حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

هرير الممسوخين :

ولما اشتعلت النار في الخندق اشتد بعض الممسوخين من معسكر ابن سعد نحو الامام كأنهم الكلاب ، وقد رفعوا أصواتهم بهرير منكر ، ومن بينهم :

١ ـ شمر بن ذي الجوشن

وأقبل الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن على معسكر الامام فرفع صوته :

«يا حسين تعجلت بالنار؟»

فرد عليه الامام «أنت تقول هذا يا ابن راعية المعزى؟ أنت واللّه أولى بها صليا».

ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم إلا ان الامام نهاه وقال :

اني اكره أن ابدأهم بقتال (١).

٢ ـ محمد بن الأشعث

واشتد الوضر الخبيث محمد بن الأشعث نحو الامام وهو ينادي :

«يا حسين أنت الساعة ترد جهنما»

فأجابه الامام : لعنك اللّه ولعن أباك وقومك يا ابن المرتد الفاجر عدو اللّه ورسوله والمسلمين (٢).

__________________

(١) انساب الاشراف ق ١ ج ١

(٢) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان

١٨١

٣ ـ عبد اللّه بن حوزة

واندفع الوغد عبد اللّه بن حوزة إلى معسكر الامام ، وصاح :

«ابشر يا حسين بالنار»

فرد عليه الامام كلامه : اني أقدم على رب رحيم ، وشفيع مطاع ، وسأل عنه فقيل له انه ابن حوزة فرفع يديه بالدعاء وقال :

(حازه اللّه إلى النار) فاضطرب به فرسه في جدول فتعلقت رجله بالركاب وسقط إلى الأرض ، وقد نفر به الفرس فجعل يضرب رأسه بالاحجار واصول الاشجار حتى هلك (١) وقيل القته فرسه في النار المشتعلة بالخندق فاحترق بها ، ولما رأى الامام سرعة استجابة دعائه رفع صوته قائلا :

«اللهم إنا أهل بيت نبيك وذريته فاقصم من ظلمنا وغصبنا حقنا انك سميع قريب» (٢).

ولما رأى ذلك مسروق بن وائل الحضرمي وكان يحدث نفسه بقتل الامام لينال الجائزة من ابن مرجانة ندم على ما فكر به وعلم أن لأهل البيت حرمة ومكانة عند اللّه ، فترك المعركة وانهزم مخافة غضب اللّه (٣).

التعبئة العامة في المعسكرين :

وقام كلا المعسكرين بتعبئة عامة ، فعبأ الامام اصحابه وكانوا اثنين وثمانين فارسا وراجلا وجعل زهير بن القين في الميمنة ، وحبيب بن مظاهر

__________________

(١) أنساب الاشراف ق ١ ج ١ تذهيب التهذيب ١ / ١٥٥

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٩

(٣) تأريخ ابن الأثير ٣ / ١٨٦

١٨٢

في الميسرة ، وثبت هو وأهل بيته في القلب (١) وأعطى رايته إلى أخيه وعضده أبي الفضل العباس (٢) وعبأ ابن سعد جيشه فجعل على ربع اهل المدينة عبد اللّه بن زهير الأزدي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وعلى ربع بني تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي (٣) وجعل على ميمنة جيشه عمرو بن الحجاج الزبيدي وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس الاحمسي وعلى الرجالة شبث بن ربعي واعطى الراية دريدا مولاه (٤) وبذلك فقد استعد كلا المعسكرين للحرب والقتال.

الاحتجاجات الصارمة :

ورأى الامام مع اعلام أصحابه أن يقيموا الحجة على أهل الكوفة ليكونوا على بينة من امرهم وبصيرة على ما قدموا عليه من اثم «تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا» وقد اعذروا في الدعاء ومنحوا النصيحة لانقاذ اولئك الممسوخين من خطر الجريمة التي تؤدي بهم إلى النار.

