الجنان والولاء قائلا :

«اين تذهب إلى قوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك؟»

فقال (ع) :

«لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من تستحل بي ـ يعني مكة ـ (٢).

وأصر الامام على فكرته ، ولم يصده عنها عذل العاذلين ، واشفاق

__________________

(١) مقتل المقرم (ص ١٥٢) وذكر الخوارزمي ان هذا الحديث كان بين الحسين وبين ابن عمر في مكة ، وكان قد دعاه إلى المضي معه إلى المدينة.

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٧.

٣٣

المشفقين عليه فقد أيقن أنه لا يمكن بأي حال ان تنتصر القضية الاسلامية وتعلو كلمة اللّه في الأرض الا بالتضحية والفداء ، يقول الاستاذ خالد محمد خالد :

«إن القضية التي خرج البطل حاملا لواءها لم تكن قضية شخصية تتعلق بحق له في الخلافة .. أو ترجع إلى عداوة شخصية يضمرها ليزيد كما انها لم تكن قضية طموح يستحوذ على صاحبه ، ويدفعه إلى المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح والخسران.

كانت القضية أجل وأسمى واعظم

كانت قضية الاسلام ومصيره والمسلمين ومصيرهم

وإذا صمت المسلمون جميعهم تجاه هذا الباطل الذي أنكره البعض بلسانه ، وانكره الجميع بقلوبهم فمعنى ذلك ان الاسلام قد كف عن انجاب الرجال.

معناه ان المسلمين قد فقدوا أهلية الانتماء لهذا الدين العظيم : : :

ومعناه أيضا أن مصير الاسلام والمسلمين معا قد امسى معلقا بالقوة الباطشة فمن غلب ركب ، ولم يعد للقرآن ولا للحقيقة سلطان ..

تلك هي القضية في روع الحسين

وبهذا المنطق اصر على الخروج (١)

لقد رغب إليه المشفقون ان لا يجيب دعاة الكوفة ، ويقبع في بيته مسالما ليزيد ، ولكن أبي الضيم كان يرى ما لا يرونه ، كان يرى أن الحياة الاسلامية قد امتحنت بفقر الدم امتحانا ادى بها الى الهلكة والدمار وانه لا بد ان يرويها من دمه الزاكي لتعود للمسلمين لهم الحياة نشطة تتدفق بها الحيوية من دمه الذي هو دم جده الرسول.

__________________

(١) ابناء الرسول في كربلا (ص ١٢٣ ـ ١٢٤)

٣٤

منددون :

وندد جماعة بخروج الامام ، وشجبوا اعلانه للجهاد لأن فيه تصديعا للحكم الأموي الذي كانوا ينعمون بخيراته وصلاته ، وقد قال بمثل مقالتهم بعض المتأخرين من الكتاب الذين اندلعت اقلامهم تحمل شررا من نار لنقد الامام على خروجه على حكومة يزيد التي لا تحمل اي طابع شرعي ، وهذه آراؤهم.

١ ـ عبد اللّه بن عمر

وندد عبد اللّه بن عمر بخروج الامام ، ونعى عليه الدخول في المعترك السياسي فقال : «غلبنا الحسين بن علي بالخروج ولعمري لقد رأى في ابيه واخيه عبرة ، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ، ما كان ينبغي ان يتحرك ما عاش ، وان يدخل في صالح ما دخل فيه الناس فان الجماعة خير» (١).

__________________

(١) تذهيب التهذيب ١ / ١٥٢ ، تأريخ الاسلام ١ / ٣٤٢ ، تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٩ ، وجاء في تذهيب التهذيب ١ / ١٥٥ قال الشعبي : كان ابن عمر قدم المدينة فأخبر أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ليلتين ونهاه ، وقال : هذه دولتهم ان اللّه خير نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وانكم بضعة منه ، لا يليها أحد منكم أبدا ، وما صرفها منكم إلا للذي هو خير ، فارجع فأبى فاعتنقه ابن عمر ، وقال : استودعك اللّه من قتيل ، وجاء في الدر المسلوك للحر العاملي ١ / ١٠٦ ان عبد اللّه بن عمر أشار على الحسين بصلح أهل الضلال ، وحذره من القتل والقتال ، فقال له الحسين : يا أبا عبد الرحمن أما علمت ان ـ

٣٥

٢ ـ سعيد بن المسيب

وشجب سعيد بن المسيب خروج الامام ، وقال : لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له (١).

