حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ، ويستعبد شراركم ، فبعدا لمن رضي بالذل والعار» (١).

ولما فرغ ابن مرجانة من العبث برأس ريحانة رسول اللّه (ص) التفت الى كاهن كافر فقال له : قم فضع. على رأس عدوك ، ففعل الكاهن ذلك (٢) لقد فعل ابن زياد بآل البيت ما لم يفعله أي كافر على وجه الأرض ، فقد استهان بجميع القيم والمقدسات ، واستباح كل ما حرمه اللّه.

رجوع القوات المسلحة :

ومكثت القوات المسلحة في كربلا يوم الحادى عشر من المحرم فوارت جيف قتلاها بين مظاهر الاجلال والتعظيم ، وقد فتحت لها كوة من قيح جهنم يؤجج ضرامها ولا يخبو نارها تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.

أما جثة الامام العظيم والجثث الزواكي من أهل بيته واصحابه ، فقد عمدوا الى تركها على صعيد كربلا تسفي عليها الرياح لا مغسلين ولا مكفنين.

وأمر ابن سعد حميد بن بكر الأحمري ، فنادى بالناس الرحيل الى الكوفة (٣) وسارت قوات ابن سعد بعد الزوال من كربلا واعلامها رءوس العترة الطاهرة التي ثارت من اجل احقاق الحق ، وتوطيد اركان العدل ، وقد حملوا معهم نساء الحسين واخواته ونساء الأصحاب فكن عشرين

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٧) المناقب والمثالب.

(٢) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧)

(٣) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٣٢١

امرأة (١) ما عدا الصبية وقد سيروهن على اقتاب الجمال بغير وطاء وساقوهن كما يساق سبي الترك والديلم ، ومروا بهن على جثث القتلى من أهل البيت مبالغة في ايذائهن ، وكان العرب في جاهليتهم الأولى يتجنبون مرور النساء على قتلاهن الا ان جيش ابن سعد لم يلتزم بأي خلق ، ولم تكن عنده أية عاطفة انسانية.

ولما نظرت عقائل النبوة الى جثث القتلى من اهل البيت رفعن اصواتهن بالبكاء ، وصاحت حفيدة النبي (ص) زينب (ع) بصوت يذيب القلوب.

«يا محمداه هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة» (٢).

ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت عيونهم دموعا ، وبكى العدو والصديق (٣).

جزع الامام زين العابدين :

وجزع الامام زين العابدين كأشد ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه ، وجثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد الى مواراتها وبصرت به عمته زينب فبادرت إليه مسلية قائلة :

«ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي واخوتي ، فو اللّه إن هذا لعهد من اللّه الى جدك وأبيك ، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، انهم يجمعون

__________________

(١) مقتل المقرم (ص ٣٧٧)

(٢) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٠ ، البداية والنهاية ٨ / ١٩٣

(٣) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص ١٤٠)

٣٢٢

هذه الأعضاء المقطعة ، والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر واشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره الا علوا» (١).

وازالت حفيدة الرسول (ص) ما ألم بالامام زين العابدين من الحزن العميق على عدم مواراة أبيه ، فقد أخبرته بما سمعته من أبيها وأخيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة تلك الجثث الطاهرة ، وسينصب لها علم لا يمحى أثره ، ويبقى خالدا حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها ... وقد جدّ ملوك الأمويين والعباسيين على محوها وازالة آثارها ، وجاهدوا نفوسهم وسخروا جميع امكانياتهم الا انهم لم يفلحوا ، ومضى مرقد الامام شامخا على الدهر ، ومضت ذكراه تملأ رحاب الأرض نورا وفخرا وشرفا كاسمى صورة تعتز بها الانسانية في جميع أدوارها.

مواراة الجثث الطاهرة :

وبقيت جثة الامام العظيم وجثث الشهداء الممجدين من أهل بيته واصحابه ملقاة على صعيد كربلا تصهرها الشمس ، وتسفي عليها الرياح ، وقد انبرى جماعة من المؤمنين الذين لم يتلوثوا في الاشتراك بحرب ريحانة رسول اللّه (ص) الى مواراتها ، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي دفنت فيه ، وفيما يلي ذلك.

