حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

ولم تشاهد أمة من الأمم محنة أوجع ولا أفجع من كارثة كربلا ، فلم تبق رزية من رزايا الدهر ، ولا فاجعة من فواجع الدنيا الا جرت على سبط رسول اللّه وريحانته ... وقد الهبت رزاياه العواطف حزنا وأسى وأثارت اللوعة حتى عند اقل الناس احساسا واقساهم قلبا وقد أثرت على الباغي اللئيم عمر بن سعد فراح يبكي من أهوال ما جرى على الامام من فوادح الخطوب.

لقد انتهكت في كارثة كربلا حرمة الرسول (ص) في عترته وذريته يقول الامام الرضا (ع) :

«ان يوم الحسين اقرح جفوننا وأذل عزيزنا ..»

ونعرض الى فصول تلك المأساة الخالدة في دنيا الأحزان ، وما رافقها من الاحداث الموجعة.

زحف الجيش :

وتدافعت القوى الغادرة التي ملئت نفوسها الشريرة بالأحقاد والأضغان على العترة الطاهرة التي تبنت حقوق المظلومين والمضطهدين ، وجاهدت من أجل احقاق الحق.

لقد زحفت طلائع جيش ابن سعد نحو الامام في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، فقد صدرت إلى القيادة العامة الأوامر المشددة من ابن زياد بتعجيل القتال خوفا من أن يتبلور رأي الجيش ويحدث انقسام في صفوفه ، ولما زحف ذلك الجيش كان الحسين جالسا أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه ، فسمعت أخته عقيلة بني هاشم زينب (ع) أصوات الرجال وتدافعهم نحو أخيها فانبرت إليه وهي فزعة مرعوبة

١٦١

فايقظته فرفع الامام رأسه فرأى أخته ، فقال لها بعزم وثبات :

«إني رأيت رسول اللّه (ص) في المنام ، فقال : إنك تروح إلينا ..».

وذابت نفس العقيلة ، وانهارت قواها فلطمت وجهها وقالت بنبرات حزينة :

«يا ويلتاه ..» (١)

والتفت ابو الفضل العباس إلى أخيه فقال له : يا أخي أتاك القوم فطلب منه الامام أن يتعرف على خبرهم قائلا له :

«اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم ، فتقول لهم : ما بدا لكم ، وما تريدون؟».

واسرع ابو الفضل نحوهم ، ومعه عشرون فارسا من اصحابه ، وفيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ، وسألهم العباس عن زحفهم ، فقالوا له :

«جاء أمر الأمير ان نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم» (٢) وقفل العباس إلى أخيه يعرض عليه الأمر ، واقبل حبيب بن مظاهر على القوم فجعل يعظهم ، ويذكرهم الدار الآخرة قائلا :

«أما واللّه لبئس القوم يقدمون غدا على اللّه عز وجل ، وعلى رسوله محمد (ص) وقد قتلوا ذريته وأهل بيته المجتهدين بالاسحار ، الذاكرين اللّه كثيرا بالليل والنهار وشيعته الأتقياء الابرار» (٣).

فرد عليه عزرة بن قيس قائلا :

__________________

(١) ابن الأثير ٣ / ٢٨٤

(٢) انساب الاشراف ق ١ ج ١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٧٧

(٣) الفتوح ٥ / ١٧٧

١٦٢

«يا بن مظاهر انك لتزكي نفسك!!»

وانبرى إليه زهير بن القين قائلا :

«اتق اللّه يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ، ويقتلون النفس الزكية الطاهرة عترة خيرة الأنبياء» (١) ،

فقال له عزرة :

«كنت عندنا عثمانيا فما بالك؟»

فقال زهير :

«واللّه ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولا ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول اللّه وعرفت ما تقدمون من غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن انصره ، واكون في حزبه حفظا لما ضيعتم من حق رسول اللّه (ص)» (٢).

وعرض ابو الفضل مقالة القوم على اخيه ، فقال له :

«ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أني أحب الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

ورجع إليهم ابو الفضل العباس ، فأخبرهم بكلام أخيه ، وعرض ابن سعد الأمر على الشمر خوفا من وشايته اذا استجاب لطلب الامام وأخر القتال فقد كان المنافس الوحيد له على امارة الجيش كما كان عينا عليه ، أو انه أراد أن يكون شريكا له في المسئولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٧٧

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

١٦٣

وعلى أي حال فان الشمر لم يبد رأيه في الموضوع ، وانما احاله لابن سعد ، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فانكر عليهم احجامهم عن اجابة الامام قائلا :

«سبحان اللّه!! واللّه لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه : :» (١).