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٧٠)

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤١

(٣) مرآة الزمان (ص ٩٢)

(٤) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٨٦

١٨٣

خطبة الامام :

ودعا الامام براحلته فركبها ، واتجه نحو معسكر ابن سعد ، وهو بتلك الهيبة التي تحكى هيبة جده الرسول ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الذي هو من ابلغ واروع ما أثر في الكلام العربي ، وقد نادى بصوت عال يسمعه جلهم :

«أيها الناس : اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى اعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي ، واعطيتموني النصف من انفسكم كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ان ولي اللّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين»

ونقل الأثير كلماته إلى السيدات من عقائل النبوة وحرائر الوحي فتصارخن بالبكاء ، وارتفعت اصواتهن ، فبعث إليهن أخاه العباس وابنه عليا ، وقال لهما : سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن.

ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي (ص) وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك : ما لا يحصى ذكره ولم يسمع لا قبله ولا بعده ابلغ منه في منطقه (١) وقال :

«أيها الناس : إن اللّه تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٢

١٨٤

طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم اللّه فيه عليكم ، واعرض بوجهه الكريم عنكم ، واحل بكم نقمته ، فنعم الرب ربنا ، وبئس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد (ص) ثم انكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا للّه وإنا إليه راجعون» هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين».

لقد وعظهم بهذه الكلمات التي تمثل هدي النبوة ، ومحنة الأنبياء في اممهم ، فحذرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، ودلل على عواقبها الخاسرة واهاب بهم من الاقدام على قتل عترة نبيهم فانهم بذلك يخرجون من الاسلام إلى الكفر ، ويستوجبون عذاب اللّه الخالد ، وسخطه الدائم ، ثم استرسل (ع) في خطابه فقال :

«أيها الناس : انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! الست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين باللّه والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمي أو لم يبلغكم قول رسول اللّه (ص) لي ولأخي : «هذان سيدا شباب أهل الجنة» فان صدقتموني بما اقول : وهو الحق ، واللّه ما تعمدت الكذب منذ علمت ان اللّه يمقت عليه أهله ، ويضر به من اختلقه ، وان كذبتموني فان فيكم من اذا سألتموه اخبركم ، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن ارقم وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه (ص) لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

١٨٥

لا اعرف خطابا أرق ولا ابلغ من هذا الخطاب ، فأي خطيب مهما كان يتمتع برائع البيان فانه ليعجز عن الكلام في مثل هذا الموقف الرهيب الذي تخرس فيه الأسود ، وتحجم فيه الابطال ... وكان خليقا بهذا الخطاب أن يرجع إليهم حوازب احلامهم ، ويحدث انقلابا فكريا وعمليا في صفوفهم لقد دعاهم لأن يرجعوا إلى نفوسهم وعقولهم لو كانوا يملكونها ليمعنوا النظر في شأنه ، فهو حفيد نبيهم وابن وصيه ، والصق الناس وأمسهم رحما به ، وهو سيد شباب أهل الجنة ، وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، الا ان ذلك الجيش لم يع هذا المنطق الفياض فقد خلد إلى الجريمة ، واستولى على قلوبهم زيغ قائم من الضلال فانساهم ذكر اللّه.

وانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن وهو ممن غرق في الأثم فقال له :

«هو يعبد اللّه على حرف ان كان يدري ما تقول؟»

وما كان مثل ذلك الضمير المتحجر الذي ران عليه الباطل أن يعي منطق الامام أو يفهم مقالته ، وتصدى لجوابه حبيب بن مظاهر فقال له :

«واللّه اني أراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وأنا أشهد انك صادق ما تدري ما يقول : قد طبع اللّه على قلبك» واستمر الامام في خطابه فقال :

«فان كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فو اللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم اتطلبونني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة»

١٨٦

وزلزلت الأرض تحت أقدامهم ، وغدوا حيارى لا يملكون جوابا لرده فهم لا يشكون أنه ابن بنت رسول اللّه (ص) وريحانته ، وانهم لا يطلبونه بقتيل قتله ولا بمال استهلكه منهم. ثم نادى الامام قادة الجيش الذين دعوه برسائلهم للقدوم الى الكوفة ، فقال :

«يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن ابجر ، ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إلي أن قد اينعت الثمار واخضر الجناب وانما تقدم على جند لك مجندة».