__________________

(١) كامل الزيارات (ص ٢٦١)

٣٢٣

١ ـ يوم الحادي عشر (١)

٢ ـ يوم الثاني عشر (٢)

٣ ـ يوم الثالث عشر (٣)

اما الذين حظوا بمواراتها فهم قوم من بني أسد كانوا ينزلون بالقرب من مكان المعركة فخفوا إليها بعد أن نزحت جيوش ابن سعد ، فرأوا الجثث الزواكي ملقاة بالعراء فأيقنوا انها جثث أهل البيت ، وجثث أصحابهم فعجوا بالبكاء والعويل ، وصرخت نساؤهم ، وقاموا في هدأة الليل حيث امنوا الرقباء ، فحفروا قبرا لسيد الشهداء ، وقبرا آخر لبقية الشهداء ، وقد حفروها على ضوء القمر حيث كان على وشك التمام ، ولم يطلع القمر على مثلها شرفا في جميع الاحقاب والآباد.

يقول الشيخ المفيد :

«ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية الى الحسين وأصحابه فصلوا عليهم ، ودفنوا الحسين (ع) حيث قبره الآن ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجله : وحفروا للشهداء من أهل بيته واصحابه ـ الذين صرعوا حوله ـ مما يلي رجلي الحسين ، وجمعوهم فدفنوهم جميعا. ودفنوا العباس بن علي في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن» (٤).

وتنص بعض المصادر الشيعية على أن بني أسد كانوا متحيرين في

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧) البداية والنهاية ٨ / ١٨٩ ، المناقب ٥ / ١٣٣ مصور.

(٢) البحار

(٣) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٦)

(٤) الارشاد (ص ٢٢٧)

٣٢٤

شأن تلك الجثث الزواكي ولم يهتدوا لمعرفتها لأن الرءوس قد فصلت عنها وبينما هم كذلك اذ أطل عليهم الامام زين العابدين فأوقفهم على شهداء أهل البيت وغيرهم من الأصحاب ، وبادر الى حمل جثمان أبيه فواراه في مثواه الأخير وهو يذرف أحر الدموع قائلا :

«طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فان الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة ، أما الليل فمسهد ، والحزن سرمد أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته».

ورسم على القبر الشريف هذه الكلمات : «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا» ودفن عند رجلي الامام ولده علي الأكبر ، ودفن بقية الشهداء الممجدين من هاشميين وغيرهم في حفرة واحدة ، وانطلق الامام زين العابدين مع الأسديين الى نهر العلقمي فواروا قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين ، وجعل الامام يبكي احر البكاء قائلا :

«على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللّه وبركاته» (١).

وأصبحت تلك القبور الطاهرة رمزا للكرامة الانسانية ، ورمزا لكل تضحية تقوم على العدل يقول العقاد : «فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين ومن حقه أن يطيف به كل انسان لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي من بين سائر الأحياء

فما اظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو اشرف من تلك القباب

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨)

٣٢٥

بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء» (١)

ويقول يوسف رجيب : «وليس لقبر من قبور أولياء اللّه الصالحين البررة غير قبر الحسين هو قبلة الدنيا وكعبة بني الأرض لأن اللّه شرفه بجهاد اعدائه الذين اعتزموا طمس الدين الحنيف ، وانتهاك الشريعة ، واتخاذ الخلافة أمرة زمنية استباحوا بها كل محرم يتلذذون بما حرم اللّه وحرمته كتبه» (٢).

لقد ضمت تلك البقعة المباركة خلاصة الاباء والشرف والدين ، وقد أصبحت أقدس مراكز العبادة وافضلها في الاسلام ففي كل وقت يطيف بها المسلمون متبركين ومتقربين إلى اللّه ، كما اصبحت مطافا لملائكة اللّه المقربين ، فقد روى الفضل بن يسار عن أبي عبد اللّه أنه سئل عن أفضل قبور الشهداء فقال عليه السلام :

«أو ليس أفضل الشهداء الحسين بن علي؟ فو الذي نفسي بيده ان حول قبره اربعين الف ملك شعثا غبرا يبكون عليه إلى يوم القيامة» (٣).