ولم يزد ابن الحجاج على ذلك فلم يقل انه ابن رسول اللّه (ص) خوفا من أن تنقل الاستخبارات العسكرية حديثه الى ابن مرجانة فينال العقاب او العتاب والحرمان منه ... وايد ابن الأشعث مقالة ابن الحجاج فقال لابن سعد :

«أجبهم إلى ما سألوا فلعمري ليصحبنك بالقتال غدا»

وانما قال ابن الأشعث ذلك لأنه حسب ان الامام يتنازل لابن زياد فلذا رغب في تأخير القتال الا انه لما استبان له ان الامام مصمم على الحرب ندم على كلامه وراح يقول :

«واللّه لو اعلم أنهم يفعلون ما أخرتهم» (٢)

لقد اتخذ ابن الأشعث من خلقه واخلاق اهل الكوفة مقياسا يقيس به قيم الرجال فظن ان الامام سوف يستجيب للذل والهوان ويتنازل عن اداء رسالته الكبرى ، ولم يعلم ان الامام يستمد واقعه واتجاهاته من جده العظيم.

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥ ، انساب الاشراف ق ١ ج ١

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

١٦٤

تأجيل الحرب الى الصبح :

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به اكثرية القادة من جيشه ، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك فدنا من معسكر الحسين وصاح : «يا أصحاب الحسين بن علي قد اجلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه وان ابيتم ناجزناكم» (١) وارجئ القتال إلى اليوم العاشر من المحرم وظل أصحاب ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الامام أو يرفض ما دعوه إليه.

الامام يأذن لأصحابه بالتفرق :

وجمع الامام اصحابه واهل بيته ليلة العاشر من المحرم ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليلقى مصيره المحتوم ، وقد اراد ان يكونوا على هدى وبينة من امرهم ، فقال لهم :

«أثني على اللّه احسن الثناء ، واحمده على السراء والضراء ...

اللهم اني احمدك على ان اكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن ، وفهمتنا في الدين وجعلت لنا اسماعا وابصارا وافئدة ولم تجعلنا من المشركين.

أما بعد : فاني لا أعلم اصحابا اوفى ولا خيرا من اصحابي فجزاكم اللّه جميعا عني خيرا ، الا واني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، واني قد أذنت لكم جميعا فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٧٩

١٦٥

فجزاكم اللّه جميعا خيرا ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج اللّه فان القوم انما يطلبونني ، ولو اصابونني لهوا عن طلب غيري» (١).

وتمثلت روعة الايمان بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانبا كبيرا عن نفسية الامام رائد الكرامة الانسانية ، فقد تجنب في هذا الموقف الدقيق جميع الوان المنعطفات ، فجعل أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع وحدد لهم النتيجة التي لا مفر منها وهي القتل والتضحية وليس هناك شيء آخر غيرها .. وقد رغب أن يخلوا عنه ، وينصرفوا تحت جنح الظلام فيتخذون منه ستارا دون كل عين فلعلهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في ضوء النهار ، أو انهم يخشونه فجعلهم في حل من التزاماتهم تجاهه ، وعرفهم

__________________

(١) ابن الاثير ٣ / ٢٨٥ ، المنتظم لابن الجوزي ، وروي كلامه بصورة اخرى فقد جاء في مقتل الحسين لعبد اللّه ، انه (ع) قال : انتم في حل من بيعتي فالحقوا بعشائركم ومواليكم ، وقال لأهل بيته : قد جعلتكم في حل من مفارقتي فانكم لا تطيقوهم لتضاعف اعدادهم وقواهم وما المقصود غيري فدعوني والقوم فان اللّه عز وجل يعينني ولا يخليني من حسن نظره كعادته مع اسلافنا الطيبين ، ففارقه جماعة من معسكره فقال له اهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وانا اقرب ما تكون الى اللّه اذا كنا معك ، فقال لهم : إن كنتم وطنتم انفسكم على ما وطنت نفسي عليه ، فاعلموا ان اللّه انما يهب المنازل الشريفة لعباده لاحتمال المكاره ، وان اللّه كان خصني مع من مضى من اهلي الذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل علي معها احتمال المكروهات فان لكم شطرا من كرامات اللّه ، واعلموا ان الدنيا حلوها ومرها حلم والانتباه في الآخرة والفائز من فاز فيها والشقي من شقي فيها.