٣ ـ ابو واقد الليثي

وكان ابو واقد الليثي من صنائع بني أميّة ، فاقبل على الامام وجعل يناشده اللّه أن لا يخرج على يزيد ولم يكن بذلك مدفوعا بدافع الحب للامام وانما خوفا على ملك بني أميّة ، فلم يعن به الامام واعرض عنه (٢).

٤ ـ ابو سلمة

ومن الشاجبين لخروج الامام على يزيد ابو سلمة بن عبد الرحمن (٣)

__________________

من هوان الدنيا على اللّه أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني اسرائيل ، أما علمت أن بني اسرائيل كانوا يقتلون من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ، ثم يجلسون في اسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا فلم يعجل اللّه عليهم بل امهلهم وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ، اتق اللّه يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٩ ، تأريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٤٣

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٩ ، تاريخ ابن كثير ٨ / ١٦٣ ، تاريخ الاسلام ١ / ٣٤٢.

(٣) ابو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين توفى سنة (١٠٤ ه‍) جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٢ / ١١٦.

٣٦

قال : «كان لحسين أن يعرف أهل العراق ، ولا يخرج إليهم ، ولكن شجعه ابن الزبير» (١) :

٥ ـ ابو سعيد

وندد ابو سعيد بخروج الامام وقال : «غلبني الحسين على الخروج وقد قلت له : اتق اللّه والزم بيتك ، ولا تخرج على امامك» (٢).

٦ ـ عمرة بنت عبد الرحمن

وكانت عمرة بنت عبد الرحمن (٣) تدين بالولاء لبني أمية ، وتخشى على سلطانهم ، وقد رفعت إلى الامام رسالة استعظمت فيها خروجه على يزيد ، وحثته على الطاعة ولزوم الجماعة وحذرته من الخروج وانه سوف يساق إلى مصرعه ، وذكرت في رسالتها انها سمعت عائشة تروى عن النبي (ص) انه قال : يقتل ولدي الحسين ، ولما قرأ الامام رسالتها ، وما جاء فيها من أخبار النبي (ص) بقتله قال : لا بد اذا من مصرعي» (٤).

هؤلاء بعض المنددين بخروج الحسين من معاصريه ، ولم ينظروا إلى

__________________

(١) تأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٣

(٢) تأريخ الاسلام للذهبي ١ / ٣٤٢

(٣) عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الانصارية المدنية كانت في حجر عائشة وروت عنها وهي اعلم الناس بحديثها توفيت سنة (١٠٣ ه‍) تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٣٨.

(٤) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٩.

٣٧

خروجه من زاوية الحكم الشرعي ، وانما نظروا إليه بعين المنفعة المادية فقد كان الحكم الأموي يغدق عليهم بالأموال ، فخافوا عليه من الانهيار والدمار.

المستحدثون :

وندد جماعة من المتأخرين بخروج الامام على يزيد واعتبروه خروجا على ارادة الأمة.

١ ـ الشيخ محمد الخضري

وتنكر الشيخ الخضري شيخ الأزهر في بحوثه التاريخية والاسلامية لأهل البيت (ع) الذين أمر اللّه بمودتهم والاخلاص إليهم فقال في الحسين «إن الحسين اخطأ خطئا عظيما في خروجه هذا الذي جرّ للأمة وبال الفرقة والاختلاف : وزعزع عماد الفتها إلى يومنا هذا» (١).

ان الامام قد أصاب كل الصواب وأحسن الى الأمة في خروجه فله الفضل على كل مسلم فانه لو لا تضحيته لما بقى للاسلام اسم ولا رسم فقد قضى عليه السلام ، على المخططات الأموية الهادفة إلى محو الاسلام وازالة جميع ارصدته ، وقد فدى الحسين بتضحيته دين الاسلام وكلمة التوحيد.