ويقول الامام الرضا (ع) : «إن حول قبر الحسين سبعين الف ملك شعثا غبرا يبكون عليه الى يوم القيامة» (٤)

وقد حظى مرقده العظيم باستجابة الدعاء عنده فما قصده مكروب أو ملهوف الا فرج اللّه عنه مما ألم به يقول الجواهري :

__________________

(١) ابو الشهداء

(٢) مجلة الغري السنة الثانية العدد ١٠ ص ٢٢

(٣) مناقب ابن المغازلي : رقم الحديث ٣٩٠

(٤) ذخائر العقبى (ص ١٥١)

٣٢٦

تعاليت من مفزع للحتوف

وبورك قبرك من مفزع

تلوذ الدهور فمن سجد

على جانبيه ومن ركع (١)

ويقول المؤرخون إن الامام الهادي (ع) ألم به مرض فأمر أبا هاشم الجعفري أن يبعث له رجلا إلى الحائر الحسيني ليدعو له بالشفاء ، وقد سئل عليه السلام عن ذلك فقال : ان اللّه أحب أن يدعى في هذا المكان (٢).

لقد احتل ابو الشهداء المكانة العظمى عند اللّه تعالى كما احتل قلوب المسلمين وحظى بأصدق محبتهم فهم يشدون الرحال الى مثواه من كل فج عميق وفاء بحقه واعترافا بفضله والتماسا لعظيم الأجر الذي كتبه اللّه لزائريه ، ويقول (نيكلسون) : وخلال بضع سنوات عن مصرع الحسين اصبح ضريحه في كربلا محجا تشد إليه الرحال (٣).

فضل زيارة الحسين :

وتواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بفضل زيارة سيد الشهداء (ع) وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوبها ، وقد الف محمد بن علي العلوي كتابا يقع في جزءين أسماه «فضل زيارة الحسين» ونلمع الى بعض تلك الأخبار.

١ ـ روى أبو حمزة الثمالي قال : سألت علي بن الحسين عن زيارة الحسين (ع) فقال : «زره كل يوم فان لم تقدر فكل جمعة ، فان لم

__________________

(١) ديوان الجواهري ١ / ١٩٤

(٢) كامل الزيارات (ص ٢٢٣)

(٣) تأريخ الأدب العربي

٣٢٧

تقدر فكل شهر فمن لم يزره فقد استخف بحق رسول اللّه (ص)» (١).

٢ ـ روى ابو الجارود قال : «قال لي ابو جعفر : كم قبر الحسين منكم؟ قال : قلت له : يوم للراكب ويوم وليلة للراحل ، قال : لو كان منا كما هو منكم لاتخذناه هجرة» (٢).

٣ ـ وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال : (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين فان اتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء ، واتيانه مقترض على كل مؤمن يقر له بالامامة من اللّه» (٣).

والأخبار بذلك كثيرة ، وهي مما تفيد القطع بالصدور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

دعاء الامام الصادق لزوار الحسين :

ودعا الامام الصادق بهذا الدعاء الشريف لزوار قبر جده الحسين وقد رواه الثقة معاوية بن وهب وهذا نصه :

قال : استأذنت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقيل لي ادخل فدخلت فوجدته فى مصلاه ، فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه وهو يقول :

«يا من خصنا بالكرامة ، وخصنا بالوصية ، ووعدنا بالشفاعة ، وأعطانا علم ما مضى وما بقي وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا ، اغفر لي ولاخواني ، ولزوار قبر أبي الحسين (ع) الذين انفقوا أموالهم واشخصوا

__________________

(١) فضل زيارة الحسين ١ / ١٤ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين

(٢) فضل زيارة الحسين ١ / ١٧

(٣) وسائل الشيعة ١٠ / ٣٢١

٣٢٨

ابدانهم رغبة في برنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسرورا ادخلوه على نبيك صلواتك عليه وآله واجابة منهم لأمرنا ، وغيظا ادخلوه على عدونا أرادوا بذلك رضاك ، فكافهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف ، واعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على ابنائهم وأهاليهم واقربائهم.

اللهم : ان اعدائنا عابوا عليهم خروجهم فلم يمنعهم ذلك عن الشخوص إلينا ، وخلافا منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي قد غيرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على حفرة أبي عبد اللّه ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم الصرخة التي كانت لنا.