١٦٦

انه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة فاذا ظفروا به فلا ارب لهم في طلب غيره.

جواب أهل بيته :

ولم يكد يفرغ الامام من كلماته حتى هبت الصفوة الطيبة من أهل بيته ، وهم يعلنون اختيار الطريق الذي يسلكه ، ويتبعونه في مسيرته ولا يختارون غير منهجه ، فانبروا جميعا وعيونهم تفيض دموعا قائلين :

«لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك لا أرانا اللّه ذلك أبدا»

بدأهم بهذا القول أخوه ابو الفضل العباس وتابعته الفتية الطيبة من ابناء الأسرة النبوية ، والتفت الامام إلى ابناء عمه من بني عقيل فقال لهم :

«حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم»

وهبت فتية آل عقيل تتعالى اصواتهم قائلين بلسان واحد :

«اذن ما يقول الناس؟ : وما نقول؟ : إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا؟ لا واللّه لا نفعل ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك فقبح اللّه العيش بعدك» (١).

جواب اصحابه :

واترعت قلوب اصحاب الامام ايمانا فقد صهرهم ابو عبد اللّه بمثله التي لا تحد ، فقد رأوا فضائله ومزاياه ، واندفاعه نحو الحق ، وانه

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٨ ، تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥

١٦٧

لم يكن يسعى بأي حال لجاه او مال أو سيادة ، وانه قد رفض كل مساومة على حساب أمته ودينه ، مما أثر في أعماق قلوبهم فاستهانوا بالحياة وسخروا من الموت ، وقد اندفعوا يعلنون له الفداء والتضحية وهذه كلمات بعضهم.

١ ـ مسلم بن عوسجة

وانبرى مسلم بن عوسجة ودموعه تتبلور على وجهه فخاطب الامام قائلا :

«أنحن نخلي عنك وبما ذا نعتذر الى اللّه في أداء حقك ، أما واللّه لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي واضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى اموت معك».

وعبرت هذه الكلمات عن عميق ايمانه فهو يرى أنه مسئول امام اللّه عن اداء حق ريحانة رسول اللّه (ص) وانه سيبذل جميع طاقاته في الدفاع عنه.

٢ ـ سعيد بن عبد اللّه

وتكلم سعيد بن عبد اللّه الحنفي فاعلن ولاءه الصادق للامام قائلا :

«واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك ... أما واللّه لو علمت أني اقتل ثم احيا ثم احرق ثم اذرى يفعل بي ذلك سبعون مرة لما فارقتك حتى القى حمامي دونك ، وكيف لا افعل ذلك وانما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا».

وليس في قاموس الوفاء انبل ولا اصدق من هذا الوفاء انه يتمنى انه تجرى عليه عملية القتل سبعين مرة ليفدي الامام ويحفظ غيبة رسول اللّه (ص)

١٦٨

وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانما هو مرة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها.

٣ ـ زهير بن القين

وانطلق زهير فاعلن نفس الاتجاه الذي اعلنه اخوانه قائلا : «واللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ، ثم قتلت حتى اقتل كذا الف مرة ، وان اللّه عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن انفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك ..».

لقد ارتفع هؤلاء الأبطال الى مستوى من النبل لم يبلغه اي انسان ، فاعطوا الدروس المشرقة للفداء في سبيل الحق.

وانبرى بقية اصحاب الامام فاعلنوا الترحيب بالموت في سبيله والتفاني في الفداء من اجله فجزاهم الامام خيرا (١) واكد لهم جميعا انهم سيلاقون حتفهم فتهفوا جميعا :

«الحمد للّه الذي اكرمنا بنصرك ، وشرفنا بالقتل معك ، او لا نرضى ان نكون معك في درجتك يا ابن رسول اللّه».

لقد اختبرهم الامام فوجدهم من خيرة الرجال صدقا ووفاء ، قد اشرقت نفوسهم بنور الايمان ، وتحرروا من جميع شواغل الحياة ، وآمنوا انهم صائرون إلى الفردوس الأعلى ، وكانوا ـ فيما يقول المؤرخون ـ فى ظمأ الى الشهادة ليفوزوا بنعيم الآخرة.