ولم تخجل تلك النفوس من خيانة العهد ، وحنث الايمان فأجابوه مجمعين على الكذب :

«لم نفعل»

واستغرب الامام منهم ذلك فقال لهم :

«سبحان اللّه!! بلى واللّه لقد فعلتم».

واعرض الامام عنهم ووجه خطابه الى جميع قطعات الجيش فقال لهم :

«أيها الناس : اذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض».

فانبرى إليه قيس بن الأشعث وهو ممن عرف بالغدر والنفاق ، وقد خلع كل شرف وحياء ، وحسبه أنه من أسرة لم تنجب شريفا قط فقال له :

«أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فانهم لن يروك إلا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه».

فأجابه الامام :

«أنت أخو اخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم باكثر من دم مسلم

١٨٧

ابن عقيل؟ لا واللّه لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) عباد اللّه إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» (٢).

نزول الممالك وتدول الدول ، وهذه الكلمات احق بالبقاء واجدر بالخلود من كل شيء فقد مثلت عزة الحق ، ومنعة الاحرار وشرف الأباة.

ومن المؤسف أنه لم تنفذ هذه الكلمات النيرة إلى قلوبهم فقد اقفل الجهل جميع ابواب الفهم في نفوسهم «خَتَمَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وعَلىٰ سَمْعِهِمْ وعَلىٰ أَبْصٰارِهِمْ غِشٰاوَةٌ ، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ، لقد اعرضوا اعراضا تاما عن دعوة الامام فلم يحفلوا بها» وصدق اللّه تعالى إذ يقول : «إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ ولاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ»

خطاب زهير :

وانبرى زهير بن القين فألقى عليهم خطابه الحافل بالنصيحة والارشاد لهم قائلا :

«يا أهل الكوفة : نذار لكم من عذاب اللّه ، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منا أهل ، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وانتم أمة ، إن اللّه ابتلانا واياكم بذرية نبيه محمد (ص) لينظر ما نحن وانتم عاملون ، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد ،

__________________

(١) وفي رواية «ولا أقر لكم اقرار العبيد»

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٣ الدر النظيم (ص ١٦٩)

١٨٨

وعبيد اللّه بن زياد فانكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما ، يسملان اعينكم ، ويقطعان أيديكم وارجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ ابن عروة وأشباهه».

وحفل هذا الخطاب بابلغ وأروع ما تكون الحجة ، ففيه الدعوة إلى الحق بجميع رحابه ومفاهيمه ، والتحذير من عذاب اللّه وسخطه ، لقد عرفهم بأنه انما ينصحهم امتثالا للواجب الديني الذي يقضي بنصيحة المسلم لأخيه المسلم اذا رآه قد انحرف عن الحق .. وعرفهم قبل أن تندلع نار الحرب ان الأخوة الاسلامية تجمعهم فاذا وقعت الحرب انفصمت عرى تلك الأخوة ، وكان كل منهما أمة مستقلة لا تجمعهما روابط الدين والاسلام وقد عرض لهم ان اللّه قد ابتلى المسلمين بعترة نبيه فاوجب مودتهم في كتابه العزيز ، لينظر إلى الأمة ما هي صانعة فيهم؟

وذكرهم يجور الأمويين وبطشهم ، وما صنعوه في صالحائهم امثال حجر بن عدي وميثم التمار وغيرهم من الذين ناهضوا الجور وقاوموا الاستبداد فقد صبت عليهم السلطة الأموية وابلا من العذاب الأليم ، فسملت عيونهم وقطعت أيديهم وأرجلهم وصلبتهم على جذوع النخل.