«اللهم : إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى توافيهم على الحوض يوم العطش» فما زال وهو ساجد يدعو اللّه بهذا الدعاء فلما انصرف قلت :

«جعلت فداك لو ان هذا الذي سمعت كان لمن لا يعرف اللّه لظننت أن النار لا تطعم منه شيئا ، واللّه لقد تمنيت أن كنت زرته ولم احج».

فقال عليه السلام :

«ما أقربك منه فما ذا الذي يمنعك من زيارته؟ لم تدع ذلك؟»

«لم ادر أن الأمر يبلغ هذا كله»

«يا معاوية من يدعو لزواره في السماء اكثر ممن يدعو لهم في الأرض يا معاوية لا تدعه فمن تركه رأى من الحسرة ما يتمنى ان قبره كان عنده

٣٢٩

أما تحب أن يرى اللّه شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول اللّه (ص) وعلي وفاطمة والأئمة ، أما تحب أن تكون غدا ممن تصافحه الملائكة أما تحب أن تكون غدا فيمن يخرج وليس له ذنب فيتبع به ، أما تحب أن تكون غدا ممن يصافح رسول اللّه (ص) (١).

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مصرع الامام العظيم لنستقبل سبايا أهل البيت في الكوفة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٣٢٠ ـ ٣٢١

٣٣٠

سبايا اهل البيت فى الكوفة

٣٣١
٣٣٢

واستقبلت الكوفة سبايا آل البيت (ع) بمزيد من الفزع والاضطراب وخيم عليها الذل والهوان ، فقد كمت الأفواه ، وأخرست الألسن ، ولم يستطع أحد أن يظهر ما في دخائل نفسه من الأسى الشديد خوفا من السلطة العاتية التي استهانت بارواح الناس وكراماتهم.

وعزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم ، وقد رفعوا على الحراب رءوس العترة الطاهرة ، ومعهم الأسرى من عقائل النبوة وحرائر الوحي وقد ربطوا بالحبال ، وقد وصف ذلك المنظر الرهيب مسلم الجصاص يقول : دعاني ابن زياد لاصلاح دار الامارة بالكوفة فبينما أنا اجصص الأبواب واذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة فاقبلت على أحد خدام القصر فقلت له :

«مالي أرى الكوفة تضج»

«الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد»

«من هذا الخارجي؟»

«الحسين بن علي»

«يقول : فتركت الخادم حتى خرج واخذت الطم على وجهي حتى خشيت على عينيّ أن تذهبا ، وغسلت يديّ من الجص ، وخرجت من القصر حتى أتيت الى الكناس فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرءوس اذ اقبل أربعون جملا تحمل النساء والاطفال ، واذا بعلي ابن الحسين على بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما ، وهو يبكي ويقول :

يا أمة السوء لا سقيا لربعكم

يا امة لم تراع جدنا فينا

لو اننا ورسول اللّه يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الاقتاب عارية

كأننا لم نشيد فيكم دينا (١)

 __________________

(١) مقتل الحسين لعبد اللّه نور اللّه مخطوط

٣٣٣

ويقول جذلم بن بشير : قدمت الكوفة سنة (٦١ هـ) عند مجيء علي ابن الحسين من كربلا الى الكوفة ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد انهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه (١) ، وهو يقول بصوت ضعيف :

ان هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟ (٢) وانبرت احدى سيدات الكوفة فسألت احدى السبايا وقالت لها :

«من أي الأسارى أنتن؟»

«نحن أسارى أهل البيت»

ولما سمعت بذلك المرأة صرخت ، وصرخت النسوة التي معها ، ودوى صراخهن في ارجاء الكوفة ، وبادرت المرأة فجمعت ما في بيتها من ازر ومقانع فجعلت تناولها الى العلويات ليتسترن بها عن أعين الناس (٣) كما بادرت سيدة أخرى فجاءت بطعام وتمر وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع.