__________________

(١) المنتظم ٥ / ١٧٩ ، تأريخ الطبري ٦ / ٢٣٩.

١٦٩

الامام يكشف مكيدة أهل الكوفة :

وكشف الامام (ع) لاصحابه مكيدة اهل الكوفة له في رسائلهم التي بعثوها إليه بالقدوم لمصرهم قائلا :

«ما كتب إلي من كتب الا مكيدة لي ، وتقربا لابن معاوية» (١) ان الرسائل التي كتبها اكثر اهل الكوفة انما كانت بايعاز من يزيد لأجل ان يقدم الامام إليهم فيقتلوه ، وما كتبوا إليه عن ايمان بعدالة قضيته.

مع محمد بن بشير :

ومن بين أصحاب الامام الذين بلغوا اعلى المستويات في الايمان محمد ابن بشير الحضرمي ، وقد بلغه ان ابنه قد أسر بثغر الري ، فقال :

ما أحب أن يؤسر ، وأنا ابقى بعده حيا ، وأستشعر الامام من هذه الكلمات رغبته في انقاذ ابنه من الأسر فاذن له في التخلي عنه قائلا : أنت في حل فاعمل في فكاك ولدك واندفع البطل العظيم يعلن تصميمه الصادق على ملازمة الامام والفداء في سبيله قائلا :

«اكلتني السباع حيا ان فارقتك ..» (٢).

اليس هذا اصدق مثل للايمان العميق والفداء الرائع في سبيل الامام لقد احبوه واخلصوا له ، واستهانوا بالموت من اجله.

__________________

(١) انساب الاشراف ق ١ ج ١

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٥٤ ، تذهيب التهذيب ١ / ١٥٠

١٧٠

انهزام فراس المخزومي :

وفراس بن جعدة المخزومي كانت له رحم ماسة مع الامام فان أباه جعدة أمه أم هانئ بنت أبي طالب ، وكان ممن كاتب الحسين بالثورة على الأمويين أيام معاوية ، وقد التحق بالامام في مكة وسايره في هذه المدة حتى انتهى إلى العراق الا انه لما رأى صعوبة الأمر وتضافر الجيوش على حرب الامام هاله الأمر ، وجبن عن الحرب ، واستولى عليه الرعب والخوف ، وقد ادرك الامام اضطرابه فأذن له في الانصراف ، فانهزم في جنح الليل البهيم (١) ولم يحض بالشهادة ، كما ان قوما آخرين قد انهزموا (٢) ولم يفوزوا بنصرة الامام.

الامام لا يأذن بالشهادة لمن كان عليه دين :

وروى الطبراني أن الامام أمر مناديا ينادي في اصحابه «لا يقتل معنا رجل وعليه دين» فقام إليه رجل من اصحابه فقال له :

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) روت السيدة سكينة قالت : سمعت أبي يقول لمن كان معه انتم جئتم معي لعلمكم اني آتي إلى جماعة بايعوني قلبا ولسانا ، والآن تجدونهم قد استحوذ عليهم الشيطان ، ونسوا ذكر اللّه ، فليس لهم قصد الا قتلي وقتل من يجاهد معي وأخاف ان لا تعلموا ذلك ، او تعلموا ولا تتفرقوا حياء مني ، ويحرم المكر والخديعة عندنا أهل البيت ، فكل من يكره نصرتنا فليذهب الليلة الساترة ، قالت سكينة : فتفرق القوم من نحو عشرة وعشرين حتى لم يبق معه الا ما ينقص عن الثمانين ، جاء ذلك في بغية النبلاء الجزء الثاني.

١٧١

«ان علي دينا وقد ضمنته زوجتي»

فقال (ع) : وما ضمان امرأة؟ (١) لقد اراد الامام ان يكون المستشهد بين يديه متحرجا في دينه خالي الذمة من حقوق الناس وأموالهم إلا انه هنا اشكالا فقد انكر الامام ضمان المرأة لما في ذمة زوجها من دين ، والحال ان القواعد الفقهية مجمعة على صحة ضمان المرأة للأموال وغيرها ومساواتها للرجل في هذه الجهة ، وفيما نحسب ان الجملة الأخيرة من الموضوعات ، فقد ذكر البلاذري الخبر الا انه لم يذكر قول الرجل ان علي دينا وقد ضمنته زوجتي.