وما انهى زهير خطابه الا وتوقح جماعة من جيش ابن سعد فسبوه وتوعدوه مع الامام الحسين بالقتل قائلين «لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وباصحابه إلى عبيد اللّه بن زياد سلما».

واندفع زهير فخاطبهم بمنطق الحق قائلا :

«عباد اللّه : إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فان لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم .. فخلوا بين الرجل وبين يزيد فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين».

١٨٩

ووجم الكثيرون ، واستولت عليهم الحيرة والذهول ولما رأى ذلك شمر ابن ذي الجوشن خاف أن يثوب الجيش إلى الرشاد ، فسدد سهما إلى زهير وهو يقول :

«اسكت أسكت اللّه نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك»

واحتقره زهير فنظر إليه كأقذر مخلوق قائلا له :

«ما اياك أخاطب انما أنت بهيمة ، واللّه ما أظنك تحكم من كتاب اللّه آيتين ، فابشر بالخزي يوم القيامة «والعذاب الأليم».

والتاع الوغد الخبيث من كلام زهير فصاح به :

«إن اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة»

«أبالموت تخوفني؟ فو اللّه للموت أحب إلي من الخلد معكم»

والتفت زهير إلى الجيش قائلا :

«عباد اللّه لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي واشباهه ، فو اللّه لا تنال شفاعة محمد (ص) قوما هرقوا دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم».

ورأى الامام ان نصائح زهير لا تجدي مع هؤلاء الممسوخين فأوعز إلى بعض أصحابه يأمره بالكف عن الكلام ، وانطلق إليه فناداه : إن أبا عبد اللّه يقول لك : أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه ، وأبلغ في الدعاء فقد نصحت هؤلاء وابلغت لو نفع النصح والابلاغ (١).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٣

١٩٠

خطاب برير :

واندفع الشيخ الجليل برير بن خضير لنصيحة ذلك الجيش قائلا :

«يا معشر الناس : ان اللّه بعث محمدا (ص) بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى اللّه وسراجا منيرا. وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول اللّه أفجزاء محمد (ص) هذا؟»

وقد خلعوا الشرف والحياء فقالوا له :

«يا برير قد اكثرت الكلام فاكفف عنا ، فو اللّه ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله».

ووجه إليهم النصيحة والارشاد قائلا :

«يا قوم : إن ثقل محمد (ص) قد اصبح بين اظهركم ، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته ، وحرمه فهانوا ما عندكم ، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟».

فأجابوه : نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد اللّه بن زياد فيرى رأيه وأخذ برير يذكرهم بعهودهم وكتبهم التي بعثوها للامام قائلا :

«أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة ، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها ، واشهدتم اللّه عليها وعليكم؟ أدعوتم اهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون انفسكم دونهم حتى اذا اتوكم اسلمتموهم الى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات بئسما خلفتم نبيكم في ذريته ، ما لكم لا سقاكم اللّه يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم».

وانبرى جماعة ممن زاغت ضمائرهم فانكروا كتبهم وعهودهم للامام قائلين له :

«ما ندري ما تقول؟»

١٩١

واستبان لبرير تماديهم في الاثم واجماعهم على اقتراف المنكر فقال :

«الحمد للّه الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهم اني ابرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهم الق بأسهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان».

فجعلوا يضحكون منه ، وعمدوا إليه فرشقوه بسهامهم (١) فانصرف عنهم.

خطاب الامام الحسين :

وابت رحمة الامام وشفقته على أعدائه إلا أن يقوم باسداء النصيحة لهم ثانيا ، حتى يستبين لهم الحق ، ولا يدعي أحد منهم أنه على غير بينة من أمره فانطلق نحوهم ، وقد نشر كتاب اللّه العظيم ، واعتم بعمامة جده رسول اللّه (ص) ولبس لامته ، وكان على هيبة تعنو لها الجباه ، وتغض عنها الابصار فقال لهم.