ونادت السيدة أم كلثوم من خلف الركب :

«ان الصدقة حرام علينا أهل البيت»

ولما سمعت الصبية مقالة العقيلة رمى كل واحد منهم ما في يده أو فمه من الطعام وراح يقول لصاحبه : إن عمتي تقول :

«إن الصدقة حرام علينا أهل البيت»

__________________

(١) أمالي الشيخ المفيد (ص ١٤٣) مخطوط

(٢) مقتل الحسين لعبد اللّه

(٣) مقتل الحسين لعبد اللّه

٣٣٤

خطاب السيدة زينب :

وحينما رأت السيدة زينب (ع) حفيدة الرسول (ص) وشقيقة الامام الحشود الزاخرة التي ملأت شوارع الكوفة وأزقتها ، اندفعت الى الخطابة لبلورة الموقف ، واظهار المصيبة الكبرى التي جرت على أهل البيت وتحميل الكوفيين مسئولية هذه الجريمة النكراء ، فهم الذين نقضوا العهد ، وخاسوا بالذمة ، فقتلوا ريحانة رسول اللّه (ص) ثم عادوا بعد قتله ينوحون ويبكون كأنهم لم يقترفوا هذا الاثم العظيم ، وهذا نص خطابها :

«الحمد للّه وصلواته على أبي محمد رسول اللّه (ص) وعلى آله الطاهرين الأخيار ، أما بعد : يا أهل الكوفة يا أهل الختل والخذل (١) أتبكون؟!! فلا رقأت لكم دمعة (٢) انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ، تتخذون ايمانكم دخلا بينكم الا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون!! أي واللّه فابكوا كثيرا ، واضحكوا قليلا ، كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حضرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ومدرة سنتكم الا ساء ما تزرون ، وبعدا لكم ، وسحقا ، فلقد خاب السعي ، ونبت الأيدي وخسرت الصفقة وتوليتم بغضب اللّه ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة؟ أي كبد لرسول اللّه (ص) فريتم وأي دم له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدا!!

__________________

(١) وفي نسخة : الغدر

(٢) وفي نسخة : فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة

٣٣٥

لقد جئتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض ، وملء السماء ، افعجبتم ان مطرت السماء دما ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار وان ربكم لبالمرصاد ...» (١).

لقد قرعتهم بطلة كربلا ، بمنطق الصدق وصوت الحق ، ودلتهم على نفوسهم الخبيثة ، فلم تنخدع بدموعهم الكاذبة ، ولم ينطل عليها زورهم وبهتانهم ، ونعت عليهم جريمتهم النكراء التي هي أبشع جريمة وقعت في الأرض .. وقد وصفتهم بأخس الصفات التي توصف بها احط الشعوب فقد وصفتهم بالختل والغدر ، وهما مصدران لانحطاط الانسان وشقائه.

وعلقت سلام اللّه عليها على بكائهم فقالت : ان من حقهم أن يبكوا كثيرا ويضحكوا قليلا على عظيم ما اقترفوه من الأثم ، فقد قتلوا سيد شباب أهل الجنة وسليل خاتم النبوة ، والمنقذ والمحرر لهم ، وفروا كبد رسول اللّه (ص) وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأي جريمة أبشع أو افظع من هذه الجريمة؟

صدى الخطاب :

واضطرب الناس من خطاب سليلة النبوة وايقنوا بالهلاك ، وقد وصف خزيمة الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثه خطاب العقيلة يقول :

لم أر واللّه خفرة انطق منها كأنما تفرغ عن لسان الامام امير المؤمنين ورأيت الناس بعد خطابها حيارى واضعي أيديهم على افواههم ، ورأيت

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٨٧) نور الابصار للشبلنجيّ (ص ١٦٧).

٣٣٦

شيخا قد دنا منها يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبدا (١) الا ان الامام زين العابدين قطع على عمته خطابها قائلا :

«اسكني يا عمة ، فأنت بحمد اللّه عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ..» (٢).

فأمسكت عن الكلام ، وتركت المجتمع يمور بالأسى والحزن.

خطاب السيدة فاطمة :

وانبرت الى الخطابة فاطمة بنت الامام الحسين (ع) فخطبت ابلغ خطاب واروعه ، وكانت طفلة ، فبهر الناس ببلاغتها وفصاحتها وقد أخذت بمجامع القلوب وتركت الناس حيارى قد بلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق فقالت :

«الحمد للّه عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش الى الثرى ، أحمده وأومن به ، وأتوكل عليه ، واشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله .. وان اولاده ذبحوا بشط الفرات ، من غير ذحل ولا تراث.