الامام ينعى نفسه :

وأقبل الامام إلى خيمته فجعل يعالج سيفه ويصلحه ، وهو يقول :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وانما الأمر إلى الجليل

وكل حي سالك سبيل

وقد نعى نفسه الشريفة بهذه الابيات ، وكان في الخيمة الامام زين العابدين والعقيلة زينب اما الامام زين العابدين فلما سمع كلام أبيه عرف ما أراد فخنقته العبرة ، ولزم السكوت وعلم ان البلاء قد نزل ـ حسبما يقول ـ واما عقيلة بني هاشم فانها لما سمعت هذه الأبيات أحست ان شقيقها وبقية اهلها عازم على الموت ومصمم على الشهادة فامسكت قلبها في ذعر ، وو ثبت وهي تجر ذيلها ، وقد فاضت عيناها بالدموع ، فقالت لاخيها بنبرات لفظت فيها شظايا قلبها.

__________________

(١) المعجم الكبير ١ / ١٤١

١٧٢

«وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت اعدمني الحياة ، يا حسيناه ، يا سيداه ، يا بقية اهل بيتاه ، استسلمت ، ويئست من الحياة ، اليوم مات جدي رسول اللّه (ص) وأمي فاطمة الزهراء وأبي علي واخي الحسن ، يا بقية الماضين وثمال الباقين» (١).

فقال الامام لها بحنان :

«يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان»

وانبرت العقيلة الى أخيها وهي شاحبة اللون قد مزق الأسى قلبها الرقيق المعذب فقالت له باسى والتياع :

«أتغتصب نفسك اغتصابا ، فذاك اطول لحزني واشجى لقلبي»

ولم تملك صبرها بعد ما ايقنت أن شقيقها مقتول ، فعمدت إلى جيبها فشقته ، ولطمت وجهها ، وخرت على الارض فاقدة لوعيها (٢) وشاركتها النسوة في المحنة القاسية ، وصاحت السيدة أمّ كلثوم.

«وا محمداه ، وا علياه ، وا أماه ، وا حسيناه ، وا ضيعتنا بعدك»

وأثر المنظر الرهيب في نفس الامام فذاب قلبه الزاكي أسى وحسرات وتقدم إلى السيدات من بنات الوحي فجعل يأمرهن بالخلود إلى الصبر والتحمل لاعباء هذه المحنة الكبرى قائلا :

«يا اختاه ، يا أم كلثوم ، يا فاطمة ، يا رباب ، انظرن اذا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن وجها ، ولا تقلن هجرا» (٣).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ١١٣)

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١ ، المنتظم ٥ / ١٧٩ ، البداية والنهاية ٨ / ١٧٧ ، السيدة زينب واخبار الزينبيات (ص ٢٠ ـ ٢١)

(٣) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٠ ، انساب الأشراف ق ١ ج ١

١٧٣

لقد عانى الامام العظيم الوانا قاسية ومذهلة من المحن والخطوب كانت بقدر ايمانه باللّه فلم يكد يفرغ من محنة حتى يواجهه سيل من المحن الكبرى التي لا يطيقها أي انسان.

التخطيط العسكري :

ووضع الامام أرقى المخططات العسكرية وأدقها في ذلك العصر فنظم جبهته تنظيما رائعا ، واحاط معسكره بكثير من الحماية ، فقد خرج في غلس الليل البهيم ، وكان معه نافع بن هلال ، فجعل يتفقد التلاع والروابي وينظر إليها بدقة مخافة أن تكون مكمنا لهجوم الأعداء حين الحرب ، وقد أمر اصحابه بصنع ما يلي :

أولا ـ مقاربة البيوت بعضها من بعض ، بما في ذلك بيوت الهاشميين والأصحاب ، وفيما نحسب أنها كانت عدة صفوف من كل جهة لا صفا واحدا ، وانما صنع ذلك لئلا يكون هناك مجال لتسرب العدو وتخلله من بينها (١)

ثانيا ـ حفر خندق من الخلف محيط بخيم أهله وعياله ، وملئه بالحطب ، لاشعال النار فيه وقت الحرب (٢) وانما امر بذلك لما يلي :

أ ـ ان تكون عوائلهم في مؤمن من العدو اثناء العمليات الحربية فانه لا يتمكن من اقتحام النار والهجوم عليها

ب ـ استقبال العدو من جهة واحدة ، وعدم تعدد الجهات القتالية نظرا لقلة اصحاب الامام ، ولو لا هذا التدبير لأحاط بهم

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٧٧

(٢) وسيلة المال في مناقب الآل (ص ١٩٠) البداية والنهاية ٨ / ١٨٧

١٧٤

العدو من الجهات الأربع وقضى عليهم في فترة وجيزة ، وما طالت الحرب يوما كاملا.