٢ ـ محمد النجار

يقول محمد النجار : «أما أحقية الحسين بالخلافة فهي فكرة تنطوي عليها قلوب الغالبية من الناس ، ولكن ما قيمة هذه القلوب اذا لم تؤيدها

__________________

(١) تأريخ الأمة الاسلامية ١ / ٥١٧

٣٨

السيوف وهي مع ذلك لا تقتضي الخروج ، فان امامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة ، وقد كان علي بن أبي طالب يعتقد أحقيته بالخلافة ولم يخرج على أحد» (١).

ويرى النجار ان خلافة يزيد كانت شرعية ، وانها من امامة المفضول التي هي سائغة عندهم ... اما امامة المفضول مع وجود الأفضل فقد توفرت الأدلة العلمية على بطلانها ، وقد أقام المتكلمون من الشيعة الأدلة الحاسمة على زيفها ، وذكروا ان الالتزام بذلك خروج على المنطق وخروج على هدي الاسلام الذي يتبع في تشريعاته سنن الحياة ، وما تمليه المصلحة العامة ، وليس من المنطق في شيء تسويغ تقديم المفضول على الفاضل فان فيه هدما للكفاءات وخروجا على صالح الأمة ، وقد أنكر القرآن الكريم المساواة بينهما قال تعالى : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ واَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ» ولو سلمنا ـ كما يقول الأصوليون هذه القاعدة فانها لا تنطبق على خلافة يزيد فقد كان بإجماع المسلمين ـ لا فضل فيه ، وإنما كان انسانا ممسوخا قد تمرس في الجرائم وهام في المنكرات فكان الخروج عليه واجبا شرعيا.

٣ ـ محمد الغزالي

وندد الشيخ محمد الغزالي بنهضة الامام الحسين ، ووصفها بأنها مجازفة لا أثر فيها لحسن السياسة (٢) وقد كان المتعين على الحسين حسب ما يراه الغزالي أن يبايع ليزيد ، ويخضع لقيادة هذا الخليع الماجن الذي لا يملك أية كفاءة لقيادة الأمة ، وهذا مما يأباه الحسين ويأباه مثله العليا وهو المسئول

__________________

(١) الدولة الأموية في الشرق (ص ١٠٢ ـ ١٠٣)

(٢) من معالم الحق (ص ١٣١).

٣٩

بالدرجة الأولى عن صيانة الاسلام والحفاظ على مقدساته وقيمه.

٤ ـ احمد شبلي

واحمد شبلي من المسعورين في الدفاع عن يزيد والانكار على الامام في خروجه عليه قال : «نجيء إلى الحسين لنقر ـ مع الأسف ـ ان تصرفاته كانت في بعض نواحي هذه المشكلة غير مقبولة فهو ـ اولا ـ لم يقبل نصح الناصحين وخاصة عبد اللّه بن عباس ، واستبد برأيه و ـ ثانيا ـ نسي أو تجاهل خلق أهل الكوفة وما فعلوه مع أبيه وأخيه وهو ـ ثالثا ـ يخرج بنسائه وأطفاله كأنه ذاهب إلى نزهة خاوية أو زيارة قريب ويعرف في الطريق غدر أهل الكوفة ومع هذا يواصل السير إليهم وينقاد لرأي بني عقيل ويذهب بجماعة من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ليأخذ بثأر مسلم يا للّه قد تكون ولاية يزيد العهد عملا خاطئا ، ولكن هل هذا هو الطريق لمحاربة الخطأ والعودة إلى الصواب؟» (١).

ولم ينظر شبلي بعمق ودراسة الى واقع الحياة الاسلامية في عهد يزيد وانما نظر إليها حسب ميوله التقليدية والعاطفية ، فراح يشذ ويسلك في المنعطفات فيما كتبه ، لقد كان الاسلام مهددا بالخطر والدمار في عهد يزيد وان خروج الامام كان من أجل اعادة الحياة إلى شرايين الأمة الاسلامية وقد أعلن (ع) أنه لم يخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا وانما خرج ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحطم معالم الحياة الجاهلية التي تبناها الحكم الأموي ، وقد ألمعنا في الجزء الثاني إلى أسباب نهضة الامام بما يوضح القصد وينفي الشبهات :

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن المنددين بخروج الامام على حكومة يزيد.

__________________

(١) التأريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ٢ / ٢٠١

٤٠