اللهم إني أعوذ بك أن افتري عليك ، وان اقول عليك خلاف ما أنزلت من اخذ العهود والوصية لعلي بن أبي طالب ، المغلوب حقه ، المقتول من غير ذنب ـ كما قتل ولده بالأمس ـ في بيت من بيوت اللّه تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيما

__________________

(١) نور الابصار (ص ١٧٦) الدر النظيم (ص ١٧٢)

(٢) احتجاج الطبرسي

٣٣٧

في حياته ، ولا عند مماته ، حتى قبضه اللّه تعالى إليه محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه في اللّه سبحانه لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته اللهم للاسلام صغيرا ، وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ، ولرسولك ، زاهدا في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة ، مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته الى صراط مستقيم.

أما بعد : يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فانا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه ، وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، اكرمنا اللّه بكرامته ، وفضلنا بنبيه محمد (ص) على كثير ممن خلق اللّه تفضيلا ... فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالا واموالنا نهبا ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ..

وسيوفكم تقطر من دمائنا اهل البيت ، لحقد متقدم ، قرت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراء على اللّه ، ومكرا مكرتم ، واللّه خير الماكرين ، فلا تدعونكم انفسكم الى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا فان ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على اللّه يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما أتاكم واللّه لا يحب كل مختال فخور.

تبا لكم فانظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخالدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ألا لعنة اللّه على الظالمين.

ويلكم أتدرون أية يد طاعتنا منكم ، واية نفس نزعت الى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا ، تبغون محاربتنا ، قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم

٣٣٨

وطبع اللّه على افئدتكم ، وختم على سمعكم وبصركم ، وسول لكم الشيطان واملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة أي تراث لرسول اللّه قبلكم ، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي وبنيه ، وعترته الطيبين الأخيار ، وافتخر بذلك مفتخركم :

قد قتلنا عليكم وبنيه

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثث والاثلب (١) افتخرت بقتل قوم زكاهم اللّه وطهرهم واذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى ابوك فإنّما لكل امرئ ما اكتسب وما قدمت يداه.

حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا اللّه تعالى ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور ...) (٢).

وتحدثت سليلة النبوة والامامة في خطابها العظيم عن أمور بالغة الأهمية وهي :

١ ـ انها عرضت لمحنة جدها الامام امير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الأرض ، وما عاناه من المحن والمصاعب حتى استشهد في بيت من بيوت اللّه ، ولم يدفع عنه المجتمع الكوفي ولم يقف إلى جانبه وانما تركوه وحده يصارع الاهوال حتى قبضه اللّه إليه وهو جم المناقب ، محمود النقيبة طيب العريكة ، قد اصطفاه اللّه ، وخصه بالفضائل والمواهب.

__________________

(١) الكثث : التراب ، الأثلب : فتات الحجارة والتراب

(٢) اللهوف لابن طاوس ، ومثير الأحزان لابن نما ، مقتل الحسين لعبد اللّه.

٣٣٩

٢ ـ وتحدثت عن محنة أهل البيت ، بذلك المجتمع ، فانهم سلام اللّه عليهم بحكم قيادتهم الروحية للأمة ، فانهم مسئولون عن حمايتها ، ولكن الأمة قد جانبت الحق ، فسفكت دماءهم وانتهكت حرمتهم فما اجل رزيتهم واعظم بلاءهم.

٣ ـ شجبت الاعتداء الصارخ على أهل البيت ، ووصفت المعتدين القساة بأبشع الصفات ، ودعت اللّه أن ينزل عليهم نقمته وعذابه الأليم.

صدى الخطاب :

وأثر الخطاب تأثيرا بالغا في نفوس المجتمع فقد وجلت منه القلوب وفاضت العيون ، واندفع الناس ببكاء قائلين :

«حسبك يا بنة الطاهرين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وانضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا» (١).

وأمسكت عن الكلام وتركت الجماهير في محنتها وشقائها تصعد الآهات وتبدي الحسرات وتندب حظها التعيس على عظيم ما اقترفت من الاثم.

خطاب السيدة أمّ كلثوم :

وانبرت حفيدة الرسول (ص) السيدة أم كلثوم إلى الخطابة فأومأت إلى الناس بالسكوت فلما سكنت الأنفاس بدأت بحمد اللّه والثناء عليه ثم قالت :

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٢)

٣٤٠