«تبا لكم ايتها الجماعة وترحا أحين استصرختمونا والهين فاصرخناكم موجفين (٢) سللتم علينا سيفا في ايمانكم وحششتم (٣) علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلبا (٤) لأعدائكم على اوليائكم بغير عدل افشوه فيكم ، ولا أمل اصبخ لكم فيهم ، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٥ / ١٢٩

(٢) موجفين : اي مسرعين في السير إليكم

(٣) حششتم : النار التي توقد

(٤) إلبا : اي مجتمعين

١٩٢

مشيم (١) والجأش طامن ، والراي لما يستحصف ، ولكن اسرعتم إليها كطيرة الدبا (٢) وتداعيتم عليها كتهافت الفراش (٣) ثم نقضتموها ، فسحقا لكم يا عبيد الأمة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرفي الكلم ، وعصبة الاثم ، ونفثة الشيطان ، ومطفئ السنن ، ويحكم أهؤلاء تعضدون!! وعنا تتخاذلون! اجل واللّه غدر فيكم وشجت عليه اصولكم ، وتأزرت فروعكم (٤) فكنتم اخبث ثمرة شجى للناظر واكلة للغاصب.

الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة (٥) والذلة وهيهات منا الذلة يأبى لنا اللّه ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس آبية من ان تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، الا واني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ، ثم انشد ابيات فروة بن مسيك المرادي :

فان نهزم فهزامون قدما

وإن نهزم فغير مهزمينا

وما ان طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

فقل للشامتين بنا افيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

اذا ما الموت رفع عن اناس

بكلكله اناخ بآخرينا

 __________________

(١) مشيم : السيف غمده

(٢) الدبا : بفتح الدال وتخفيف الباء الجراد قبل ان يطير

(٣) الفراش : بالفتح وتخفيف الراء جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها ، يقول الغزالي : ولعلك تظن ان هذا لنقصان فهمها وجهلها. ان جهل الانسان اعظم من جهلها لانكبابه على الشهوات والمعاصي إلى ان يغمس في النار ويهلك هلاكا مؤبدا.

(٤) تأزرت : اي نبتت عليه فروعكم وقويت به.

(٥) السلة : بكسر السين استلال السيوف.

١٩٣

اما واللّه لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور عهد عهده إلي ابي عن جدي رسول اللّه (ص) «فأجمعوا امركم وشركاءكم ثم لا يكن امركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون اني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة الا وهو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم ، ورفع يديه بالدعاء عليهم قائلا :

«اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فانهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلت وإليك المصير» (١).

لقد انفجر الامام بهذا الخطاب كما ينفجر البركان ، وقد أبدى من صلابة العزم وقوة الارادة ما لم يشاهد مثله وقد حفل خطابه بالنقاط التالية :

أولا ـ : انه أوغل في تأنيبهم بشدة لما أبدوه من التناقض في سلوكهم فقد هبوا إليه يستنجدون ويستغيثون به لينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم فلما خف لانقاذهم انقلبوا عليه ، وسلوا عليه سيوفهم التي كان من الواجب أن تسل على أعدائهم الذين بالغوا في اذلالهم وارغامهم على ما يكرهون.

ثانيا ـ : انه ابدى أسفه البالغ على دعمهم للحكم الاموي في حين انه لم يبسط فيهم عدلا او يشيع فيهم حقا ، أو يكون لهم أي أمل أو رجاء فيه.

ثالثا ـ : انه شجب الصفات الماثلة فيهم والتي كانوا بها من احط شعوب الأرض فهم عبيد الامة وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب وعصبة الاثم إلى غير ذلك من نزعاتهم الشريرة.

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ ـ ٧٥.

١٩٤

رابعا ـ : انه اعلن رفضه الكامل لدعوة الطاغية ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد اراد له الذل وهيهات أن يرضخ لذلك فقد خلق ليمثل الكرامة الانسانية والمثل العليا فكيف يذعن للدعي ابن الدعي؟

خامسا ـ : انه اعلن تصميمه على الحرب ، وان يخوض المعركة بأسرته التي مثلت البطولات ومضاء العزيمة والاستهانة بالموت.