هذه بعض المخططات التي اتخذها الامام (ع) وهي تدل على مدى احاطته التامة في التنظيمات العسكرية ووقوفه على دقائقها.

احياء الليل بالعبادة :

واقبل الامام مع اهل بيته واصحابه على العبادة فاتجهوا الى اللّه بقلوبهم ومشاعرهم ، فكانوا ـ فيما يقول المؤرخون ـ لهم دوي كدوي النحل وهم ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، ولم يذق احد منهم طعم الرقاد.

فقد أقبلوا على مناجاة اللّه والتضرع إليه ، وهم يسألونه العفو والغفران

استبشار أصحاب الامام :

واستبشر أصحاب الامام بالشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) وقد حدث المؤرخون عنهم بما يبهر العقول ، فهذا حبيب بن مظاهر خرج إلى اصحابه وهو يضحك قد غمرته الافراح فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلا :

«ما هذه ساعة ضحك؟!»

فاجابه حبيب عن ايمانه العميق قائلا :

«أي موضع احق من هذا بالسرور؟! واللّه ما هو الا ان تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين» (١).

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٥٣)

١٧٥

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري فاستغرب منه وقال له :

«ما هذه ساعة باطل!!»

فأجابه برير :

«لقد علم قومي أني ما احببت الباطل كهلا ولا شابا ، ولكني مستبشر بما نحن لاقون ، واللّه ما بيننا وبين الحور العين الا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وودت انهم مالوا علينا الساعة» (١).

وليس في اسرة شهداء العالم مثل هذا الايمان الذي تفجر عن براكين هائلة من اليقين والمعرفة وصدق النية ، وعظيم الاخلاص .. لقد استبشروا بالفوز في جنان الخلد مع النبيين والصديقين ، وايقنوا انهم يموتون اهنأ موتة واعظمها في تأريخ البشرية في جميع الأجيال والآباد.

سخرية الشمر بالامام :

وكان الامام يصلي ، وقد اشرف عليه الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن (٢) فسمعه يقرأ في صلاته قوله تعالى :

(وَلاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ) (٣).

فجعل الشمر يهزأ بالامام ، واندفع رافعا صوته :

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢٤١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٧

(٢) وفي البداية والنهاية ٨ / ١٨٧ ان المشرف هو ابو حرب السبيعي عبيد اللّه بن شمير وكان مضاحكا بطالا.

(٣) سورة آل عمران آية ١٧٨

١٧٦

رؤيا الامام الحسين :

وخفق الامام الحسين خفقة بعد ما اعيته الآلام المرهقة ، فاستيقظ ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم :

ـ أتعلمون ما رأيت في منامي؟

ـ ما رأيت يا ابن رسول اللّه؟

ـ رأيت كأن كلابا قد شدت علي تناشبني (١) وفيها كلب أبقع أشدها علي ، وأظن الذي يتولى قتلي رجل ابرص من هؤلاء القوم ...

ثم اني رأيت جدي رسول اللّه (ص) ومعه جماعة من أصحابه ، وهو يقول لي : يا بني أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن افطارك عندي الليلة ، عجل ولا تؤخر هذا ما رأيت وقد أزف الأمر وأقترب الرحيل من هذه الدنيا (٢).

وخيم على أهل بيته وأصحابه حزن عميق ، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم واقتراب الرحيل عن هذه الحياة.

فزع عقائل الوحي :

وفزعت عقائل الوحي كأشد ما يكون الفزع ، فلم يهدأن في تلك الليلة الخالدة في دنيا الأحزان ، وقد طافت بهن تيارات من الهواجس

__________________

(١) تناشبني : مأخوذ من نشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص منه وفي رواية تنهشني.