سادسا : انه أخبرهم عن مصيرهم بعد قتلهم له ، فان اللّه سيسلط عليهم من يسقيهم كأسا مصبرة ، وينزل بهم العذاب الأليم ، ولم يمض قليل من الوقت حتى ثار عليهم المختار فملأ قلوبهم فزعا ورعبا ونكل بهم تنكيلا فظيعا.

هذه بعض النقاط الحساسة التي حفل بها كلامه الشريف الذي تندفق بقوة البيان ، وروعة القصد ، وقد وجم جيش ابن سعد.

استجابة الحر :

وثابت نفس الحر إلى الرشاد واستيقظ ضميره بعد ما سمع خطاب الامام ، وجعل يتأمل ويفكر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته ، فقد استولت عليه موجات رهيبة من الصراع النفسي ، فهل يلتحق بالحسين فيضحي بحياته ومنصبه بعد ما كان القائد المقرب من السلطة ، وقد وثقت به وجعلته اميرا على مقدمة جيشها ، او انه يبقى محاربا إلى الامام وفي ذلك العذاب الدائم ، واختار الحر نداء ضميره ، وتغلب على صراعه النفسي فصمم على الالتحاق بالحسين وقبل أن يتوجه إليه اسرع نحو ابن سعد فقال له :

«امقاتل أنت هذا الرجل؟»

١٩٥

وسارع ابن سعد قائلا بلا تردد ليظهر امام قادة الفرق اخلاصه لسيده ابن مرجانة.

«أي واللّه قتالا أيسره أن تسقط فيه الرءوس وتطيح الأيدي»

فقال له الحر :

«انما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا؟»

واندفع ابن سعد قائلا :

«لو كان الأمر لي لفعلت ولكن اميرك أبى ذلك»

ولما أيقن ان القوم مصممون على حرب الامام مضى يشق الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله فانكر ذلك المهاجر بن أوس وهو من أصحاب ابن زياد فقال بنبرة المستريب منه :

«واللّه إن أمرك لمريب ، واللّه ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من اشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟»

وكشف له عن حقيقة حاله واطلعه على ما صمم عليه قائلا :

«إني واللّه اخير نفسي بين الجنة والنار ، ولا اختار على الجنة شيئا ولو قطعت واحرقت ..».

وألوى بعنان فرسه صوب الامام (١) وهو مطرق برأسه الى الأرض حياء وتدما ، فلما دنا من الامام رفع صوته قائلا :

«اللهم إليك أنيب فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك ..

يا أبا عبد اللّه إني تائب فهل لي من توبة؟».

ونزل عن فرسه فوقف قبال الامام ودموعه تتبلور على وجهه ، وجعل يخاطب الامام ويتوسل إليه.

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢٤٤ ، الكامل ٣ / ٢٨٨

١٩٦

«جعلني اللّه فداك يا بن رسول اللّه أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان وو اللّه ـ الذي لا إله إلا هو ـ ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ابدا ، فقلت في نفسي : لا أبالي ان اطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، وو اللّه لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك واني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مواسيا لك بنفسي حتى اموت بين يديك افترى لي توبة؟»

واستبشر به الامام ومنحه الرضا ، والعفو وقال له : نعم يتوب اللّه عليك ويغفر (١) واقبل الحر يحدث الامام ويقص عليه رؤيا كان قد رآها قائلا :

«سيدي : رأيت أبي في المنام البارحة فقال لي : ما تصنع في هذه الأيام؟ وأين كنت؟ فقلت له : كنت في الطريق على الحسين ، فقال لي :

وا ويلاه عليك ما لك والحسين بن رسول اللّه (ص) .. وأريد منك أن تأذن لي بالمحاربة لأكون أول قتيل بين يديك ، كما كنت أول خارج عليك (٢).

خطاب الحر للجيش :

واستأذن الحر من الامام الحسين ليعظ أهل الكوفة وينصحهم لعل بعضهم أن يرجع عن غيه ويثوب الى الحق ، فاذن له الامام فانبرى

__________________

(١) الكامل ٣ / ٢٨٨ ، الدر النظيم (ص ١٧٠)

(٢) الكامل ٣ / ٢٨٩

١٩٧

إليهم رافعا صوته :

«يا اهل الكوفة لأمكم الهبل (١) والعبر (٢) أدعوتموه حتى إذا أتاكم استلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه ، واحطتم به ، ومنعتموه من التوجه في بلاد اللّه العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته ، فاصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هو وأهله قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم اللّه يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتفزعوا عما أنتم عليه».

وزلزلت الأرض تحت اقدامهم ، فقد كان هنا مئات امثال الحر ممن هاموا في تيارات من الصراع النفسي وكانوا على يقين بباطل قصدهم إلا انهم استجابوا رغباتهم النفسية ، في حب البقاء.

وتوقح بعض اولئك الممسوخين فرموا الحر بالنبل (٣) وهو كل ما يملكون من حجة في الميدان.

التحاق ثلاثين فارسا بالامام :

والتحق بمعسكر الامام ثلاثون فارسا من جيش ابن سعد ، وجعلوا يقولون لأهل الكوفة : يعرض عليكم ابن رسول اللّه (ص) ثلاث خصال

__________________

(١) الهبل : الثكل والفقد

(٢) العبر : البكاء وجريان الدمع

(٣) الكامل ٣ / ٢٢٩

١٩٨

فلا تقبلون منها شيئا ، وجعلوا يقاتلون ببسالة مع الامام حتى استشهدوا بين يديه (١).

الحرب :

وفشلت جميع الوسائل التي اتخذها الامام لصيانة السلم وعدم سفك الدماء ، وقد خاف ابن سعد من اطالة الوقت لئلا يحدث انقسام في صفوف جيشه فقد اربكه التحاق الحر بالامام مع ثلاثين فارسا من جيشه ، وزحف الباغي الى مقربة من معسكر الامام فأخذ سهما فاطلقه صوب الامام وهو يصيح :

«اشهدوا لي عند الأمير أني اول من رمى الحسين»

واتخذ ابن سعد من السهم الذي فتح به الحرب وسيلة يتقرب به الى سيده ابن مرجانة ، ويطلب من الجيش أن يشهدوا له عنده ليكون على ثقة من اخلاصه ووفائه ، وان ينفي عنه الشبهات من أنه غير جاد في قتاله للحسين.

وتتابعت السهام من معسكر ابن سعد على اصحاب الحسين كأنها المطر حتى لم يبق أحد منهم الا اصابه سهم منها ، وبطلت بذلك حجة السلم التي حرص الامام عليها ، وكان على انتظار من اعدائه القيام بهذا العدوان الغادر فلما بدءوه من جانبهم وجب عليه الدفاع عن النفس وجوبا لا شبهة فيه والتفت الامام الى اصحابه فاذن لهم في الحرب قائلا :

«قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم»

وتقدمت طلائع الحق من أصحاب الامام إلى ساحة الحرب وبدأت

__________________

(١) تذهيب التهذيب ١ / ١٥٢

١٩٩

بذلك المعركة الرهيبة واحتدم القتال كأشد واعنف ما يكون القتال ، ومن المؤكد انه لم تكن مثل تلك المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض. فقد تقابل اثنان وثلاثون فارسا واربعون راجلا مع عشرات الألوف وكانت تلك القلة كفوا لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، وابدت تلك القلة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الالباب.

لقد خاض اصحاب الامام غمار تلك الحرب عن ايمان واخلاص فقد كانوا على ثقة انهم انما يقاتلون في سبيل الدين الذي اخلصوا له ووهبوا في سبيله حياتهم ، وقد سجلوا بجهادهم المشرق شرفا لهذه الأمة لا يساويه شرف ، واعطوا للإنسانية افضل ما قدم لها من عطاء على امتداد التأريخ.

٢٠٠