(٢) الفتوح ٥ / ١٨١.

١٧٧

والافكار ، وتمثل أمامهن المستقبل الملبد بالكوارث والخطوب ، فما ذا سيجري عليهن بعد مفارقة الحماة من أبناء الرسول (ص)؟ وهن في دار غربة قد أحاط بهن الأعداء الجفاة ، وخلدن الى البكاء والعويل والابتهال إلى اللّه لينقذهن من هذه المحنة التي تقصم الاصلاب.

وأما اعداء أهل البيت فقد باتوا وهم في شوق إلى اراقة تلك الدماء الزكية ليتقربوا بها إلى ابن مرجانة وكانت الخيل تدور وراء معسكر الحسين وعليها عزرة بن قيس الاحمسي (١) خوفا من أن يفوت الحسين من قبضتهم أو يلتحق بمعسكره أحد من الناس.

تطيب الامام وحنوطه :

واستعد الامام هو وأصحابه إلى لقاء اللّه ، ووطنوا نفوسهم على الموت ، وقد أمر (ع) بفسطاط فضرب له ، وأتي بجفنة فيها مسك ، كما أتي بالحنوط ، ودخل الفسطاط فتطيب وتحنط ، ثم دخل من بعده بربر فتطيب وتحنط ، وهكذا فعل جميع أصحابه (٢) استعدادا للموت والشهادة في سبيل اللّه.

يوم عاشوراء :

وما طلع فجر في سماء الدنيا كفجر اليوم العاشر من المحرم في ماسيه واحزانه ، ولا أشرقت شمس كتلك الشمس في كآبتها وآلامها ...

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٨٧

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٧

١٧٨

فليس هناك حادث في التأريخ يفوق في كوارثه وآلامه تلك المشاهد الحزينة التي تم تمثيلها يوم عاشوراء (١) على صعيد كربلا ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ولا غصة من غصص الدهر إلا جرت على ريحانة رسول اللّه (ص) يقول الامام زين العابدين (ع) :

«ما من يوم أشد على رسول اللّه (ص) من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه ، وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ، ثم قال : ولا يوم كيوم الحسين ازدلف إليه ثلاثون الف رجل يزعمون انهم من هذه الأمة كل يتقرب الى اللّه عز وجل بدمه ، وهو باللّه يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا» (٢).

وبدأ الامام العظيم في فجر اليوم العاشر بالصلاة ، وكان فيما يقول المؤرخون : قد تيمم هو واصحابه للصلاة نظرا لعدم وجود الماء عندهم وقد آتم به أهله وصحبه (٣) وقبل أن يتموا تعقيبهم دقت طبول الحرب من معسكر ابن زياد ، واتجهت فرق من الجيش وهي مدججة بالسلاح تنادي بالحرب أو النزول على حكم ابن مرجانة.

__________________

(١) عاشوراء : اسم لليوم العاشر من المحرم ، قيل ان التسمية قديمة وانما سمي بذلك لاكرام عشرة من الأنبياء فيه بعشر كرامات ، جاء ذلك في الأنوار الحسينية (ص ٢٢) للبلاوي.

(٢) بحار الأنوار ٩ / ١٤٧.

(٣) حجة السعادة في حجة الشهادة لاعتماد السلطنة حسن بن علي ، فارسي ترجمه إلى اللغة العربية الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو من مخطوطات مكتبته العامة.

١٧٩

دعاء الامام :

وخرج أبي الضيم فرأى البيداء قد ملئت خيلا ورجالا ، وقد شهرت السيوف والرماح ، وهم يتعطشون إلى اراقة دمه ودماء البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من ابن مرجانة فدعا (ع) بمصحف فنشره على رأسه ، وأقبل على اللّه يتضرع إليه قائلا :

«اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من هم يضاعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيته ، فانت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة» (١).

ويلمس في هذا الدعاء مدى ايمانه العميق فقد اناب الى اللّه واخلص له في جميع مهامه فهو وليه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نازلة نزلت به.

اشعال النار في الخندق :

وأمر الامام في أول الصبح باشعال النار في الخندق الذي كان محيطا بخيم النساء ليحميها من هجوم الخيل ، كما لا تتعدد عليهم جبهات القتال وتنحصر في جهة واحدة.

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ١٤ البداية والنهاية ٨ / ١٦٩ ، تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٧.

١٨٠